يخلق الكاتب التونسي في هذه الرواية عالما مترعا بالمتخيل، يتردد بين قطبي رحى الواقعي والكابوسي، فهو عالم واقع في قبضة الرعب والمراقبة ومنطق التلصص والتفجيرات.

لون الروح

رواية

صلاح الدين بوجاه

                      

 

إلى منيرة... فهي الطريق 

"هل يستطيع من لم يتشمّم روائح أرصفة السفن والقطران، وأحواض الموانيء، وقاذورات البراميل في بيوت المؤن، ورائحة زيت الزيتون الزنخة، والسمك الذي نتن على الأرصفة، وشتّى هذه العفوناتُ... هل يستطيع الحديث حقًّا والكتابة!"

                بْريدْرَاغْ مَا تْفِجيفتْشْ 

"طاب الجرح... لكن جرحًا في داخل النفس لم يطب"
                                   الأمالي خيري شلبي

الفصل الأول

المنتجع قرب البُحيرة

الفندق واسع مثل حي كبير! نسأل الله العافية والعاقبة الحسنة فيما يطرأ علينا وعلى إخواننا، وعلى من والاَنَا من أهلنا وأحبابنا أجمعين. فقد حدثت مساخرُ كثيرة في هذا المكان، وملأت المآسي الأرجاء وأثارت العجب. وقد تُفضي إلى ما لا تُحمد عُقباه.

يبدو أن أصحابنا ينقبون عن لون الروح فيما وراء السحنة البادية، ويرغبون في الوصول إلى اكتشاف ضمائر الناس وأسرارهم. وهل لون الروح إلا من العلامات التي يصعب الوقوف عليها، أو البتّ في شأنها، فهو أبيض كالسماوي يجري ولا يتغير، وهو متدرج نحو الامحاء عند الغروب، تبعا للضوء المسلط عليه، وهو من الصفات التي لا استقرار لها. إنها في تحول وتبدل دائمين.

التحقتُ بعملي يوم الثلاثاء، في الفندق الكبير. ظُهر الخميس دعاني المحافظ، وأسند إلى الفريق العامل تحت إمرتي مهمة مراقبة النزلاء، والاستعانة بالسُّعاة وعاملات التنظيف، والخدم، والانتباه إلى ما يُمكن أن يحدث في هذه القرية السياحية الشاهقة.

لونُ الكتف ـ كالرّائحة تماما ـ ليس مثله شيءٌ، على كثب منه يربض الإبط، به تجعيدتان، الرائحة المفترضة، مثل رحيل اللون، تُجننني. قد تكون خفيفة جدا، مثلما يغلب أن يوجد عند سيّدة في الأربعين مرّت على حمامها ساعة واحدة. العرق الممزوج بالعطر. كم هي مٌبهجة تلك المواطن المسترابة. لا جدال في أن جسم المرأة يُبهج الروح. أرغب في استنشاقه مثل كلب يلحس جرحاً حَيًّا، ينظفه بخياشيمه، يُضيف إليه من لعابه، وما علق بلسانه من وعثاء اللهاث، يتمطى تحت وابل الروائح تتصاعد من الإبطين، وما بين النهدين ... وعند متاهة اللقيا بين ملاسة الفخذين؟ يتقلب، يرفع قوائمه الصغيرة في انتعاش وانتظار. كيف أتخلص من مخاوفي وجنوني، المحافظ لم يُعلن عن شيء، مدير مكتبه اكتفى بالتلويح ببعض المخاوف.

المناطق الشرقية مراقبة، المنتجعات التي تختفي داخل الخلجان، وخلف الهضاب الصغيرة عند تعرج الشاطئ ودخوله في الماء. إحساس بالانكشاف وغياب الأمن يتحكم في رجال الحماية، الأعوان خائنون مثل شجرة في البرية تتقاذفها الرياح، يوصون بالتدقيق في شؤون النزلاء، الرجال والنساء، الحقائب الكبرى والصغرى، بيوت الحمام، غطاء السرير، ما دون السرير من صناديق، ومحفظات، الغرف الجانبية، المقاصير الخاصة في الأجنحة الفاخرة، الممرات والمعابر، وراء المدارج المكسوة بالزليج والقاشاني، أسفل المصاعد، في مهابط الاسمنت النازلة حتى أسس الفنادق، في مستودعات السيارات، خلف الزجاج الملون، في كل مكان من هذا الفندق الذي يحوم حوله الطير والفجر ونثيث المطر!

أتسلل إلى الغُرف متى أريد، أدخل الطوابق العشرين، في إمكاني أن أتصرف مثلما أحبّ، أبعث أعواني أو أذهب بنفسي، المهم هو حفظ الأمن، واستباق إمكان حدوث أية مفاجأة... أما دون ذلك فلا أهمية لشيء أو أحد! هكذا تمكنتُ في مدة قصيرة من الحصول على مسؤوليات واسعة، وتكاثر عدد الملحقين بخدمتي، وتعددت السيارات الموضوعة تحت تصرفي، والتجهيزات التي في إمكاني أن أستعملها مثلما شئت، الكاميرات والمناظير المقربة، التلسكوبات على أنواعها.

تنبثق  الجماعات من كل مكان، قدرتها على التخريب لا حدود لها، الفواجع التي تتسبب فيها يصعب أن نحيط بها في هذا الوصف المنقوص. كل التبريرات ممكنة، المهم أن نتأهب للمنغصات قبل وقوعها. هؤلاء مثل الشياطين، لا قيمة للأرواح عندهم، ادعاءاتهم باطلة. لا يعنيني أن أفهمها أو أن أجد لها تفسيرا، المهم ـ فيما يؤكد السيد رحيم سويد ـ أن أنجح، وينجح فريقي، في إعانة المكلفين بالحماية المركزية على حفظ الهدوء، والإسهام في الاحتفاء بحق الحياة. فالفندق موصول اليكترونيا بالمناطق العليا، التي ننظر إليها ولا نقوى على إطالة التحديق.

في المدة الأخيرة وقع ما لم يكن منتظرا، هزت فجائع عديدة الأنحاء القريبة، فقد تفجر فندق كبير قريب، وتمت مهاجمة قافلة من الزائرين الأجانب. ويُخشى أن يؤدي هذا إلى ما لا خير فيه.

التحق بمجموعتنا عون أبكم في العشرين، عارف، وسرعان ما انتبهتُ إلى ولعه الكبير بمراقبة السيدات في خلوتهن، الزينة، الاغتسال، إعداد الملابس الملائمة للخروج والنزهة، الاستعداد للمجتمع.  كلّفته بتصويب آلة التصوير حيثما اتجهت عينه القادرة على الاكتشاف، بل الراغبة فيه، المتشبثة بأدق جزئياته. طرقتان، العربة الصغيرة أمامه، حافلة بالشنبانيا والثلج والأكواب، مشهيات على كل لون، مقبلات تملأ الصحون الصغيرة، كم يعشق هؤلاء الجبن الفرنسي، قطع الكافيار خارج علبها الصغيرة الملونة، كل هذا يذوب داخل الحلق، يُحدث رجفة في تجاويف الكائن، يمرقُ إلى الجوهر المتواري خلف الشوارب المنتشرة مثل أجنحة الطيور الصغيرة، المملحة فوق نار هادئة جدا، معها السكوم، والثوم ووهم ملح خفيف جدا.

الغصة تملأ حلق عارف الأبكم، لسانه يجف، العربة تهتز تحت راحتيه، السائحة في الأربعين، في منتصف الممر بين المقصورة وغرفة البانيو، الكوميدنو المذهب، نحو الجانبيين، عارف يبتلع ريقه الذي لا وجود له، عطر خفيف يملأ رأسه الحليقة، فوقها القلنسوة القصيرة تحمل في وسطها رمز الفندق، السيدة تمسح صدرها، حفيف قطعة القماش يمسك بروح عارف، يهزها هزا، يُلقي بها فوق السجاد، يقرع بها الجدران الخشبية، هل يُمسح الصدر بهذه الطريقة، النهدان ناهضان عند منبتهما، نازلان إلى الجانبين، يحققان توازنًا صعبًا. الحلمتان داكنتان. نافرتان قليلا إلى الأعلى، بل انّ حافتهما العليا مشرئبة تعلوها حبيبات صغيرة حمراء، بينما بقي أسفلهما جانحًا إلى البطن. الخرقة معطرة تمسح خفايا اللحم.

يُعمل عارف أنفه في الممر الضيق الذي انتشرت فيه روائح الفاجوليا والخل وحفيف الخزامَى. السيدة الأجنبية، تدور حول نفسها تدنو من الجدار، تهتف أن تمهل قليلا، الارتباك يُغلّف اللحظة! عارف يرتبك والسيدة في أوج الانكشاف، تغتسل المرأة، ترى في دخول عارف عري بدنها، عارف يُفكر في الخروج وإعمال آلة التصوير من مخبئها السري في هذا المشهد الهارب من اللياقة، والاحتشام، واحترام العيون الغريبة:

ـ ماذا تُريد ...

النادل لا يُجيب، ينزل عليه السؤال مثل كره طائشة تصيب رأسه، بعد أن طارت من أرجل الأطفال في ساحة عموميّة ... يُجيب في انقليزية مُنْهَكة:

ـ لا... لا شيء !

ـ تدخل في مثل هذا الوقت !

فكر في أن يسأل: لماذا تمسحين نهديك في الممر، لماذا لا تدخلين إلى الحمام!! لكنه أحجم، وتمتم بعض كلمات اعتذار:

ـ شكراً، لا... لا شيء... أنا مخطئ تماما!

ـ ماذا تتمتم؟

ـ كنت بصدد دخول الغرفة المجاورة ...

ـ طيب... اُترك الغرفة حالاً ...

تساءل، وهو يتقهقر إلى الخلف، لماذا لم تعمد إلى إخفاء صدرها، وهو يتقهقر إلى الخلف، لماذا تُخفِي بدنها العاري، لماذا لم تمسك بالمنشفة البيضاء الكبيرة، لماذا واصلت تنظيف صدرها وهي تحاوره حول شرعية الدخول، ووجوب الخروج! عارف لا يفهم شيئا من سلوك هؤلاء.

الغرفة المجاورة لا أحد فيها، الأكواب المطلوبة تثبت أنهم أشخاص ثلاثة، المرأة وحيدة أيضا، أو هكذا يبدو، متى يقدم الآخران! رغم أن الخوف ملأ القلوب، فلا وجود لما يُبرّره. قد نسمع بأنباء تفجيرات هنا وهناك، قد يُسهم ذلك في المزيد من نشر الرعب وبث الخوف في النفوس، لكنه لا يُمكن أن يُثبت ... أو يُُبرّر شيئا!

لعل قنوات التلفزيون تُشارك في تعقيد الموقف، لكنها تَبقَى من قبيل التعليقات الخارجية، التي تشرح، وتبين، بيد أنها لا تنفي أو تؤكد حدوث مغامرات جديدة. لم تحدث بعد، أو هكذا يبدو والله أعلم! فهل يُبرّرُ هذا الخوف الذي يعم الوجوه. لعل الناس يبحثون عما يكون مشجبا يعلقون عليه رعبهم!

في بهو الاستقبال حقائب من كل لون، أحجامها متفاوتة، بعضها مسند إلى الجدار، أغلبها فوق العربات ينتظر السعاة والحمالين، السائحون جماعات، عطور وسجائر، وحديث واسع، ولغط كثير:

ـ يا مسعود

ـ ما أكثر الناس في البهو اليوم؟

ـ أين هو النادل القصير؟

والحق أنّ النادل لم يكن قصيرًا. انما كان قزمًا! يحبه كل الناس من المدير حتى الفراش الأخير، وكان يؤدي أعمالا كثيرة، يصرف العملة، يجلب أشرطة التصوير من الدكان غير البعيد عن مدخل البهو الكبير، يُوفر معجون الأسنان أو معجون الحلاقة للمتعجلين من النزلاء. لهذا فقد اعتمد عليه أعوان المراقبة اعتماداً تاما، فكان مثل النزق يجري من طرف الفندق إلى طرفه الآخر دون توقف.

وكان مسعود هذا، يحمل أسماء شتى، فهو الفأر بالنسبة إلى الأقربين، وهو سنتاَنُو لدى جماعة داسك الاستقبال، وهو غاستون، لدى المترددين المواظبين على المكان، بل هنالك من يُشير إلى أن مسعود لم يكن اسمه الحقيقي، وأنه يُدعى أبا القاسم، أو ”قاسم“ بوضوح وبساطة.

في الطابق الخامس والعاشر والخامس عشر ... صالونات واسعة، منشطون متخصصون في استقبال الوافدين؛ رقص وفرح وعبث، لغات شتى، فساتين، نظرات يغلب عليها الانبهار. الطبيعة خارج المنتجع رائقة جميلة، مناظرها تعيد المُشاهد إلى بداية التكوين، مصاطب واسعة من رمل نبتت فوقها عروقٌ منثورة من سكوم وسِدرٍ وعَادِر، ونبات شوكي من عشبة الشيطان، أغلب الماشين يُباشرون أمورهم حفاةً، لا أحد يتأذى من حصاة  تنقر باطن قدمه، أو شوكة هاربة تجرح أصابعه، ألا يكون الأنبياء أيضا قد مرّوا بهذه الشعاب الضائعة عند ملتقى البحار البعيدة! ألا يكون البلبول قد مرّ من هنا، والشرشير الصيفي، وعصفور الجنة أيضا...!

خلف المصاطب ترتفع حواجز أضافها المهندسون فوق عدد من الصخور البركانية المجلوبة من مواقع شتّى، دونها تنتشر الوحدات الصحية، والمغاسل، ثم يُشقّ الطريق المرسَلُ عبر الرمال طويلا متعرجاً يربط بين الأرض والسماء، حوله نشأت شيئا فشيئا فنادق صغرى ودكاكين، منه بدأت الحياة، ثم امتدّت مؤكدة أنّ الخلاء يُمكن أن يكون بذرة وجود جديد. هكذا استُهلت السياحة في هذه النقطة الملقاة بعيدا نحو الشرق. في هذا الخضم من المتناقضات بدت حماية الحرفاء القادمين من أوروبا، ومن البلد المجاور، أهم غاياتنا، يُمكن أن يوجد إرهابيون في هذه النواحي، لماذا لا يكونون بين السياح، أو متخفين في ثوب أعوان الإدارة، أو سلك عملة البناء المقبلين على إنشاء مراكز اصطياف جديدة. تلصص متبادل، وفرق متنوعة. المهم هو حماية هؤلاء القادمين ضيوفًا علينا، والمسهمين في دعم اقتصادنا، وتطوير حياة نرجو أن تكون أفضل وأنعم، مثل جنّة بديعة نبحث عنها وهي تهرب منّا. وأجمل. فما أحلى فكرة التلصص:

هنالك من يعتقد أنّ البحث عن دقائق حياة الناس، ودسّ الأنف في غسيلهم لا تعدو أن تكون من الميول غير المبررة لدى خلق كثير. لكن شيوع هذا السلوك، في عصرنا، جعله يبدو من قبيل الممارسات العادية! الناس الطيبون يمارسونه في قراهم البعيدة، رؤساء الدول الكبرى، الأساتذة في جامعاتهم، آباء الكنيسة وفقهاء المسلمين والأحبار أيضا. الناس سواسية في هذا الهم المقيم الضاغط على القلب الذي لا هروب منه:

ـ ماذا أبصرت

ـ لم أبصر شيئا والله!

ـ عليك أن تكشف لي دخيلة نفسك هذه المرة، وأنا مستعد للمزيد من كشف أسراري في المرات القادمة.

انتهاك متبادل، وتنقيب عن معايب الآخرين. المسألة تبدو أحيانا من عفو الخاطر، فهذا سلوك عادي، لا يُدعى الناس إلى الإقلاع عنه، وهو يمكن كثيرين من لذة عظمى لا تُقاوم. يختبئ المتلصص خلف جدار، أو قطعة آثار، أو يتنكر في ثوب خادم، أو زي سائح، ثم  قد يفتح بابا سريا أو يدفع المصراع إلى الخلف قليلا، ينظر من خلال الشقوق الكامنة في كل مكان. الأبواب المواربة من خلالها نُعمل بصرنا في الوجود، نرى ولا نرى، نبتدع عتمة جديدة وظلالاً. في هذا الفندق الكبير على الشاطئ البكر تولدُ آمال وأحلام، وتنبثق رغائب جديدة، قد يقع المرء على مشاهد غير منتظرة من فظائع الجسد. لا أهمية لذلك، إنما الهدف الأكبر ألا نسمح للمجرمين بدقّ إسفين في هذه المنطقة من العالم، حيث يُمكن للإنسان أن يقتفي خطوات الصالحين والأنبياء، ويتعرف على أسرارهم، ويُمسك بألوان أرواحهم!

أحمد أيضا من الأعوان العاملين تحت إمرتي، حدث بيننا التواطؤ منذ اللحظة الأولى، هو مثل عارف يُحب التلصص، يبقى الليالي الطوال مقرفصا خلف جدار، أو يتسلّق شجرة توت منسية، أو يختفي تحت نبتة عادر كبيرة ... يرى ولا يُرى. يُعمل بصره الحادّ في الليل يُرسل أجنحته على الوجود، مثل خيمة تحنو على أطفال جائعين. يُنصت إلى الصمت حوله، يتلمس أعضاءه المتجمدة من أثر البرد. يرغب في أن يُرسل صوته بالغناء، لكنه يكف عن طلب المزيد من المتعة، فيتقوقع حول نفسه ويمضي في دنيا من الخيالات البعيدة.

في الإمكان أن أكشف هنا ما رغبتُ في إخفائه منذ سنوات. وهو أن جميع أفراد الفرقة التي أشرفت عليها كانوا أصحاب بحث عن الخفي البعيد، لم يدخلوا الشرطة السرية اضطرارًا، ولم ينضموا إلى السلك مثلما اتفق، لكنهم سرعان ما اعتادوا التنقيب في حياة الآخرين، بل ظفروا من ذلك بمتعة لا يُدركها إلا العارفون. المرسي وسليم، وعبد الحق أيضا كانوا يجتهدون في تلصصهم، ويتفانون في التسلل إلى غرف النزلاء، باختلاق تعليلات شتّى، منها تقديم الطلبات، أو إصلاح حنفيات البانيو، أو تغيير فوانيس الكهرباء، أو تعديل التلفزيون.

ـ شبكة التلفزيون تمام...؟

ـ كل شيء تمام.

ـ ماذا يُمكن أن أفعل من أجلكم ؟

ـ شكرا، لا شيء!

ـ طيب، أمرّ بعد حين للتأكد من رغباتكم.

ـ شكرا!

ـ الاطمئنان عليكم غايتنا.

هكذا تنشأ حوارات جانبية لا جدوى لها غير تمديد الوقوف، والتلصص على الأبواب المواربة، والبحث خلف قطع الأثاث، والستائر، والنوافذ:

ـ لا داعي للقلق

ـ لا، هذا واجبنا

ـ طيب، يُمكن أن نناديكم حين يطرأ جديد!

ـ في كل وقت. كلنا موكلون بخدمة النزلاء الكرام.

ـ كان الله في عونكم

ـ كان الله في عون الجميع!

*   *   *

وحين تعوز أحدهم الحيلة يكتشفون أعذارًا مجنونة، مثل التدلي مع حبال تنظيف زجاج الغرف، أو إثبات أدوات التصنت تحت طاولة الصالون، داخل أدراج السرير، وخلف المرآة الكبيرة، وراء اللوحات التي لا قيمة لها، والتي تتكاثر في أغلب الأجنحة. هكذا كان العاملون معي يبتدعون أساليب مبتكرة في كل يوم جديد، بل في كل لحظة ... حتى بات الشغل يُمثل حياتنا، واعتبرنا أنفسنا ـ كما ظهرنا أمام الآخرين ـ  نموذجا للنجاح، الجمع بين المتعة والنجاعة. فما أروع أن يقع أحدنا على سر من الأسرار، أو أن ننتبه إلى أنّ السيد الجميل القادم من أوروبا، يعمد إلى ترك زوجته الارستقراطية بمفردها ليختلط بعاملات الخدمة، أو الطباخات، أو أن نضبط الشاب الأنيق، يضغط أيدي  السعاة أكثر مما يجب، أو يدعو بعض أصدقاء الصدفة إلى غرفته في أطراف الليل.

هذا كله لا قيمة له إذا قارنّاهُ بما نخرج به من اكتشافات بعد قراءة الرسائل في الحقائب المفتوحة ـ وغير المفتوحة ـ أو استعراض الارساليات المكتوبة فوق شاشات الهواتف الجوالة، أو استخراج ورقة صغيرة مطوية بعناية من جيب داخلي في بطانة معطف سيدة معروفة بجدها وأناقتها. أما ما يُمكن أن نعتبره من الأسرار، رغم أنّ الجميع يتظاهرون بتجاهله تجاهلا تاما، فهو الخوف. الخوف الذي يُحاول النزلاء الأوروبيون، والسياح القادمون من البلد المجاور بشوارعه الفضفاضة، وفرق الشرطة المعلنة والسرية،  وبنات الليل المحليات والوافدات من الدولة  المجاورة، وأسراب العمالة، والإداريين، وخادمات الغرف، يُحاولون التغاضي عنه، أو التظاهر بإهماله ... وجعله يتوارى خلف المساحيق، وبدلات الشهرة، وبريق الذهب والحلي...

أميالٌ قليلة تفصل المنتجع عن الدولة المجاورة، كثيرون منا لا يعترفون بوجودها، مع أنها كيان من بشر، وأطفال ونساء، وعساكر وفنانين وشرط ومخبرين ـ مثلنا ـ قنابل وكتب، ولوحات فنيّة، مثلنا، وتحف كثيرة يقع بعضها بين أيدينا فيبهرنا. هذا الكيان المختلف قريب منا، بل هو قريب جدا، قد نرفض ذلك، ونتخلى عن التعامل معه، لكن بلدانًا كثيرة منا تتخذ سياسة الإقبال والإدبار. هل نحن مضطرون إلى هذا، أم اخترناه، أم فرضه الواقع، وسياسة أجوارنا هؤلاء هي في الغالب من قبيل الأمر الواقع. أميال، بل عشرات الأمتار أحيانا تفصلنا عن التعرف على هؤلاء، وحين يقدمون إلى المنتجع لا يختلفون عن الزائرين الآخرين، بعض الملامح، أو سمة صغيرة جدا في اللباس، غطاء صغير للرأس. الناس يقدمون من جميع أنحاء العالم للسياحة، نختار ضيوفنا، يكفي أن يكون الواحد حاملا لجواز سفر، وبضع مئات من الدولارات، حتى نمكنه من الدخول، نفسح أمامه بوابات الفندق، كل الفنادق، خاصة منها هذه الموجودة قريبا من الدولة الصغيرة، فوق هذا المنبسط من الرمل الذي تحف به الهضابُ من جهات ثلاث، والبحر من الجهة الأخرى، ويَفوح منه أريج الخوف والفجيعة.

كم أحبّ اللعب، أعشق كل أنواعه، لا استنكف من ملاعبة الأطفال في الحواري ، أضربُ الكرة المرتجلة التي يتبادلونها، أميال طويلة تفصل العاصمة الكبرى عن هذا المنتجع، وتفصلني عن لعبي. أرغب أن أمضي كل وقتي لاَهيًا دون توقف، بل أرجو أن ينتهي عمري وأنا بصدد مواصلة لعبي غير المحدود. الجسد لعبة، الأحلام، الجد نفسه لعبة، بل أبهى لعبة بين يدي هذا الكائن التائه في صحراء المين والباطل. يجلس أحدنا أمام الآخر، نتحادث طويلا، نتبادل نُتفًا في حوار مركز، أو حديثا لا معنى له، نلعب الشطرنج، نعبث بلعبة الورق، ألعاب الورق الكثيرة التي يمضي فيها وقتنا الذي لا جدوى منه!

ـ هكذا أغلبك ؟

ـ لن تستطيع

ـ كيف ؟! أنا الغالب دائماً !

ـ هراء!

ـ هذا هو الواقع

ـ الواقع هو هزيمتك !

لكأنّ الكائن البشري لم يوجد فوق هذه الأرض إلا لهتك الحياة،  وجود السحالي، وعصافير الجنة، والشراشير، وطيور النّكّات، وصقور السبخات، واجتثاث شجر الأكاشيا، وعشب الشيطان والنخيل، وأسراب الأوكاليبتوس فوق هذه المنحدرات التي لا أول لها ولا آخر. اللعب أفضل سبيل لمغالبة الموت والصدف العمياء! كُنّا يوما ثمانية رجال، أو عشرة أو أكثر قليلا، في سيارة صغيرة، شوارع المدينة الكبرى، تتدفق في الليل الأهوج، تمضي بسرعة لا تلوي على شيء! السيارة ترتفع بنا يمينا، أو تهبط شمالا، وجهتها بيت صديقتنا الرسامة، صرخ واحد منّا:

ـ لو تسقط العربة في المستنقع غير البعيد!

لم أجب، لم يجب أي منا، لم نظفر بأي صدى لهذا الإمكان الأهوج الذي نَقر زجاج النافذة في تلك الليلة الباردة الضيقة. يوجد مصباح داخلي يُضيء أعماق كل إنسان ينبعثُ منه ضوء خافت حينا، وتسطع أنواؤه قوية صاخبة أحيانا، لكنه حاضر في جميع الحالات، فاعل، كاشف، هو المصباح الذي نستند إليه في أوقات الخطر! الفندق حولنا يضج بحركة غير محدودة، المدارج من إينوكس لامع، كذا المصاعد ونوافذ الحجرات، الساحة واسعة رحبة، الساحة مثل القلعة البعيدة، تلك التي يُنقل إليها المشبوهون، يركبون الطائرة، يحلّقون عاليا، ثم يُزج بهم في سجن تلك القلعة، داخل أقفاصها الفردية الكالحة.

في الأسبوع الفائت علمتُ أنّ واحدًا من الأعوان المرافقين لنا سرًّا، والملحقين بخدمة غرف الطابق الأخير هتف بين الجد والهزل:

ـ هذا فندق إبليس.

فجأة، قلت في نفسي إن هذه التسمية ملائمة فعلا، لكنها حرية بقلعة الموقوفين بعيدا عنَّا، ”قلعة إبليس“ إسم رائع لذلك المكان الجهنمي الذي يُنقل إليه المشبوهون للتحقيق معهم، ولرعايتهم في ضيافة أصحاب السواعد المفتولة. هل كان إبليس يقطن هذا المكان من الصحراء قبل قدوم أكياس الاسمنت، وصفائح الزجاج الملون، وأعمدة الكهرباء والاينوكس، هل كان إبليس يقطن قلعة التحقيقات الكبرى هنالك. وراء البحر، في البلد الآخر البعيد... إم هي الصّدف وحدها قادرة على خلق المعجزات. كانت التسميات والعناوين، وألقاب النهوج والساحات توزع صدفة ودون نظام، مثلما اتفق، بلا تمييز : أبو العلاء المعري، العباس بن عبد المطلب، طه حسين، غُوته، ابن عربي، عبد الوهاب البياتي، عباس محمود العقاد، السيد درويش، وكانت الصدف كفيلة بأن تحيط الكائن البشري الضعيف بتسمية رقيقة تستحضر الشعر، والأبيات البهية، أو بتسمية فَظّة، غليظة، تبعد عنه النوم أياماً.

المعلومات هذا الصباح متضاربة، فقد نزل تيليكس من المتعاونين في قبرص يُفيد بأن بعض اللإرهابيين قد دخلوا المنتجع، أو لعلهم يخيمون غير بعيد عنه، أو لعلهم قد نفذوا إلى المساكن الخارجية الفخمة المحدقة به. وهنالك من يؤكد ـ من جهة أخرى ـ أنّ هؤلاء القادمين عملاء من الكيان المجاور قدموا لتنسم الأخبار، وحماية رعاياهم. فالمتناقضات لا تكف عن النزول على رؤوسنا، مثل أمطار الصحارَى الدافئة، تتكرر، تتماثل، لكنها في كل مرة تُحدث نفس الأثر، تُفاجئنا، تضغط على أدمغتنا. وهنالك أيضا من يضيفُ أنّ أفراد الكومندوس السري يضمون نساء حسناوات، بل لعل إحداهنّ كانت في بعض السنوات ملكة من ملكات الجمال في الكيان المجاور. في هذا الطور تبدلت خطة المراقبة، دخلت حقبة جديدة من حقب التلصص على جميع هواتف الاقليم الشرقي، فكان الواحد منا يقضي الساعات الطوال منصتاً، يُصيخ السمع، يسجّل كل شيء.

ألا يحدث ما نخشاه يا ترى، السيد رحيم سويد قائد العمليات يُعلن شكه في كل أحد، في كل شيء، ويلاحظ بأن الطريق الوحيدة نحو النجاح تمر بسوء الظن الذي لا يستثنى أيا كان. ورغم أن التقارير القادمة من الخارج، بما فيها تقارير البلد الجار القريب البعيد، تُؤكد دخول العملاء الأجانب أرض الوطن، ورغم أنّ ما يُقال عنهم فيهم  قد بقي غامضاً غير واضح، خاصة حين اكتشفنا ظهور عدد من بنات الليل، رغم كل هذا فإن الرعب بقي مسيطرا على الجميع ! لم يكن الخوف منفصلا عن الليل، لكنه كان أيضاً موصولاً بالمتلصصين، وبالإرهابيين على حد سواء. كل عطفة فيها طيف غير معروف، وكل رنة هاتف يمكن أن تجلب الويل والثبور:

ـ في الليل تتماثل الألوان

ـ والأحجام أيضا. إلا الأصوات، فهي تبقى قوية، بل تزداد حضوراً.

ـ الأصوات شيء آخر.

ـ لكنها تخصص الليل، تسمه بألوانها...

ـ في الليل تكثر الكلاب أيضا، نعرفها من نباحها المتواصل، بعضها يدعو، وبعضها ينهر!

لا أهمية لأصوات الكلاب في الليل، أو قل لا جدوى منها، فما جدواها يا ترى، يُمكن معرفة الليل بالتعرف على رائحة الكلاب.

ـ الكلب هو الذي يتعرف على الإنسان، وليس العكس.

ـ في إمكان الإنسان أن يشعر أيضا بقرب ظهور الكلاب، الشعور متبادل، وهو ليس شعوراً عدائيا في كل الأحوال.

ـ هذا ما تقوله!

ـ بل هو عين الصواب.

في إمكانك أن تساوم بنات الليل على كل شيء، لذلك كان الأعوان يعودون إلى غرفة القيادة محملين بأكياس الصور، نهود وأوراك، بطون، يُمارسون فيها أذواقهم القديمة، يتناسون الأناقة، وصور الأزياء والموضة. يقضون الليل في شرب وعربدة. وكان ذُهانهم يصور لهم كل ما هو غير ممكن. فيتباهون باكتشاف النقائص، ويعملون على البحث منذ العورات، ويسارعون إلى استعراض حكايات شتّى عن قدومهم إلى هذا الشاطئ، واستقرارهم داخل غرف الطابق الأول، ثم باقي الطوابق في ذلك اليوم الحار، في بداية شهر فيفري الفائت.

