يكشف لنا القاص العراقي المقيم في بغداد عن محنة الكاتب، بل الإنسان العراقي، الذي يعيش تحت وطأة الاحتلال الأمريكي وآليات القتل والموت التي كرسها في العراق.

أنت حر مادمت قاتلا أو مقتولا

الكتابة من داخل عراق ما بين النارين

حسب الله يحيى

 

بغداد .. لم تعد بغداد.
وإذ  نكتب عن بغداد العاصمة تحديداً،إنما نقصد المحور أولاً، إلى جانب المخاطر المحدقة بكل من يتوجه إلى المحافظات.. بسبب أعمال العنف التي تمتد على الطرق الخارجية، فضلاً عن سخونة الأوضاع في جميع المحافظات. وبات معظم العراقيين يعانون من وطأة الندم وخرافة المستقبل الذي كانوا يرسمونه في أذهانهم لما بعد سقوط السلطة العراقية السابقة 2003م. كما ان تصويتهم للدستور ودخولهم الانتخابات.. باتت تشكل خيبة وندماً وجلداً لذواتهم.

وذلك بعد وقوفهم على جملة حقائق لا يمكن الشك في مصداقيتها وهي:

1. ان قوات التحالف..لم تتحالف مع أية مجموعة محددة من السياسيين العراقيين الذين عاشوا خارج العراق، ولم يكن لهم تماس مباشر بالأوضاع السياسية والاجتماعية العراقية. وبسبب هذا الجهل أو القطيعة الكلية مع الأوضاع الداخلية في العراق، تشكلت لديهم ومن ثم لدى القوى الأجنبية التي تحالفوا معها وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، فشكلت نظرة خاطئة تماماً عن العراق والعراقيين. وفي الوقت الذي كان فيه الشعب العراقي يعاني من وطأة الحروب مع إيران، ومن ثم دخول الكويت، وشن حملات شرسة ضد الكرد والسنة والشيعة وحتى ضد عدد من المنضوين في الحزب الحاكم، والذين يشكلون أحد أركانه الأساسيين، ولم يكن هناك قبول على استبدال السلطة الشمولية، باحتلال أجنبي.    

2. وبدلا من كسب ثقة الشعب العراقي وتحقيق قدر من الخدمات التي فقدها جراء تلك الحروب وأعمال التعسف، عمدت الإدارة الأمريكية المحتلة إلى إلغاء وحل قوات الجيش والشرطة والأمن والمخابرات، مثلما ألغت وزارة الإعلام، ووزارة الأوقاف، ووزارة التصنيع العسكري. وبذلك عمت الفوضى، بعد غياب أية قوة تحفظ أمن الناس، وترعى القانون، ومن ثم وجد آلاف العراقيين أنفسهم مطرودين من حقهم في العمل ومن ثم في الحياة أصلاً.

3. وبسبب هذا الفراغ الأمني تشكلت المليشيات من القوات العسكرية المهنية التي تملك الخبرات والأسلحة التي تركت في الساحة العراقية حال دخول القوات الامريكية والبريطانية بغداد وسواها من المدن. وبدأت هذه المليشيات تنخرط في عمليات تمارس القتل على الهوية، والانتماء الطائفي والعرقي والمهني كذلك.

4. وتشكلت أحزاب وكيانات وتجمعات طائفية، وباتت تتخذ من العمل السياسي غطاء لتصفية خصوم وهميين. لا ذنب لهم سوى انتماءاتهم لطائفة معينة أو عرق أو مكان أو وظيفة.

5. ومع ان الشارع العراقي لا يحمل ضغينة أو عقدة معينة من الخلافات المذهبية والعرقية، إلا إن القوى السياسية التي تولت مهام السلطة بدعم من قوى الاحتلال، عملت على زرع الفتنة، بدلاً من اعتماد سبل توحيد ورص الصفوف لإعادة بناء البلاد. لقد جاءت العملية السياسية بكل عقدها ورغبتها في السلطة والمال والوجاهة لتشكل تجمعاً خاصاً له امتيازاته وخصائصه وحراسه وأمنه وسكنه وتفرده عن سائر قطاعات المجتمع.

