توشك هذه القصة للكاتب المصري الذي نشرت له (الكلمة) من قبل أن تكون بنت ألاعيب الذاكرة، ولوعة التأسي على اللحظات المفقودة والفرض الضائعة.

ذات الأحفاد

عبدالرشيد الصادق محمودي

 

أمرت السائق أن يهدئ السير ويدور حول القصر. ولما بلغنا البوابة هبطت لأتأمل المبنى القديم. النافورة ما زالت قائمة بالقرب من البوابة. وها هما تمثالا الأسدين الرابضين. والقصر مظلم. من الواضح أنه مهجور. هل كان مهجورا أم مسكونا عندما جئت هنا أول مرة؟ لم أعد أذكر. وقلت للسائق أن ينتظر حتى أعود، وسرت فى الشارع الرئيسى فرأيت أن كل شئ قد تغير. لماذا أصبح الشارع أضيق مما تصورت؟ ألأنه امتلأ بالسيارات المصطفة على جانبيه؟ كان شارعا سكنيا فأصبحت الطوابق الأرضية فيه تحتلها المحال التجارية. والبيوت الصغيرة ذات الحدائق زالت لتحل محلها العمارات. ولكن ما زالت هناك بقية من الأشجار. أما البيت الذى كنت أبحث عنه فلم أجد له أى أثر.

وتوقفت أمام إحدى العمارات. لعل البيت كان هنا. ها هنا فيما يبدو كان بيت صغير من طابق واحد تحتله شقة واحدة لها شرفة منخفضة مطلة على الشارع وحديقة مظلمة لها سور حديدى وباب ضيق. ومن هذا الباب تسللنا واخترقنا الحديقة بسرعة فى اتجاه الشقة. كانت درجات السلم الخمسة تؤدى إلى غرفة الجلوس ذات الشرفة. ولكن كل ذلك قد زال. هناك الآن عمارة شاهقة الارتفاع أشعر بدوار كلما رفعت عينى لأعد طوابقها. أم أن شعورى بالزمن الذى مر هو سبب الدوار؟

كانت الليلة رأس السنة. وعلى تلك الناصية فى مواجهة القصر وقفت أنتظر رضا وقلبى يخفق بشدة. كان قد أخبرنى قبل الموعد بساعات أنه هو وزميلان له يريدون الاحتفال فى شقته. "حفلة على الضيق. بعض المزات وسجائر وزجاجة روم براميلى". قلت: "الأكل لا يعنينى. ما يعنينى هو العدد. أنتم ثلاثة لا غير. أليس كذلك؟" فأقسم بالله العظيم أن العدد لا يتجاوز ثلاثة. واتفقنا على الأجر: خمسين قرشا للشخص. وقلت له إننى سأقبض الأجر عن كل واحد فور دخوله علىّ؛ فوافق. كنت قد تعاملت مع رضا مرتين قبل ذلك؛ وعاملنى معاملة حسنة. ففى المرتين دفع الأجر بسهولة وأعطانى علبة سجائر بلمونت خارج الحساب. وفهمت منه أنه كان ميسور الحال. أبوه العمدة يرسل إليه عشرة جنيهات كل شهر عدا إيجار الشقة. وكان رضا يضحك ويقول: "عشرة جنيهات خبطة واحدة: مرتب موظف فى الدرجة السابعة. رغم أننى أعيد التوجيهية للمرة الثالثة. ولكننى آخر العنقود وحبة عين أمى" وكان أشقر أزرق العينين يتهدل شعره على الجانب الأيمن من وجهه فيغطى خده. وكان دائم الضحك والتنكيت.

تسللنا إلى داخل الحديقة المظلمة كما أراد رضا حتى لا تتنبه زوجة البواب "الشلق" وصعدنا درجات السلم على أطراف أصابعنا. ووجدنا فى انتظارنا شابين يدخنان بالقرب من الشرفة. وكان كل شئ كما وصف رضا. فعلى المائدة فى وسط الغرفة رأيت الطعام والسجائر وزجاجة الروم. وسألته: "من الأول؟" فرمق زميليه قبل أن يضحك: "أنا بطبيعة الحال" وبعد أن خرج رضا بربع ساعة جاء دور الشاب الثانى، وسارت الأمور حسب الخطة. وأصبح معى إذن جنيه كامل، ولم يبق إلا الزبون الثالث ونصف الجنيه الأخير. وسمعت رضا يناديه باسم "شحته". فلما دخل شحته علىّ ألقى سيجارته على الأرض وداس عليها بعصبية. وخلع قميصه فلاحظت كيف كان قويا عريض الكتفين غزير شعر الصدر. ولكنه كان متوترا. وقال: "افتحى ساقيك" وأصابنى نفور منه. وكلما زادت خشونته اشتدت مقاومة جسمى له. ولعلنى تخشبت. ثم دب الشجار بيننا. وظهرت بوادر العنف على وجهه عندما رآنى أهم بارتداء ملابسى الداخلية. فلم آبه له. وعدت إلى غرفة الجلوس وهو يسب ويلعن.