كانت الحرارة، على غير العادة في فصل الشتاء، تلفح الناس والمباني، والرمال، فتتحرك المياه في تجاويف الصخور، تغلي على بُعد أمتار قليلة داخل البحر. أسرع الشباب إلى المايوهات، أعلنوا اليوم الأول للراحة، رفعوا راية الرغبة في البحر دون إذن من أحد، فكنت مضطراً ـ استجابة إلى هواتف الضابط الذي أتلقّى منه الأوامرـ إلى الانزواء داخل سيارة المينى باصْ الصغيرة الرابضة خلف الفندق عند باب دخول العمال، لمراقبة الوضع عن كثب، من يدري، قد يحدث ما نخشاه منذ اللحظة الأولى. هكذا أعوضُ فرقتي في أول مهامها السرية!

كان الذّهانُ الذي دفع بنات الهوى إلى الشاطئ بمثابة العدوى العامة. لقد تصورت الفتيات أنّ الشباب، الذين حلّوا بالمنتجع يوم الثاني من فيفري، قادمين من العاصمة الكبيرة، أو من العاصمة الصغيرة في البلد المجاور، القريب البعيد، قاصدين العبث وملاعبة الماء والصّدفة! وحدث مثل الاتفاق الضمني بينهن على أنّ اجتماع الحرارة ورطوبة الجو ... يُمكن أن يسمح لهن بالالتذاذ بحصة ”عري“ عفوي في الهواء الطلق، فكشفن نهودهن، تقفز في الفضاء مثل غزالات نافرة فوق جبال جلعاد ... اختلط الحابل بالنابل، وتناست الفتيات خوفهن، وأهمل أبناء التلصص استباق ما يُمكن استباقُه، وتركوا العمل إلى اليوم الموالي.

إنّنا فوق شاطئ بعيد في ضفّة يقدم إليها المغامرون، والمتباهون من كل صوب، وتحرسها العناية الإلهية ... التي تحضر وتغيب مثل الرجولة تمامًا ... تبعا لنسق غير معروف! تبعًا لحركة الأرانب البرية، واليرابيع التي تملأ الشاطئ البدائي، وانسجامًا مع حركة النوارس الحائمة فوق البحيرة. هكذا يمثل البحر والبحيرة حوضين قريبين يتبادلان الأدوار...

*   *   *

أعوان الطابق الخامس يجتمعون بعد الفراغ من عملهم حول الشيشة، مقهى حي  الملاحة القريب من بُحيرة البيئة مليء بالأعوان، وأصحاب القوارب، والنساء الخارجات عن الطاعة. البحيرة الصغيرة تضم أصنافًا نادرة  من الكركي، وبعض التماسيح، والسلاحف. المكي لا يكف عن المزاح، يسخر من كل شيء، يسخر من نفسه، من سواح الدرجة الأولى، من الإرهابيين المندسين بين الصفوف، قد تدخل إحداهن في ثوب فتاة جميلة في العشرين ... شكل الرأس مضحك، الأعضاء غير متناسبة ... شكل هؤلاء لا يختلف كثيرا عن ”البلاشون“، أبو ملعقة الذي يكثر في المياه، أو ”قاضي الجبل“ الواقف خلف الكثبان يمارس سلطته الوهميّة على الناس والجماد، كذا اليربوع، والفنك ... وكائنات أخرى غير معروفة.

مزيج من الأعوان السريين والقتلة وخدم الاستقبال والطباخين والفنانين وبائعات الهوى ... جمع من الخلق لا رابط بينهم، ولا قاسم مشترك. المكي يبحث عن ضالته بالنظر إلى خصور النساء. بعد تأجج الصدر ينزل جسم الأنثى مثل نهر متعرج للالتقاء لدى الخصر ... في الوهدة المحاذية للكفل تماما، هنالك يحدث تأجج آخر، بل يندلع لهب قادم من الأعماق، حتى لكأن الجسد بكامله، مجرّدُ تمهيد ساذج يُحيل على خبز التقدمة، حيث لحم الوجود، وانبثاقٌ الشرارة الأولى.

كان المكي يُطيل التحديق في وهدة الظهر، فهي باستبداراتها المهداة إلى الغيب ... تفتح باباً مشرعاً على المجهول. بين نفسين من أنفاس شيشة التفاح المشبعة بحجرين أو أكثر ... يستعيد نُتفاً من معارفه خارج المدرسة، في ساعات المساء الطويلة، وهو منبهر بحكايات ”مَرْتِين“، صديقة أخيه الاسبانية، تتحدث عن ”غوغان“ وتستحضر ”بيكاسو“. يفهم السامعون أنه يُشير إلى اكتمال وركي المرأة الجالسة غير بعيد في صحبة أجنبي شعره رمادي. وفجأة ينفلت سؤال يملأ الأذهان: من المذنب المشبوه يا ترى؟ الفتاة، أم صاحبها، أم نادل المقهى، أم المكي ذاته. لا جواب! كل ما هنالك أن الأمر لا يتجاوز التخمين. لا حكم على الضمائر. إما أن يقع الإمساك بالارهابي متلبسًا، أو أن ينفجر مع حزامه الناسف فيُحدث أذى لا حدود له، كل المحيطين به ينتثرون فتاتاً من اللحم في الفراغ حول الناظرين البُلهاء ... في مساء ضبابي أبله! كل الناس متهمون حتى يأتي ما يُخالف ذلك! كل الناس سابحون ضد التيار، مثل السمك العنيد الذي لا يقتنع بالموجود. ولقد لزمني هذا الشكل طويلا حتى بعد الفراغ من مهمة المراقبة، ووقوع تلك الأحداث الكبرى التي غيرت حياتي. بقيتُ مرتاباً في سلوك وأفكار كل من حولي.

كنتُ في صحبة زميلة من الملتحقات حديثاً بالشرطة نتناول أكلة من حمام محشو بالفزدق واللوز، وعطارة الزمن القديم، في قلب العاصمة الكبرى، الناس يروحون ويجيئون، يذهبون ويعودون، الشمس طالعة مثل نور ساطع في غرفة عمليات، مثل الحقيقة في الصحراء الشرقية. فجأة ذكرت زميلتي اسم الضابط، وقالت إنه كان مهذبا جدا، لفني الصمت وأخذتُ أنظر إليها وقتا طويلا، ولم أعلق بكلمة! كان اسمه غريبا، كان يحرق المزروعات حول المنتجع، يهدم أسوار الضياع والأرض البُور. ربّما تكون اللعنة التي لحقت به في الأيام الأخيرة نابعة من طريقة تصرّفه. أعتقد أنه كان يُبغض الجميع على كل حال. والحق أنّ كل الناس كانوا يشكون في كلّ الناس في ذلك الزمن الضائع على الحدود الشرقيّة. عين الضابط الوحيدة لم تكن تُنبئ بخير، وبعد أن تنصبّ الأشعة الحارة القادمة من الصحراء على المنتجع بلهيبها الأحمر... تصاب العين السليمة أيضًا، فيخبو نورها خلف طربوش الأيام الباردة. يخبط الضابطُ أرض الممرات المبلطة بالحصى... وينطوي على نفسه بعض الوقت، ثم يمضي بعيداً.

ولعلّ ألطف ذكرى كُنّا نحملها عن ذلك الضابط أنه كان يعشق صوت سميرة توفيق، وقلّما كان يعبر عن تعلقه بواحدة من ممثلات السينما، أو مشاهير الطرب، بل قلما يخوض في هذه المواضيع الجانبية التي كان يعتبرها سخيفة لا قيمة لها. كان يضع عطراً خفيفا رخيصا نسيتُ اسمه الآن، ويسكب ساعات بعد الظهر كلّها في بحيرة أحلامه الميتة، ولا يقول شيئا. وبعد أن يضع المكلفون بخدمتنا كؤوس الشاي الخفيف أمامنا كان يخرج من سكونه ويُعلن صراحة أنّ هذا كله لا يعنيه، وأن غاية المنى بالنسبة إليه أن يُنصت إلى سميرة توفيق. كان يتلصص ـ مثل الجميع ـ على نزلاء الأجنحة الواسعة، لكن عينه كانت تتسم بالموضوعية التامة، لذلك لم تكن تُعجبه واحدة أكثر من الأخريات، إنما كان يكتَفي بغمغمة مُبهمة تخرج من بين أسنانه البارزة قليلا إلى الأمام ... مراهنا على ألا شيء يحدث الآن، وبما أنه لم يحدث ما يُثير الريبة فالصمت هو الأفضل. والحقّ أنه لم يكن يستنكف من النفاذ إلى أركان الأجسام السمينة، بل كان يحدق فيما بين الأوْراك. الشعر الأصهبُ كثيف في أغلب الأحيان. كان يبصر نهودهن النافرة، أو النازلة فوق صدروهنّ مثل الهم القاتل ... لكن شيئا من ذلك لم يكن يُثيره، سميرة توفيق في عباءتها المسدلة على خيرها وشرها هي التي كانت تثير فضوله، وتمطر فحولته الغائبة بألف سؤال. يتناول كوب الشاي الخفيف، يتلمّظ، ويرسل بصره في الفضاء البعيد.

البحيرة القريبة، التي كانت تضم أصنافًا من الدجاج والطيور ذات السيقان الطويلة، وعصافير الجنة. ليست من البحيرات الكبرى، لكنها تمتاز بمياهها الصافية، مما جعل البدو لا يُغامرون بالدخول، إنما يختارون في الغالب المكوث عند الضفاف. الطيور أيضا تتناقر وتنفش ريشها الأبيض الوردي مرسلة أصواتها الرقيقة في الفضاءات الصامتة. السكان حول البحيرة قليلون، بعضهم أصيل الفيافي، أغلبهم قدم مع نزول السواح الأوائل فانتشرت دكاكين العصير، ومحلات كراء السيارات، وورشات الميكانيك وبعض أكشاك بيع الكارط بوستال، والبوستيرات، والتحف الصغيرة. أما الباعة الجوالون فقد انتشروا في كل مكان، جعلوا من الشوارع القليلة حول البحيرة خلية نحل كامل اليوم وجزءاً من الليل، ممّا جعلهم هدفًا لتدقيقات رجال الشرطة، وبحوث المخبرين الذين انتهزوا فرصة نفاذ هؤلاء إلى الحوانيت الداخلية وسهولة تسربهم إلى مقاصير تجار العملة، فحملوهم ما لا يستطيعون.

العين، ثم الأذن أهم الأدوات في البحث عن المعلومة. وجائز أن يلتجئ هؤلاء إلى الحواس الأخرى ... للاطّلاع على ما يُضمره السواح، وأعوان الإدارة، والعمال، بل وأفراد فرق المراقبة أنفسهم، رجالا ونساء.

ـ أكادُ أمسك برائحة المنتجع...

ـ رائحة العطور ! عمّ تتحدث ؟

ـ رائحة الوجود

ـ والله لا أفهم هذه الإشارات !

ـ الشيح في البحيرة، والشيح الحلو على ضفافها، مناقير الشرشير، جلد الأرنب البري... نهود السائحات...

ـ ما هذا، عليك إنجاز أطلس للروائح !

ـ هذا ما أفكر فيه

بقي تعليقه بلا جواب، لزمتُ العبث بمفاتيح سيارتي، ورغبت في تغيير الموضوع، لكنه استرسل:

ـ انزلاق حذاء رياضي فوق حصى الممر أمام الفندق لا تشبه رائحة قزقزة كعب سائحة من سائحات الدرجة الأولى، النورس النازل نحو الأرض بعد أن تكون ظفرت به بندقية البدو يصدر عطرًا صامت يختلف تماما عن النورس بعد أن يجلبه واحد من كلاب الصيد، فيتلطخ الريش بلعابه.

ـ هذا بديع والله...

ـ لا... هذا لا شيء أمام ما أنوي إنجازه، وقد بدأت، أتممتُ أهم المراحل، والبقية تأتي!

كل حركة تُحسبُ على صاحبها، الصمتُ يلفّ الجميع، والفندق الكبير ساكن تماما، أما الأنباء فمشوشة متضاربة، المنتجع بكامله في حالة انتظار، أمر جلل غير معلوم، لذلك فهو هادئ ساكن، مثل مشرحة بعد خروج الجثة الأخيرة!

الشوارع محاصرة، النهوج الداخلية أيضا، الناس يهربون إلى غرفهم وفي عيونهم ذعر، إحساس بالقهر، ألسنتهم معقودة، الممرات طويلة جدا فارغة في أغلب الأحيان، وقع الأحذية فوق الموكيت خافت، والبرد يُغلف الملامح بهالة من الضباب والبُخار.

النور المنبعث من الأبواب المواربة يكشف الملامح الضائعة، الوقت ثقيل، الساعات مثل الرصاص تتحرك في بُطء شديد، الموسيقى الصادرة من الأركان لا يَستمع إليها أحد ... السائحون يُنظفون أسنانهم، وتشطَف السائحات ما بين أوراكهن البيضاء. ويُخلد الناس إلى نوم ثقيل مثل الهم على القلب.

نظام التلصص المركزي يَرْصُدُ هواتف المنتجع، آلات التصوير المثبتة في الممرات ... الصغيرة والكبيرة، قريبا تُثبتُ أجهزة أخرى في بيوت الاستحمام، والمقاصير، وصناديق الكهرباء التي تُسهل مراقبة الطوابق كلها...!

رغم مرور أسبوع كامل على إرساء هذا النظام لاَ قيمة للمعلومات التي يَحصل عليها أعوان فريقنا، ولا أعتقد أنّ المتلصصين الآخرين، الذين كانوا يراقبوننا بدورهم قد حصلوا على شيء. كأننا ندور في حلقة مفرغة رغم الكم الهائل من المعلومات الصغرى التي لا جدوى منها وحتّى لكأنها باقاتٌ من ورد الزينة فوق ثوب مرقوع! مثل تبادل العملة سرًّا بين النزلاء وبعض عمال الطوابق، أو السماح لبعض الشبان السمر بالتسلل بعد الظهر إلى مخادع المرفهات، أو الاطلاع على أسرار الرسائل المبعوثة إلى الأهل في أوروبا واستراليا، والدولة المجاورة التي ينتشر فيها الخوف المعلل والخوف غير المعلل. أو اكتشاف بعض الظواهر العصبية لدى نزيلة بريطانية من الطبقة الراقية، تحتفظ بابتسامة ماكرة في ركن شفتها العليا، أو حفلات المتعة الجماعية التي برع فيها لفيف من السويسريين والسويد.

الحقُّ أن إحساسا غامراً بالخسران قد سرى في أعماقي. رغم تدريباتي السابقة، ورغم خبرتي. تبقى هذه المهمة الكبيرة أول عمل رسمي يُسنده إليّ السيد المحافظ. لذلك غلبني الشعور بالخسران، ولولا شعلة ذاوية لا تخبُو في ركن صدري لضقت ذرعاً بكل هذا، وألقيت ملفاتي وآلات الترصد ... وتهت في الصحراء. لذلك أميل إلى تشبيه مسعانا كله برحيل دون كيشوط فوق سباسب جنوب الجزيرة الايبرية. لعل قناع الفارس الذي لا يجد في ترحاله أي جدوى ... يبْقى مسيطرًا على هذا الوضع الذي زجت بنا فيها رغائب رؤسائنا في مكاتبهم المرفهة في عاصمة البلاد.

لذلك فإنّ اللذة الوحيدة الممكنة في هذه المشاهد الضبابية التي لا جدوى منها، تأتي من جانب السيدات أكثر من السائحات الشابات، فالسيدة في الأربعين، ذات الصدر الناضج والكفل المسكون بآهاته، تبدو أقدر على تحريك البرك الساكنة داخل صدورنا. لو تريثنا قليلا لتمكنّا من إعداد ”أطلس الريبة“ الذي يُمكن أن يضم صوراً، وأوصافا، ورصداً لحركات أجنحة الدرجة الأولى، حيث المترفات هانئات خَلف بذخهنّ الكسول... في مخادع الصلف الخادع.

دون دخول في التفاصيل التي تستغرق الوقت والجهد يُمكننا أن نقتصر على الإشارة إلى أنّ الكاميرا تركز في منبت الصدر، واستدارة الظهر، وميلاد العانة قبل التمهل عند ربلة الساق، أو تورد القدمين بأصابعهما الرقيقة. ولا يعرف أحد على وجه اليقين إلى أي حدّ تسير خطوط الجسم، وما هي المساحات الفعلية التي يُمكن أن تأخذها الأعضاء. وأين تذوي المتعة، وأين تولد من جديد، فكل هذا يفتقر إلى تحديد نقاط الانبثاق والتوقف. والملاحظ أننا لا نستطيع تبرير أسباب استقرار أعيننا على أجسام الإناث، بينما رؤساؤنا يطلبون منّا التعرف على كل شيء. لهذا، ونزولا عند رغبتهم، بل بسبب الواجب المهني، فإننا نتنصت أيضا على الرجال، ونسجل مكالماتهم، لكن دون أي اهتمام، كمن يؤدي واجبا ثقيلا، ودون تريث، أما كشف أسرار النساء الناضجات خاصة، وهتك سترهن، فمبتغانا ... رغم أنه لا يختلف في شيء عن أي دفتر من ملفات المعلومات الأخرى!

ـ المسألة أوسع كثيرا من معرفة سر المرأة، انها موصولة بالنفاذ إلى أعماق الآخرين.

ـ وما المتعة في هذا.

ـ أوج المتع المسترابة

ـ قد يكون.

ـ بل انه لكذلك، الكائن البشري يبحث عن حفظ أسراره واكتشاف دخيلة الناس الآخرين.

ـ بل كل الناس لا هدف لهم إلا هتك الحجب وتجاوز الحدود والتنقيب في جيوب الغير، أوراقهم، محفظاتهم، أبدانهم ... البحث عما يمثل اختلافا.

ـ هل غدوت متخصصا في هذه الترهات؟

ـ بل هي عين الواقع ... منذ الأيام الأولى التي ينزل فيها الرضيع إلى الدار الفانية، حتى خروجه منها في آخر عمره وهو راغبٌ في رفع الحجب التي تفصله عن غيره، نساء ورجالا، وأطفالا ... طبعا وضع النساء يختلف، لأن البحث في خفاياهن يبدو ألذ وأطيب.

هكذا تمكنا بأسلوبنا الخاصّ من حل هذه المعادلات الصعبة، ومن مواجهة المتناقضات في عملنا الذي من السهل أن يُجابه بالرفض والتهجين من قبل كثير من أصحاب النوايا الصادقة الجالسين خلف مكاتبهم الزجاجية في عواصم العالم، الذين تفتقر أحكامهم إلى الجد، والأناة والموضوعية. لقد تحدث كثيرون عن الحرية، والحقوق الأساسية، ورغم اننا نعتبر أقوالهم ذات قيمة فإن الواقع سرعان ما يكشف أنها محدودة، فيفضح ادعاءها ويُحيل على حدودها! مثقفون من العامة، والنبلاء، والبرجوازيين أصحاب النعمة السريعة، بيض وسود، تذهب خطبهم تذروها الرياح في سُوق الأحداث الجارية...

صورة سائحة تخطت الأربعين قد احتفظت بجوربها الأسود بعد أن تعرت تماما ... تستلقي فوق الأريكة البيضاء وهي تنظر في الفراغ ... دون أن تدري أنّ العين ـ في سقف الغرفة ـ تراقب أدقّ حركاتها، ترسل مشاهد ملهوفة ـ عبر أسلاك حيادية باردة ـ نحو السيارة الرّابضة في الساحة خلف الفندق ... حيث تجمع متلصصون، سال لعابهم مثل كلاب نازلة من المرتفع بحثا عن رائحة الجيف في حرّ الجنوب، أو قطط الرمال الشرسة، حيث تعدو الحرباء واليرابيع، تحت عيون صقر السباخ ذات الألق الكاسر. كيف يُمكن تبرير هذا؟ أية توبة، وأي استغفار يُمكن أن يُكفرا عن الوقوع في الزلل الذي يصعب تجاوزه. هذا من الثوابت التي تدربنا عليها ... حتى غدت من سلوكنا اليومي الذي نؤديه في إهمال، على اعتباره من متطلبات الشغل.

المشاهد واضحة متكررة، السيدة التي تجاوزت الأربعين تنتظر، في وضع انتظار وترقب، ما الذي يُمكن أن يحدث بالنسبة إلى هذه البراءة في بهائها الرتيب. وضع الانتظار هذا يُذكر بالبُحيرة النائمة، الغابة الصغيرة، الدغل الملتف حول نفسه قريبًا من المستنقع المجاور للبُحيرة. الأنثى والمياه الراكدة، وشجرة العادر في حالة خمول يستعرضَان عُريهما فوق الشاشات الغبية، وداخل العيون المتلصصة، خلف النظارات الشمسية الداكنة. الدغل مليء بشجر السكوم وأنواع كثيرة من السدر، والعادر وعشبة الشيطان ... حيث تنمو ثمار صغيرة جدا من العناب البرّي الجاف على الدوام. ورغم صعوبة ضبط وثيقة نهائية في مجال النبات والشمس والحيوان والماء في هذه الفيافي، ففي الإمكان الإشارة إلى ممالك ثلاث، أولاها مملكة النبات، والثانية مملكة الزواحف، وآخرها مملكة الطيور. واعلم أنّ كلا منها قائمة بذاتها، مختلفة عن الأخرى، مفضية إلى غير ما تفضي إليه.

فعشبة الشيطان والعادر والأكاشيا والنخيل والأوكاليبتوس، والطحالب كلها تسترعي انتباه الانسان بظلها، والوخز الذي تحدثه في جلد من ناحية أخرى. أما السحالَى والضب، والأفاعي، والحرباء فلا تبتعد كثيرا عن الأرض، هي في حالة استراق دائم لما يهجس به ضمير التراب.

بقي أن الهدهد، والقبرة، والبلبول، والشريشر، وعصفور الجنة، والنورس والصقور تحقق الوصل بين نثيث المطر والرمل المنداح في الصحراء ... حتى مرمى البصر. ويبدو، والله أعلم، أنّ العلاقة بين هذه الممالك هي أصل الوجود، توازن هش من توازنات الطبيعة يُحيل على وضع انتظار غير مبرّر يصعب على الجميع أن يواصلوا الخضوع له.

هكذا ينشأ حوار بين الزحف والطيران وهدوء النبات، استكانة النبات انتظار غير مبرر لظهور ممالك أخرى، في بهو الوجود. وضع الانتظار يُمكن أن يُعتبر في أعراف كثير من المبالغين في التعفف، من التصرفات الرديئة خاصة ان المرأة المستعرضة لا تدري أنها مكشوفة. لكن هنالك من يرى أنّ الغاية يُمكن أن تُبرر الوسيلة، فالمرأة تنزل إلى وضع المهانة هذا حفاظًا على حياتها، أو إمكان الحفاظ على حياتها. هذا فعل غير مبرر قبل حدوث العمل الإرهابي المتوقع. لكن بعد حدوث العمل ـ لا قدر الرحمان ـ فإن كل شي يغدو مبرّرًا.

هذا الحوار بين الدغل الصغير المليء بأشجار الشوك، والمرأة فوق أريكتها، والبحيرة بمستنقعها الصغير المحاذي لها ... يبقى شاهدًا على انتظار ما لا يُمكن انتظاره! لهذا فإن فهْمي لهذه الأحداث، باعتباري آخر مشاهد في الفندق، مكّنني من الإلحاح على إنها تنتمي إلى العمليات التي لا يُبحث لها عن تبرير أصلا، فالأنثى ـ مثل البحيرة والمستنقع والدغل ـ معروضة تماما فوق الشاشة الصغيرة التي تُنقل مشاهدها من الغُرف إلى قاعة صغيرة جانبية خلف الممر الرئيسي المحاذي للساحة الخلفية. وتُنقل نفس المشاهد ـ بعد تسليط نوع من الاختيار عليها ـ إلى سيارة الاستافيت الرابضة حيث أتقبلها وأصدر حُكمي النهائي، بأنها مشاهد يُمكن إهمالها، أو تجاهلها، أو مشاهد ينبغي نقلها إلى أولي الأمر خارج المنتجع. هكذا تكون حياة هذه المشاهد قصيرة جدا، ولا يُمكن بأي حال من الأحوال اعتبارها مشاهد غير أخلاقية، أو تصنيفها ضمن الصور الخادشة للحياء ... في انتظار حدوث عكس هذا... فإنّ التلصص مستمر... والمشرفون عليه ضالعون في  مراقبة شعر الابطين والعانة فوق أبْدَان سيدات في الأربعين، أو التريث عند التحديق في شيخ في السبعين بصدد غسل ما بين وركيه المنفتحين، وقد تهدل لحم فخذيه الأملسين، واستدارت نتوءات ركبتيه، وتقوس ظهره الأحدب.

الكاميرا ترقب سيدة أخرى في الثلاثين ... تتوقف عند الردف المستدير، وليمة لأيام القحط، والمطر يُبلل السطوح فوق المباني العالية، السيدة تضع قميصا قصيرا من الدنتيل، لا يستر غير النصف الأعلى، لا يحدث شيء ... لكن حبات الماء القوية تواصل نزولها من سماء شحيحة قلما تكون سخية مع ما يليها من ربى وشطآن وِسِبَاخ. النثيث يختال في هطوله، يمسح على جبين الفندق، يُداعب زجاج النوافذ، يمضي إلى الأرض. الضابط يرى المشهد من خلال الشاشة، يؤمن بالحرية الشخصية، لكنه يخدم أنظمة المراقبة. لا يعنيه أن يُشاهد ورك هذه السائحة أو تلك. قد تكون في بلادها سيدة مجتمع، قد تكون امرأة وقحة لا وجه لها، لكنها هنا مجرد سائحة نرجو الحفاظ على حياتها! قد تكون رقما في تنظيم سري في بلادها أيضا! نظام الطوارئ يسمح بالتعرض إلى حياتها الشخصية يُقر بجعلها مجرد ردف عارٍ ... لا غُبار عليه!

بها وجهٌ جميل، لكن انكشاف أسفلها، في لحظة تعتبرها هي خاصة وحميمة، ويعتبرها المتلصصون لحظة انكشاف غبي لا يتحكم فيها أي كان ... يبدو وجهها منكشفا أيضا ... بل منكشفاً جدا ... عريها يجعل الوجه عاريا من الجمال. الصور تَرِد على الضابط خلف الحيطان البعيدة عبر أجهزة السلكي واللاسلكي. لعله يُخمن أن المرأة ذات الردف الرجراج مثل الشرقيات ... تدهن مواضع خاصة بالقرفة وتعطرها بزيت الورد.

ضابط الاستخبارات يكاد ينسى مهمّته الأصيلة، آه لرائحة الأنثى المنبعثة منها، يتصور رائحة القرفة واللبان المندفعة بين وركيها الأعزلين ... ثابتة راسخة مثل أُخدود ينداح قليلا نحو الداخل، أو بُقعة ظِلِّ سريعة غامضة. كم يرغب الضابط في أن تكون قريبة منه، كم يود أن يتحرش بها، كامل اليوم يبقى موثقًا إلى شاشاته لا يبتعد عنها.

سائل أعمى يمر حذو سيارة الاستافيت الكبيرة، يطرق جدرانها بعصاه، يتحسس طريقه، ثم يواصل السير بطيئا، هادئا مُردّدًا أدعيته المكررة. الضابط يرغب في مدّ أنامله داخل سرواله الضيق ... ثم يُقلع عن ذلك! السائل يردد أدعية تستحضر الخالق، تذكر بأنّ الدنيا فانية، وتمتدح فعل الخير. السيارة رابضة في الخلاء الموحش داخل الساحة خلف الفندق، حركة السائل الضرير موقعة موزونة.

تك، تتك، تك... ثم يمضي لا يلوي على شيء، باحثا عن موقع جديد لقدميه وعصاه، وعيه بالأشياء من حوله قوي جدا، الفولاذ، الأجسام الناعمة، الحصى، أكوام الرمل:

ـ تفضل بالمرور!

ـ شكرا

لكنه لا يأتي أية حركة، لا يغير مكان عصاه قيد أنملة، يطرق جدار السيارة من جديد. ترى عما يبحث، أم هنالك من أسَرّ في أذنيه ببعض الملاحظات.

تكـ: تتك، تك

الوجود كله موزون على هذا الايقاع الأبله، والسائل الأعمى ليس إلاَّ صورة ثابتة من صور هذا الوجود الأعمى.

لكل أمر نُكهته،لكل أمر وقته أيضا. لكن هذه الصور التي تنبعث عبر اللاسلكي تُؤذيه، تهزه من الداخل. خريج كلية الحقوق، يعلم جيدًا أن حياة الناس الخاصة ينبغي أن تكون محفوظة، لكنه يعلم أيضا أنّ للضرورة أحكامًا. يذكر الأيام الأولى التي أمضاها خلف الفندق الكبير، متخفيا داخل عربة الجرار الباردة، قضّى فيها عديد الليالي، يلتقط صور الغرف، مشاهد الممرات الطويلة؛ يتلصص على الناس في مراحيضهم، وتحت ألحفة أسرتهم. حين يظهرون على حقيقتهم ... بسطاء ... عاجزين، منكفئين على أنفسهم في موكب الديموقراطية السائرة لا تلوي على شيء! أما الآن، وهذه القطط تموء خارج سيارات الاستافيت، فإنه يميل إلى طلب الراحة من هذه الأعراض المنتهكة والأسرار الهاربة، وقد خيّم الخوف فوق الرؤوس مثلما يحدث حين تكون السماء سوداء واطئة، نثيثُ مطرها مُتتابع قوي.

التحق بالعون الأبكم عون آخر هوايته التنقيب داخل حقائب السائحين بحثًا عن رسالة خفية، أو كيس بودرة مهمل أو مسدس صغير يتوارى تحت هذه الأدوات الخاصة. كان شعره فاتحًا جدا، كأنه سائح من القادمين، وكان سريع الانفعال، يغضب لأتفه الأسباب، يضحك لأبسط نكتة يُمكن أن يستخلصها من سلوك الأبكم. ما إن يقع على دليل أو شبه دليل داخل بطانة جلد في إحدى المحفظات حتى يلبس الجد، ويلتزم الصمت ويهو يحدق فيما بين يديه.

ولا أدري لماذا أميل دوما إلى استعارة رمز "دون كيشوت" لوصف الأشقر، والأبكم، ولوصف نفسي أيضا، بل لوصف كل المشرفين على المراقبة والحراسة في هذا البُرج السياحي الشاهق، تحيط به شُجيرات العادر، وهو يُحاذي السبخة الواسعة التي يُفضي جانبها الشرقي إلى البحيرة. وعند كل مرة أدخل البهو، وألحظ التحركات السرية التي يحرص كل الأعوان على القيام بها في خفاء تام، مغيرين مواقعهم وقيافتهم كل يوم تقريبا... تفاجئني الأوصاف المضحكة التي أدمنت تكرار الاطلاع عليها خلال طفولتي ... وقد سيطرت عليّ الدهشة والخوف والرغبة في الضحك. فلا رابح أو خاسر في هذا الانتظار القاتل. ولعل الدون كيشوط الأكبر لا يعدو أن يكون شابًا قابعا في ركن خفي ... في إمكانه أن يضغط زرًّا يفرقع به الوجود في هزة قوية ساخرة!