6. كانت قوائم الانتخابات مغلقة، ولم يكن الناخب يعرف الأشخاص  الذين ينتخبهم ويوليهم ثقته. لقد جرت الانتخابات بطريقة وهمية تعتمد على أرقام لعدد من الأحزاب والكتل.. دون معرفة التفاصيل/ البرنامج والشخصيات المنتخبة ومدى المعرفة بكفاءاتها ونزاهتها ووطنيتها ونضالها.

7. ونتج عن ذلك :
ـ ظهور مجلس النواب المكون من (275) عضواً، لا يمتلك معظمهم الخبرة والثقافة والتجربة والحكمة والدراية بالعمل البرلماني ولا سواه من شؤون القوانين التي تتعلق بالناس.

ـ رشحت الأحزاب والكتل السياسية عناصر طارئة تماماً على الأعمال الوزارية المناطة بها.. ولا تمتلك من مؤهل سوى انتماءها وولاءها لمن تولى ترشيحها من قبل هذا الحزب أو تلك الكتلة.

ـ على الرغم من الادعاء الملح والمستمر بشأن استقلال السلطة القضائية، إلا ان هذه السلطة على الرغم من ممارستها العمل بروح مهنية منصفة وعادلة إلى حد كبير ـ إلا إنها واجهت عقبات تنفيذية وضغوطاً مارستها العديد من القوى السياسية، وكان من جراء ذلك عدم تنفيذ الأحكام الصادرة بحق مدانين بجرائم إنسانية كبرى، وبقاء أكثر من (50) ألف معتقل تم زجهم في السجون على سبيل الشك والاشتباه، وتحول إطلاق سراحهم وتمتعهم بحقوقهم الإنسانية على ذمة ومروءة ومساومات الأطراف السياسية التي تتصارع على السلطة وحدها، دون وجود أي جهد وطني مخلص يعمل على إخراج البلاد من أوضاعها المعقدة والمتعلقة بالاحتلال واستتباب الأمن وحل الأزمات المتفاقمة في البلاد.هذا الواقع المرير الذي يعيشه العراق اليوم نتج عنه ما يلي: 

1 ـ قتل وهجرة وتهجير آلاف الكفاءات العراقية المرموقة من أطباء وأكاديميين ومهندسين وصحفيين متخصصين في شتى المعارف والتقنيات. إلى جانب تعرض أكثر من مليون عراقي لعمليات القتل. إضافة إلى عدد هائل من المعوقين والجرحى الذين يعانون من أمراض دائمة وفي أوضاع صحية حرجة.

2 ـ هدم المباني الصناعية بكاملها، حيث لم يعد هنالك مصنع واحد سلم من الأذى، إن لم يكن قد تلاشى تماماً بسبب أعمال القصف الأجنبي أو أعمال العنف. وكان من نتائج ذلك ان تحول العراق إلى بلاد مستهلك، ليس بوسعه توفير المشتقات النفطية لنفسه. مع إنه يتوفر على مواد نفطية وغازية وفيرة. تعد الثانية في العالم. ولا توفير الماء. مع ان لديه نهران عظيمان هما: دجلة والفرات، فكيف بمستلزمات الحياة اليومية والأساسية الأخرى؟

3 ـ يقابل هذا الاستهلاك والانعدام الكلي في الإنتاج، انتشار البطالة على نطاق واسع وخاصة بين الخريجين، حتى أصبحت  نسبة البطالة (70%) من عدد السكان ولا يتوفر العمل حالياً إلا في حقلين هما: الانخراط في صفوف القوات المسلحة وفي صراعاتها بين الحراسات الشخصية والميلشيات ووزارة الدفاع ووزارة الداخلية وقوات الصحوة، والاهم من ذلك كله.. القوات الامريكية التي ملأت البلاد رعباً وهيمنة واستهانتها بالأرواح، كان العمل الآخر يراد منه خدمات التنظيف التي تعمل أمانة بغداد على  توفير مظهرها الخارجي حسب.