قال رضا وهو يضحك: "يا جماعة هذه ليلة مفترجة. وليس هناك داع إلى النكد" وأخبرته همسا أن صديقه بعد أن انتهى صار يطالب بدور ثان. قال: "أعطه دورا ثانيا فى هذه الليلة المباركة" قلت: "ليس هذا ما اتفقنا عليه" وتدخل شحته ليقول إن "بنت الكلب" كانت السبب فى انتهاء العملية بسرعة، وإنه "لم يأخذ حقه." وكدت أوافق إرضاء لرضا، ولكنى تنبهت فجأة إلى أن فى الغرفة أربعة شبان آخرين لا يستطيع بعضهم إخفاء تأهبه انتظارا لدوره. قلت لرضا: "ليس هذا ما اتفقنا عليه." وبان عليه الحرج. وعندئذ تدخل الشاب صاحب الدور الرابع. قال: "الليلة هى رأس السنة. كل سنة وأنت طيبة. وستحصلين على الخمسين قرشا من كل واحد حسب الاتفاق." ولكننى رفضت. وبدا شحته متحفزا. وهمس الشاب فى أذنى: "شحته صعب. رئيس فريق الملاكمة فى المدرسة." فصحت: "لن أقبل." وقبض شحته على ذراعى بقوة فتملصت منه.

وأصابنى الرعب. واتجهت دون تفكير إلى شاب هادئ كان يجلس فى الركن وحده. وجلست إلى جانبه. وحاولت أن أشرح له فقال: "أنا أفهم ما حدث." كان نحيلا شاحب الوجه وكان يدخن بشراهة. وقال: "الخطأ خطأ رضا. أخبرنى عندما دعانى إلى هذا الحفل أننى سأكون واحدا من ثلاثة. ثم آتى إلى هنا فأرى أننا سبعة. غير معقول." وتوسلت إليه: "أرجوك. أنا لا أستطيع تحمل هذا العدد. ثم هذا الحيوان شحته." وهز رأسه: "هذا الحيوان شحته." وأعطانى سيجارة: "دعينى أفكر." وقال: "شحته هو المشكلة. هو مصدر الخطر الآن. فهو ليس غاضبا منك بقدر ما هو ناقم على نفسه. إنه يشعر بالإحباط لأنه لا يكاد يلمس امرأة حتى يفقد القدرة على التحكم فى نفسه. مسكين. لذلك يريد أن يحاول مرة ثانية." قلت: "والآن ما العمل؟" قال: "أنا شخصيا منسحب. لا أريد منك شيئا. ولكن لماذا لا تحاولين استرضاء شحته على الأقل؟ لا يغرك طوله وعرضه، فهو طفل فى الحقيقة. ولن يستغرق الأمر أكثر من دقيقة." قلت: "لا أطيقه. سأتقيأ إذا لمسنى."

ووضعت كفى على ساقه وأخذت أدلكها: "أتوسل إليك أنقذنى منهم. اخرج بى من هنا، وسأذهب معك إلى أى مكان تريده، ولن أطالبك بأى أجر. سأقضى معك الليلة إذا أردت مجانا. فقط اخرج بى من هنا." وشد نفسا طويلا من سيجارته: "سأحاول. ولكن ليكن فى علمك أنهم يمكن أن يعتدوا عليّ بالضرب أنا نفسى. إذا حدث ذلك فسيرغمونك على ما يريدون."