هذا الفتى، الطيب أو الشرير، مثل ”البطة القبيحة“ تماما، لا جمال له، لا رقة لملامحه ... حتى اللحظة التي يهتز فيها الحزام الناسف ... فينتشر العمى، وتغيب الحياة وتضمحل البسمة على الشفاه ... في هذه اللحظة يكتسب ذلك الفتى معنى ما !

الشجرة أمام الفندق باقية، فهي عند المدخل منذ سنوات، قد يكون ذلك قبل بناء بوّابة الرخام العالية.

المجندات يعلقن فوق أغصانها صور عشاقهن، وأعوان التلصص يلامسون أغصانها بحثا عن مكان يُمكن أن تثبت فيه آلة التصوير... أما السائحون والسائحات فيلتقطون ذكرياتهم أمامها في خفر جدير بأوقات آخرى بعيدة، أوقات لم يعد ينتظرها أحد!

*   *   *

انتشر الأعوان حول القلعة السياحية، يقيسون مساحة البُحيرة، ويحصون أجناس الطيور المعششة في الأحراش، يدخلون الدغل حيث الشوك وعشبة الشيطان ... باحثين عن المغارات، أو التجاويف التي يُمكن أن يتخفى داخلها الخارجون على العرف والقانون. عمد القائد العام رحيم سويد إلى تكوين فرق متخصصة، تُركّزُ تفتيشها في جوانب معينة. ورغم أنّ البحر على مرمى حجر من المنتجع فإنّ مياهه قد انحسرت، وكونت مع البحيرة مستنقعاً واسعا تتخلله نباتاتُ القصب، هناك يغمر الماء جزءاً من الرمال، ثم يُفسح المجال ليبرز جانب متينٌ من اليابسة، إننا هنا إزاء أشباه بُحيرات مضمومة إلى مستنقع ضحل يُحيط به هلال من الرمل ينبت فوقه عشبٌ حادٌّ مثل الإبر. لهذا يصعب في مثل هذه المناطق أن يتحدث المرء عن الأمواج، فهي تتكسر قبل بلوغ لسان التراب والرمل الندي الذي تبتدئ معه اليابسة.

بعد أن عمد فريق المراقبين الفندق ”بفندق ابليس“ غدا كل شيء ممكنًا، وتبدد أي أمل في العثور على شيء! لهذا فإنّ المجموعات المختلفة العاملة في هذه المنطقة كانت تنتشر بلا نظام في الظاهر. فريق المسبح، جماعة غرف الدرجة الأولى، كومندوس المطابخ، أعوان الساحة الخلفية، المنقبون عن أسرار الماء والعشب ورمل السباسب:

ـ لم أعتد هذا المناخ

ـ أنا أيضا

ـ منذ طفولتي لزمتُ بداية الدلتا، حيث تلتقي الفروع، الظلال تملأ الأفق، والخيرات في الأرض، والله يشرف على كل شيء.

ـ فعلا...

ـ اليوم أنا مُلقى في هذه الفجاج الخالية!

ـ لا نعرف عن المصير شيئا

ـ كلام نبرّر به خيبتنا.

ـ أو نؤكد به أننا منسجمون مع العالم

ـ كيف الانسجام مع الشوك والعادر وعشبة الشيطان!

ـ كان علينا أن ننظم حياتنا بعد العمل. ما إن نفرغ من شغلنا حتى نلعب الورق، أو نستمع إلى الراديو، أو نعبث بالانترنيت.

ـ صرت أشعر باللاجدوى!

ـ إحساس غامض يجب أن نقاومه.

ـ أو ننغمس فيه!

في هذا المناخ المنسجم مع تضاريسه تفرق الأعوان للبحث عن أي شكل مُريب من أشكال الحياة، أو الجماد. وكان هدف الجماعة أن تعمد إلى غربلة الرمل، والغوص في مياه البُحيرة، وتقليب الأغصان داخل الأحراش، وحفر متاهات اليرابيع، والثعابين، وحيات الممرات التحتية. هكذا كان من الممكن أن يغرفوا الرمال بمجارف واسعة وأن يعمدوا إلى غربلة كل شبر من التراب المبلل، والحصى، والقواقع المنسية منذ مليون عام. رغم عدم ترحيب الطبيعة بهذه الانتهاكات، فقد لاحظ الأعوان صمتًا شاملا يضم كل الكائنات فوق هذا الساحل المنسي الذي بعث فيه المنتجع حياة جديدة.

في غفلة من الرمل ذاته، تمكن المفتشون من تقليب كلّ حبّة رمل، وأعادوا  ضخ كل قطرة ماء، وهزّوا الأغصان وأوراق الشجر، ورفعوا الصخور والحصى... دون أن يعثروا على شيء. وبما ان الأمواج الصغيرة جدا، المتسارعة أمام هبات الريح القادمة من الجنوب، كانت عصية على الفهم فقد أزمع القائد الدخول في سجال آخر مع الطبيعة. لهذا جدّ في البحث عن الكائنات المنغرسة في الشاطئ، وخلف الكثبان، وداخل الأحجار، الضفادع، السحالى، بنات آوى، الزنابير، الإوز البرّي، السلاحف الصغيرة، الطيور التي لا أجنحة لها، الزواحف المفلتة من الزلزال، التي تمكنت من الصمود أمام مياه الطوفان القديم، معز جبل جلعاد!

هكذا تم إعداد بيانات شتّى، يُمكن أن تؤدي، إذا ما استغلت الاستغلال السليم إلى تجهيز موسوعة عامة، تُعنى بالحياة فوق هذا الشاطئ البعيد حيث يبدو أنّ الصمت هو العملة الأكثر تبادلا ورواجا. الينابيع لا قيمة لها... تدفق المياه العذبة أو المالحة لا معنى له. كانت هذه السواحل معروفة بأرض النبوات. ويبدو أنّ الرسل القدامى، وقبلهم أولئك الرسل الآخرون الأكثر عراقة، قد جابوا هذه الأنحاء، وتبادلوا فوقها أنخاب انتصاراتهم. الينابيع تُعير أسماءها لهذه الأنحاء الصامتة التي تصبو إلى المساهمة في ملحمة البشرية بنخلها، ويعسوبها، وصراصيرها وأوكاليبتوسها وحرارتها القاتلة. المكان بكامله كان يحمل البركات المنبثقة من الأصل القديم. أما مغامرات الساحل فيُمكن تصنيفها عموما ضمن سياق آخر من تواريخ الأديرة المنسجمة مع الطبيعة الخرساء على طول الساحل من شواطئ ليبيا حتى قرى البحر الأحمر المتهدمة.

ومن النادر اليوم أن يعثر المرء على شبر من الرمل لم تطأه قدما بشر حول هذا الماء الذي من السهل أن يُوصف بالسخاء في بعض المناطق، ومن السهل جدا أن يوصف بالشح في مناطق أخرى. لهذا فإن انتشار الأعوان حول المنتجع منذ شروق الشمس قد مكن الناظر من شرفات الفندق من أن يشاهد عشرات الرجال، المقعيين فوق الرمال، أو المنحنين على مياه البحيرة الضحلة، عاكفين على استخراج الرواسب: ضفدعة، أو فأر ماء ذي قوائم تشبه أصابع البط ...  المهم البحث عن أداة ما يُمكن أن تُستعمل للتفجير عن بُعد.

على بُعد أميال قليلة انشئت إحدى القلاع المخصصة لسجن الخارجين على الأعراف العامة، على أنقاض دير متهدم أهملته الكتب القديمة. لا أحد يعرف من أنشأها، دولتنا، أم الدولة الخائفة المجاورة، أم أعوان الدول الكبرى؟ وسوف نتحدث عن الفظاعات داخل هذه القلعة حين تسمح الأحوال بذلك. إنما الآن يعنينا أن نتعقب أثر المنقبين تحت الصخور، في أعماق الجبل، وبين أمواج البحيرة عما يُمكن أن يُسهل إحداث تفجير ما ... انفجار يُرسل البهاء إلى الجحيم؟

قراءة أعماق التراب كفيلة بنبش الأحافير الثانوية في هذه الطبقات المتراكبة. ويبدو أنّ إهمال الفندق الكبير، والإقبال على التراب والرمل وملح السباخ وماء البحيرة، يُشير إلى تغيير واضح في سياسة البحث عن الجديد. طريقة التفكير غريبة، لماذا نُصرُّ على الموازنة بين الفندق، وخارج الفندق. والفضاء الفردوسي الفسيح، متسع جدا ... أبعد من مرمى البصر؟

إيقاعنا السابق هو الذي يوجه إحساسنا بالناس والأشياء. السكان القدامى أطلقوا أسماء حركة المد والجزر على هذه المياه المتحولة، بين البحر والبحيرة، والسباخ، كأننا هنا إزاء أحواض متراشحة يؤدي بعضها إلى البعض الآخر. الانتباه إلى هذا العبور والرجوع بين مناخات الصحراء في هذا الشرق البعيد، على خطوات من دولة الشوارع الفضفاضة، يمكن المراقب من وضع إصبع الإشارة على حقيقة الوجود، وأصل الكون. الحركة هي لب الأشياء! لا شيء يدوم، كل شيء يتحول.

ولعل الجغرافيين، أو علماء النبات، يُمكن أن يتساؤلوا، إذا ما عثروا على أحْفُورٍ أو بقايا هيكل عظمي! بيد أنّ أعوان القائد رحيم سويد المبثوثين في كل مكان لا غاية لهم غير التنقيب عن شيء واحد: الإرهاب، ما يُمكن أن يخدم الهدف الذي يسهل على فتى في العشرين أن يجذب زرًّا في حزامه الناسف فيهز بناءً بكامله! يبدو أن السكان الأصليين الذي كانوا يستوطنون هذه الأنحاء قد أطلقوا أسماء الحركات البحرية على رمال الصحراء. لهذا من السهل جدا أن يتحدثوا عن تموج الرمل، عن صخب انبثاقه العاتي، فيكون اندفاعه قصيرًا أو طويلا، صاعدًا، أو نازلاً، منتظما أو متقطعا، دائما أو متفاوتًا، ويغدو مدّه قصيًا وجزره قريبًا، متدفقا أو منحسرًا، عميقا أو سطحيًا، ضعيفا أو قويا. بعد انصاتهم للبدو يتحاورون ... لم يكن أعوان التفتيش يبحثون إلا عن شيء واحد، عن دليل قوي أو ضعيف لما يُمكن أن يحدث في أية لحظة! أما اعتبارات الجغرافيين وعلماء اللغات فلم تكن تعنيهم إلا بقدر ما يعنيهم النظر في هذا الفج اللامع تحت شعاع الشمس.

لم يفهموا معنى وقوع اختيار الإدارة العامة على القلعة القديمة، التي أقيمت على آثار الدير التاريخي، لإنشاء أكبر سجون المنطقة. إنما واصلوا البحث كأن شيئا لم يكن، كأن الأمر لا يعنيهم، كأن البحث عن الجريمة منفصل تماما عن التهمة التي يُمكن أن تلحق بأي كان في أي وقت، تنزل مثل نسر من السماء على رأس العبد الضعيف الذي لا حرمة له، في هذا الفراغ الصحراوي القريب من البلد الصغير المجاور الذي أقام وجوده الفضفاض كله على الانتظار والخوف والتحسب. أمضى المفتشون، يُعينهم العمال، ليالي بكاملها منقبين، لكنّهم لم يعثروا إلا على المزيد من الشك والحيرة. أسكتوا المحركات التي كانت تُخرج الماء من الآبار غير العميقة حول المنتجع، أخرجوا الضفادع من جحورها حتى ينقطع نقيقها فلا تُضجر النائمين، أرسلوا بالديكة إلى الجحيم البعيد، صادروا الكركي، وأنواعًا من دجاج الماء غير معلومة المصدر! أبعدوا الشرشير والنكات.

تمكنوا من تمشيط الرمل والماء والهواء، جذور النبات، أعلنوا بعد ساعات طويلة من البحث والتفتيش أن الصحراء لا تحوي شيئا مما يُخاف منه على راحة السواح الهاجعين، أمام عين كاميرا عابثة تكشف عوراتهم كي تحفظ حياتهم من هجمة ممكنة غير منتظرة، من هجمة يُمكن أن تحدث في آية لحظة هاربة من زمن الترهات الوردية. بعد الفراغ من عمل التفتيش كتبوا تقريرهم الجازم بخلو المكان نهائيا من أي دليل يُمكن أن يُفضي إلى الإمساك بخيط من خيوط التهديدات التي يخشى السادة المسؤولون في العاصمة الكبرى وقوعها في أية لحظة!

لم يقتنع المشرفون على الأمن العام، انما أعادوا تكوين فريق ثان لمراقبة الفريق الأول، ثم أذنوا بنشر جماعات أخرى تعيد عمل بعضها البعض إمعانًا في الحذر، وحفاظا على مفهوم ”الأمن المطلق“ الذي لا يأتيه الباطل من أي جانب! كنت ترى الفرق تتناوب على غربلة الرمل، نبشه في أدق تفاصيل الجحور والنتوءات الصخرية. تتوالى التقارير المجهضة الفضفاضة التي لا يُمكن أن تؤدي إلى غاية. ولا شك أن ورود نبأ من بعض العواصم البعيدة عن حصول تفجير في قطار من قطارات الضواحي، أو في محطة السكة الحديدية، أو ملعب من ملاعب كرة القدم ... يؤجج الريبة، ويُشعل نار الخوف، ويبعثُ على الرعب من جديد. الأحلام نفسها أصبح المفتشون يدققون في تأويل جزئياتها، وتضاعيف استيهاماتها. لذلك كانوا يجتهدون في استعادتها!

ـ رأيت فيما يرى النائم...

ـ خيرا إن شاء الله!

ـ بدايته خير، لكن النهاية...

ـ تكلم، كيف كانت؟

ـ أضغات أحلام...

ـ حدثنا عن ذلك

يمضي كامل اليوم في أخذ وردّ حول تضاعيف الحلم الأخير، يُقدم كل ضابط تأويلا خاصا به، ثم ترجأ المسألة بعد تسجيلها لتُعرض على كبار المتخصصين.

ـ كنت أركبُ جوادًا.

ـ ثم ماذا

ـ لا...، إنها أنثى، بدليل.

ـ أرو جميع التفاصيل، لا تكتم شيئا

ـ كنا نسير في هدوء على حافة المستنقع، فجأة ...

ـ ماذا حدث؟

ـ اتركني أتذكر.

ـ فجأة كان سقوطي.

ـ سقطت في الماء، أم خارج الماء

ـ سقطت في الماء حتى كدت أختنق، وظهرت أنوار كثيرة حولي.

جندوا للأحلام  فريقًا من المحللين النفسانيين المستندين إلى فرويد وابن سيرين، فوفروا كراسات كثيرة، لتسجيل جميع الأحلام، الماضية والحاضرة، وإحصائها في سجلات متنوعة ... عسى أن يأتي من يفكك طلاسم الرعب الذي تتضمنه، والريبة النابعة منها، الريبة في الناس أجمعين، في أبناء البلد، والسياح الوافدين من البلدان البعيدة، في السياح القادمين من البلد المجاور الفضفاض. وقعت الإشارة إلى بعض الملفات القديمة، تَمَّ استرجاع أحلام أخرى طرأت في هذا الكوخ أو ذاك قبل إنشاء الفندق، ثم سُجّلت أحلام شتّى حدثت في غرف هذه المدينة السياحية؛ حتى بعض الاستيهامات الجنسية وقع تأويلها عسى أن تتضمن إشارات خفية إلى الدّك والهتك. فالهتك يُمكن أن يُحيل على القتل، والدك يُحيل على الهدم والافتضاض على التفجير والتنكيل. لهذا فإن كثيرين من أهل الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب قد أعدّوا معجمًا للاشارات النابية التي يُمكن أن تصدر عن هذا أو ذاك.

كل الناس متهمون ... إلى أن تثبت بَراءتهم؛ أو كل الناس متهمون إلى ما أن تثبت براءتهم. لذلك في الإمكان ـ تحت دفع شهوة رؤساء الشرطة ـ إغلاق الفندق، أو طمس معالم القرية الصغيرة التي انشئت غير بعيد عنه، أو ردم البحيرة بكاملها خشية أن يحدث مكروه. فبعد أن كان الأمن في خدمة المواطن والسائح، غدا الأمن هدفًا في ذاته يصعب التخلي عنه، خاصة أن البلد الفضفاض القريب من هذه التخوم في صحراء الشرق، يُفرخ في كل يوم طيورًا جديدة من طيور الفوضى! لا شيء يحدث، لا شيء يتحول، إنما السجن الكبير في الجبل يواصل قبول الموفدين دون جرم واضح! عشرات الأفراد، نساء ورجال وبعض الأطفال يدخلونه مفقودين، ولا يخرجون منه مولودين من جديد!

ويبدو أن هنالك من الموقوفين من فكر في مدّ نفق تحت السجن، رغم طول المسافة، فقد عول على سهولة الحفر في الرمال، حدث النبش عبر أمتار كثيرة متعاقبة، إعداداً لهروب محتمل، لكن النتيجة كانت أسوأ من المنتظر، بل كانت بمثابة فاجعة أعدّ له الحرس عُرسًا من أعراس الدم. انتبهوا إلى عمليات الحفر منذ الأمتار الأولى، لكنهم تغاضوا عنها بعد أن تأكدوا أنها لا يُمكن أن تُؤدي إلى نتيجة. سمحوا للمساكين بتغذية آمال عراض، والنسج على الاستيهامات الخفية، وفي يوم من الأيام أعلنوا أنهم اكتشفوا الأمر، ونصبوا مشنقة في ساحة السجن، على بُعْدِ كيلومترات من الفندق، وعلى بُعد كيلومترات قليلة من البلد الفضفاض، ثُم سارعوا بشنق من سوّلت له نفسه التفكير في كسر النظام، والخروج من الأسر! حدث هذا رغم الاعتراف، ورغم الرغبة في التكفير ... ورغم كل شيء!! حدث بمباركة المسؤولين الكبار في العالم.

الكاميرات وأجهزة الانصات تجتهد في أداء دورها، لا توجد أسرار شخصية، الأسرار أكذوبة كبرى يتبادلها البعض فوق الأرائك الوثيرة مبالغة في استيهامات اليقظة التي لا معنى لها! الحلم يتردد من جديد، يتحول إلى كابوس مُخيف. أدخل القلعة القديمة، أسير مثل الطيف، أحاذي الجدران الخربة، أحس ملمسها الخشن تحت أصابعي، أكادُ سقط، الأرض فيها مياه آسنة. يُخيل لي أنني أطأ كائنات حية ... بقايا أرجل ورؤوس، أشلاء أقدام. النتونة الزنخة تنبعث من الفراغ المحفور أمامي ... المدارج واسعة جدا ... لكنها لا تُفضي إلى هدف. أجوس خلال العتمة والعواء، آهات مثل المواء الأخرس، أبحث عن غاية غير معلومة، الحلم يأكلني من جديد ويُطوح بي بعيدا جدا!!

*   *   *

حين تلتقي الأمطار بحرارة الشمس، وتغوص المياه في تجاويف الرمال الجهنمية تنبجس مخلوقات صغيرة جدا من كل مكان. لستُ متأكّدًا من أنّ الوقائع التي عشتُها في القلعة الكبيرة، التي توجد قلاع مماثلة لها في كل البلدان، كانت وقائع خيالية. فقد تمازج عندي الحلم والواقع، وغدوتُ كثير الشرود، وكثرت استيهاماتي. لهذا فإن ما مرّ بي في الأحلام يُمكن أن يكون عين الواقع، كما انّ الأحداث الفعلية يُمكن أن تكون مجرد وهم! لذلك غدوتُ حذرًا جدا في عرض ما يمرّ بذهني، رجائي ألا تُحمل الدعاوَى التي تصدر عني على محمل الجد. كل ما هنالك أنني، بعد تجاوز الجدار الخارجي المتين، قد مررتُ بخلق كثير، فوق الكراسي، وفوق الطاولات، وفوق أسرة من حديد، وفوق لا شيء أحيانًا. فالمشرفون على هذه الفظاعات يُغامرون أحيانا بوضع المساجين فوق الأرض مباشرة، أو قُل إنّ هذا السلوك هو الغالب على ما يفعلون! والغريب أنّ هذه القلعة الشامخة فوق الجبل كانت تضم عشائر بكاملها أحيانًا، الأبوان والأبناء والخالات والعمات، والأعمام والأخوال ... ويبدو أنّ هذا هو منتهى ما فهمتُ والله أعلم.

وأشهد أنني قد مررتُ بأطفال وشيوخ، ونساء، مثلما تُعلن نشرات الأخبار عندنا، وأن الناس كانوا في اختلاط تام، لا يعرفون ماذا يفعلون بأعضائهم المقطوعة، أو المدكوكة، ولا يعرفون ماذا يفعلون بالخجل الذي تعلموه في حياتهم السابقة. يبدو أنّ الخلق الكثير الذي يُغذي هذا السجن الواسع قادم من أنحاء البلاد البعيدة، بلادنا، والبلاد الأخرى القريبة، بل وبعض الأماكن النائية في هذه المعمورة. ويبدو أنّ جميع البشر سواسية في دخول القلعة، لا فرق بين شمال وجنوب، كما أنه لا فرق بين شرق وغرب رغم ميزان المكيالين الشائع عندنا ... تغير شعوري بالنقص إزاء الأوروبيين كثيرا حين اكتشفتُ أنهم أيضا يدخلون هذه السجون الكثيرة، عبر أنحاء الدنيا.

فندقنا، في منتجعنا البحري يُغذي السجن الكبير، شوارعنا في مدننا القريبة والبعيدة تغذي هذا السجن، أريافنا تُرسل بفلذات أكبادها أيضا إلى هذا السجن، الطائرات ترد من أقصى الأرض لتغذية هذا السجن ... حتى كأنّ البشرية بكامل أجناسها لا هم لها إلا تغذية هذه القلعة الواسعة التي تحيط بها أسوار عالية، يحرسها جند من أبناء وطننا، ومن أبناء الأوطان الأخرى. فما أبهى أن يحس المرء بأن الناس سواسية في تعْمير هذا السجن الفسيح! بعد أن تخطينا السياج الخارجي نبهني الحراس إلى أنّ الأسلاك تحمل شحنة كهربائية قوية جدا، يمكن أن تقضي على جمل في لحظة سريعة من لحظات الصحراء. بعد ذلك مررنا بقناة وساعة بها مياه راكدة لم أتمكن من مشاهدتها نظرا إلى العتمة حولنا، إنما خمنتُ من خلال رائحتها أنها تتضمن ضفادع خضراء كبيرة جدا، تقض مضاجع الخلق بنقيقها المتصل.

لكن يبدو أنّ المهندس الذي أشرف على إنشاء هذا السجن الفسيح قد أدخل في اعتباره عنصرين أساسيين، وهما الجبل العالي، المرتفع في السماء من الناحية الشمالية، والجدول الصغير المنساب جنوبًا، حتى مرمى البصر، فهو يسير مُحاذيًا لأرض منبسطة نبتت في مواضع منها بعض أشجار الأوكاليبتوس حيث تعشش الغربان، وتتكاثر بنات آوى في المغاور السحيقة والجحور النازلة في الأرض. مثل الجبل، والجدول الذي تم تحويل مجراه قليلا، حاجزًا طبيعيا، ومكن المدير العام للسجون من أن يضع قلمه فوق التخطيط ويتمدد نحو الوراء قليلا، ويعلن في رضا تام:

ـ هذا أفضل كثيرا!

سأله مساعده:

ـ فعلاً هذا ما سنعمل على إنشائه قريبا،

ـ لا... لا أتحدث عما سننشئه، إنما عما لن ننشئه لأن الجبل في الشمال، والجدول في الجنوب يحفظان المكان من كل محاولات الهروب...

ـ فعلا.

ـ هكذا... يتحتم علينا أن نعمد إلى تحصين الجهات الأخرى.

العجيب أن الطبيعة قد أسهمت في سنوات قليلة جدا في دعم هذه الأماني الخفية. فما كان في البداية مجرد جدول هزيل يسير في  حياء متعرجا نحو الشمال ... سرعان ما تغذّى بمياه غير منظورة، فاتسعت جنباته، وغذّاه طميُّ سري قادم من أعماق الصخر في الأفق الشرقي. هكذا اكتشف المشرفون أنّ القلعة باتت تستند إلى أحضان الجبل العالي مثل الجدار في الشمال، والنهر الواسع الهادر في الجنوب الشرقي، فركزوا أمرهم في تحصين بقية الجهات بجدار ألكتروني من أسمنت وحديد مجهز بأحدث الآلات الجديدة التي يجتهد الخبراء في تحسس قدرتها على الصمود.ثم أثبتوا بعد الأسلاك المكهربة، والجدار الألكتروني والهضبة الصناعية الصغيرة صنوفًا متراصة من شجر السنط المدعوم جينيا، بعد أن تم تعديل خصوصياته الأصلية، وغدا ينمو في كلّ اتجاه، فتتشابك أغصانه القوية، وتمتدّ جذوعه لتكون ما يُشبه الحاجز الطبيعي القوي القادر على دفع أي بلاء من الداخل أو الخارج.

لذلك كان دخولنا، في رعاية الحراس، قد حدث بعد عبور كل هذه الحواجز، مما دعم شعوري بأنني فعلا أعبر حلمًا يصعب تحقيق نظير له في الواقع. وما إن مررنا بالبوابة الخارجية، واجتزنا حيطان الفولاذ حتى بدا النزلاء تائهين في الساحات الواسعة مثل السكارى، وما هم بسكارى، إنما كانوا يجوسون في البرية الفسيحة دون أن يُغادروا حدود القلعة المترامية الأطراف. وما ان عبرنَا إلى داخل الممر الأول، حتى انخفضت الإنارة، وازداد البرود، فأحسستُ أنّ الحراس قد ابتعدوا عني، وتركوني أتعرف على المجهول. أخذت أرتدّ إلى الوراء مثلما يحدث للناس في الحلم، أصطدم بجماجم بشرية، أو بأشلاء دامية، أسمع صرخات رعب قادمة من الدهاليز المجاورة، أشاهد أوضاعًا غريبة مثل امرأة مرعوبة يعالجها ذكران مجنونان، أو طفلة في العاشرة تشاهد اغتصاب أمها، أو فتى تُقطع رأس أبيه، فظاعات أخرى لا أقوى على استحضارها! الحلم يرعبني من جديد، أرغب في العودة إلى المنتجع، ما الذي قادني إلى هذه المباءة الغريبة.

يُسارع المكي إلى الخروج من القلعة، الأنين يحيط به من جميع الجهات، صراخ مكتوم، لذّة مسروقة من قبل الحراس، تُلتقط أشلاؤها من أبدن الضحايا، لذة لا معنى لها، لذة مريضة متهافتة تنبع من الدم والقيح، مثل دمل مفتوح قد تقاطر منه سائل لا لون له، سائل بدائي أصفر حائل إلى لون القاذورات البشرية! المكي يستحضر ما كان يُشاهد في الفندق، المتعة والتلصص على المتعة، تتداخل المشاهد في رأسه، توازن مؤقت يعصف به بعيدا عن وجوده المشطور! سكان الفندق يمرون بوضع توازن وقتيّ، المراقصُ تنتشر في كل مكان، الطابقان ـ الأرضيّ والأول ـ يُمكن إضافتهما إلى طوابق اللذة. كل الناس يتلصصون على كل الناس. رجال وصبايا ومتع مثلما يحدث في الأحلام، صنيع صامتٌ يُمارسه الكل ضد الكل، خلق كثير لا عمل لهم إلا توهم الانتهاكات الجديدة! النساء أيضا يُمارسن جاذبيتهن بأساليب شتّى تتراوح بين لفت النظر والصراخ، الرجال يقعون في الفخ الأصيل الذي فمه مفتوح مثل حوت عظيم، في أرض النبوءات الضبابية ومتاهة البغي والظلم في الصحراء الهاربة من ردهات الكتب السماوية.

*   *   *

الفصل الثاني

الشّارع الفَضْفَاضُ

بعيدًا عن الخير والشر، في إمكاننا أن نحيا سعداء في هذه البُقعة من العالم، أن نتنفّس دون أن نظن أن حياتنا لا تستفيد إلا من موت الآخرين! هذا بلدُ الطوائف، البعض لا أجداد لهم فوق هذا التراب، رغم انّ قرار بناء الدولة قديم، أغلب الناس أخذ يستنبط له أجدادًا وتاريخًا وأثارًا، وجدرانًا مقدسة. العالم يتغير، العرب ذاتهم يتغيرون وسُكان هذه الشوارع الفضفاضة يُقيمون وجودهم على عداء الآخرين! في كل يوم قتيل من هذه الجهة أو تلك، والكلّ مقتنعون بأن ما يحدث هنا لا يُمكن أن يحدث في أي مكان من العالم. الدماغ البشري مُقسم إلى دوائر ... الديمقراطية، حقوق الإنسان، القتل، العداء المستفحل بين جميع الفئات، سطوة الدين، العلمانية، كيف يُمكن للمرء أن يكون الأمر ونقيضه في وقت واحد:

ـ كيف الملاءمة بين قوانين حقوق الإنسان وواقع الناس

ـ لا توجد قوانين؟

ـ إنها عهود، اتفاقات.

ـ طيب، لا يهم!

ـ لا، هذا مهم جدا، فالعهود هي من قبيل ما لا يُفرضُ علينا، إنما نأخذ به طائعين، إنها بمثابة خلاصة سلوك، هذه هي حقوق الإنسان.

ـ هي غير ملزمة إذن؟

ـ بل... لأنها كذلك فهي ملزمة جدا.

ـ كيف!

ـ هي واجب شخصي، وليست قانونًا، لهذا يجب أن يعتادها الأطفال في المدارس، وفي الشارع، والبيوت... قبل أية دوائر أخرى.

ـ هي معقدة إذن.

ـ إنها في غاية البساطة.

ـ ينبغي تعلم مبادئها

ـ الحقوق لا نتعلمها، هي تنشأ معنا

ـ هراء... مما تتعلمه في المدارس

ـ على زماننا لا وجود لها في المدارس أصلا!

ـ كيف؟

ـ اليوم تُقدم في شكل مستخلصات، أما في الماضي فهي مبثوثة طي النصوص.

جِئتُ من لندن إلى تل أبيب لكتابة رواية، ولم أكتبها حتى الآن. تدور أحداثها في مدينة يقصدها مهاجرون من أنحاء العالم، يمكن استنتاج موقعها على ساحل الأطلنطي من وجود الدبّ القطبي والبنغوين كأعداء طبيعيين (*).

رغم ذلك يبقى هذا المكان قاسيا، يُعاني الكثير من المشاكل غير المعتادة، هنا بلد سكانُه يُعانون الخوف والمهانة والإحساس المستمر بالتهديد ... هذا البلد ليس إسرائيل، وتلك المدينة ليست تل أبيب، إنها مكان آخر في مخيلتي ووطني الخاص ومدينتي غير الموجودة على أية خريطة إلا في جغرافيتي أنا.