4 ـ تردي العمل الوظيفي والجامعي والمدرسي. بحيث لا يكمن الدوام بشكل منتظم ولا توفير أبسط مستلزمات العمل ولا جديته ولا نزاهته، حتى تم الطعن بنزاهة هيئة النزاهة نفسها!

5 ـ عملت القوات المحتلة على إعاقة حركة السير والسكن وحركة الناس عن طريق وضع آلاف العوائق والقطع العالية ولمسافات طويلة وقطع العديد من الشوارع.. مما أدى الى ظهور العزل الطائفي والعرقي بشكل بارز وواضح ورسمي.

هذا الواقع المرير الذي يعيشه عراق ما بعد 2003 لم يعد صالحاً للعيش الآمن المستقر، وذلك نتيجة للكم الهائل الذي يواجه كل عراقي جراء عدم الاستقرار الأمني، وانعدام الثقة بين الأطراف السياسية وبحثها عن مكاسب آنية.. مما عطل الحياة برمتها وبات من الصعب على المرء الحركة بحرية.. وتخلي الحكومة عن تحقيق أبسط المستلزمات الخدمية كالماء والكهرباء وتوفير الغذاء والدواء.

إن عراق الخيرات ذاك.. أصبح ماضياًَ، وبتنا نجد ظاهرة التسول بارزة في الشارع العراقي. وتحولت نقمة العراقيين إلى غضب مشترك مضاد للاحتلال والقوى السياسية العراقية على حد سواء، بوصفها تعمل وبشكل حثيث على تحقيق مكاسب وثروات على أشلاء آلاف الضحايا من العراقيين الأبرياء.

ففي وقت تعمل الولايات المتحدة على بناء أكبر وأهم سفارة أمريكية في بغداد، وزرعها عشرات القواعد العسكرية في مناطق بغداد وغيرها من المدن العراقية، ودخول شركاتها في معظم الاستثمارات، نجد البرلمانيين (العراقيين) والوزراء وسواهم من المسؤولين والمستشارين الكبار يتمتعون بعطل وايفادات مفتوحة، ولهم مناطقهم الخضراء وحصانتهم وحمايتهم وحساباتهم، نجد الشعب العراقي الذي يبلغ تعداده (28) مليوناً يعيش في المناطق الحمراء، تحت رعاية السماء، ولا يعول على تلك الدبابات والسيارات المصفحة وسيارات الحرس والسيطرات، ولا تعنيه الصافرات التي تنطلق من سيارات المسؤولين وحماياتهم. وذلك لأدراك كل مواطن عراقي ان جميع هذه المظاهر.. لم تعد تحمي سوى نفسها، بعد أن امتحن إهمالها وتكرارها لأي حدث عنيف يتعرض له المواطن أو المؤسسة أو أي مكان وزمان تطاله أعمال العنف متى تشاء. أما أكثر الجوانب (إشراقاً) في (العملية السياسية) الراهنة في العراق فهي:

تمتع المسؤولين بكامل رغباتهم واستثناءاتهم من دون خلق الله. وإهمال ووأد كل صوت معارض والتخلص منه بطريقة أو أخرى.

لا شيء يمكن للعراقي الركون إليه بعد كل ما جرى، ولا يعتقد أحد بأن الاحتلال سوى يترك البلاد إلا بعد ضمان كلي لكل ما جاء من أجله. مثلما انعدمت الثقة بالسياسيين على حل المعضلات التي تعصف بالعراق والعراقيين.

وبات الرجاء الوحيد المأمول للعراقيين واحد وهو:
إلغاء الدستور وإجراء انتخابات فردية وبإشراف دولي ومجيء حكومة وطنية كفء تعمل على ضبط الأمن من جهة والهيمنة على ثروات البلاد من جهة أخرى، والعمل الدؤوب على العمل بالقوانين التي تسري على الجميع دون استثناء. وكل هذا لن يتحقق إلا بعد مغادرة الاحتلال العراق، واستقلال البلاد استقلالاً تاماً غير منقوص.

فهل سيتحقق هذا الرجاء مستقبلاً؟
هنا يكمن السؤال والجواب معاً.    


كاتب عراقي يعيش في بغداد