ما يحدث هنا يُمكن أن يقع في أي مكان من العالم، الناس فيهم الأخيار، ومنهم الأشرار، النظام مركب بطريقة خاصة. إننا إزاء تركيب معكوس. ولَولاَ التزامنا الحياد، أو قُل بعض الحياد، لأكدنا انّ هذا النظام يجدف ضد التيار!

شوارع متصالبة بعضها يؤدي إلى البعض، فيها ألوان من الناس القادمين من كل صوب، كمبيوتر وعادات قديمة، توق إلى المستقبل غير واضح المعالم، تشبث بالماضي السحيق. آلات معقدة جدا، قمة الحضارة ... إننا إزاء أوج التطور ... وفي خلفية هذه الشوارع الأمامية يعجعج بخور أولئك القادمين من تونس أو الدار البيضاء، يعبر الطريق بسرعة ليستقر في أعماق الحوانيت الجديدة، يتخطى الواجهات والنوافذ، يُزيح الستائر، مزيج من بخور الشرق، وعطارة الزمن الأول، وفوح الشبق المستراب. في هذا السياق الفج من تجاور الجديد والقديم شبان لا يخجلون من مصاحبة الفتيات، وآخرون يؤثرون امتلاك الصبيان، وشذوذ عام وألوان لا معنى لها!

”... في أكتوبر 2003 عدتُ إلى تل أبيب، أقمت هنالك أربعة أشهر بالقرب من كشك الفلافل في مبنى منخفض من أربعة طوابق يمتد بطول الشارع، له بابان أماميان يؤديان إلى مجموعة من السلالم التي يجمعها بـهو واحد وتؤدي إلى دهليز واحد ... يحيط بالمبنى حديقة صبار وارفة، ذات نخيل ورمال وقطط ورائحة نفاذة لأوراق الشجرة الغضة، وصناديق القمامة الممتلئة حتى الآخر، بينما عبر الشارع تطل شجيرات الخبازي المحملة بأبواق الأزهار الحمراء... المبنى ذو طابع يحمل بعض الشبه من الطراز الذي كان سائدا سنة 1909 حين دعت الهجرة الجماعية من أوروبا إلى حاجة ملحة وسريعة لبناء منازل جديدة، وضع تصميمها مهندسون مهاجرون ممن اعتادوا الأسلوب الغربي الحديث في البناء... ابتكروا مدينة كاملة على ساحل البحر الأبيض المتوسط... بيوت بيضاء ذات شرفات مقوسة، كأنها مقدمات سفن مغروزة بطول الشارع...“

نشرات الأخبار تقدمُ صور الضحايا من كل مكان. الدّم باتَ عاديا فوق الشاشات التي تصور الدنيا في جميع الأوضاع، تلتقط لها صورًا من أسفل، وأخرى من خلف، وأخرى من أمام وفوق، جَانِبيًّا أيضا، ومن كل اتجاه، إننا إزاء صُور مقلوبة رأسًا على عقب! الجسد في دماره وتقطع أوصاله ... الأعضاء متناثرة كالأشلاء، الصدر منكشف، هُنا نهدان منفصلان عن الجذع، هُنا وهدة السُّرة مكشوفة عارية، هنا فخذ ينزّ منه الدم، هنا العورة في قُبحها معروضة دون حماية، دون موانع!! بلا ستر!!

الجسم في انكشاف أشلائه مثل الجسم وقت المتعة، وركان منفتحان، معروضان على مصراعيهما، الدّم شاخبٌ في مثل خروجه من جرح الضأن أو الماعز، لحوم معروضة يخرج منها القيح، دُمل عجيب لا حول له ولا قوة، انتظار ما لا يُمكن أن يكون! في الآونة الأخيرة تناقص عدد المساجد والكنائس في القُرى والضيعات الصغيرة، تكاثر عدد البيعات، كل شيء هنا ذاهب إلى الندرة باستثناء ما يدعم الفكر الغالب. المغلوبون أصبحوا يعتقدون أنّ هذه هي الحالة الطبيعية، وأنّ النظر إلى الداخل أفضل كثيرا. فالمستقبل غير معروف، بلا معنى له!

في أماكن أخرى، قريبة أو بعيدة، يُمكن أن يحدث العكس، والنتيجة واحدة ضمن ميزان العبث واللامعنى! إنّ الغطرسة هي نفهسا، وكلما انتصر الغموض غاب العقل. الأسر هنا في البلدات والقُرى الصغيرة تعرف بعضها البعض، ما يحدث للواحدة يحدث للجميع.

ـ تفضلي، سيدة أم علي

ـ شكرا أم فاضل،

ـ شرف لنا أن تزورينا

ـ صرت أجيء في كل يوم!

ـ حبذا لو كان ذلك! تفضلي،

تدخل أم علي، مثلما يُمكن أن تكون أم أحمد، أو أم صالح، ومثلما كان يُمكن أن تكون أم فاضل نفسها في زيارة لأم علي ... تختار أريكة جلوسها، دائما قريبا من النافذة. رَغْم الطقس المعتدل هي ترغب في أن تكون قرب مصدر الهواء.

ـ كيف حال علي؟

ـ كيف حال فَاضل؟

ـ مدينتنا تغيرت

ـ انقلبت رأسًا على عقب!

ـ كان منتظرا أن يحدث هذا

ـ إنه الاستعمار

ـ في أعرافهم ... هم في بلدهم!

ـ هراء، صدق من قال إنّ شوارعهم فضفاضة حدّ الغثيان.

ـ ما هو تعريفك للشارع الفضفاض؟

ـ نواميسه غير واضحة، الحياة فيه لا توحي بأية ثقة، لا مستند فيها لثوابت، أجواره يرفضونه.

ـ هو يرفضهم أيضا!

ـ هم يرفضونه جملة وتفصيلا

ـ هنالك من يعترف به

ـ حقا!

ـ من هنا يأتي التعقيد.

بعد الشوارع الفضفاضة شوارع أخرى، تتفرع عنها أزقة متعرجة دقيقة. العناء كبير في دخول هذه المتاهة، الجسد أيضا متاهة، إنه أكبر المتاهات لأن الألم والمتعة يلتقيان عنده!

والألم والمتعة من الوساوس عديمة الجدوى. وليد شاب من السامرة، لم يتجاوز الخامسة عشرة، أمه تحبه، مثلما تحب كل أنثى وليدها، أبوه سافر إلى جزيرة كريت ولم يعد، لعله هرب من الجحيم هنا. وليد يميل إلى حفظ القرآن وذكر الله، ويستنكف من الإمساك براحة ”نورة“ الجارة الحبيبة، زوجة المستقبل. أم نورة تعرف المودة بين الشّابين، النساء في هذه الأنحاء يملن إلى إعلان العواطف وتثبيتها منذ الطفولة. الأسرتان تلتفان حول الشابين التفاف الأغصان في تعريشات الزيتون.

وليد مثل كل الرجال الصغار يميل إلى الجدّ، وفي الآونة الأخيرة غلبت على سلوكه ألوان التقوى. في أماكن أخرى من العالم الأطفال في هذه السن يقضون أوقاتهم في ألعاب الكمبيوتر، وكرة القدم والرقص في نهاية الأسابيع ”ماكارينا... ماكارينا“. وليد يحفظ القرآن، يُفرحه أن يُناديه بعض أقرانه بـ”الشيخ“، غاب في الآونة الأخيرة عن الزقاق المتعرج المؤدي إلى زقاق متعرج متفرع بدوره عن زقاق متعرج! الأزقة كثيرة في هذه البقعة من العالم ... وأغلبها منغلق على خيره وشره متى رغبت في ذلك!

ولنترك ”وليد“ لأننا سنعود إليه، صاحبه سامر جدير بالتأمل أيضا. له نفس السلوك، وقد اتخذا فيما بعد نفس المسار، تغذيا من دماء الظلم والكيل بعدة موازين في بداية هذه العهود الجديدة. هالهما الحزن في أعين الأمهات، والأسى يُكلل رؤوس الآباء والأخوات ! كان سامر أقرب من وليد إلى مطالعة الكتب القديمة وكانت كتب الروحانيات تمثل عالمه الخاص، لذلك فضل أن يهجر عالم المرأة، وأخذ يتهيأ لأمر عظيم !

القرية تُدرك أنّ فوح النساء يُخَلّص من الوحدة، ويُغري بالسهر. لذلك كان هجران وليد للعطور ابتعادًا عن المرأة، وكان ابتعاده عن الموسيقى والرقص وبعض أفلام السينما هجرانًا لذلك الجو اللذيذ الذي كثيرا ما يُقبل عليه أبناء الحي، والأحياء المجاورة. لا سَهر، لا مشاركة في حفلات الأعراس، لا أماسي مع الشباب داخل أحراش الزيتون، مجرد الالتزام بالوحدة والتشبث بالكتب الصفراء ! ومواصلة الحياة في حياد تام عن الحياة.

ولم يكن وليد وحيدًا في هذا السلوك، كان مثل كثير من الشباب هذه الأحياء المنكفئة على جراحها...!

... هذا البلد ليس اسرائيل ... لقد أحرجني عدم تصديقهم لي، وإصرارهم على أنها إسرائيل وتل أبيب ... ويجب أن تكون كذلك، وعلى الرغم من ابتداعي للطيبوغرافيا والتاريخ، إلا أنني كنت أحاول كتابة شيء عن اليهود، لأنني إذا استطعتُ التعبير عن هذا الموضوع، ربما تمكنت من فهم شيء عن نفسي، أعني كيف أصبحت هكذا وليس شيئا آخر، ولكي أكون صادقة اعترف أنني أحب قراءة القصص والحكايات، خاصة اليهودية التي كانت ولا تزال تبدو لي قصة التغلب على الجميع، حسبنا، ربما لا تكون الإلياذة أو الأوديسا، لكن حكاية تلعب على تيمة أن الرياح تجري عبر بلاد كثيرة ... مثل من هم اليهود هنالك ... يهودي أثيوبي أسود، ويهودي من رومانيا أشقر، ويهودي كان مسيحيا، ونتيجة ذلك أعتقد أن جذور أسباب العداء للسامية تعود إلى أن اليهود يقودون الآخرين إلى الجنون، لعجزهم عن حل معضلة من نحن وما نحن، وما الدرجة أو المستوى الذي يجب أن نضع أنفسنا فيه. أسرة صغيرة نشأت هُنا، أُسرٌ كثيرة أخرى أقامت في الشارع المجاور ... ثقافات متباعدة، لكن العواطف لا تختار دائما القالب الذي توضع فيه.

وليد تعلق بنورة، سامر أعرض عن العواطف وابتعد عن المرأة ... لكن مارغريت سدت عليه أفق الهروب. غدت قصة سامر ومارغريت حديث كل لسان. كانت الفتاة صاحبة الدور الفاعل. ظلت تطارد الفتى شهورًا طويلة دون انقطاع. الشيء الأكيد هو أنّ سامر لم يكن يكره مرغريت. كان يُحبها في صمت، لكن إقباله مع وليد على جلسات التنظيم، والمشاركة في دروس المساء أبعداه عن عالم مرغريت. فكرت الصبية فيما عساها تفعل، ثم تمكنت بدهاء الأنثى القادرة على تحريك الوجود ... من تضييق الخناق على سامر.

اتفقت مع أمها على دعوة أم سامر إلى  تناول الغداء، وبعد فراغ العجوز من الطعام أمسكت الصبية بكتفها في حنان، وقالت:

ـ سامر لا يزورنا؟

ـ قلما يبقى داخل البيت!

ـ ينبغي أن يُفكر في مستقبله، لم يعد صغيرا!

حينها تدخلت أمها، وأضافت:

ـ عليه التفكير في الاستقرار!

ـ المخيمات ليس فيها استقرار، وحَيّنا هذا مثل المخيمات تماما، رغم أنه ليس منها!

ـ أدرك ذلك، لكن هذا الوضع المؤقت، الذي يدوم، لا ينبغي أن يصرفنا عن الحياة.

ـ نحن أهل.

ـ والله أدرك ذلك!

كانت أم سامر تملك بعض الحقول الصغيرة حول القرية، يزرعها الأبناء، ويستغلون شجرها للحفاظ على أملاكهم القليلة، زيتون وتفاح ... ودعوات، وتمضي الأيام. وكانت أسرة سامر ذات مائدة معروفة في كامل الأحياء المجاورة، بل في القرية بكاملها، حيث كان الطعام جاهزًا على الدّوام دون معرفة من يصل في المساء! وكانت أم سامر تجتهد في استنباط وصفات يُحبها أولادها وأصحابهم، ومعارفهم، ويحبها الأبْعَدُون من القادمين بلا استئذان من المناطق الأخرى. وكلما دخل سامر مع زميل جديد من زملاء التنظيم وجد الطعام، وعثر على سريره نظيفًا مرتبا، فاستنبطت الصبية حيلة باهرة، وغدت تجلب باقة ورد صغيرة من الحقول إلى العجوز في كل صباح. لمحت سامر يُغادر البيت مع ساعات الصباح الأولى، حيته ثم أضافت:

ـ لا شغل لك؟

ـ بعد تعلم الانقليزية لا أجد ما أفعله غير صيد الدوري؟

ـ ألا تعلم أنّ الصائد يُمكن أن يكون موضوع مطاردة ... ثم ابتسمت وأطلقت رجليها للريح.

مضى الفتى في طريقه دون أن يفهم. لكنه في المساء أدرك الكثير من إشاراتها حين قالت أمه:

ـ مرغريت صغيرة لطيفة... كيف لم أفكر فيها قبل اليوم...

لم يرد.

في هذه الشوارع يبدو الجسد مُحاصرًا بين البلطجية وقوات مراقبة الإرهاب، وسلطة الإرهاب نفسه، من العاصمة حتى آخر قرية ضائعة في أحراش الزيتون. ويُروى أن سيدة في الخمسين معروفة بهدوئها، قد رغبت في تأليف كتاب حول راقصات الأحياء الشرقية، فاكتشفت أنّ جميع الأحياء قد غدت أحياء شرقية. والحق أنه رغم البرامج الرسمية، وغلبة هذه اللغة أو تلك، فمن الصعب أن يستشرف الناس ما تكون عليه اللغة غدًا، والأخلاق، والقيم الغالبة!!

اكتفت مرغريت في هذا الطور بمطاردة سامر، أشارت إلى أنّ سهرات التنظيم يُمكن أيضا أن تُختزل، وأن بعض الأماسي تحت شجر الزيتون لا تؤذي أحدًا، وأنّ لأنفسنا علينا حقًّا في كل أوان! ألمح سامر إلى أنّه ـ منذ طفولته الأولى ـ يُؤثر الوحدة، وأن الالتزام هو الذي يبعده عن العبث الذي لا طائل من ورائه:

ـ أدرك أنّ هذا صحيح!

ـ إني أفكر فيك يا سامر...

ـ أنا أيضا أفكر فيك، لكنني مشغول كامل الوقت!

*   *   *

تنقلت الباحثة مع الفنانات من بيت إلى بيت، وقفت على ساعات ”إغلاق الحفل“ من قبل المهاجمين. وأدركت أنّ ما ينشأ هنا باعتباره تاريخيا صغيرا محدودًا يتكرر على شاشات التلفزيون العالمي الموجهة إلى ترسيخ اليقين بأنه التاريخ الرسمي. وبات التراشق بالكراسي من قبيل الأفعال الفاضحة التي لا يقوى أيّ كان على تحمل نتائجها. بعد ذلك يستولي القادمون على الأموال المودعة بالصندوق، وتفر الراقصات في صحبة أبناء الليل.

كانت ردة الفعل قوية جدا، مداهمات، واحتجاز أطفال وعجائز، بعد ذلك تمت مناوشات خفيفة بين الأحياء العربية وغير العربية، أما أُمّ سامر فقد غدت لا ترى شيئا من كثرة البكاء. لم يذهب بصرها تماما لكنه في حكم الذاهب. وكانت تردد:

ـ ذهب نور عيني!

كانت تشير إلى سامر...

عم الحزن جلسات الأسرة والأسر الأخرى، عائلة وليد ومرغريت وسامر غيرت عاداتها، ذهبت السهرات واللقاءات، وغدا كل فريق يُحمل المسؤولية في سِرّه للفريق الآخر. طفقت السيدة التي بلغت الخمسين تعد الدراسات المطولة حول هذا المجتمع غير المتوازن، واختارت أن تصحب الفنانات في رحلاتهن البعيدة، وتنقب عن أسرارهن. وفي النهاية خرجت من كل هذا بدراسة تؤكد أنّ الشارع الفضفاض قد ولّد مجتمعا هجينا لا لون له، لا رائحة!

ضمن أسيجة هذا المجتمع المستحيل كبرت مارغريت. ذكرَى سامر ذهبت مع الأيام، لكنها خلفت جرحًا غائرا ينز دمه وتتكاثر آلامه! بعد ذلك تغير سلوك مرغريت تماما، أصبحت دليلة سياحية، وتعرفت على شبان كثيرين من أبناء هذا المجتمع الفضفاض، وأخذت تطيل البقاء خارج البيت، لكن ذكرى سامر لم تمت نهائيا في بالها، كانت حية رغم مرور الوقت. سامر كان كامنا في قرارة نفسها، يُوجه سلوكها دون أن تدري.

هذه مجرد حركة طائشة من حركات التاريخ كان يُفضل أن يُقنع نفسه بها. وسيرة الأمم ملأى بآلاف الحكايات التي تختزل هذا الذي يبدو هنا مجرد ظلم وحيف وتزوير! لذلك فما ان تعرفت مرغريت على دافيد حتى كانت علاقتهما منذورة للويل منذ البداية، هذا هو الشاب الذي ينتمي إلى البلد الفضْفاض حقا! هذا هو البديل. إن الحقد لا يولد إلا الحقد، نزع فتيل الغمة الدفينة التي حفرت كهفا في داخل كل نفس لا يحدث فجأة!

”... هنالك مكانان في العالم مكتظان باليهود، نيويورك وإسرائيل، أنا لست أمريكية، ربما كان يُمكن أن تصبح حياتي أفضل لو جاءت ولادتي في مبنى سكني يقع في الجانب الغربي الارستقراطي في نيويورك لأبوين مؤيدين للديمقراطية تحت قيادة روزفلت، هذا أجمل عضوية دائمة لمكتبة نيويورك العامة.

لكن تلك ليست حياتي، فأسرتي ظلت تحاول عبور الأطلنطي منذ سنة 1904 دون أن تصبح من النازحين هناك، لعدة أسباب جزء منها يتعلق بالتردد في منحنا ”الغرين كارد“ فكنا نعود في كل مرة، وظلت قابعة على الجانب الآخر، مجهولة الهوية، يهودية انقليزية، بينما يعرف الجميع أن الانجليزي دمث، متحفظ، يلتزم بتقاليد وبآداب الارستقراطية، عاقل، السكوت عنده أبلغ من الكلام، أما اليهود في صورتهم على النقيض فأصبحت وأنا في الأربعين من عمري، مجبرة على الذهاب إلى إسرائيل، ملتزمة بنزاع الشرق الأوسط، بل لأنه في اللحظة الأولى التي وضعت قدمي على أرضها، وجدت كل شيء نصف مألوف. فنصف الحكاية موجود بالفعل داخل عقلي، وكنت متعطشة وشغوفة لاكتشاف الباقي، جئت كي أكتب رواية وليس كصحفية أو ناشطة سياسية“.

ـ ما يحدث في هذا المكان غريب، غير منتظر

ـ ينبغي ألا نتعجب من أي شيء!

ـ قد تصادف هؤلاء أيام رائقة! لكن التغليب يجعلنا نقول إنّ أيامهم القادمة غير واضحة.

ـ تريد أن تُعقلن كل شيء!

ـ هذا ما يبدو لي

ـ اُترك الأحداث تسير بلا ضابط، حجر من هنا، حصاة من جهة الأخرى، قطعة خشب من مكان آخر... وإذا بالوجود قد بات عامرًا قويا.

ـ كلامك مثل الشعر.

ـ بلا شعر يصعب أن نواصل البقاء

ـ الرغبة في الاكتشاف هي الأصل.

ـ هكذا نلتقي على صعيد واحد

ـ الاحساس بالرواية يختلف تماما عن الاحساس بالشعر، لذلك فإنّ هذا المجتمع الفضفاض يُمكن أن يكون مجتمعا روائيا، لكنه ـ بأية حال من الأحوال ـ لا يُمكن أن يكون مجتمعا شعريا!

ـ إنه مجتمع وكفى، أما الباقي فلا قيمة له،

ـ مجتمع فضفاض، يصعب البت في أمره بشيء.

ـ لا تعمم، قناعاتك قد تكون مختلفة تماما عن قناعات أبناء البلد.

ـ بل إنّ أبناء البلد هم أكثر تشاؤما من أي زائر آخر.

فعلا، إنّ ما يحدث هنا لا يُمكن أن يكون من قبيل ما اعتدنا حدوثه في أي مكان من العالم: هذه تركيبة خاصة، استثنائية، تمضِي بهؤلاء جميعا على غد غير ممكن، غد مستحيل! والد مارغريت المسيحي العربي ينتمي إلى حزب صغير، صغير جدا بحيث لا يتجاوز المئة منخرط. وهو لا يؤمن بهذه التفسيرات المشطة المبالغة في التشاؤم! الأمر معقد جدا هنا. إنه يرى أنّ الفرصة متاحة للجميع، شرقيين وغربيين، يهودًا ومسيحيين ومسلمين، ديموقراطيين وغير ديموقراطيين، وهي أعمق من أن تكشف عن أسرارها منذ اللحظة الأولى، وأوسع كثيرا من أن تُختزلَ في صيحة رعب تُلقى هنا أو هناك. التاريخ مُفعم بشواهد عديدة، متشعبة جدا، على أنّ هذه الأوضاع التي تبدو مستحيلة لا تولد في نهاية المطاف إلا مشاهد غير منتظرة، مشاهد ... لا يقوى أي كان على استشراف حدوثها. لهذا فهو ينتمي إلى حركة غير معترف بها تبحث عن عدل غائب! بينما تنتمي ابنته في الأصل إلى تيار سرّي يُغذيه أبناء البلد الأصليون، في حين أنّ دافيد يُنادي بأن الحل، كل الحل، في اعتناق ديانة المستقبل، ديانة كل الأوقات، المال والديموقراطية القادرة على تسويغ أي شيء! لهذا فإن هذه الشوارع الفضفاضة كثيرا ما تؤدي إلى انبلاج صبح أزقة جانبية سوداء مكفهرة، لكنها أحيانا يُمكن أن تُحيل على فجر غير منظور!

”إن الحياة في الحي الذي أقيم به ـ مربع سكني أطلق عليه اسم ”يهودا“ ـ تشبه أجواء انقلترا في الخمسينات، عدا وجود سوبرماركت عبر الشارع يحمل اسم ”سوبرسول“ ما هي حقيقة الحياة، الكل يخضع تحت حراسة أصحاب الحي الروس، المدججين بمسدسات في أحزمتهم بينما ينتصبون عند العتبات متفحصين الزبائن بعصاواتهم باحثين عن مواد متفجرة على طول الممرات المكدسة بالبضائع الغريبة وأيضا المألوفة، وبين عروض المعجنات على مختلف أنواعها“.

المواد المتفجرة، والكتب القديمة، والمصنفات الثورية، وعلب المكرونة، والجيلاطي ... كلها تذوب تحت النظرات الحارقة المتلصصة الصادرة عن كلاب حراسة مدربين على النهش والعض والتدمير. فلنطمئن، هذه هي الحكاية!

تتوالى أيام الشارع الفضفاض متماثلة لا جديد فيها، الأسر تنغلق على خيرها وشرها، أم وليد لا حديث لها إلا عن المضايقات التي تتعرض لها، أهل سامر أيضا، يُضيفون أنهم حرموا من بعض ممتلكاتهم. هي فرصة بالنسبة إلى المسؤولين لإخراجهم من الأرض والدور. أسرة مرغريث، أمها مريم، وأخوها ثامر يتحدثون عن التحول الذي طرأ على حياتهم، والخروج مع ديفيد، لقد غدت مرغريت مثل الجميع، لا تختلف عن أية مواطنة أخرى في هذا الكيان العام الفضفاض.

بدا ذلك في يوم من أيام الشتاء، بعد أن دخلا معا إلى أحد المراقص الكثيرة المنتشرة في هذه الشوارع التي لم تكن شرقية ولا غربية، نظرا، فشاهدا ”دَادُو“ تشرب وحيدة، لاطفها ديفيد بعلامة من حاجبيه. بعد وقت قصير كان ثلاثتهم يترشفون الروم في ساحة الحانة الخلفية، غير بعيد عن شجرات الورد المزروعة دون نظام هنالك:

ـ معرفة طيبة يا مارغو

ـ مرحبا دادُو

ـ الشتاء بارد هذه السنة

ـ نقاومه بالصحبة اللطيفة

تدخل ديفيد مباشرة:

ـ لماذا لا نسافر إلى الصحراء المجاورة غربًا، في هذا البلد الكبير غير بعيد منتجع لطيف جدا، الكل يتحدوثون عن الخدمات في هذا المكان. البحر والصحراء، والسهر حتى آخر الليل.

غير بعيد عن هذا اللقاء في واحد من الأزقة المتفرعة الكثيرة، بعد ذلك بساعة واحدة، تنتقل مرغريت إلى الحي المسيحي والأحياء المسلمة حيث تمتزج العائلات، ويكون اللغط والخصام. الناس هنا يتبادلون الأفكار والأوهام مثلما يتبادلون الحكايات عن آخر لقاءات الغرام، وسعر القماش المستورد. فكرة تولد من لقاء أسر الأولاد، أم وليد تضع السكر في قهوة أم سامر:

ـ لماذا لا نفكر في إنشاء جمعية؟

ـ لا فهم لي في هذا المجال.

ـ ليس الأمر معقدًا!!

تتدخل مرغريت دون اهتمام:

ـ لماذا لا تفكرون في بعث جمعية ”دون كيشوت“!

هكذا عبر مزيج من عدم التريث، والإهْمَال، وقلة الاكتراث تنبثق الجمعية، يحصلون على قانونها الأساسي، إذ لا ينبغي أن ننسى أنّ هذا الكيان يُفسح المجال للكثير من ممارسات المجتمعات المدنية، ويُحاربها عند المواطنين المناوئين. الأمر معقد جدا!

المهم أنّ ثامر، شقيق مرغريت، بعد شهرين من زمان قد علّق فوق مخزن في الشارع الجانبي المتفرع عن بيتهم، لافتة خشبية كتب عليها بالعربية والعبرية والانقليزية:

”جمعية دون كيشوت“

هكذا ينبثق زمان جديد.

رغم أنّ أغلب الأعضاء كانوا شبانا عاديين، لا يختلفون عن بقية الخلق في شيء، فقد أخذت الجمعيّة تكتسي شيئا فشيئا بعض الأهمية التي لم تكن متاحة. كانت حركة مرتجلة، نادرة من النوادر أو طرفة من الطرائف الكثيرة التي تُضاف إلى ما ينشأ هنا وهناك من تفاهات. اعتاد الشبان أن يخرجوا في كل صباح خلف الهضبة غير البعيدة عن القرية يستحضرون أول خروج لدون كيشوت يُحارب طواحين الريح.

ـ هذا سلوك أهوج لا جدوى منه

ـ بل هو عين الصواب، العبث هو أفضل ردّ على تفاهة الحياة.

ـ الحياة ليست تافهة، نحن نعتبرها كذلك!

ـ ماذا تسمي حياة تغلب عليها البطالة وقلة الكسب، والاجراءات الإدارية المعقدة، وهي يُمكن أن تُختَتم بتفجير لا معنى له، ولا لون له في أية لحظة!

ـ نظرتنا إليها تجعلها تافهة أو ذات قيمة

ـ بل إنها لتافهة في أصلها!

ـ كيف تقول هذا، وأنت حائز على شهادات عليا في الفلسفة؟

ـ بل لأنني حزتُ هذه الشهادات ينبغي أن أكرر هذا: التفاهة تسد علينا جميع منافذ الهرب. وغدنا أكثر رداءة من ماضينا.

هكذا غدا لمارغُو انتماء واضح لجمعية اسمُها ”دون كيشوت“ كُلّ أفرادها من العرب، مسلمين ومسيحيين.

هذه هي الواقعية بالنسبة إلى هؤلاء المواطنين في هذا البلد الخارج من عدم، الانسياق مع ما يُتيحه الواقع في الشوارع الخلفية، ومواصلة المهزلة!

*   *   *

”بعد رحيلي عدت مرتين، الأولى للكتابة عن مستوطني غزة ممن أوشكوا على الرحيل منها، والثانية برفقة شخص ما حكى لي  قصة أخرى سوف نأتي على ذكرها فيما بعد، وما قمت به في الأساس هو المشاهدة، وطرح بعض الأسئلة، والاستماع في تنازل ... أو بمعنى أدق التخلي عن اليهودية!

الناس في هذه الشوارع الفضفاضة يدخلون ... ويرحلون، بعضهم يُقيمون وقتا قصيرا ثم يمضون ... لكنّ المآسي باقية لا ريب فيها، فهي تدخل في أدق تفاصيل حياة الناس. في واحدة من العمارات ذات الطوابق الثلاثة، الأبواب مرتفعة من خشب ثقيل، يغلب عليها اللون البنّي. في وسط المصراع عين سحرية تكشف الداخل. كل الناس يتحسبون من دخول الغريب، ينبغي عليهم أن ينتبهوا مهما يكن من أمر. لهذا فإنّ الأجراس قلما ترنّ. كل ما هنالك أن دقّا خفيفا على الأبواب يعقبه تطلع أهل البيت من خلال تلك الكوة السحرية الصغيرة، إذا كان القادم معروفا انفتحت الأبواب على مصراعيها، أما إذا ... فالصمت هو الأكبر، لا بقاء إلا للحيطة والانتباه.

الكل يتوجس خشية من الجميع، جميع المواطنين متهمون، إلى أن يرد ما يُخالف ذلك. سيف الرقابة مسلط على الجميع، لا شيء يحدث، لا شيء يُعلن لا شيء يتبدل!

ضمن هذا الجو العام نشأت جمعية ”دون كيشوط“ في الأحياء الشرقية، اختزنت الكثير من تناقضات هذه الأنحاء، ترددت داخلها استفهامات كثيرة لا حدود لها، وكبر فيها ناس ... حياتهم قائمة على التّناقض، مطالعاتهم متنوعة وارتقابهم لما لا يكون! مثل الآخرين.

”... لقد جاؤوا من اسبانيا، تركيا، اليمن، سوريا، بولندا، أوكرانيا، لبتوانيا، إيران، بوغوسلافيا، فرنسا ألمانيا، الدانمارك، هولندا، مصر، جنوب افريقيا، مولودوفيا، صربيا، المغرب، تونس، الجزائر، اثيوبيا، الهند، كوبا، الأرجنتين، المكسيك، افغانستان ... كل الشوارع مكتظة باليهود الدياسبُورا، الذين جمعوا شملهم بعد ألفي عام قائلين لبعضهم البعض: هاي أتذكروننا؟

أما السواح المقيمون على بعد خطوة من حدود الدولة الفضفاضة فحياتهم لا تتبدل! يمرحون ما رغبوا في ذلك، كامل اليوم خارج المنتجع، في البحيرة، أو في الأدغال المجاورة، ثم يركنون إلى الراحة والهدوء في غرفهم، فيُشغل المراقبون آلات التلصص، وكاميرات التقصي للظفر بأدق تفاصيل وجودهم ... ينتشرون جماعات فوق الجمال والجياد يذرعون الصحراء جيئة وذهابا تحت عيون جند الحراسة والعسس السريين، يجلسون ساعات تحت مظلات مرتجلة أقامتها وزارة السياحة هنا وهناك، كانوا ينتظرون حدوث شيء لا يقع، مثل باقي سكان الشرق، وأهل الدولة الفضفاضة.

انتشر داء الإسهال بين أطفال السائحين، صار المرء ـ فوق شاشات المراقبة ـ يُشاهد السائحات الأنيقات مسرعات إلى الحمام في كل حين، لنقل أواني الكروم المعدنية، أو غسل بعض الثياب الداخلية في عجلة. بعد ذلك وصل الداء الخبيث إلى النساء أيضا، أخذنَ يُعانين من الإسهال، ومن الروماتزم، تدخلت الخادمات للنصح ببعض الأعشاب التقليدية، أخذت الأحمال تدخل من باب المطبخ، والمتلصصون يراقبون كل شيء. الزهرات تُقطف وتُجعل في الشاي، وحليب الصباح، عاد بعض الناس إلى كتب الحكمة القديمة، بدا واضحا أن الإسهال يُمكن أن يسير بالأطفال إلى القبر. الأناقة تغيب عن قوام الأمهات، وتهجر النظافة لباسهن، صرن يجرين مشمرات.

تطبيقا لأوامر عُليا لا ينبغي أن تغيب عن المراقبين أية شاردة أو واردة، أطيافهم منتشرة في كل مكان. يدخلون الغرف والمقاصير المنزوية. اليوم يمضي باردًا لا ألق فيه، الأطياف تخرج من كل مكان، تسير نحو كل صوب، تتهادَى صافرة على غير هدى! الحياة داخل المنتجع تتغير بعد انتشار المرض الخبيث، الناس أكثر حذرًا من الماضي رغم أنّ الموت قلّما يحدث! ولع المراقبين بالشقراوات قديم، هذه فُرصة تتاح في المنتجع لمراقبة السائحين والسائحات، والعمال المحليين، ونساء الصحراء، بنات البلد. وتبقى الشقراوات صيدا ثمينا يراقبه المتلصصون في كل وقت، لا كلل. فكلما كانت المناطق السرية وردية كانت المرأة أشهى.

اللعبة بكاملها تتم عبر الشاشات، المتلصصون يعنيهم أن يراقبوا التبادل السري للسلاح أو المتفجرات، ولا يهتمون بما دون ذلك، لهذا فهم لا يدققون في اللفافات البيضاء أو الحمراء الملطخة بدماء الحيض التي تتناقلها النساء، أما لفافات البول، في الأواني المطلية بالكروم، التي تنْقلها الخادمات من الغرف بعد انتشار العدوى، فلا أحد يُعيرها كبير اهتمام، حتى لكأنها صورة باهتة فوق بطاقة بريدية باردة! بعض المتلصصين سمر أيضا، داكنة سمرتهم، ملامحهم خشنة، لو لم يكونوا من أفراد الشرطة السرية لكانوا من قاطعي الطرقات، أو قادة مجموعات التهريب، أو حرسا في مبغى عمومي يتوارى في واحد من الجبال. لذلك تراهم صامتين، هادئين في الغالب، متظاهرين بالمعرفة بكل شيء! والمعتقد أنّ أمر التلصص هذا متأصل في هؤلاء، فلو لم يقع إقراره سياسيا في الدوائر العليا، لتمت ممارسته في الوظائف السفلى دون تبرير، دون كلمة. الكاميرا تتحرك فوق مكتب القائد العام، إنّه يتلذذ بالنظر إلى خوف الآخرين!

هنا ملتقى كل الجنسيات، هذه مسألة محيرة، تدل على اللقيا بين البشر، لكنها في بعض وجودهها تعني التشتت والكثرة، لقد قدم هؤلاء من كل مكان إلى هذا المنتجع في الشرق، هذا الذي لا يبعد كثيرا عن الشارع الفضفاض، عن الدولة التي تريد أن تكون بغير لون! هكذا غلب السواد على كل شيء! الجميع ينتظرون حدوث ذلك التفجير الهائل الذي يهز كل شيء، لأنه غدا من مستلزمات المكان والزمان الجديدين!

جمعية ”دون كيشوت“ تؤدي خدمات لأبناء الهالكين من هذا الفريق أو ذاك. يُقتل اليوم واحد من هذه الجماعة، يهلك غدا شخصٌ آخر من الجماعة الأخرى. دون فوارق، دون أدنى اختلاف في المعاملة، تُصرف منحة لهذا، أو منحة للآخر، وتُنقل صناديقٌ من اللفافات وامتار من القماش المستعمل، أو الجديد، وعلب مختلفة الأحجام والألوان. هذا مبدأ الجمعية، محاربة الشر حيثما كان، والحفاظ على الخير إن وُجد، لكن يبدو أنه من الصعب جدا العثور على المزيد من بوادر الخير، ففي صلب هذا الفريق ـ أو بالنسبة إلى الفريق الآخرـ يبدو أنّ الحقد هو الغالب وأن سنوات كثيرة متعاقبة يجبُ أن تمرّ قبل إمكان الشعور بأي ود! كل واحد من أعضاء جمعية دون كيشوت، يُحاربُ طواحين الهواء على انفراد، يُمسك بالدرع والسيف، يترك قرية القرون الوسطى التي يسكنها، ويُوغل في طرقات كثيرة لا أول لها ولا آخر.

”... تخيل أن المستعمر الصهيوني والارهابي العربي يعيشان، ويتنفسان كآدميين. انهم ليسوا خشبا، بل لحم ودم، يحملون داخل رؤوسهم لا تاريخهم فحسب، وظلمهم ومخاوفهم وقلقهم ... بل أيضا شبكة معقدة من الحضارة واللغة والدين بل وروح النكتة، التي هي نفس الشيء في كل من اسرائيل وفلسطين ... من أكثر ما يضايقني حول هذا الموضوع محو الشخصية الإنسانية، والاعتقاد أن الحياة يمكن دائما أن تصبح مهندسة والناس يُمكن رصهم وتكديسهم مثل الشاي والبندورة، لقد تعبتُ من ذلك. نفس الشعور في كل من تل أبيب ورام الله“.

هُنا على مرمى البصر قُرى صغيرة متناثرة خلف أحراش الزيتون، القادم من العاصمة يُبصر أغلبها، وقد تشبثت بالجبل مثل حيوانات مذعورة غير قادرة على الثبات. هذا يعني انبثاق حياة أخرى، حياة مفتعلة، ناشئة من فوضى المجازر والارهاب، والارهاب المضاد. هنا نشأ سامر ووليد ونورة، هنا كبرت مارغريت وانبثق دافيد. اليوم يُواجه الجميع الكذبة الكبرى التي أسهموا في توليدها من بُرقع الطمع والرغبة فيما لا يكون!

ـ ليس لنا إلا الانتظار

ـ كلنا ننتظر!

ـ العرب وغير العرب

ـ فعلا، العرب محكومون بماضيهم الفقير... والآخرون محكومون بمستقبلهم المريض.

ـ هكذا جعلتنا سواسية

ـ والله أننا كذلك!

يجلب شاب قارورتَيْ بيرة، يقعي فوق عتبة البار، يرتشف جرعات، يقدم الحارس ويطلب منه الدخول، الطاولات كثيرة في الصالون:

ـ فلنشارك الآخرين فرحهم، لماذا تشرب وحيدًا.

ـ لا يوجد فرح يُمكن أن نتقاسمه!

ـ ماذا إذن؟

ـ اننا نتقاذف حزننا، ونتقاسم خيبتنا، ونتبادل خوفا واسعا لا حدود له، خوفا يجثم فوق صدورنا، لا يسمح لنا بالحركة، هذا هو الخوف الذي لا يتركنا.

ـ نسيت، أنت مثقف، لماذا لا تنتمي إلى أحد الأحزاب

ـ الأحزاب كذبة كبرى!

المقاطعة الصغيرة بكاملها تُلقب بمقاطعة ”قرى الزيتون“، الانتحاريون يخرجون فيها من كل مكان. الحذر هنا لا معنى له، على المرء أن ينتظر حدوث ذلك الأمر في أية لحظة. ماذا يحدث لو يقع بث هذا المشهد الفضائي فوق شاشات واسعة في هذه الشوارع التي لا وجود فيها إلا للقتلى، والغاضبين. المشاهد النابية يُمكن أن تُحدث رجة عند المتقبل!!

إحساس دفين يملأ النفوس، يسري في الأوصال، يُفيد ألا أحد يسيطر على هذه الشوارع المتعرجة التي تُعلن العصيان والخروج!

جماعة ”دُون كيشوت“ تتغلغل في الصحراء، تدخل البيوت ليلا، تحارب أطياف الموتى، نصف العراة، تخرج عند الفجر، تهيء لحدوث الأمر الكبير!

لا خوف من ذاك، كل المشاهد تتماثل في هذه الشوارع الفضفاضة!

الناس كلهم منعظون، ينتظرون، أفواههم مفتوحة على آخرها، أعجاز النساء مكشوفة، أوراكهن مٌشرعة أمام أعين من زجاج، الوقت يمضي لا لون له... لا شيء يحدث، الجميع يخشى وقوع ذلك الانفجار الكبير الذي قد يُغير كل شيء!!

عرضنا على الكاتبة الأجنبية، التي قدمت لتسجيل أحوالنا، والنبش في أسرارنا، أن نتعشى في أحد المطاعم المنتشرة في الشارع الفضفاض، أنيقة بهية لافتة، يبقى الانسان بعد مغادرتها متلمظًا يستعرضُ ما مرّ به خلال عشائه من مملحات، ومخللات ومسكرات لا تُحصى.

دخلنا المحل، الكاتبة وثامر شقيقُ ”مارغُو“ نسمات دافئة تنبعث من الداخل، جراد البحر المشوي فوق حطب الزيتون تتفشّى رائحته مع خلال شِواء يقطر فوق اللهب المتأجج، والنار تلتهبُ في حلقي، أهفو إلى قطع الليمون المقسمة على الطريقة الشرقية، كل شيء شرقي هنا، الويسكي ذاته اتخذ الألوان المحلية. والجميلة البيضاء ذات الشعر الكستنائي تخطر بين الجالسين، الذين تركوا النظر في صحونهم، وركزوا أبصارهم فيما يُعرض عليهم من لحم ملفوف في حرير الرغبة وعطور الأماسي السمراء!

الكاتبة الأجنبية العائدة إلى البلد بعد غياب طويل جدا تتساءل عن حضور الشرق في هذا البهاء المكلل بالشبق وأفيون الجزر القادمة من أقصى البلاد. وحين نعلم جميعا، فجأة، أنّ الراقصة برازيلية وليست عربية نتركها بأذهاننا وعيوننا ونحلق في سماء بعيدة.

”بنهاية الصيف عدت إلى الوطن، ناسية كل شيء عن اسرائيل، لمدة طويلة، لم أعد إليها حتى مارس 1998 بعد مرور 31 سنة. خلال تلك الفجوة الزمنية سيصبح لدي العديد من الاختلافات مع أبويّ حول اسرائيل والصهيونية، بدأت أرفضُ مسألة الأبيض والأزرق، حدث ذلك في فندق ”دلفي“ في ليفريول، عندما تم تقديم فتيات بملابس بيضاء وأوشحة زرقاء بخلفية مغايرة للعلم الاسرائيلي. عندها انتابني للمرة الأولى شعور بوجود أشياء أفضل من الظهور كيهودية“.

نتوقف بعد مغادرة المطعم أمام الصور الفضائحية الكبرى أمام واجهة إحدى قاعات السينما، مشاهد الترويع تملأ لوح الاعلانات، شبان ملقون فوق الأرض، أو فوق رمال البلد الكبير المجاور، الجميع هنا داخل منطق مغلوط قائم على الهوس والجنون، واستعراض ما يلا يُمكن استعراضه! ورك الممثلة يخرج بين تضاعيف سروالها الطويل الممزق حتى العانة، طيات سُرتها تبدو متراكمة مثل بطون الشرقيات، حلمتا نهديها تخرجان رأسيهما من خلال حاملة الدنتيل، والكلايشنيكوف في يد الشاب الذي يظهر في أقصى الصورة...

الكاتبة تلاحظ كل شيء، تتمسك بتفاصيل الواقع، ترصد واجهات المحلات الصغيرة التي تبيع الكازوزة والمكسرات والشوكلاطة، تتنقل فوق واجهات العمارات، تلحظ سيدات الطبقة الوسطى ينشرن غسيلهن فوق حبال متآكلة. تذكر الكاتبة الراقصة البرازيلية، تكاد تضحك من نفسها، تتماسك، تقول:

ـ تخيلناها عربية، فحازت انتباه الجميع!

والحقّ أنها حازت أكثر من انتباه، خلناها عربية، فرغبنا في أن نلحس بستان وردها، ونلعق توتها، ونزحف فوق بطوننا عسى أن نبلغ لحظتها الموعود!

الكاتبة تستدرجها كي تعرف أكثر ما يُمكن عن هذا المجتمع الغربي العربي البرازيلي الروسي الصومالي المغربي التونسي المصري الفرنسي، هؤلاء الناس الذين يتكلمون لغة هجينة هي محصلة هذه اللغات كلها، مع مختلف اللهجات المحلية التي تنبع منها أو تؤول إليها.

في مدخل زقاق نظيف تجلس عجوز عرافة، قالت انها تقرأ الطارو والقهوة الشرقية، كاتبتنا مولعة بالقهوة، جلست على كرسي صغير جدا موضوع أمام العرافة، سألت؟

ـ متى تتحقق أحلامي؟

ـ أكثر من تحقيق الأحلام، اُنظري، انني أراك تعودين إلى وطنك هذا، تتركين الوطن البعيد إلى الوطن السعيد.

لكن الكاتبة لم تعد، فيما استقر عندي من حوار هاتفي مع بعض أصحابنا في نيويورك. في موقع بعيد جدا في الجنوب عرّافون وجوههم دَاكنة زرقاء، وشيوخ قبائل منسية جالسون تحت نخلة عالية، على كثب من الجحيم. والجحيم تبعا لتسمية أهالي المنطقة، وحسب استعارة وسائل الإعلام العالمية قلعة كبيرة لا تختلف كثيرا عما شاهدنا من قلاع في فجاج كثيرة من الدنيا، تحيط بها الأسلاك الشائكة ويحرسها الجند، وتتحكم في مصيرها القوى العظمى.

هذا موقع بعيد جدا في الشرق في منطقة خالية تماما من السكان، تلبث الطائرة فوق سهولها المترامية باحثة لوقت طويل، وما إن تُبصر بالبقعة الخضراء، التي سرعان ما تحولت إلى بُقعة حمراء من الدم المتخثر، حتى تُقلل من سُرعتها، وتميل جانبا كأنما هي متجهة نحو الجبل، وقبل أن تبلغ جانبه الشمالي تنعطف قليلا ثم تنزل، نحو المهبط المرتجل في الأحراش. هنا عدة سرايا من الفرق المتخصصة ... تستقبل الضيوف، تبعا للمصطلحات التي تولدت فجأة بين موقع النزول والمعتقل. والملاحظ أنه لا فرق بين هذه المناطق القريبة والبعيدة ... حيث يُمسكون بعشرات الرجال والنساء، تحت التعذيب لامتحان طاقتهم على التحمل.

غير بعيد عن هذا المكان الخالي، حيث الشواطئ الكبريتية بصخورها السوداء، في آخر نُقطة في الخليج ينتصب رجل أسمر، ملامحه غير واضحة، ينتظر القادمين، ويُسلمهم شهادة الوصول إلى آخر نقطة في العالم. هؤلاء السياح لا يعرفون أنّ القلعة النكراء توجد على بُعد أميال قليلة، يلتقطون الوثيقة ويهرعون مستبشرين وهم يضعون أيديهم العريضة على أكفال صاحباتهم، لعل بعضهم يدندن لحنًا شرقي الرنين! الناس هُنا يردّدون معتقدات عن أصل هذا الشعب تقضي بأن الخالق، سبحانه وتعالى، قد جلس فوق عرشه، وبعد أن سوّى الإنسان سارع بإدخاله إلى الفرن الإلهي، لم يتركه طويلا حتى النضج، فهو لم يكن صبورًا بما يكفي، فلم يُمهل ابتكاره الجديد حتى النهاية، إنما استخرجه نيئًا أبيض، يغلب عليه الشحوب، في لون الموت ذاته، فألقى به بعيدا في الشمال.

بعد ذلك سوّى ابتكاره الجديد مرّة أخرى، ثم زجّ به داخل الفُرن، وكان الخالق صبورًا جدا هذه المرة، انتظر طويلا، منّى النفس بالحصول على انتاج ملائم، منسجم مع انتظاره. وبعد مرور ساعات متتالية اطمـأن الرحمان إلى سلامة المنتوج الجديد الذي بَراه من طين وصلصال، ونفخ في عروقه الروح والدماء والحياة، نفخ فيه لون الروح. مدّ يده الإلهية واستخراج المخلوق يتلوّى. وإذا به أسود تمامًا، مثل الفحم في المناجم البعيدة. لقد بقي المسكين في الفرن أكثر مما ينبغي لذلك احترق، أسود تماما، فألقى الخالق الصانع القدير بمخلوقه إلى الجنوب بعيدا، إلى إفريقيا السوداء.

بعد ذلك امتلك الباري أسرار الصنعة العجيبة التي ابتدعها، وكان عارفا بأصولها، كان الوحيد العارف بأصولها. سوّى مخلوقهُ من جديد في صبر وأناة وتؤدة إلهية، في سبعة أيام متتالية، في هدوء واطمئنان، ثم حمّى فرنه كما ينبغي، بأعواد الغابات البعيدة، وأعذاق الشجر البري، وحين أيقن أنّ الفرن قد غدَا ملائما لاستقبال تُحفته الإلهية الرائعة، أدخل الكائن الناضج وهو يتلوى بين الأنامل الربانية للعظيمة، وتركه الوقت اللازم للنضج، تبعا لتجاربه السابقة كلها.

قال العبد للخالق:

ـ سويتني على صورتك

فأجاب الصّانع:

ـ بل سويتك على صورتك المقبلة،

ـ سويتني من عدم

ـ بل من انتظاراتي

ـ أنا صنيعك الباقي

ـ أخشى أن تكون صنيعتي غير المكتملة

ـ كيف تُقر بأن تكون صنعتك منقوصة؟

ـ المهم أن توجد!

ـ كيف؟

ـ لقد أوجدتك من عدم، بعد أن اهتزّ نظام أفراني، خبت  نيراني، واشتعلت نيران أخرى في مكان آخر!

ـ النار والماء والطين...

ـ ليس هذا!

ـ ماذا إذن؟

ـ الأمل والرغبة والإمكان!

ـ هذا ما لا أفهمه

ـ المهم أن نتبادل الكلام

ـ الخلق يفترض تبادل الكلام

ـ جُمل لا معنى لها، نلهو بها في هذه العشية الربانية اللطيفة.

ـ انه الصباح الرباني أيها العبد!

وبعد حين، في الوقت الملائم تماما، أمسك به، بكل رصانة، جديرة بمنزلته الرحمانية العليا، ثم وضعه داخل واحدة من الدساكر المخملية البهيجة، حيث يرعى الأيل، والمعز البدائي، وكائنات بهيجة أخرى، فكان الكائن الرائع البديع الذي ليس أبيض أكثر مما يجب، في لون الموت، وليس أسود أكثر مما يجب في لوم الفحم، إنما هو أسمر ناضج يمتاز بالرصانة والانسجام!

غير بعيد عن هذا الموضع ابتكرت الدولة الكبيرة، الموجودة في القارة الأعظم، هنالك في الغرب البعيد، بناءها الضخم الواسع المرعب، وأخذت تجرّب تسوية الإنسان على هواها. هي تُقلد الرحمان في ابتداع كائن حديث ملائم للبشرة المنتظرة التي لن تكون أكثر بياضا مما ينبغي، أو أشد سوادًا مما يجب، إنما ستغدو ملائمة تماما لما ينتظره الخبراء القادرون على تصور كل شيء، هنالك في مكاتبهم الزجاجية بعيدا جدا، في سماء العاصمة الكبرى في الغرب البعيد حيث تكثر العمارات، وتتعدد ناطحات السحاب. لتطبيق هذه الأفكار المنسجمة مع أعتى مفاهيم الحق الإنساني، وفي مكان بعيد تماما عن خليج كوبا الشهير، ووفقا لما ورد من وكالات الأنباء الرسمية وغير الرسمية تم إنشاء هذا المعتقل الرائع لتجربة الأفكار الجديدة حول تخليق الكائن الأمثل، هنا كل الدول ممثلة، برعايا مختلفين، عيونهم سوداء زرقاء، بُنية، شهلاء بنفسجية، عسلية ... من جميع القارات.

رحلات سرية تؤديها طائرات تمخر عباب الجو فوق القارة العجوز، قادمة من العالم الجديد تبلغ هذا المكان، حيث العرافون يقدمون شهادات حول الوصول إلى آخر نُقطة في العالم. ينزل الناس بالعشرات، دون سلاح، عراة تماما، يُساقون في طوابير تحت نظر الله في هذه البُقعة البدائية، في هذه الجحيم الضائع في الأحراش. على بُعد مئات الأمتار من سُور القلعة الثابتة في الأرض، يتمّ رشُّ القادمين بأدوية معقمة، وهذا بمثابة الاجراء المبدئي لطمس أثر أي فيروس ممكن قد يُسيء إلى الأمن القومي، هذا الذي يتخذ اليوم شكل أمن عالمي. ههنا يصنّع الانسان الجديد.

بعد ذلك مباشرة يتم قبول الضيوف ـ في مصطلح حراس القلعة ـ بعشاء جماعي يُشارك فيه الجميع تبعا لأصول ابتدعها الضباط المشرفون على القلعة ذات الأسوار العالية التي تختلف كثيرا عن مثيلاتها في العالم، هي شبيهة بالغابات الاستوائية البعيدة. ودون تدقيق في الأصول ... ودون انتظار العشاء الأخير، لأنه لا يُوجد عشاء أخير، فإن الضيوف، رجالا ونساء شيوخا وأطفالا يصطفون عراة، ويمرون بالطباخين ـ تبعا لنظام السلسلة العصري ـ لينالوا نصيبهم من اللحم والسمك والهمبورغر والكوكاكولا، وقد زين الحراس أعناقهم بطاقات الزهور الاستوائية، بعد ذلك مباشرة تعمل آلاتُ الضغط، وتخرج المياه من أفواه خراطيم كبرى حارقة، تلطم الضّيوف على وجوههم، وفوق جنوبهم، وتحت نصفهم الأسفل، فتراهم كالأوراق المتطايرة.

ليست هذه صورة الجحيم، وليست من ابتداع خيال مريض، إنها عين ما يحدثُ في المكان البعيد هنالك، الذي لا يختلف كثيرا عن الموقع الآخر في خليج كُوبا. حفلات ”تقليم الأظافر“ تقلع خلالها أظافر اليدين والقدمين بالتناوب، ظفر مقلوع، وظفر في مكانه، وهكذا دواليك حتى يُغمى على الضيف، ”حفلات الجنس“ شاملة، يُشارك فيها الذكور، والإناث، وخشب المطبخ، والعصيّ الحديدية، تسيل فيها الدماء، يتم إجلاس الضيوف فوق قوارير مهشمة.

تقدم إحدى المجندات في كامل زينتها في لباس السهرة، تحملقُ فيها عيون الضيوف الملسوعين. الضابطة تضع قُفازًا دون أصابع، أناملها تتحرك في حرية، أحمر أظافرها لامع أنيق، من أحدث دور الموضة في استراليا ... تُمسك بالعضو الرخو، الدم ينزف من ذراع صاحبه، الجميع يحملقون في المشهد رغما عنهم، تحرك أناملها الوردية فوق سنتيمرات اللحم ... دون أن تُحرك ساكنا من سواكن شهوتها، يهتز كيان الكهل، تُمسك المجندة بعصا حديدية تنهال بها على العضو المنتصب، تنبجس الدماء، يذكر الضيوف كلبًا مُلقى فوق أسفلت الطريق الرئيسية بين العاصمة وواحدة من مدن الجنوب، تمضي المشاهد تباعًا ... لا شيء يحدث!

المكي يلتقي بقادة الفرق الصُّغرى، المتلصصون تُصيبهم أعراضٌ غريبة، خيبة تبدو سِماتُها على الوجوه، تتغير لها الملامح، اليدان ترتعشان. الطب لا يستطيع أن يُعلل الهبوط العام الذي يُغير السلوك، وتتعدد نتائجه في مستوى التنفس. الإسهال يجعل الناس يفقدون مرونة الحركة، يدفعهم إلى التخفّي ساعات طويلة داخل بيوتهم. المكي يُفكر في بعث جمعية لهؤلاء جميعا، انهم مُتَلاعبون بالقانون، تناقض صارخ بين المنطلق والغايات، والأيّام تمضي، المحتجون كثيرون. يدركون أنّ الفرد في حاجة إلى حياة كريمة، يغوصون في أدقّ خصوصياته، يُنقبون عن لحظات يمضيها أعزل من أي غطاء! المتلصصون يتوهمون بطولة، مثل الرجولة تحضر حينا وتغيب أحيانًا، بطولاتهم في أذهانهم، مغامرات لا يمُكن أن يصدقها عقل! كانوا قد وقعوا في السهل على ثلاثين، أو أربعين طاحونة من طواحين الهواء، ما إن أبصرها ”دون كيشوت“ حتى هتف بخادمه صانشو:

ـ إنّ الحظ الذي يصادفنا أروع كثيرا مما يُمكن أن نأمل. اُنظر هنالك، يا صانشُو، اُنظر هؤلاء العمالقة الثلاثين، الذين لا حدود لقاماتهم! سأهاجمهم واحدا واحدًا وأقضي عليهم جميعا! وسنغدو أكثر ثراء بالأسلاب التي نجنيها منهم. وهذا من حقنا، نواميس الحرب تسمح بذلك، ولا شك أن تخليص البشرية من شرور هؤلاء يُعتبر أفضل خدمة نؤديها لله سُبحانه.

ـ عمالقة... أين هؤلاء؟!

ـ هنا، أمام عينيك، بأديهم الضخمة، هذه التي يبلغ بعضها نحو ميلين!

ـ لا تبالغ يا سيدي، إن ما نبصر به هنا ليس عمالقة، إنها طواحين هواء، وما تظنه سواعد صخمة ليست إلا أجنحة الطواحين التي تُدير الرحَى إذا ما دفعها الهواء.

ـ أستنتج هنا أنك عديم الدراية بالمغامرات. إننا إزاء عمالقة فعليين، وإذا كان قد أصابك الذعر، ابتعد عن هذا المكان وغُص في حياتك، واسمح لي بأن استهل مع هؤلاء معركة غير متكافئة معركة بلا رأفة(*).

وفي إمكان القارئ الكريم ألاّ يتشبث بهذه الخيالات التي لا طائل من ورائها. فكل ما هنالك انّ الظاهر والباطن غالبا ما لا يلتقيان! لون الروح لا يتبدّل! فالمكي مجرّد متربّص في باب التلصص، قد بدأ حياته المهنية بتأمل أوراك السائحات، والنظر داخل فروجهن. وهو عمل مرذول في كل الشرائع، ينبغي أن يترفع الكيس عن الوقوع فيه. بيد أن الشرائع كلها أيضاً تقع في الموبقات التي تمنع الناس من اقترافها!

ـ الجسد يُمثل منتهى الرغبة

ـ إننا نخافه أكثر مما يجب !

ـ ما فائدة التخلي عنه؟

ـ إننا لا نتخلى عنه؟

ـ إننا نخافه أكثر مما يجب.

ـ الخوف هو الذي يؤدي إلى التخلي، هذا كل ما في الأمر.

المعابد كلها تُعلن المحبة، لكنها تُمارس الخوف. حامل الماء المقدس يمسح نهود الصغيرات الملحقات بالخدمة، حامل الراية، يداعب مؤخرة صاحب النشيد، راهبات الدرجة الأولى، يلعقن عسيلة صبيان قداس الأحد، والأُسر تصمت عن هذه الموبقات. لذلك لا أحد يرفض اليوم أن يدخل جنود الخدمة بيوت المرفهات في صباح الفنادق الفخمة. أو أن يتشمم قادة الفرق أجسام الصغيرات الخارجات لتوهن من الحمامات خلف الأدغال في صحراء الموبقات المتعاقبة!

*   *   *

الخالق وحده قادر على البتّ في هذه الاختراقات غير المعللة، التي لا يقوى أي كان على البت في شأنها بثًّا نهائيا!. المشاهد تتعاقب فوق الزجاج المحايد، المكي يُخمن رائحة ما تنبعث من تحت إبطيْ المرأة التي تتحرك أمامه فوق الشاشة. لا شيء يحدث، لا شيء ينفجر. الصغيرات يتراشقنَ بأصابع الموز فوق سرير وردي، الشبق هو الغالب، المشاهد تتتالى محايدة في دماغ الكاتبة التي رغبت في تسجيل كل شيء! في الأيام الأخيرة تأزمت الأمور بعد أنْ تتالت الأحداث بسرعة غير معللة، مشاهد عديدة على الانترنات، مقالات، جماعات غير معروفة تُعلن عن نفسها، تؤكد مسؤوليتها عن أعمال فعلية أو وهمية، الأنظمة الغربية والشرقية، والجمعيات الجنوبية، تؤكد خيارَ المجابهة، والمطر يواصل النزول نثيثا خفيفًا حينا وقويا مُباغتًا حينًا.

منطق المطاردة هو الغالب، لعبة صور متحركة لا تختلف قليلا أو كثيرا عن ”توم وجيري“، لا غالب ولا مغلوب، المتفرج هو الرابح الوحيد، أما المتفرج هنا فقد يكون الخاسر الوحيد. ويبدو أن ”جمعية دون كيشوت“ هذه التي تضم أعضاء من مواطني البلد الفضفاض، ومن الذين بَقُوا شاهدًا على التزييف، ومن المولودين هنالك من السلالات العالمية، التي لا يُمكن، أخلاقيا على الأقل، مطالبتها بترك البلاد. المطاردة هي الغالبة، سواء حدثت فوق شاشات الانترنيت، أو داخل أقبية السجون ودهاليز المحققين، أو على أرض الميدان، إنها هي نفسها، بلا مواربة، ودون أية رتوش، والأمطار تواصل نزولها الذي لا يتغير، فهو حينا خفيف لا يعدو أن يكون من قبيل النثيث النازل نحو أعماق الأرض، وهو أحيانًا مثل مسارب جهنم يهبط قويًا حَادًا مندفعا نحو الأسفل.

امرأة الجندي تخونه، تخرج في كل ليلة نحو الخلاء، تترك صغارها، قد تعود إليهم آخر الليل وتحت ذراعها لفة بها أكل. الجندي يرجع قبيل الفجر، بعد أن تكون زوجته قد عادت إلى فراشها حذو أبنائها النائمين. الزوج لا يقول شيئا، لا يعرف شيئا، أو لعله لا يُريد أن يعرف شيئا. هكذا تمضي ليالي الشتاء الطويلة سوداء باردة، لا شيء يحدث، لا شيء يتغير! بعض جنود الحراسة ألفوا خروج المرأة، أخذوا ينتظرونها غير بعيد. الجنود يحرسون المراقبين، المتلصصون يَحرسون النزلاء في القلعة السياحية الكبيرة، النزلاء يحرسون غرفهم المغلقة على خيرها وشرها، موصدة تماما إلا على فوهات الكاميرا المندسة في السقف أو خلف الستائر الوردية، أو تحت السرير الوثير، أو وراء إطار الصور.

الجندي يحرس الخلاء، زوجته تستقبل عشاق الصدفة في هذا الخلاء، ما يحدث هنا لا يأبه به أي كان، لا تُسجله كاميرا، يضيع في رمل الجنوب، لا يُحصيه أحد. الزوجة المسكينة تفتح ذراعيها، تحضن القادم الأول، ثم الثاني، ثم تنتظر. وإذا لم يقدم ثالث تغيب في غرفتها الوحيدة، وهي تمسك بالفلوس والدمعة نافرة فوق وجنتيها.

نثيثُ المطر فوق الدور الواطئة، وعلى المباني العالية، يشمل الوجود بغلالة رقيقة من ضباب غير مرئي، لعل الحادثة، التي جدت في بداية هذا الأسبوع قد أسهمت في تعقيد الأحداث، أقدمت سائحتان من سكوتلندا، سجلتا في بهو الاستقبال داخل المنتجع الكبير في الشرق. وعند صعودهما الدرج الأوسط الواسع أحاطت الأولى بخصر الأخرى هاتفة تمازحها:

ـ ما هذا الوسط المتفجر...!

بعد لحظة واحدة، وبعد الانصات لهذه الجُملة أحاط بهما أفراد الشرطة السرية. بعد أخذ ورد ومراقبات ... وتفتيش، أصدر القائد اعتذارًا رسميا، وأكد أنّ السيدتين قد تصرفتا بطريقة غير ملائمة، وأنّه كان عليهما أن تلزما الحذر ... وألا تتحدثا عن الانفجار!

ـ خصرك حبيبتي متفجر!

ـ أكاد ألمح فيه عددًا من أصابع المفرقعات

ـ إنه أعتى من الديناميت

ـ ضغطة واحدة على المكان المعلوم، وتنتشر النجوم في عز الظهر الأحمر!

مضت السائحتان تعبثان، صعدتا في السلم الواسع المفضي إلى الطابق الأوسط، لدى وصولهما إلى الحاجز الخشبي توقفتا قليلا، أمسكت إحداهن الثانية من كتفيها، وطبعت فوق عنقها قبلة طويلة مبللة. شهقت الأخرى، وواصلت المسرحية:

ـ فعلا، هذا جدير بإحداث الانفجار المنتظر

غاصتا في الطابق الأوسط سائرتين نحو الممر الكبير حيث يُوجد جناحهما، وهما تدندنان لحنًا اسكندينافيا حزينا:

ـ ”حين نغدو منفردتين تحت المطر،

يتسع الليل، والنجوم يزيد شعاعها،

حين نكون منفردتين

ينصت الله إلينا، ويصبح قريبا“

الجماعات السرية تتوعد، الدوائر الرسمية تُصر على المجابهة، منطق القرون الوسطى هو الغالب، الكائن البشري لم يتغير، اليمين واليسار يتداخلان. مستهل الألف الثالثة يعلن عن المزيد من الغباء وترهل الأفكار الجديدة، وتقهقر العالم! لا معنى لتراكم التجارب! وضعية الكائن البشري مزرية في مفتتح الألف الثالثة، لا أحد يُدرك حقيقة ما يجري. المشرفون يستنجدون بخبراء المعلومات لفك شفرة الكامنة خلف الإرساليات ذات المصادر المعروفة، سادة العالم الحديث غير قادرين على التكهن بالهجمات.

هنالك من يُخمن أن بعض أنظمة الجوسسة ومخابرات الدول الكبرى مساهمة في هذه الهجمة. كل فريق مقتنع بأنّ سلوكه هو الأسلم، المهاجمون والضحايا، الموت لا يميز بين النساء والرجال، الأحداث تمضي دون معنى، والشموس تواصل انبثاقها في كل يوم جديد.

بعد تجربة المكي على رأس فرقة مراقبة الإرهاب والتحسب من الهجومات غير المنتظرة، في هذا المنتجع المترامي الواسع، غدَا واضحًا أنه يصعب مراقبة كل النزلاء في كل منعرج، وخلف قطع الأثاث والأبواب الجانبية، وتحت قطع السجاد. كهول أوراكهم مقوسة فوق كراسي المراحيض، أطفال مشوهون، الكائن البشري في أكثر أوضاعه زراية وصعوبة وتعقيدا، والمطر يواصل نثيثه فوق السّطوح والمظلات الشتوية، ومعابر الانتظار المرتجلة قريبًا من هذا المنتجع أو ذاك، غير بعيد عن قصور الحكومات. والجمعيات الخيرية، ومؤسسات الدعم المعلنة والخفية. البحث عن المجرمين لم يعد كافيا، ينبغي على رجال الأمن أن يبحثوا عن المتربصين أيضا.

اللعبة اليوم هي أن يُراقب الناس بضعهم بعضا، أفراد الفرق المعلنة والسرية، يراقبون الإرهابيين، الإرهابيون يراقبون الجمعيات، الحكومات تراقب الجميع، الأمهات أيضا غدون يراقبن أبناءهن، والأبناء آباءهم، والصبايا يراقبن أولاد الجيران. لعبة سمجة لا يقوى فيها أحدٌ على الثبات. كل ما هنالك أنّ الجميع أصبحوا يشعرون بانعدام الأمن، الصاعدون مساء في مدارج عمارة مهملة. العملة في حقولهم البعيدة، صنّاع الأثاث في معاملهم السرية في البيوت وخلف المصاطب المرتجلة، داخل قاعات القسم المقامة دون تفكير خلف أكوام التبن في سواني القمح والشعير. ما هو موقف جمعية ”دون كيشوت“ من كل هذا؟ الإقرار بالزيغ العام !

لم يتصور أحدٌ أنّ هذه الوقائع يُمكن أن تحدث، لا أحد ينتظر أن تُلقَى الأشلاء في الساحات العامة، لا يُمكن تبرير هذا أو تعليله. الناس يعلمون أنّ الإنسان ذئب للانسان، لكن الدموع في هذه الأماسي الغائمة يُمكن أن تؤدي إلى صنع وديان وبحيرات. أم ياسر، وأمهات وجدي، وصفاء، ومريم، وخديجة، ومادلين، وأباء صالح وصفوان وألبار ويوحنّا ... ! تحولات شتّى يُمكن أن تحدث. كائنات مختلفة تنبثق من كائنات أخرى، طائر له رأس أسد يُشبه الديناصورات القديمة، ثعبان ضخم له جناحان. كائن آخر يُشبه الإنسان، يجري بلا رأس، عنقه مفتوحة مثل قبر قديم. معز صغير عيناه كبيرتان، لا تُبصران أحدًا. لا شيء يحدث، لا وجود لمخلوقات أخرى.

في اندفاعها الصباحي من الأفق الشرقي تومئ الشمس إلى الوجود أنّ الحياة يُمكن أن تتواصل رغم كل شيء ... لذلك فإن المنتجع الكبير يواصل حياته الصامتة، على إيقاع التلصص والتنقيب.  أصعب ما في الأمر، تدفق الجماهير على الساحة العامة، وأصعب من ذلك ما يُمكن أن يحدث خلف الأبواب في سجون الدرجة الأولى! الارتباك يُصيب الجميع، البحث عن حجج مضادة حماقة لا ينبغي الوقوع فيها، كلنا ننظر إلى الحائط، لا أحد يقدر على رفع صوته وإعلان رفضه الواضح لهذا الذي يقع! ما يُمكن أن أقوله أمر تافه، بل تافه جدا، في هذا الخضم المتلاطم من الأحداث المنتظرة! ما تواريه النساء أوسع مِمّا يُمكن هتكه أو كشفه. أما الرجال فإن ادعاءاتهم الباطلة أقرب إلى الوضوح والشفافية! لو لا مغاسل بيوت الاستحمام لما تمكن الرجال والنساء من اللذة. لكن كيف كان القدامى يفعلونها في الخلاء، المتلصصون اليوم يمدون البشرية. المراقبة المنتهكة، بدلائل جديدة على تصرف الكائن الانساني، خلف النوافذ المغلقة، والأبواب المواربة، والمقاصير الخفية. أدلة مستجدة عن كيفيات تعامل الرجال مع النساء، والنساء مع أبنائهن، في غسيلهم الليلي الدائم، يُمسكن بالرضيع ينظفن عفنه، ينزعن ثيابه السوداء!

العواصفُ تكنس دائما بقايا ماض غير واضح المعالم، تفتح أبواب حياة جديدة، رغم أن التفاؤل غير ممكن في جميع الأوقات، فإن هنالك من يتشبث به. المطر ينزل نثيثا خفيفا فوق المنتجعات والصحارى، يغسل الكون من أدرانه، يُسهم في حفظ هذا الكائن المعرض لكل التحولات. لم يُبد أعضاء جمعية ”دون كيشوت“ أي فضول حول أسباب ما يحدث، كل ما يرغبون فيه أن يُعبروا عن الرفض المطلق لما يُمكن أن يحدث! الأشباح تتراكض في كل اتجاه داخل المنتجع وخارجه، خلف البحيرة، في صلب الدغل الخفي المؤدي إلى الشاطئ. زوجة الضابط تخون رجلها مع القادم الأول، هو يدمن النظر إلى بطون السائحات، يواصل التلصص على السواح، يعبث بالمشاهد، يُفكر في بيعها إلى طلاب اللذائذ المسترابة.

أية لذائذ مريضة هذه التي تنتج عن النظر في الصدور العارية وهي في حالة خوف وانتظار. ماذا يُمكن أن يجد في ذلك الوقت؟  يبدو أنّ انتظار الكوارث أثقل من حدوثها. المتلصصون، والمتلصص عليهم، وزوجة الضابط الخائنة، والضابط الرابض خلف شاشة الكاميرا البعيدة المثبتة في السيارة خلف الجدار، هؤلاء كلهم لا دور لهم. لعل هذا أيضا لا يعدو أن يكون شبحًا آخر من أشباح الأيام الخوالي، ويبدو أنّ قلة جَدوى نتائج التلصص جعلت أفراد الفريق السري يخرجون عن هدوئهم الذي تعلموه في المدارس المبثوثة في العواصم الكبرى. الأمطار تواصل نزولها الهاطل بلا هوادة، تغسل كل شيء، تنظف الصدور مما علق بها. تطوير السجن التقليدي، والعمل على ابتداع سجن غير مستقر، والتفكير في السجن الطائر. الطريق نحو المجرة البعيدة يُستهل بخطوة واحدة. للنّعامة رأس قط صغير، أما الجواد فله جناحان، طائر فوق البراري، لماذا يحدث هذا؟ الثعبان يسير على قوائم بشر، الكل يزحف في غير اتجاه، القرد له جناحا فراشة أما الكنغر فلا كيس له تحت بطنه، اننا إزاء مخلوقات جديدة.

”لا شُكراً“ هذه هي العبارة التي ابتدعتها جماعة ”دون كيشوت“ للرد على وضع الإنسان في الوجود الجديد. ”لا شكرا“ صرخة الضجر والغثيان ... يُطلقها الإنسان المدمر. والمطر يواصل الهطول فوق المراعي الواسعة، والسهول الممتدة حتى مرمى البصر. هكذا توصل أفراد ”دون كيشوت“ إلى سلسلة جيدة من الفرص، وأعلنوا أنّ العالم ليس عالمهم، وأنّ خيارهم في اتباع نهج ”دون كيشوت“ لا رجعة فيه! تلك الشمس في خروجها اليومي من الأفق الشرقي علامة بارزة على تجدد الخير والشر، على انبثاق الوجود من جديد. لا أحد يكف عن فضوله، المهاجمون يُحاكمون الناس على النوايا.

زخاتُ المطر تتتالى قوية ثابتة، تدفع زجاج النوافذ الدائرية فلا يندفع، تخاتل الجسم الكبير الطائر مثل حوت من معدن وأسلاك متوارية هنا وهناك.

ـ الليل يغلف الطائرة برداء من غلالاته.

ـ وضعنا واحد، لا تمييز بين الجلاد والضحية.

ـ ما تعلمته في الجامعات يعود إليك

ـ لم نتعلم شيئا ذا فائدة

ـ على كل حال علمي وعلمك ضاعا في ضربة كهرباء مما يُعمله المحققون في أبداننا.

ـ هذا لا يهم كثيرا، الألم الفعلي نابع مع الانتهاك والإذلال.

الكهرباء لا تخرج إلا لضرب هذه الكائنات بشحنة لا حدود لها. تحدث تشنجات متعاقبة، الكائن المطحون يضرب المقاعد بقدميه، الدرجة الأولى في هذه الطائرة المخصصة للمسافات البعيدة تُخصص للمتهمين الخطرين، أما الدرجة الثانية فمقسمة قسمين، الأول لمن كانت تهمتهم أقل قيمة، والثاني لؤلئك الذين لا تهمة لهم أصلا، لكن منطق السجون الطائرة يتطلب أن توجد الأقسام الثلاثة، دلالة على النظام والتراتب... اللهم نسألك حسن المآب!

تسربت بعض الأنباء غير الدقيقة حول تحرك الطائرة بين باريس وجو هانسبورغ، فوقها جموع من مختلف الجنسيات، بيض وسود، ومن سكان آسيا، لكن ما قيمة معرفة الخط الذي تتخذه الطائرة، وهي لا تنزل إلا للتزود بالوقود أو للإلقاء بالجثث المتعفنة، وجلب بعض الطعام، وصناديق ملأى مقصات وكلابات، وبراغي، وأسلاكا جديدة. لا أحد يقوى على مواصلة الصمود أمام هذا الاجتهاد غير المعلل في استنباط أساليب التعذيب والتنكيل ... الكبد، الكلية، أوعية الدم الدقيقة، البشرة الرقيقة المسلوخة مثل جلد جدي صغير لا أحد يعرف ما الذي يدفع بهؤلاء إلى التنكيل والإيلام، الدم والقذارة، والدهون المشوية، السوائل اللمفاوية، البول، الفيروسات الخفية، البصاق، الشهوة اللزجة، البطون نتنة بفعل الإهمال، لا رتق، الفتوق تبقى مفتوحة صافرة ... الجسد رهين حالات وُسطى، الجثث متصالبة دون نظام. جلادون ودكاترة، ممرضات، مجندات وضباط. عيون فاحصة، زخات المطر تتكاثر فوق الزجاج السميك الذي يُغلف القمرات السوداء، الليل يشمل هذه القلعة الطائرة بأغلفة متتالية من الرهبة والانتظار.

أحشاء تُستخرج، تُنزعُ، الأفواه تُحشى باللحم التناسلي المفروم، للموت وجود رخو يصعب التأقلم معه. إننا إزاء حالة من الهيجان الجماعي، وكفى، المخاط السائل عالق بكل الأعضاء، السوائل المنوية تلطخ الوجود، لا حول ولا قوة إلا بالله! لا فرق هنا بين الطبيب، والجندي المتلصص، والممرض، وماسحة البلاط، ورجل الرغائب السرية. الكل قادرون على إرسال أناملهم اللزجة واجتذاب عين، أو عضو تناسلي، أو اقتلاع ضرس أو تمزيق نسيج من الانسجة التي تحف بالكيان الضعيف. أشلاء بشرية، أعضاء متعفنة ممزوجة بروث الحيوان والخشب القديم المتآكل والمياه الآسنة المنبعثة من النافورة الوحيدة التي تُستعمل للشرب والغسيل والوضوء.

الجزء الخلفي من البوينغ الكبيرة مفصول بجدار من البلاستيك المقَوَّى، به رفوف كثيرة تحمل أرقاما وتدقيقات مماثلة لما يعمله عمال الأرشيف في بداية عهدهم باختصاصهم. الرف الأول عليه حرف الـ "A" و "1A" ثم "2A" ... ثم يتفرع "2A" إلى "'2A" و ""2A" ... وهكذا دواليك، تنشأ تفريعات متتالية، لا تختلف كثيرا عن دكاكين باعة البراغي والمسامير والآلات الصّغرى في أكياس من البلاستيك، التبريد هنا يهبط إلى درجات التجمد، الأصوات القادمة من باقي أجزاء الطائرة غير منتظمة، التشويش يطغى على كل شيء!

ـ محرز، كيف أمرك الآن؟

ـ أسوأ مما تظن

ـ ماذا

ـ الحديد السّاخن يدخل في بطني،

ـ أنا أيضا جربت ذلك منذ حين

ـ هؤلاء الحيوانات جربوا فينا جميع عقدهم

ـ لا تقل هذا ... لا عُقد لهم، انهم ينتمون إلى أمة تقود الدنيا

عصا حديدية مفرطحة تضرب رأس محرز، والجندي المكلف بالحراسة يصرخ:

ـ الصمت!

في هذا الكهف الطائر ازدهرت تجارة الأعضاء. وبات هنالك متخصصون في الإشهار.

خبرات الأطباء غدت تُستعمل للبتر والفتق أكثر منها للرتق ولملمة البطون. لا يوجد ما يدل على أنّ أخلاق الأطباء تتخذ وجهة معينة.

إنهم مثل جميع الكائنات، يُمكن أن تُستغل معارفهم في كل الاتجاهات، ويبدو أنّ الأبرياء الذين ساقهم القدر إلى قلاع السجن والتعذيب المستحدثة في شتّى بقاع العالم لم يكتشفوا أية اختلافات بين صاحب المعرفة العلمية الرصينة وفاقدها، في باب نزع عين من محجرها، أو خطف أظافر طفل في السادسة، أو اجتثاث أثداء النساء وترك الدم يسيل فوق الموكيت. ودون التريث لدى الجانب الشكلي لهذه البربرية، ودون إشارة إلى التلف الذي يُمكن أن يحدث لبساط الموكيت من جراء السوائل الوسخة المراقة فوق حاشيته... فإنّ عملية سلخ الجلد لا يُمكن أن تكون دون آثار جانبية، فضلا على أنها لا يُمكن أن تُجدي نَفْعا في اقتلاع الاعترافات الممكنة. نور الصباح يدخل محتشما من الكوى الصغيرة في السقف، هذه التي لا نور فيها.

ألا تكون قد صُنعت خصيصا لجلسات البَتْر والفتق وإلحاق الأذى بالكائنات التي التقطها العملاء السريون من قُرى العالم، مثلما كان القراصنة يلتقطون الأطفال على شواطئ إفريقيا والمتوسط! الملاحظة الأكيدة الوحيدة هي أنّ المشرفين على هذا السجن الطائر قد تمكنوا من تحويله إلى تُحفة من تحف العهود السحيقة تطغى عليها العتمة، وينبعثُ من جنباتها الصراخ المكتوم، وتنتشر في جوفها رائحة الدماء والقيح والبول! هكذا تمضي الساعات في المعتقل الطائر، شهور متعاقبة لا يُحصيها إلا الله. لا وجود لذات بشرية قادرة على إحصاء ما يحدث، الخوف يسطو على العقول، يوجه التصرفات، الرعب هو المنطق الوحيد.

الناس في مدنهم الفاخرة، يرفعون ياقة قمصانهم، ويدخنون غلايينهم، ويرددون أشعار الحرية والانعتاق وانتظار المستقبل الوضاء! نثيث المطر يصهب الوجوه، يتدافع متسارعًا فوق الجدران البيضاء، يغسل النوافذ الموصدة... يترقرق داخل النفوس الحيرى. الجسوم مشطورة، انتزعت ثيابُ أغلب المساجين، سقطت بعضُ الأعضاء، صرخات غامضة تخرج من الأركان. دم وأخلاط لمفاوية وصفار كبد، دُمّل مفتوح وألم صامت، ألم لا معنى له ينِزُّ متخثرًا من ثقب أسود في جدار البطن، أو الظهر، العظام مشروخة، العيون مغمضة، الصمت هو الغالب. من هذه الأعضاء المبتورة تنبثق كائنات غير واضحة المعالم، كائنات أخرى غير معروفة، كائنات غاضبة، لها صدًى غامض آيبٌ مع الضباب وتراب الأماسي غير المرتوقة. يد هنا، قدم هنالك، عين، عينان، أعضاء تناسلية، شرجٌ، شفاه يسيل منها الدم الأسود، أسنان تصطكُّ... خوف صامت. من هذا الشتات تبصر عُنُقًا يحمل عجيزتين ويعدو داخل أروقة السجن. يبحث عن جسد ممكن! نماذج المخلوقات، على كَثَب من القلاع والطائرات والمغاور البعيدة، تتولد من بعضها البعض، تخرج من نُثار الأعضاء، من الدم المسفوح على أسفلت السجون المنسية.

واقع هذا يُشبه الحُلم، صور مشتتة تتعاقب مثل شريط سينمائي، الأسد يولد من ابن آوى، الثّعَالبُ والثعابين وطيور الخفاش تنبثق من كل مكان، لا يقوى أي كان على فهم هذا الذي يحدث. ذهب الصفاء القديم إلى غير رجعة، الفجائع تتعاقب، الإنسان يسقط في هاوية من رغائبه الدفينة في السطوة والقوة، والاستئثار  بكل شيء. يُعدد المؤلفون الثعابين الحقيقية التي اضطر الجنود إلى مواجهتها في صحارَى إفريقيا، ومن بينها ثعبان السنكريس الذي يسيرُ منتصبًا كالعصا، وثعبان النّبلة الذي يشقّ الهواء مثل سهم، والقهيقران الثقيل الذي يحمل رأسين، ويصفه بِلّينس بالعبارات نفسها تقريبا، مضيفًا: كأنه لا يكتفي برأس واحد!

أما كتاب ”الذخيرة“ لمؤلفه برونيتُولاتيني ـ دائرة المعارف التي نصح بها تلميذه السابق في سابع دوائر الجحيم ـ فهو أقل نزوعًا إلى ضرب الأمثال، وأوضح بيانًا. يقول: القهيقران هو ثعبان ذو رأسين، أحدهما في موضعه الطبيعي والآخر عند الذيل... وعيناه تلمعان كشعلتين.

كان الأنبياء قد قالوا إنّ الأرواح إذا شاءت دخول السماء, وجب أن تكون مستقيمة، وأضاف الدارسون إنه ينبغي لها أن تكون فطنة، ويشترط البعض أن تكون فتّانة! وإذا تحابّ شخصان على هذه الأرض فهما يمثلان ملاكًا واحدًا. عالمهم يسوده الحب [وكذا إذا تكاره شخصان]. وبوسع الملائكة أن تتطلع شمالا وجنوبًا وغربا وشرقا... وأحبّ متعهم أن يتساجلوا بالمسائل الروحانية.(*)

فدوى تئن تحت أقدام الجندي مرضوضة منفتحة. نهداها مُرسلان فوق بطنها، وركاها منفتحان، سائل أحمر يخرج من  فمها في تكشيرة شهوة غير محدودة! الجندي المكلف بالمراقبة يغويه المشهد، يتجاهل الموت، يُقعي على الجثّة، يفتح فمها، يرضع الصدر المتهدل في شبق مريض! الصبيّان موضوعان فوق خشبة مرتجلة، أعضاؤهما متداخلة، ذراع هنا، قدم هنالك، رأس واحد! هل هذا جسد جديد، هل هذا كائن أسطوري لا لون لبشرته السمراء التي تحمل آثار التعذيب! والكرَةُ هي أكثر الأجسام الصلبة اتساقًا، لأنّ كل النقاط على سطحها متساوية من حيث البعد عن المركز... في عصر النهضة عاد المفهوم القائل إن السماء حيوان ... وتحدث بعضهم عن وبَرِ وأسنان وعظام الأرض، واستشعروا انّ الكواكب هي حيوانات عملاقة وديعة. خفافيش رمادية تنطلق من الأركان، تقتات على بقايا الجثث والأعضاء، تمتص دماء الأطفال. تطير بعيدا، تستحدث أعشاشًا في الزوايا، تنتظر عودة المساجين من المصحة المرتجلة حتى تلتف حول الأعناق، ومن الخفافيش تخرج أنواع كالقرود ... ويكثر وجود هذه الحيوانات في مناطق الشمال، طولها أربع أو خمس بُوصات، حُبيت بغريزة عجيبة، عيناها أشبه بالعقيق الأحمر، ووبرها مثل السَّبَج، ناعم ولين ووثير كوسادة، نهمها مُفرطٌ لحبر الصين، وعندما ينكبّ واحد من البشر على التدوين، يقعد هذا الكائن يدًا فوق يد وساقا فوق ساق، ريثما يفرغ من التدوين ثم يشرب ما تبقّى من الحبر!

الله وحده قد يكون قادرًا على إحصاء هذا الدمار والخراب. البعض يُمكن أن يُشكك في هذا أيضا!

كائن مثل الأفعى يندفع خارجًا من دماغ المحقق الأصلع، الجسم بكامله يذوب، يغذي المخلوق الجديد، تظهر فوق بطنه حراشف مثل حراشف السمكة. ليس هذا خيالاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ما أنا إلا مجرد واصف لهذه المشاهد التي تطرأ على شاشات العالم، الأفعى تتلوّى فوق الموكيت ، تلدغ الرجال، تفتح أوراك النساء، تُبعد الإليتين، تنبثق داخل الأعضاء السرية. ما هذا الذي يحدث أمام أعين الناس، هذا العالم مجنون، يصعب تصور الوقائع القادمة! أضواء الصباح المنبعثة من الكوى تُضيء القاعة الرهيبة، النهارُ موصول بالليل في هذا النفق المعتم الذي لا نهاية له، الضحايا والجلادون يؤدون دورًا واحدًا، يدنو بعضهم من البعض الآخر، يعودون إلى أصل واحد.

هكذا ينتهي الحفل، في هذا الصباح الذي لا لون له، الكراسي مقلوبة، العطور تذوب شيئا فشيئا، الغصة في الحلق لا مبرر لها. في انتفاضة أخيرة تنبثق ديدان سوداء زاحفة فوق البلاط الرخامي، منها مجسات لا لون لها، تتحسس الوجوه، تفقأ العيون، تُخرج الحدقات من محاجرها، تُهيء المخلوقات ليوم لا يكون!

سيد الشياطين كان ملكًا مبجّلا، بصولجان وتاج. كان وجهه مُشِعًّا بما يُشبه اللهب الأبيض، وتقاطيعه كوجه قُدَّ من الحجر، غير انها كانت نارًا متحولة، لا من لحم، تعتملُ فيها الشهوة والحقد والرهبة. وكانت ركوبته عجائبية، لم تكن حصانًا أو تنينًا أو بُراقًا، كانت تشب، مثل أطياف الحُلم!

*   *   *

الفصل الثالث

غابة الأُوكَاليبتوس

تمتدُّ غابة الأوكاليبتوس فوق الحقول المنتشرة حتى مرمى البصر، خضراء داكنة، الطيور تتراقصُ، كلاب تعوي في كل وقت. خلال الليل يقلّ النور، وتغدو الأطياف غير واضحة، وتحدث أشياء غير معروفة. بعد الغابة تمتدُّ الحمادة عاليًا، نباتُها جاف، وطيرها قليل وقيظُها زاحف. بين الغابة والحمادة يسير النهر الهويني حتى لكأنّه مرتع كائنات قادمة من منابع الماء، حيث مغاور الجان، والأسماك اللامعة في الهزيع الأول من الليل. ذهب المنتجع الكبير بخيره وشره، ذهب بأوارك إناثه الملطخة بماء الشهوة وصورهن فوق الشاشات، ذهب بالخوف والظلمة المسيطرين عليه، ذهب بتلصص المخبرين وانتظارهم.

الناس والمتفجرات والصور الخليعة، المشاهد البريئة والآباء الطيبون، المتناقضات التقت في الشوارع المستقيمة التي ضحى أهلها بتاريخهم. فكيف ننقب عن لون الروح في هذا الركام غير المتجانس من الأوضاع والأحداث؟

لغابات الأوكاليبتوس وقع خاص في نفسي، فهي مرتبطة بطفولتي وبداية شبابي. تحتها انبثقت شهوتي، وفوق جذوعها الكبيرة الخشنة مسحت أصابعي الملوثة للمرات الأولى. ومنها تولدت خيالاتي الكثيرة التي لا تزال تغذي وهمي. تحت تعريشة الأوكاليبتوس أجلس لبعض الوقت، أغفو قليلا، يغلبني نعاس خفيف، أذكر طفولتي في بيتنا البعيد في الريف. تحت تعريشة الزيتون أستحضر الكتبَ القديمة، أشعر فجأة بالمرارة داخل حلقي حين أرى المكان الذي قبض فيه العسس على الأطفال. غابة الأوكاليبتوس غامضة، اللون الأسود يُلطخ أوراقها المستطيلة غير العريضة. هنا قبض الحراس على ثلاثة شبان، أطفال في السابعة عشرة، أحدهم له شارب خفيف، والآخر يضع لحية كثة مثل شعر القنفد شعثاء.

الفريق المكلف بالحراسة في هذا المكان المجاور للمنتجع فريق سري، المتلصصون المعرفون لا علم لهم به، مما حدا بالبدْو حول القلعة غير بعيد عن البحيرة أن يعلنوا انّ هذا الزمن هو زمن رحيم سويد. أمطار خفيفة تقع فوق الوجوه الطفولية، يُخيل إلى رحيم سويد، لحظة يراهم أنه يرى أبناء أخته سميرة، أطفال، مجرد أطفال، والمطر يواصل انهماره غير القوي في ذلك الصباح الغائم داخل غابة الأوكاليبتوس الخضراء. سحليات صغيرة تخرج من جحورها، تنظر يسارًا، تنظر يمينًا ثم تجري نحو غايات خفية. ما الذي يُمكن أن يحدث لو تسللت إحداها داخل قدم واحد من هؤلاء الأطفال. سوف يعتبر الأمر مأساويا، سوف يصرخ، ويرفع قدميه عَاليا، ويجري. أما ما هو أقل قيمة من هذا، أما انفجار حزامه، وسفره إلى العالم الآخر... فَلا يُمثل بالنسبة إليه أي خوف! أطفال لم يخرجوا من حجور أمهاتهم، تغيرت أهدافهم من الحياة إلى الموت، المنتظر أن يرقصوا، يغنوا أنّا كارانينا، لا أن يقبعوا صامتين في انتظار مصيرهم.

تنساب غابة الأوكاليبتوس لدى نهايتها لتكون مع البحيرة أرض مياه آسنة وجذوع مشطورة، هطول المطر لا يعرف نهاية. في هذا المكان تبني طيور الشرشير والنوارس أعشاشها فوق عدد ضئيل من الفروع المنسابة  بإهمال فوق سطح الماء. تضيفُ القش، ولقم الطين الصغيرة، وأعوادًا شتى تلتقطها من الأحراش. لا أعتقد أنّ للروح لونا معينا، بل إنّ ذلك لا يعنيني البتة، إنما منتهى ما أقول في هذا الباب لا يتخطى السؤال عن اللون، ثم السؤال عن الروح، كل منهما على حدة. اللون منفصل تماما عن الروح. لذلك فإنني أضمن أنّ أفضل مكان يُمكن الخروج منه بنتيجة في هذا الباب هو غابة الأوكاليبتوس غير المنتهكة.

ما هو لون الروح يا تُرى ...

كانت الجثة تحمل كدمات فوق الجبين والأطراف، لم يتمالك نفسه عن البكاء، البقع الزرقاء تعمّ البدن، الطبيب الشرعي يقول لا أمل في تحديد أسباب الوفاة، عدد من السائحات ينفجرنَ كما لم يبكين قط...!

من قتل ”عواطف“ في غرفتها بمثل هذا البرود، الجميع كانوا ينتظرون تفجيرا إرهابيا قويا يهز الفندق، ويُلقي الهلع في صدور سكان المنتجع. لم يكونوا ينتظرون مثل هذا الموت الهادئ، فوق ملاءات سرير أبيض لا دم فيه.!

الهلع يصيب الجميع، رجال الشرطة، مدير الفندق، العمال والعاملات، والسواح والسائحات خاصة، المتعاونون يهرولون نحن الأركان. الليل ساج والقمر قليل الضوء، وطائر العتمة يرسل صوته في برود الصحراء. لا أحد يُصدق، في النهاية، أن الروح لا لون لها، وأن منتهى ما يُرجَى أن تبقى كذلك. فلا فرق بين قتل هؤلاء أو هلاك الآخرين داخل زقاق مظلم في آخر عشية حزينة.

هكذا تمر الأيام والأعوام، والأطياف تتحرك برفق فوق الشاشات الخفية في سيارة الاستافيت الكبرى الرابضة قرب السياج الخلفي في هذا المنتجع القابع على خيره وشره. كيف يُمكن لهؤلاء أن يتخلصوا من خوفهم، الإرهاق أصاب كل الناس، ولا شيء يحدث في هذا الليل الشامل. كان الخلق يخرجون من الفندق الكبير المترامي فوق رمل الصحراء الدقيق، وكان من السهل على المكي أن يسمع مظاهر الحبور الصاخبة تنطلق من كل مكان. الزوار الذين أقبلوا ـ بكل تلقائية ـ على مغادرة المكان لم يكن يُرهقهم أن يواصلوا حديثا بدأ منذ ساعات فوق المقاعد الوثيرة، في واحد من الطوابق الكثيرة المتراكبة في هذا الفضاء المكشوف، الذي تنهض فيه الشمس بدور الأم الحنون العائدة إلى تفقد أوضاع أبنائها في كل صباح.

في غياب الأم الحنون تهطل الأمطار في عنف وعنجهية أبًّا قويا يُحبل الأرض، ويطرد الكائنات الشريرة، ويضع حراسه حول القُرى والمنتجعات، يُبعدون الغرباء ويأخذون بأيدي أصحاب الحاجات.

دورات القيظ والبرودة تتوالى على هذه الأحراش المنسية، الناس يشعرون بالخزي، تدخل المذلة إلى تجاويف أرواحهم، تصيبهم بألم لا حدود له. لكنهم قد يقعون أحيانًا في حبائل بدوية سمراء أو يفضلون اقتفاء خطو شاب في العشرين يُحسن النصح وتدبيج الكلام. كل ما هنالك أن هؤلاء الحراس مستعدون للدفاع عن الناس. لكن هل يُنجزون مهامهم. هذا ما لا يعرفه أحد!

ظهيرة واحد من تلك الأيام الخانقة، التقى جمع من شبان البدو بسائحتين قادمتين من الشمال. لم يكن البدويون أشرارًا، ولم تكن المرأتان منبوذتين. كل ما هنالك أنّ حياتهما لم تكن ـ قبل ذلك اللقاء ـ ذات ألق، لم تنبعث فيها النجوم من أي مكان ... لتسير مظفرة نحو مآل آخر؟ كان كل شيء عاديا. أما بعد الحفل الذي شارك فيه سبعة من البدو فقد ظهرت في سماء المرأتين مناراتٌ، ونبتت ورود بهية، وأضاء الصبح أكثر. لكن المتلصصين اعتبروا الحادثة اغتصابًا وأخذوا بجميع الذكور خلف الجدران القديمة الرطبة.

حُبُور صامت يغمر هؤلاء، يتركون المنتجع بعد أن أعلنت الشرطة والحرس السريون عن هلاك أحد أفرادها. السائحون يقيسون الأمور بمنطق الربح والخسارة. بعد موت الشرطي حمدوا الله في سرهم، الهالك ليس واحدًا منهم، لذلك تراهم يسارعون إلى أمتعتهم يُلقون بها داخل المكان المخصص لها أسفل حافلات الدرجة الأولى، ثم يهرولون في سراويلهم الكاكي الصغيرة، يلتصقون ببعضهم البعض في المقاعد الخلفية، بينما حرارة شمس الصباح تقذف المنتجع والبحيرة، وأرض السباخ القريبة بوهجها الساطع الثقيل. هذا المنتجع، هنا في الشرق، يرتفع فوق حدود ثلاثة بلدان، أو أكثر، بلد التراث القديم، وبلد الشارع الفضفاض، وبلد الصحراء السوداء، وبلد النهر، الذي يجري من قلب القارة القديمة حتى البحر. لذلك فإن غابات الأوكاليبتوس هنا بمثابة الواحات في البقاع الأخرى، تصنع الظل واللون، ومنها يخرج الماء دافقا يبث الحياة في الرمل الحار الجاف. بعد تعرج غابة الأوكاليبتوس في شكل ذنب السمكة ... ونهايتها نهاية مفاجئة داخل الأحراش، تنبثق الجزيرة الصغيرة بهضابها التي تتكاثر في الأطراف وتأخذ في الاختفاء عند منتصف اليابسة. حتى تغدو مثل وهدة كبيرة سحيقة... إلا في جانبها الشرقي حيث تخرج الشمس منذ الصباح الباكر صاخبة حمراء.

هذه بُقعة من الأرض باهرة، تكثر فيها الأسماكُ الطائرة، والعصافير ذات المنقار الوردي الطويل المعروفة بطيور الجنة، ناسها مثل جميع الناس، يرتدون اللباس العصري، ويفطرون صباحا على الزبدة والخبز المشوي، والبيض المسلوق. الوادي على جانبه رمال كأنه قطعة من الفردوس، حجل بري، وسمان، ودجاج يطير، تماسيح صغيرة جلدها لامع، وعصافير. قلما أبصرت السمك يطير، ما يبدو فوق الماء اللامع من كائنات متقافزة لم يكن سوى سمك صغير، لا يتجاوز عشرة سنتيمترات يقفز أربعة أو خمسة أمتار ليسقط هنالك من جديد، على مرمى حجر من بُقعة انبثاقه. زعانف هذا النوع من الأسماك مثل الأجنحة الصغيرة اللامعة... تشقُّ الهواء في مثل سكين مائل إلى أعلى، فتبصر صفحة الماء بكاملها قد جُمعت فوقها بانتظام تلك المخلوقات... مثل كائنات فولاذية طائرة...

ذهبت أحداث المنتجع، غير البعيد عن حدود الشوارع الفضفاضة، الآن تغير كل شيء، النزلاء تركوا شققهم، وأجنحة إقامتهم وخرجوا باحثين عن الباصات الملونة تُقلهم بعيدا نحو الجزر الصغيرة داخل النهر. كيف يُمكن أن يُقارنوا بين الأيام الخوالي وجديد الأسابيع الأخيرة، هذه التي أحدثت تغييرا شاملا. إنّ انتظار ما لا يحدث، أو ما لا يُمكن أن يحدث، أصعب بكثير من حدوث ما طال انتظاره. هكذا أخذ الخلق الموجود في هذه النواحي يتجمعون في لقاءات خاطفة، تجمعات صغيرة ليست ذات قيمة، لكنها يُمكن أن تؤدي إلى اتفاق عام يسهل الخروج إلى بحار الجزر الكثيرة المنثورة داخل الماء، هنالك في الجنوب الشرقي، مثل حفنة زمرد ألقتها يد القدر دون إعمال رأي. ثلاث جزر متقاربة، جزيرة أخرى منفصلة تربط بين الأرخبيلات ثم صخور كبيرة عالية تتنادى فوقها النسور، ويرى الناسُ فوق المراكب الشراعية الكثيرة التي تجوب الفضاء طيوراً، وسحالَى وثعابين، وكائنات أخرى، كان القدماء قد أحصوها وجعلوا تماثيلها تملأ غرفهم الجنائزية.

ضمن هذا الديكور البدائي تكون لهذا الخلق غير المنسجم من الناس حياة أخرى، بعد أن تركوا تجربتهم الأولى وراء ظهورهم، ودخلوا الأيام الجديدة يدفعهم الأمل، وتحدوهم الرغبة في الحصول على راحة البال ومتعة الجسد وهدوء الروح من جديد. ويبدو أنّ أهمّ قناعاتهم موصولة بأنّ الروح لا تحمل لونًا يعينه، وبأنه من الصعب البتّ في شأنها، فهي من أمر الرب. هذا منتهى ما يُمكن التصريح به. المكي يحتفظ بالمشاهد التي استقاها من عمليات التلصص في ذاكرته، يرتبها كأنها متتاليات فوق رف قديم. مشاهد الرجال، مشاهد الأطفال، الوسخ والعنت، الكائن الإنساني في أسوإ  حالاته، مشاهد النساء ... في الملف الأول، والثاني، والثالث، حتى العاشر... بل لعلها يُمكن أن تبلغ الملف العشرين، أو الخمسين، أو أكثر...!

نجمة الصبح تميل نحو الأفق الشرقي قليلا، والله وحده قادر على التحكم في هذه المشاهد القديمة، أما العسس فلا همّ لهم غير مواصلة الإحصاء والتبويب. علموا أنّ هذا الجهد لم يؤدّ إلى نتيجة تُذكر، لكنهم أعلنوا مواصلة عملهم، هدفهم أوسع من أن يُقصر على البحث عن الأسلحة، أو المتفجرات الخفية. هدفهم فضح كدمات الروح، تلك التي تصيب الكائن في كل وقت، وكم هي كثيرة في هذا الزمان؟ لا يُوجد خلاص بعد اليوم، الأنبياء أخفقوا تماما في تحقيق حلمهم بعالم أفضل تركوا أرضنا، بعضهم ارتفع إلى السماء، وبعضهم اختار أن يموت مثل البشر، وكثيرون آثروا الوحدة. تبقى نجمة الصبح شاهدًا على ما كان، في توهجها الخفيف غير المنظور... تركت النساء المنتجع ليلا ودخلن مضارب البدو، وباتخاذها رمزًا لوقت بعينه انساب المسلحون خلف أشجار السدر وعشبة الشيطان يستعدون لإقامة ممالكهم. أما الشمس فلن تبرق أولى أشعتها إلا بعد ساعات من الآن، حين يكون صباحها قد أخذ بالناس والأشياء.

في بعض أوقات الراحة، حين تكون الشمس قد مالت إلى المغيب، يتفرد المكي داخل سيارة الاستافات، يُنزل الستائر، ثم يطلب غفوة قصيرة. تمر داخل ذهنه المتعب مشاهد، ونبذٌ من صور النزيلات والنزلاء. الحلم ذاته بات مُشبعًا بخلوة هذه الكائنات التي قدمت إلى الجنوب للسياحة والتمتع بالشمس. أخذت الجماعات السرية تختفي، الواحدة تلو الأخرى تُسارع إلى التواري في البناءات الخلفية، تُغيّر مواقعها في غرف الانترنيت. في مخزن الفندق حركة غير عادية، المتلصصون يجوبون الأنحاء، يدققون في كل صندوق وارد أو صادر، أنواع الخضروات، الاخطبوط المجفف، الثوم والفلفل... الزحام هو الطاغي، الوجوه تملأها الزرقة، لا شيء يحدث، الجو يعبق بعطر الصباحات القديمة. أفراد فريق المراقبة متجهمون، فوق وجناتهم اكتئاب ثقيل. وبعد هطول المطر، يخرج السائحون للنظر في الشجيرات القصيرة النابتة في الصحراء. من هنا مرّ المسيح في حضن مريم، من هنا مرّ  يوسف النجار، من هنا مر كل شيء، كأن شيئا لم يكن!

صخور سوداء تحيط بالمنتجع، أشجار الأوكاليبتوس عالية جدا ترتفع نحو السّماء. كنت واقفا عند الشرفة في الطابق الثاني، من ذلك المرقب المرتفع أشرف على المطعم، وساحة المرقص العارية، المسبح الفسيح بأقسامه الثلاثة المتعالقة بفضل الحوض الأوسط، الضوء ينعكس فوق الماء والرخام، والليل يأخذ بكل شيء. فجأة ... يُسمع زئير تعقبه موسيقى صاخبة قوية...، هذه الموسيقى العالمية تنبعث من كل مكان، تخترق السماء والأرض، تخرج من الماء. فوق طاولة طويلة نضدت أنواع كثيرة من اللحم والسمك، الأجبان والثمار طعومها مختلفة، ما جدوى هذه الحّيّة الخارجة من مياه البحر؟ هل هي مجرّد لعبة؟ هذا الذي يحدث هنا لا معنى له، يُغذي الروح، ويكسبُ لونها ظلالاً وحمرة غير واضحة المعالم، بل زرقة مائلة إلى البنفسجي، كل هذا يلون الروح ويُضفي على خاماتها ضبابا كثيفا من الإيحاءات. أما ما يُمكن أن يحدث في آخر ساعات الليل، فلا يحصيه أحد، ولا يحصل أي كان ـ عدا المتلصصين من رجال الشرطة ـ على تسجيلاته. ويبدو أنّ حكايا كثيرة قد ملأت ساعات الليل، وانها لا تمت بصلة تذكر إلى القنابل الموقوته، وأسلحة التربص التي لا توجد إلا في ذهن الخائفين. أما ما نظفر به في عتمة الفجر  فيُمكن أن يورث الجنون، ويحدث ذهانات كبرى في القُرى حول المنتجع، غير بعيد عن البحيرة، وفي سواد غابات الأوكاليبتوس، حيث الغلبة للضباب القادم من المياه المحيطة بهذه البقعة الأسطورية. الأمطار لا تكف عن النزول، تروي الأديم الظامئ! المياه تتجمع جداول صغيرة تترافد حينا وتتباعد محدثة في التراب أخاديد وبحيرات كثيرة.

لقد سطر القدامى نصوصهم الكبرى في هذه الأنحاء، ثم عادوا إلى جبالها في ساعات الليل والنهار، بحثا عن قبس من نار يدافع الذبول،  دخلوا الغيران المبثوثة في المرتفعات بحثا عن سكينة قد تفتح للروح بهاء يسمح بمواصلة الإصغاء إلى كلام الرب. فوق هذا الرمل القديم مرت قوائم الأحمرة تنوء بحمل هذه الأسرة المقدسة أو تلك. هنا قال الرحمان للنبي: إقرأ!

لون الروح واحد في جميع الأطوار، يصعب إنكار هذا؛ من في إمكانه أن يزعم في يوم من الأيام بأنّ للأرواح ألوانا متباينة. هذه الشمس تمسح كل الوجوه بطلائها الأحمر، تدبغ الجلود، تصبغ الأرواح، بلون واحد قديم. تختار ألوانها من معابد الآلهة في الجنوب والشرق، ثم تنثرها في كل مكان، فوق رؤوس الناس والحيوان والنبات.

الناس يواصلون خروجهم، باب المنتجع مفتوح على مصراعيه، الباصات المدهونة بالأصفر والأحمر والأخضر والوردي تنتظر، الخلق يتدافعون أمام الأبواب المفتوحة، النساء البدينات يُحركن أثداءهن الكبيرة في صفاقة دون حرج. الصغار يُمسكون بسراويل أمهاتهم في هذا الصباح الذي لا لون له! جسوم النساء الزنخة لا ترعوي،  تبحث دون أن تدري عن انفتاح ممكن، أيدي الصغار تندس بين الحين والحين تحت الثدي العاري، رائحة عرق تعم المكان، حليب وعرق ولحم متحلل، وبقايا عطور سائرة نحون الاختفاء، أما الأرداف، وفوح الأقدام... فلقد نقلها الإهمال من حيز البشر إلى حظائر الحيوان المغلقة على عطنها، بينما الرذاذ يواصل انهماره الهادئ فوق الناس والرمل والكائنات، نثيثًا من تجاويف السماء يهفو إلى معانقة الأرض. جاءت الجموع من كل صوب... غَصّت بهم الساحات والبطاح. هذه المدينة يُبقَر بطنها تتساقط أمعاؤها وتسيل دماؤها المتخثرة الصدئة.

في غياب الحجج، وتواتر المصائب، وإزاء وقائع شتى تتناساها المدن فيلفها الضجيج أو السأم ... لا نعرف كيف برّر ثراء هؤلاء ... أو قدرة أولئك على توجيه أوامر متباينة يذعن لها الجميع ... عند حدوث إشارات خفية تظهر في النوافذ أو من أضواء السيارات الرابضة أو تخرج من أجهزة الهاتف الكثيرة... تحدث أمور شتى لا يفهمها أحد!

عارف الأبكم يظهر من جديد، الدوائر التي كانت توجه عمله لا يُمكن أن ترفع يدها عن المنتجع، رحيم سويد لا هدف له إلا مزيد السطوة والاقتدار حتى لا يحدث ما لا تحمد عاقبته في هذا الماء البدائي. البحر، والسباخ والمنتجع والبحيرة الكبيرة، والجبل الأسود وغابات الأوكاليبتوس، والبُخار المتصاعد من أعماق الأرض يغلف المخلوقات كلها في رداء شفاف من حبات الندى الصغيرة التي سرعان ما تضمحل لهبوب أولى نسائم الفجر في ساعاته الأولى. الخلق الكثير المتجمع قرب الباصات لا أمل له غير هجر الطور الأول، بأشيائه الصغرى والكبرى. بيار الفرنسي يُلاعبُ مادلين:

ـ لو أمكن أن أترك جلدي!

تنظر إليه دون أن تقول شيئا، يواصل:

ـ أو لعل الإرهابيين يُخلصونني منه دون أن أدري!

شمس آخر أيام الربيع تبعث بشعاعها القوي نحو الأرض، تشمل الشعوب، والكائنات تحيط التعاليم أيضا، بهالة ربانية من نور الحكمة القديمة ... ظاهر المدينة مُرسل على باطنها، أمرها فوضى، قليلها كثير... في هذا السديم الذي سرعان ما يسقط من ذاكرة الشعوب! الكلب تائه لا مستقر له في أطراف الضيعة صادف صبيانًا، وصبايا، تعلق، بهم، خاضوا معًا في لحم الصحراء، تساءلوا عن لون الروح...! الصبية في تلك السن الغامضة التي تتأبى على العدّ...! هذه السن غامضة فعلا، لا يقوى على تفهم أسرارها أحد، من هم دون ذلك، في العشرين أو نحوها، فيحدثون تواطؤا مع هؤلاء الأطفال المنذورين للفجيعة. الكلابُ هي القادرة دومًا على تشويش النظام! تنوء بأحمال السنين، ظهرها العاري، إلا من بعض الوبر المنتوف يتحمل النوء والشمس ووعثاء السنين. الكلاب مزيج من الورع والشهوة! خوفها لا يعرف نهاية، يختفي في أركان البيت، يُعشش في الفراغات، يُولد فجأة، دون سابق إعلان أو إشارة. الكلاب والبشر كائنات تتحمل المطر والشمس والعواصف، فوق أجسامها ينطبع وقر السنين، تسعى صامتة إلى مستقرها النهائي وهي تنوء بحمل الوقت!

البشر والكلاب السائبة، مخلوقات لا تستقر، تُعمل فيها الشمس شعاعها، تخز أرواحها. يَقطر رذاذ المطر خلال كهوفها، تصفو، تنبح حينا، وتتخذ وضع الوليد المنكفئ على نفسه حينا آخر. الكلاب والبشر كائنات لا تعليل لحركتها، كأنها مدفوعة من بعيد، لهذا يسب البشر الكلاب، يصفونها بأفسد النعوت، ومن أدرانا ان الكلاب لا تُمسك بزلات البشر، فتعرضها على عيون مخلوقات السماء. هذا هو وضع البشر والكلاب داخل المنتجع في الشرق، على حدود المجتمع الفضفاض، حول البحيرة والسبخة، داخل الواحة الملتفة على خيرها وشرها.

البشر والكلاب كائنات تتشربُ النور الساطع، تسلس شعرها لرذاذ الصباح، تدرك كيف تمسك بنسمات الفجر. وهج الظهيرة يُخرجها من بيوتها، من خلف الستار الخفيف الذي تتوارى داخله. فما الذي يُمكن أن يحدث في غياب هذه العناصر التي تحررها من خذلانها، ما سببُ الخوف في حركتها، النابع من لهاثها!

*    *    *

عارف الأبكم أعدّ كراسًا خاصّا أدرج فيه كل شيء، تفتح الصفحة الأولى فتعثر على صورته، تحتها صور كل من عرف من النساء، صغيرة جدا، لامعة، حولها إطارات صغيرة أيضًا، من حبر أسود.

الكراس يُذكر بتلك الدفاتر القديمة التي يُرتّبُ فيها طلبةُ الجامع القدامى الدروس التي كانوا يحفظونها عن ظهر قلب. الأشموني، الشافية، قطر الندى، ألفية بن مالك ... عوضًا عن هذا السياق القديم فإن عارف قد ضغط داخل ألبومه نماذج الصدور الفائرة، والصدور الصغيرة، والنهود ذات الحلمات المتوردة، وتلك التي نهاياتها سوداء مثل حبة التوت الناضجة، إضافة إلى أسرار أخرى تتعلق بالخصر والردفين، ووصف دقيق لرائحة العرق المخلوط بروائح روما وباريس ولوس أنجلوس. هذا هو العالم الجديد الذي نحيا فيه، مزيج مشوه من نفايات الأزمنة، مخلوط أغلبها بما يعلق في الذاكرة من شتات لا معنى له. بعد ذلك مباشرة سُمعت من بعيد أنغام آلات موسيقيّة ، بعضها يُعلن عن الفرح، أغلبها يؤكد الحزن. الله وحده كفيل بتمييز هذا من ذاك في هذه الأوقات الكئيبة. فرق مكونة من عدد قليل من أفراد الحرس تتسربُ إلى الحافلات، تنصت إلى ما يقال هنا، وإلى ما يُقال هناك، تسوق خلقًا غفيرًا إلى الغرف الجانبية.

يقودون النزيل الجديد، عبر ثنايا ضيقة إلى المعتقل، هو عبارة عن فضاء فسيح داخل مدينة الألعاب المعطلة. كثيرة هي المعتقلات، في الجبال البعيدة، فوق طائرات نفاثة تجوب  الأجواء، في أوروبا وأمريكا الجنوبية، لكن أفظعها ذلك المعتقل الأسود الموجود في الصحراء، غير بعيد عن المنتجع الرابض فوق البحيرة في الجنوب. الشمس تنعكس فوق مياه البُحيرة أرجوانية، تأتي من الشرق البعيد، تمسح سطوح البيوت المترامية عبر جنبات الفندق وما حوله. حين يتراكم الضباب، وتعلو درجات الحرارة، ويعم أبدان الناس عرق كثير... تدوي الصواعق في الجو... وتخفق أمطار ثقيلة، وتجري المياه جداول صغيرة هنا وهناك. أما رذاذ المطر فيتتالى نثيثا خفيفًا فوق الرؤوس الحليقة، في القاعات والمقاصير التي تحتوي مشاهد يُلغى بعضها الآخر. لا يدري الداخل هل هو في قلعة قديمة، أم في طائرة، أم في حافلة تم تعديل مقاعدها على عجل لاستقبال نزلاء الصدفة. النزلاء فئات، نفر تم التقاطهم من شوارع المدن، شرقا وغربًا، نفر دفعوا خارج  بيوتهم، افتكهم العسسُ من حضن زوجاتهم، وجماعات أخرى من أصحاب البيانات السرية أو المهددين بتفجيرات تفتت أجسام الناس.

النظام واحد للتعامل مع الجميع. في المعتقل لا تمييز بين النزلاء. كان الأمر في بدايته خاضعا للتفريق بين الرجال والنساء. أما اليوم ـ بارتفاع الأصوات المنادية بالمساواة ـ فلا وجود لمنطق الفرقة. القاعات واحدة، والأدوات المستعملة هي نفسها، ومناهج التعذيب لا تتغير. امرأة يُقتلع شعر رأسها، تنزّ الدماء من صلعتها المرتجلة، رجل تقلع أظافره، ومعلوم أن الرجال اليوم قد اعتادوا تقليم هذا العضو الزائد في نهاية أناملهم المصقولة، صبية صغار تطفأ أعقاب السجائر في صدورهم، فتيات دون العاشرة تُكوى أوراكهن. حلمات نهدودهن ... والرذاذ يقوى تدريجيا فوق الغرف الداخلية، المعتقلون ينصتون لوقع حباته فوق السطوح، لا تعليق لهم على هدوئه. في الآونة الأخيرة أحدثت فرقة خاصة تتنقل بين القاعات. الضيوف لا يتحركون من أماكنهم، غالبا ما يكون القدوم في الساعات الأولى من الفجر.

لا توجد فرصة للنوم، قطرات المياه الباردة منتظمة في نزولها الموقع من رشاش خاص كفيل بتنظيم سقوطها فوق الأبدان. تُدفع الأبواب فجأة، دون سابق إنذار. جنديان ينفذان مباشرة إلى الركن الأيسر، على وجوههم أقنعة سوداء، فجوات العيون فاغرة، منها يتسلل نور حزين، يُمسك الأول بذراعي السجين، يُثبت الثاني مجسة الكهرباء في الصدر العاري، وفي القدم اليُمنى. تُرى ما الذي يحدث إذا ما أخذ الجسم ينتفض على غير هدى؟، تشنجات بشعة تظهر فوق صفحة الوجه، الرعب والألم والإحساس بالذل والاندحار، لعل الإحساس بالذل يبقى من أعتَى ما يشعر به المرء في مثل هذه الأوقات الضائعة، لا يوجد من يشهد على حدوثها أو عدم حدوثها، الله وحده يُمكن أن يكون كفيلا بدلالات هذا الألم الفظيع الذي لا حدود له.

من السهل أن يتناسى الناس كل شيء، الحياة والموت، القتل والبحث عن متابعة الأحداث القديمة. الأطفال يهرولون خلف بعضهم البعض، يمسكون بتلابيب بعضهم، يبحثون عما يُمكن أن يُمثل حاجزًا بين الحياة.. وغياب الحياة. كل ما هنالك أنّ هذا التجاهل المنتشر فوق الوجوه يُعبر عن أوهام الأجيال القادمة. نربي  صغارنا على معنى الأمل، والعدل، والحرية! ضوء الصباح القادم من السماء يُضيء البُحيرة بشعاع قوي، ويجعل ماءها دافئًا، السمك الصغير يتلَوَّى داخل الطمي الغامض، الرمال تبدو بيضاء شفافة فيها حلازين لا لون لها. ما لون الروح في هذا المكان الغامض، عارف الأبكم يصبو إلى فك هذا اللغز. الناس في هذه الأنحاء يبحثون عن لون الروح، لكن لا أحد في إمكانه تحديد ملامحه.

الجبل الذي تُُقطع منه خامة الرخام على مرمى حجر من الفندق، المهندسون والعملة أحدثوا فيه فجوات وأنفاقًا بحثا عن صخور يتم حملها فوق لوريات ضخمة تسير تباعا في طابور طويل، وبعضها يُلقى غير بعيد فوق الهضبة غير العالية خلف مواقع السيارات. بازلت، ورخام غير مصقول، وأحجار سوداء مرسلة دون نظام. أما الصخور البركانيّة المجلوبة إلى هذا المشهد الطبيعي فتسهم في تلوينه بأبعاد غامضة. تحدث الآن أمور غير مقبولة، عارف الأبكم يشعر بالغربة في هذه الأنحاء، كذلك الناس في الشوارع الفضفاضة يحسون بالوحدة والخوف، أقل شعور يخدش توازنهم. سامر ومارغو ووليد كان الأمر بالنسبة إليهم مثل حلم سحبوا إليه عنوة. أما الشمس فترسل أشعتها إلى البحيرة في عناق أبدي يتجاوز البشر والرمل والحيوان، يتجاوز الخالق والمخلوق، إنه نابع من أصل الصخر وعناصر الماء الأولى.

عارف مثل باقي رفاقه يحترم القانون. لذلك فهو يُنزل رحيم سويد منزلة خاصة فوق التراتب الإداري في شرط أمن الدولة. رحيم سويد أيضا يعتبر ”الأولاد“ مثل أولاده تماما، يُقربهم، يعفو عن أخطائهم ، لكنه في الحالات القُصوى لا يقبل اعتذارًا. لذلك تراهم يحسبون له ألف حساب. يحترمون صمتَهُ، يُسارعون إلى الاستجابة إلى أوامره. هو الذي يوزع عليهم أماكن عملهم، وهو الذي يُقر -أو يرفض- اختصاصاتهم. عارف مشرف على الجميع، فهو القادر على حفظ السر، وتسيير مجموعات من الفرق في صمت. وما جدوى الكلام الذي لا معنى له بينما الشمس تواصل ارتفاعها الأزلي في مدار لا يأبه بما يحدث.

خفتَ التلصص المتبادل، الكل يشعرون بأنهم مدعوون إلى النزول من هذه البُحيرات، إلى الخروج من المنتجع، السواح، وأفراد الشرطة، والمتلصصون والأهالي في الدور الواطئة، والأكواخ المتساندة غير بعيد عن الجبل الأسود، جبل الرخام والأحجار البركانية، وعلى تخوم السباخ الكثيرة الملقاة دون عناية حول البحيرة، بحيرة اليود والخوف والمياه الجوفية التي لا قرار لها. بُحيرة زرقاء بدائية، صخورها مسننة، وطيرها كثير. هذه مشاهد مقتطعة من العالم قبل بدء الخلق، في تلك الأزمنة البعيدة التي كان فيها الإنسان مجرد طيف يُمكن أن يمرّ. في ذلك الحين كانت جميع العناصر تسهم في عرس الطبيعة، الشمس والأمطار، الحرارة والبرودة الصواعق والأعاصير، نسائم الفجر ودفء الأماسي تحت الشجر الوارف. لم تكن الكائنات قد بُعثت بعد، العالم هادئ، في توازن جمٍّ مع ذاته، لا يشكو ضيْمًا ولا انخرامًا. لماذا لم تندمج البحيرة مع نفسها، لماذا لم تعانق الطيور ظلالها، لماذا لم يداعب الشجر سمكها الطائر، ما جدوى أن ينبثق هذا الكائن فيتخصص في الصلب والتنكيل باسم العدل!

في البداية كانت غرف الفندق مُغلقة، الممرات المزخرفة بفنون الأرابيسك تنفذ حتى أبواب الشقق البعيدة، المكي وعارف، وبقية أعضاء فرق المراقبة يقبعون في سياراتهم خارجًا، ينتظرون ما تجود به الساعات القادمة. انتبه الجميع شيئا فشيئا إلى أنهم بصدد أداء مُهمة غير ذات بال! ذهب زمن الأبواب المواربة، غدت النوافذ والبوابات مفتوحة مُشرعة. كل شيء متاح. يكفي أن نعرف كيف نتصرف. كيف نصارع ذلك الشيطان الذي يُطل من داخلنا، ويطلب منا أن نغالب القدر عسى أن نتمكن من الهروب مما تحتمه اللحظة. أبناء الشوارع الفضفاضة يخرجون في وقت الأمطار مثل الضفادع الصغيرة جدا التي تتكاثر في  أزمنة معينة ثم تختفي.

اللعب أفضل سبيل لمغالبة الموت، ونثيث الأمطار يهطل فوق سطوح القرميد الحمراء في هذه البيوت الجميلة المعدة لمناخ آخر غير مناخنا. كل شيء في هذه البُقعة منسجم مع ما تتطلبه السياحة العالمية، التراب نفسه غدا ترابًا عالميا، بل الشمس ذاتها، إنها تتكلم لغات أخرى غير اللغة الشائعة فوق هذه الأرض. لذلك كان وقعها على الوجوه والسواعد والصدور وقعًا مختلفا عن المعهود. ولهذا تقع السيدات في المنتجع، وقرب البحيرة لملامسات الشعاع الذهبي الخالدة. الشمس يُمكن أن تمسح الرمل عن النهود العارية وعن الشفاه المبللة بمياه الرغبة، تنزل لتلحس السّرّة وما حولها، تتريث قليلا، تدخل ألسنتها الكثيرة داخلها تبحث عن ثأرها القديم... تلفح الزغب الأسود عند مثلث المتع الغابرة، تدخل الأروقة الجانبية، تجثو عند العتبات، تُحدث هدهدة خفيفة تمسح أثر ماء قد ينبثق من نبع اللحظة الأخيرة.

حين يُدرك اللاعبُ أنه قد خسر مجالا، فانه يُنقب عن مجال آخر لاختبار إمكاناته، لكنه لا يقتنع بالخيبة ولا يُلقي أدواته منذ الوهلة الأولى. اللاعب يستمتع مرتين، باللعب أولا ثم بنتيجته ثانيا، وحتى حين تغدو النتيجة مجرد خسران واضح فإنها لا تؤدي إلى المرارة... إنما تكون حافزًا على معاودة اللعب من جديد. التكرار الأبدي والمعاودة هما السمة الدائمة. المكي، عارف رفاق الزمن القديم، رحيم سويد، الكل  يُعيد الكرة بحثا عن منفذ جديد يُمكن المروق منه نحو إمكان آخر. كيف يُعللون عدم حصولهم على نتائج دقيقة واضحة، رغم العدة والعتاد. لقد وضعت القيادة المركزية تحت تصرفهم أسطولاً من سيارات الجيب، والسيارات الخفيفة، وأسلاك الوصل الكهربائي، وآلات الالتقاط عن بُعد، والكاميرات الكبرى، والصغرى التي يُمكن إثباتها داخل حبة زيتون فوق منضدة من مناضد الدرجة الأولى،عدا آلات النسخ، والتصوير، ولاقطات الصوت، واللاقطات عن بُعد. بيد أنّ هذه العدّة ذات المواصفات العالية لم تمكنهم ـ عدا عملية بسيطة أو عمليتين ـ من الحصول على نتائج كافية أو بلوغ أهداف واضحة. لذلك أصابهم خَجل واسع. فهم يستحيون مما بين أيديهم من هذا النزر القليل من الملاحظات التي لا قيمة لها، والتي كان يُمكن تخمين أغلب دقائقها في مكاتب العاصمة، دون خسائر تذكر.

فكرة الرجوع الأبدي، وعودة الأطوار السابقة توجه الجميع، تسكنُ دماغ عارف، تدفع به إلى الأمام، بها يُبررُ مواقفه، يدعو الآخرين إلى اتخاذ مواقف أخرى. تصرفات الآخرين تبقى معلقة فوق حبل غسيل وسخ حتى نبررها. كم أرغب في الاحتفاظ بالتسمية القديمة، فندق ابليس، كم أتوق إلى رؤية الكائنات المائية والتماسيح وبنات آوى والنسور ... والخنافس الملكية وحية الكوبرا ... تخرج من صناديقها، تدخل الغرف الكثيرة المبثوثة هنا وهناك.

عارف هو المشرف الجديد على الخروج من أرض الجنوب بعد رحيم سويد، لا يهم إلى أية وجهة يكون الهروب، نهاية ما يرجوه هؤلاء أن يحدث تغيير ما في وضعياتهم، أن يُعيدوا توزيع قواعد اللعبة من جديد. لذلك تراهم يجتمعون حينا، ويتباعدون حينا آخر. كان نزولنا فوق أرض (زيتُو) فجرًا، قبيل شروق الشمس بقليل، جيجي أكبر جزر الأرخبيل السحري الممتد داخل البحر جنوبي الشارع الفضفاض، غير بعيد عن المنتجع ببحيراته الصغيرة وسِباخه وأحراش الملح المنتشرة حوله مثل جبال بيضاء. هذا هو المكان الذي نلجأ إليه، كيف نتمكن من الابتعاد عن منتجع إبليس، بشروره، كيف نهرب من السجون الملحقة به دون نظام، كيف نترك هذه الطبيعة الأسطورية ونضحي بهذا الجمال الخالد. ما الذي جنيناه في هذه البقاع المنسية الرائعة!

في هذا التّراب غير المسبوق استقبلتنا الخنفساء الملكية والحية ذات الأجراس، وابن آوى أيضا ساهم في تنظيم رحيل الهروب، من أعدّ الحافلات واختار الألوان، وزوّقَ اللوحات. من المكلف بهذا المنطق الغريب الذي غدا مسيطرًا في هذه الربوع. كيف تبرير هذا والشمس لا تزال تُلقي أشعتها في رجوعها الأبدي إلى مواطن انبثاقها الأولى، راضية سعيدة. كيف نعيد ابتداع عالمنا. ما ننتظره يصعب تحقيقه ... بعيدًا عن منطق رحيم سويد!  لذلك علينا أن ننخرط في اللعبة من جديد، مضى عهد المنتجعات، ذهب زمن التلصص على السواح والسائحات، لا توجد إمكانات أخرى خارج نطاق الاسترسال مع ما تطلبه السلط. لهذا فإنّ المخلوقات كلها تبدو باحثة عن الانسجام من جديد. الأرض ذاتها مكنتنا من ترك صحراء الشرق قرب الدولة الفضفاضة، وأحالتنا على ”زيتُو“ استئناسًا بربيعها الدائم. هي فسحة معادنا، فردوسنا الذي نصبو إليه.

ـ هذه جنتنا!

كُنا أيضا في جنة أخرى، ثم تركناها، نزلنا منها من تلقاء أنفسنا، هجرناها نحو هذا المكان.

ـ ...في إمكانك أن تقول كل شيء، لكن خروجنا لم يحدث باختيارنا

ـ إنه النزول وكفى

ـ اُنظر الرمل والماء وطير الأفق...

ـ فعلا انها بديعة، بتعريشات أوكاليبتوسها وكرومها، بظلها وضيائها.

ـ الجمال لا يكفي

ـ ماذا؟

ـ هي أوسع جمالا من الماضي والمستقبل.

ـ كلامك غامض يا صديقي

الشمس لا تزال تبعث شعاع الحياة، تنبض الكائنات بحياة راسخة في الصخر، تمتد جذورها في أعماق الرمل والماء. هذه الجزيرة مدهشة. في مجسم كبير عند بوابة المتحف الذي دخلناه بعد نزولنا، أنهار وجداول، والحجل البرّي يطبع المشهد بملامح بدائية منعشة، أما السمك في أحواضه فيكاد يخرج مرحبا بالعيون المندهشة المزروعة هنا وهناك، هذه جزيرة للمتعة والدهشة، حقا إننا نشاهد مزارع حنطة واسعة تمتد حتى مرمى الأفق. الفندق صغير يُفضي إلى الماء، بوابة الخشب بسيطة جدا، في الداخل فخامة رفيعة، المسابح من زجاج خالص رفيع، الماء معطر بخلاصات الشرق، جواهر فوق حوامل من الذهب تُرصّع جدران القاعات الجانبية. زيوت رقيقة تنساب بين أنامل الحسناوات فوق ظهور الزائرين. أعشاب الحديقة معرشة مثل ذراع بضة فوق محبس قرنفل. هذه المتناقضات يصعب أن تجمع في مكان واحد. لكن هذا قد يحدث أحيانا.

حقل البُرتقال وحقل الزيتون يتكاملان، يدعو أحدهما الآخر، تحت أعذاق  الشجر القديم حياة طافحة بالحب، السلالات القوية تنبثق من ثنايا التحلل والاندحار. البرتقال بستان كبير، بساتين تتداعى حتى مرمى البصر. وهج الروح يجعل الحياة ممكنة مهما يكن من أمر، نلتفّ عليها، نتركها جانبا ونتخطاها باحثين عن أمل آخر يُمكن أن يمثل زاد المرحلة! لهذا فإننا نُلحُّ على فكرة العود الدائم، وهي منطق لا فكاك منه، يُمكّن الكائن الضعيف المفلس من بارقة أمل تنسكب داخل فجوات الواقع. والرذاذ يُمكن أن ينزل في آية لحظة. العاصفة الحرة تنذر بالاندلاع. سندويتشات سريعة من الجُبن والبيض والكافيار تملأ ليل الانتظار. ما الذي سيحدث يا ترى. مشروب خفيف، ثم وقت من الراحة.

الراحة هي المستوى الصفر من المتعة، تعوضُ كل الإمكانات. استرسل الجماعة في نوم عميق، لم يتركوه إلا في أولى ساعات الفجر حين دعا رحيم سويد إلى اللقاء بالكوادر العليا سعيا إلى الخروج بنتائج نهائية من المهازل التي اندلعت، وطوحت بالناس. موئلنا الجديد تَمّ اختياره منسجمًا مع أمل الجميع في النسيان. كان على البشر أن  يُعدّوا للنسيان أكثر من اعدادهم للذكرى. رحيم سويد مكلف بالإشراف على هذا العبور، السواح والمتلصصون، الحرس السرّي، الأهالي مدعوون كلهم إلى مرافقته في هذا الرحيل الأبدي. رحيل الشمس والكواكب من الفظاعات السابقة إلى الفراديس الراسية فوق الأفق كأنها في حلم يقظة باهر. ترك المنتجع في صحراء الجنوب ودخول الجزر الباقيات يُمكن أن يعوض الجميع عن الخسران. جنون باهر يطغى على الناس والطبيعة، المصاعد لماعة شفافة تخدم روح الحلم المنتشرة في كل ركن.

تخلصنا من مخاوفنا، ذهب الرعب، الجدار الأسودُ العالي الممتد أمام عيوننا حتى بوابات السماء مهيب قوى. الطبيعة هنا تخيفني أحيانا رغم بهائها النادر. أذكر الشوارع الفضفاضة وأنتبه إلى أنّ ما يحدث يتخطى كل منطق! اليوم تركنَا الجحيم، تأهبنا للخروج من الجنة. المتناقضات قد  تلتقي في سياق جديد، وتواصل مسيرتها دون أن تسأل عن تعليل. من يسهر على هذه التحولات! من يضمن أن الأمور ستجري على أحسن ما يكون؟ موضوع العود الأبدي يُثقل كاهل المتلصصين القدامى، يُغري بالرجوع إلى نظام الانكشاف غير الرصين، يترك الرجال والأطفال جانبًا ليُحيل من جديد على حضور السيدات الناضجات القاتل.

نساء في الأربعين، فوق الثلاثين وتحت الخمسين معروضات مفتوحات منتهكاتٌ في السجون السرية، السجانون يلعقون الأفواه الجافة، يمررون أناملهم الزنخة فوق حرير النهود. الحلمة تنتصب دون شعور بالمتعة. الحلمة تنتصب حين يبلغ الإحساس بالذل نهايته!

*    *    *

بين الحياة والموت ينكشف كل شيء، يعوي الجندي المكلف بالحراسة مثل كلب، ينتصب شعر رأسه، يتنادى المشرفون على التعذيب مثل ضباع جائعة، تكبر الفجيعة، ويخرج الكائن الذي يثوي داخل كل واحد منا، رافعا رأسه باحثا عن وجوه أخرى للإحساس بالضيم والعار. بينما الشجر في غابات الأوكاليبتوس، والمياه في أعماق البحيرة، بينما الوحل، والرمل، وشجر السدر والبلوط والعادر وعشبة الشيطان... يُبحلق في الوجود بعين الحذر والريبة. في هذه المواطن المنذورة للنعيم يصعب التفكير في الأيام الخوالي، والحق إنها لم تكن شرًّا كاملا كما إنها لم تكن خيرًا مطلقا. لقد كانت مثل الإنسان تماما، لذلك كثرت فيها المعتقلات، وعم الخوف، وتتالت التهديدات بالتفجير والتنكيل، الجماعات السرية تواصل إرسال مناشيرها إلى القرى البعيدة. قنوات التلفزيون تعرض مشاهد الثأر والمطالبة بعدم النسيان، الحكومات تدعو إلى الحذر والانتظار. لذلك كان دخول الجزيرة فرصة استثنائيّة للململة شريط الذكريات الذاوية. الساحة الوسطى واسعة جدا، تحيط بها أعمدة عالية، مرتفعة جدا. الله وحده يرعى النهايات، في غيابه لا يكون البشر قادرين على تحمل ضعفهم. هو القادر على تسوية الكائن الناضج بعيدا عن الفرن، قريبًا من لون الروح.

لا يوجد توصيف واضح للفردوس، الأعوان لهم تصورهم الخاص، الأطفال والزائرون يحتفظون بفكرة غير مطابقة تماما للانطباع العام، لكنها لا تختلف عنه كثيرا. نهر يسير من الجنوب نحو بلاد الشمال، فيه جزر باقيات، يتسع كثيرا ثم يضيق من جديد كي يفيض عند الاقتراب من البحيرة التي فوق مياهها نباتات ذات أوراق عريضة مستديرة. لماذا لا تَستقر حياتنا مثل استقرارها هذا القائم على توازن هش من توازنات الطبيعة. في توهج أخير يلتقي الأعوان القدامى، مع المومسات وسائحات الدرجة الأولى، وبعض الأهالي. قافلة الخروج عامرة. هذه فرصة ينبغي التشبث بها، عدم التفريط فيها، عند مؤخرة الحافلة وضعت لوحات زيتية، طبيعة الجزيرة نخيلها، ماؤها، حيوانها الصغير. هكذا تنشأ الجنة في الذهن، تولد الرغائب، ويُدوي الفرح الذي لا حدود له، الرمل أصفر ذهبي، حلزون يوضع على أفخاذ النساء، يشعر بالحرارة، يمشي يمينا وشمالا، يتمدد لزجًا، لعابه يسيل فوق أعضائهن الداخلية تُسمع تأوهات على بعد عشرات الأمتار. البعض يقفزن في الماء دون تفكير، البرودة تُطيرُ من رؤوسهن النشوة. يُفضلن الماء على دفء الحلازن ولزوجتها. النهار بدأ يطلع عند الأفق، الشمس ستبعث بعد حين بمن يُوقظ باقي النائمين. هنا منطلق الوجود، لا حدود لهذا الفضاء الواسع.

خروجنا من أرض المنتجع كان مثل النزول من الجنّة، النزول منها إلى جنة غيرها! أعوانُ الطابق الخامس في المنتجع الجاثم فوق بُحيرة الملح يتجمعون حول المكي ... أصناف الدجاج، طيور السيقان الطويلة، التدرج  والكركي والشرشير، والشرشير الربيعي تخفق فوق الماء بأجنحتها البيض الوردية، الضابط الأبكم يسير على غير هدى، يستحيي من أن يسأل الناس عن الأحداث الجديدة، عن التغيرات التي آلت إلى ترك بُقعتهم الأولى، إلى ترك المنتجع الذي ضم آمالهم وأحلامهم!  السائحات أمامهن أولادهن، في موكب حزين، السعاةُ والطباخون وماسحو الأحذية، عمال الحديقة، والمتخصصون في تنظيف السطوح والنوافذ، المدير ذاته والمدير المالي، والمشرف على أجور الموظفين، عمال البريد، وحاملو الطرود، ومصاحبو الجمال حين يخرج السائحون والسائحات إلى نزهاتهم العرضية.

ضاع نظام التلصص المركزي، ما الذي تغير حتى يُبدل المشرفون عاداتهم القديمة. أية أوامر نزلت متسارعة؟ هذا رحيم سويد يوجه الجموع نحو طور جديد من الصفاء. كيف نتعلق بآمال أخرى ممكنة! فكرة العود الأبدي تستقر حينا وتغيب أحيانًا أخرى. لا يُوجد من يتشبث بالقيم الزائلة. عارف والمكي ووليد والأرواح الزائلة وياسر ومارغو... لا يلتزمون بخط واحد، لا يستقرون على حال، والأحوال تجري على غير أوائلها. الفردوس المنشودُ بات مليئا بمشاهد الإثم. الأهالي يبحثون عن تبرير ممكن لهذا الخراب الذي يأخذ بهم من جديد.

ـ الجزيرة بديعة، لا يُمكن أن ننكر هذ!

ـ الجمال والقبح متجاوران.

ـ كيف ذلك؟

ـ نظرتنا هي التي تكسب الأشياء ألوانها.

ـ أنا لا أعول كثيرا على مثل هذه التفسيرات.

أسراب البقر والجواميس مُلقاةً حتى نهاية الأفق، تجترُّ موتها، تتشربُ غياب الحياة من جسومها المنهكة. عظام خربتها الحرارة وأثخنتها الخماسين فبقيت صافرة. حولها تحوم أسرابٌ العقبان. لم يكن الأهالي ينتظرون أحدًا في ذلك الوقت. فوجئ عُمال النظافة بالفريق يُسارع إلى البوابة الكبرى. يندس الأعوان في تضاعيف المكان، يقلعون أبواب الغرف، يكسرون كاميرات التسجيل، يجذبون خيوط الوصل الكهربائي، يُغادرون المبنى الكبير وقد غلبهم الارتباك. الشمس تسطع مثلما لم تسطع قط. والبحيرة ساكنة لا تتغير. حدث هرج ومرج كبيران، قسم من الخارجين وصل إلى الحافلات، وقسم آخر ارتدّ إلى الخلف، قلعت أجزاء واسعة من النوافذ، كسرت أعمدة بهو الاستقبال، صراخ وسباب. بعد الإحساس بالانكشاف ارتفع الغضب حتى منتهاه أحمرت العيون، انتشر الضباب حول البحيرة، داخل غابة الأوكاليبتوس، وخلف السباخ البيضاء تتخللها شجيرات الشوك، والأدغال الصغيرة، حيث تتكاثر طيور ويرابيع.

في غضون المئتَيْ سنة الأخيرة غادر الشحرور الغابات ليصبح طائرًا مقيما في المدن. انتقل بادئ الأمر إلى انقلترا منذ أواخر القرن الثامن عشر، وصار في [مكان آخر] بعد حوالي عشرات السنين ... وقد يبدو اجتياح الشحرور عالم الإنسان، بالنسبة إلى الكرة الأرضية... أهم من اجتياح الإسبان لأمريكا الجنوبيّة، أو عودة اليهود إلى فلسطين. إنّ التحول في العلاقات بين مختلف أجناس الخليقة (الأسماك، الطيور، البشر، النباتات) هو تحول أرقى درجة من التبدلات في العلاقات بين المجموعات المختلفة من النوع ذاته ... أما الرذاذ فيهفو إلى الأرض حينا بعد حين، يصهب الأرض ومياه البحيرة، ونباتات الشوك الكثيرة المنتشرة في كل مكان. في ذلك المكان غرس عارف الأبكم نظام تلصص جديد.

القائد العام رحيم سويد يُصبح مطمئنًّا، ذهب زمن تقليب الرمل بحثا عن شظية تائهة أو قنبلة مجنونة. رحيم سويد رجل الأحراش يشارك في دورات تكوينية داخل البلاد، يُسهم سرًّا في مراقبة المجموعات الجديدة. رحيم سويد مثل الصقور، ينقض على الفُرصة الملائمة حين تغدو قابلة للقطاف، شبكة علاقاته غنية، يعرف ناسا مؤثرين في كل شبر من أرجاء البلاد الواسعة. قادة المعارضة أيضا من أصحابه. له تجارة واسعة، تبادل الحرير والسلع، بيع سفن السكر قبل قدومها إلى البلاد، المتاجرة في المخدرات. هو قادر في كل لحظة على نسبة هذا القسم أو ذاك –من أقسام شركاته الكثير- إلى واحد من أعوانه بحيث تنتفي الشبهة. رحيم سويد يُولد من جديد. رحيم سويد يُكلف بقيادة العمليات، إخراج آلاف النزلاء والشرط والعسس والحرس السريين والعمال والخدم والمتطرفين... من القلعة الشاهقة نحو أرض الجزر البعيدة. من الصعب أن يبتعد أفراد الفريق عن هذه الطريق! إنما منتهى طلبهم تعديل مشروعهم قدر الإمكان.

أقبلوا على رحيم سويد،وتبنوا رأيه وتشاوروا مع عدد من أصحابه، باستثناء ”جمعية دون كيشوت»، التي سارعت إلى تبديل اسمها، فأصبحت تلقبُ ”بجمعية دون كيشوت الكبرى“. شيئا فشيئا انتقل رحيم سويد إلى الانضمام إلى هؤلاء. اندس أولاً بين الصفوف، ثم بعد تنظيم أول انتخابات، شكلية مثل كل انتخابات، انتقل ليكون رئيسا لها. هكذا تحول الموظفون الإداريون إلى مشرفين على الجمعيات ذات الجدوى التاريخية وجمعية”دون كيشوط“ مسجلة على اعتبارها هكذا! بعد الفراغ من جميع عمليات التفتيش، بعد النزول من الجحيم، يُقبل المكي، رحيم سويد، والمفتش الأبكم على كتابة الفصل النهائي، يجتهدون بإشارة خاصة من سكرتيرة رحيم سويد في عدم الإشارة إلى الانتهاكات السابقة. وما هي هذه الانتهاكات، ماذا يُمكن أن تكون غير تجاوز محدود للقانون هنا، أو ضرب به عرض الحائط هنالك. أما الأخبار الواردة من الشمال، وتلك القادمة من الغرب البعيد فتؤكد أن القلاع الطائرة، وسجون البلاد المنكوبة، كانت جميعها تسير طبقا للنظام المتعامل به زمن الحرب والسلم. لهذا فإن عارف قد واصل الاستناد إلى الصمت القديم، ولزم البيت شهورًا قبل أن يخرج للمشاركة، نزولا من جحيم المنتجع العالي، تحيط به مياه البحيرة... إلى جنة الجزر النائية في ماء البحر أسفل البلاد الكبيرة،وتحت الشارع الفضفاض في خرائط المخبرين. ويبدو ان التقارير الكثيرة التي كانت ترد على منطقة ”القيادة العامة“ كانت أعتى من أن تُعرض على رؤساء المستويات الوسطى.

المتربصون لم يظهر منهم عنصر واحد. الناس في الشارع الفضفاض ينتظرون، قد يحدث انفجار في هذا الزقاق أو ذاك، قد يُغامر شاب في العاشرة بإشعال فتيل، أو إلقاء قنبلة صغيرة على أسرة هانئة على الشاطئ! هذا الوضع مرهق للجميع، ولون الروح صعب، قد يتحول نحو اليمين، قد يتخذ طريق الشمال حينا آخر، لكنه في حالاته كلها لا يُصبح من قبيل ما يُمكن الإمساك به.

أما الشارع الفضفاض فسادر في طريقه، ”ترايتُو“ شاب في الثلاثين، يخطب ودّ الصبايا في الأماسي الحارة بمشروب اللوز الأبيض، يأتي العشاق، يجلسون إلى طاولاته الثلاث قبيل الغروب تحت شجرة الخروب العجوز التي يستند إليها دكانه الصغير. وبما ان ”ترايتُو“ يعرف لغة المشرق، وهو أصيل إحدى بلدان المغرب، فقد امتلأ دكانه بأبناء الجالية الباقية، التي لم تترك الكيان الفضفاض قبيل خمسينات القرن العشرين. ”ترايتُو“ صاحب عبد الرحمان، وأفرام، يلعبون الورق بعد الفراغ من شؤون الدكان، يذهبون أحيانا للمشاركة في بعض المؤتمرات الداعية إلى التقارب بين العائلات. لا توجد فوارق تُذكر بين هؤلاء السائرين في الشوارع الفضفاضة والكائنات السابحة داخل مياه البحيرة، أو الزاحفة فوق الرمل تهيم في  الشوارع الجانبية، ثم تعود إلى مستقرها هادئة. حين يمتزج الضبابُ بشُعاع الشمس الطالعة تُصبحُ الأرض مجرد حقل، ضئيل جدا، من حقول التجارب ذات الجدوى المستقبلية. السباخ تهجر ملحها، غابات الأوكاليبتوس تُبعد طيورها، المحبة تترك قلوب البشر.

المشاهد الفظيعة مجرّد ادعاءات في ذهن أصحابها، قد تكون مشاهد مبالغا فيها، بل إنها قد تكون من قبيل ما لم يوجد بعد. بين الواقع والممكن فضاء شاسع من الظن والتخمين، الرفاق القدامى يغيرون عاداتهم، يتعرفون على السكان الأصليين، يسيرون فوق الرمل على غير هدى. رجال ونساء وأصوات أطفال.

ـ ما أحر الرمل؟

ـ بل ما أحر وقع أقدامنا في الرمال

ـ الجو معتدل

ـ لو نعود إلى أيام المنتجع الكبير

ـ هذا ما لا أمل فيه، انتهى الآن كل شيء!

المكي جالس تراوده أحلام ملونة، الشمس تُرسل شعاعها الخالد عبر زجاج النوافذ المغلقة، والنارجيلة على يمينه ينبعث منها شذى لطيف. رحيم سويد متكئ على أريكة جانبية يستعرض مشاهد الجزيرة، غير البعيدة عن الشارع الفضفاض، الملف رقم 7 والملف رقم 16 استرعيا انتباهه، كانا مليئين بصور النساء المشبوحات، أو قل بصور امرأتين مشبوحتين، واحدة في الخامسة والثلاثين، والثانية في الخامسة والأربعين، فيما يثبته التقرير. والملاحظ أنّ كل عمليات الترصد والتلصص قد أفضت إلى تنزيه جميع المتهمين والمتهمات.

الملف الأول يتضمن ذكرًا لبلاد الدانيمارك، ثم قائمة فيمن يزروها من السياح وغيرهم من الأهالي. كما يتضمن فواتير خلاص النزل، وهي التي تحمل الإسم الكامل، وتشير إلى عدد الليالي في الصحراء، جنوب البلد الكبير. لكن يبدو أنّ هذا لم يسترع انتباهه، ركّز في خمسة عشر صورة تبدو فيها أغاتا كومنتي رَشُّو في أوضاع مختلفة، منها المكسوة تماما. ويبدو أن إحدى هذه الصور الشمسية قد استرعت انتباه رحيم سويد، وأكدت رغبته في المعاودة، وكانت تبدو فيها المرأة –ذات الجمال المتوسط- عارية تماما، وقد وضعت فوق ظهرها شالاً قصيرا وهي تُقدم مؤخرتها المكشوفة إلى الكاميرا عن غير قصد. جنّنه المشهد، ألقى ببقية الأوراق إلى أعوانه طالبا التحرّي، وأخذ يُقربُ الصورة من عينيه ويُبعدها، يغيّر زاوية النظر، يقلبُ الورقة، لكنه لا يرتوي، لا يصلُ بَرَّ الأمان ... كان ردفها مرتفعا بحيثُ أنّ من يتخيل أنامله تمتدّ للبحث عند ملتقى الوركين يُمكن أن يشعر بمرارة اللذة فوق لسانه!

هكذا بقي رحيم سويد ملقى على شاطئ الرغائب المفضوحة، في طريق بحثه استقبل عارف، والتقى بالمكي من جديد، أكدا أنهما غير موافقين على نظرية المؤامرة، وألحا على أنّ الجزيرة سليمة تماما من المهاجمين وأنّ الخالق وحده هو القادر على معرفة ما يكون. فلون الروح لا يختلف من شعب إلى شعب، ومنتهى ما هنالك أنه قد يتلبد ببعض الغيوم هنا أو يتخذ شكلاً مغايرًا هنالك، دون أن يتبدل تماما. المسؤولون يخافون الأحداث البعيدة التي يُمكن أن تهز الناس الآمنين داخل نفق الميترو أو في كنيسة هادئة صباح الأحد، أو مسجد تعفرت جدرانه بالتراب والطين. لكن هذه الحوادث البعيدة تبقى من قبيل الظن والتخمين، لا أحد يهاجم، لا أحد يموت كل الناس ينتظرون، البيعات تنتظر.

في هذا الخضم الذي لا حدود له يسأل عارف الأبكم؛ ما لون الروح، في الجزيرة جنوب الصحراء، غير بعيد عن البحار الكبرى الممتدة لسانا من لهب في أرض الشوارع الضبابية، في المجتمعات الفضفاضة غير البعيدة، في أوروبا، في القلاع الحصينة فوق الجبل الأسود، على متن هذه الطائرة أو تلك: لا وجود للون يختلف عن الآخر. الروح لا لون لها! تمحى كل المشاهد من الذاكرة ليبقى مشهدان متراكبان، الأول نابع من تلك النوادي في شوارع المدن الحديثة المتخصصة في استقبال مشاهد الانترنيت، مع كل ما يصحبها من أسرار، والثاني من قبيل الصور الذائعة في كل مدن العالم ... حيث يبدو الناس وقد ألصقوا بآذانهم أجهزة هواتفهم النقالة، مستفهمين عن لون الروح! المسألة معقدة جدا...

الإحالات تخص هذه الأعمال :

 ـ كتاب «الشعب في الشّارع» تأليف ليندا غرانت.

ـ ميغال دي سرفنتيس، دون كيشوت.

ـ خورخي لويس بورخيس ومرغريتا غيرّيتو من "كتاب المخلوقات الوهمية".

ـ راضية والسيرك، صلاح الدين بوجاه.

ـ كونديرا، كتاب الضحك والنسيان.