وأطفأ سيجارته ونهض. وقال لرضا: "إذا لم تدعوا هذه البنت وشأنها فسأذهب إلى البلد وأخبر عمى العمدة بكل ما حدث. وليكن ما يكون." قال رضا: "يا خليل يا ابن اللئيمة. أهكذا تغدر بى؟" وصاروا جميعا يهمهمون واشتد اللغط. وتوجه خليل إليهم جميعا: "سأخرج مع هذه البنت. وإذا أراد أحد أن يعترض طريقنا فلا بد أن يتعارك معى." هل انكمشوا عند سماع هذا التحدى؟ ذلك ما تخيلته أو تمنيته. إلا شحته: بدا وكأن الشرر يتطاير من عينيه، وكانت عضلاته متقلصة. وسار إليه خليل. ووضع يده على كتفه: "ألسنا أخوين؟" قال شحته: "أنت ابن شرموطة." قال خليل وكأنه لم يسمع السباب: "ألم نتعاهد ذات يوم؟ ألم تقل لى إنك ستكون دائما إلى جانبى تناصرنى وتدافع عنى فى أى شجار مع أى إنسان؟" قال شحته بجفاء: "ولكنك تتدخل الآن فيما لا يعنيك؟" قال: "كيف لا يعنينى الأمر وأنا أخوك. الذنب ليس ذنب هذه البنت، وليس ذنبك. رضا هو الذى أخطأ. وقد قررت أن أخرج مع هذه الفتاة دون أن يمسها أحد منكم. فهل تريد أن تتشاجر معى؟" قال شحته: "ولكنك أنانى تريد أن تنفرد بها." قال خليل: "سأعوضك عنها. إليك الفلوس التى دفعتها. ولم تضع لك أى حقوق إذن." واسترخت عضلات شحته، ولكنه لم يهدأ تماما إلا عندما وعده خليل بأن يذاكر معه الجبر والهندسة كجزء من التعويض. ولف يده حول كتفه وقبله على خده.

وسرت فى الشارع متشبثة بذراع خليل. كنت فخورة به. وأوضح لى أن رضا وشحته كانا زميليه فى المدرسة الثانوية، ولكنه انتقل إلى الجامعة وتركهما يعيدان التوجيهية سنة بعد أخرى. وتوقفنا عند إحدى العمارات. قلت: "أين ستذهب بى؟" قال: سنصعد إلى الطابق السادس. أنا أقيم مع عمتى وزوجها. وهما ينامان مبكرا. ولكن لا بد من الهدوء."

وفى غرفته قال: "لا بد أن نتعشى." وكنت أفضل أن أعطيه "مكافأته" وأنصرف؛ ولكنه أصر على أن نتناول العشاء لأنه فيما قال جوعان. وعند عودته ببعض المأكولات قال: "طعام لا يصلح للاحتفال، ولكن هذا هو كل ما وجدت فى الثلاجة. أما عن المشروبات، فأنا آسف. الخمور لا تدخل هذا البيت." وحدثنى عن الروم البراميلى فقال: "لقد جربته. شراب مقزز. يخيل إلى عندما أشربه أننى أضع فى جوفى ماء نار."

وبعد العشاء شربنا الشاى دون أن يحدث شئ. قلت: "ألا تريد أن تأخذ حقك؟"
 قال مندهشا:

ـ أى حق؟
ـ أعنى ألا تريد أن تنام معى؟
فضحك:

ـ تعنين ذلك؟ أنت لست مدينة لى بشئ. تستطيعين أن تنسى الموضوع تماما.
وشعرت بالغيظ. قلت:

ـ ألا ترغب فيّ؟ ألا أعجبك؟
قال:

ـ لا أريد ذلك.
ـ ولكنك أنقذتنى منهم لكى تنفرد بى.
ـ هذا ما قاله شحته. ووافقته لأنه لم يكن ليفهم غير ذلك. الحقيقة هى أننى أردت فقط أن أخرج بك من ذلك المكان.
ـ فلماذا أتيت بى إلى مسكنك؟
قال بعد فترة من الصمت:

ـ لأنها ليلة رأس السنة، ولا أريد أن أقضيها وحدى. هل لديك مانع؟
ونظرت فى الساعة:

ـ الوقت قد تأخر، ولا أعرف كيف سأعود إلى بيتنا.
ـ هذا صحيح. فات موعد الأوتوبيسات. ولن تجدى هنا سيارة أجرة بسهولة. ولكن إذا كنت حقا تريدين الذهاب، فسأصحبك إلى الميدان القريب. قد نجد وسيلة مواصلات هناك.
ولكننى كنت أريد أن أبقى معه. وقال:

ـ إذا قضيت الليلة هنا، فلن يكون باستطاعتك الخروج قبل السادسة والنصف صباحا. عمتى وزوجها يستيقظان فى الخامسة والنصف، وتبقى الأنوار مضاءة حتى يخرج زوج عمتى إلى العمل. وعندئذ تعود عمتى إلى فراشها فلا تنهض قبل منتصف النهار. وتستطيعين الذهاب دون مشاكل فى أى وقت فيما بين السابعة والنصف والحادية عشرة. ولكن علينا أن نلزم الهدوء التام وخاصة فى فترة استعداد زوج عمتى للخروج.
وكان سرير خليل يحتل الجزء الأكبر من الغرفة فلا يشاركه فيها إلا مكتب صغير ومكتبة صغيرة وكرسى واحد. وقال:

ـ سأنام هنا على الحافة. وستنامين أنت فى الداخل.
فلما رأيته يضع وسادة طويلة فاصلة بين مكانى من السرير ومكانه، عاد لى شعورى بالغيظ:

ـ ولماذا هذا الفاصل؟ كأنك تخاف أن يلمس جسمى جسمك؟
ـ هناك أكثر من سبب. أولا أنا لم أضاجع مومسا قط.
"مومس؟" كان للكلمة وقع جارح على نفسى. قلت:

ـ أنت كذاب ومنافق. لماذا ذهبت إلى شقة رضا وقبلت أن تقف فى ذلك الطابور؟

ـ زين لى رضا الموضوع. قال: "لا يمكن أن تقضى ليلة رأس السنة وحدك، وقد آن الأوان لكى تجرب". ورغم أننى لا أحرص على الاحتفال برأس السنة، فقد خيل إلى أننى إذا لم أنضم إليهم فسأعانى بالفعل من الوحدة. وقلت لنفسى: "ولم لا؟ آن الأوان لكي أجرب". ولكن ألم تلاحظى كيف كنت منهارا فى ركنى؟ كنت أرتعد رعبا. كنت أشعر بالخوف من مواجهتك عندما يأتى دورى. وقد حمدت الله لأنك تمردت عليهم قبل أن يأتى. وإذا كنت أنقذتك منهم، فقد أنقذتنى أنت من ذلك الموقف الصعب. وليس هناك إذن دائن ولا مدين.

وكان يرقد مديرا ظهره لى عندما قال:

ـ وأنا أعيش قصة حب.
ـ وأين هى حبيبتك؟ ألا يحدث بينكما شئ.
ـ لا شئ غير القبل.
ـ حب رومانتيكى كما يقولون. ولا بد أنكما تعاهدتما على الإخلاص.
ولكن يبدو أنه لم يلاحظ نغمة السخرية. وواصل الحديث:

ـ تعاهدنا على الإخلاص. ولكننى عندما ذهبت إلى شقة رضا كنت أريد أن أخونها. خيل إلى أن أفضل طريقة لإنهاء العلاقة إلى الأبد ، للتخلص من حبها، هى أن أخونها بطريقة شنيعة.
ـ ولماذا تريد أن تنتهى من حبها؟
ـ لأنها تسكن بالقرب من هنا وحبها يسيطر على حياتى.
قلت:

ـ قريبة؟ أين هى إذن؟
ـ تسكن مع أهلها بالقرب من القصر. غير أن أهلها رفضوا أن يزوجوها لى.
وبدأ يضحك:

ـ وهى قريبة إذن ولكنى لم أعد أستطيع الاقتراب منها. أردت أن أخونها حتى أتخلص منها. ولكننى فشلت كما ترين.
قلت: "كلا لم تفشل". وعبرت إليه الوسادة عارية، فتملص برفق. وقال: "إلزمى مكانك، الله يهديك." فعدت إلى مكانى من الفراش وأنا حانقة عليه. وتهيأت للنوم لولا أنه قال فجأة:

ـ كيف بدأت هذه الـ... هذه الـ... مهنة؟
ـ أنا يتيمة من أسرة فقيرة، وقد اعتدى على زوج أمى، فاضطررت إلى ترك المدرسة والهروب من البيت. والبقية كما تعرفها ... ووجدت عملا فى مكتبة بشارع الفجالة؛ وهو موقع مناسب لأنه قريب من شارع الملكة، حيث أسير آخر النهار فى انتظار من يطلبنى. وهناك التقيت برضا لأول مرة. وبالمناسبة ابن عمك رضا ظريف وأنا أستلطفه، ولو أننى التقيت به فى ظروف أخرى لوقعت فى حبه.
قلت ذلك لأثير غيرته، ولكنه لم يأبه لذلك:

ـ إنه ليس ابن عمى. عائلتى تقيم فى عزبة تابعة لعزبة أبيه العمدة. وكل شبان الناحية يطلقون على أبيه صفة العم. والآن إلى النوم. تصبحين على خير.
ولكنه لم ينم. فبعد قليل استأنف الضحك:

ـ عندما أخبرت العمدة برغبتى فى خطبتها قال: "لأهل الفتاة أرض فى الجيرة؛ وكان أبوها رحمة الله عليه من أصدقائى. وحاجتنا مقضية بإذن الله. فإخوتها لا بد أن يكونوا من خيرة الناس." وقرر العمدة أن يحسم الأمر على طريقته. فلم تشرق شمس الصباح حتى كان على متن مهرته مرتديا الجبة والقفطان وممسكا بمنشته ذات المقبض العاجى، بينما كنت ألهث خلفه على ظهر حمار على السكة الزراعية. وركبنا القطار المتجه إلى القاهرة. وقابلنا أخا الفتاة الأكبر وأمها. وأفاض العمدة فى الإشادة بالوالد الفقيد والترحم عليه، قبل أن يدخل فى الموضوع: "خليل هذا ولدى وهو أمانة فى عنقى بعد أن انتقل أبوه إلى رحمة الله. شاب فاضل متفوق فى دراسته لا تفوته صلاة. لذلك جئنا نطلب القرب منكم، ونطلب له يد كريمتكم. أما عن المهر فهو كما ترون، ونحن مستعدون وأنا متكفل بكل شئ بإذن الله." ولكن العمدة خرج من القصر وهو يضرب كفا بكف لأن طلبه رفض بأدب. قال أخوها إن البنت مخطوبة لأحد أقاربها منذ أن كانت فى السابعة من عمرها. ثم انتاب العمدة فى طريق العودة ما يشبه الذهول. فلما امتطى مهرته تنفس الصعداء وقال: "لا حول ولا قوة إلا بالله. إنهم يكذبون. لقد عرفوا أنك ابن رجل فقير، ولم ترث من الأطيان مثل ما لديهم."

وخيل إلى من صوت تنفسه أنه بدأ ينام. فلمست كتفه:

ـ أنت تعتقد أننى غير نظيفة. أليس كذلك؟
فمد يده عبر الوسادة:

ـ هات يدك.
وقبض على كفى. وكان يتثائب عندما قال:

ـ قصة عمك الذى اعتدى عليك تبدو لى مختلقة.
قلت:

ـ فإذا أخبرتك أن بداية قصتى كانت عملى كموديل لطالب فى كلية الفنون الجميلة ووقوعى فى حبه، فهل تصدقنى؟
ـ أنت على أى حال ما زلت مبتدئة فى هذه المهنة، وباستطاعتك أن تتركيها. 
وعلى ذلك الوضع نمنا. ولكننى شعرت فى الصباح وأنا بين النوم والاستيقاظ أن هناك من يراقبنى. فلما فتحت عينى وجدته جالسا على المقعد فى مواجهتى. قلت:

ـ لماذا تحملق فيّ؟
ـ كنت أتأمل ملامحك وأنت نائمة. لم أكن أدرك أنك جميلة إلى هذا الحد.
ولما هم بالنهوض لإحضار الإفطار قلت له:

ـ أنا لا يعنينى الإفطار. تعال واجلس هنا إلى جانبى.
فجلس على حافة السرير. قلت:

ـ هل أنت متأكد أنك لا تريد شيئا منى؟
فأخذ يمسح بكفه على رأسى:

ـ أتمنى أن آخذك فى حضنى ولكنى لا أستطيع. أنا آسف.
ونهض.
وسألته ونحن نشرب الشاى:

ـ ما رأيك فى أن نلتقى ثانية؟
ـ وما جدوى ذلك؟ لقد شرحت لك موقفى؟
ـ أعنى أن نلتقى كأصدقاء.
ولكنه لم يكن متحمسا للفكرة. قلت:

ـ لماذا لا تعاهدنى كما عاهدت شحته؟
ـ شحته؟ وعلام أعاهدك؟
ـ أن تعاملنى كابنة عم؟
فضحك، وقال:

ـ هذه أعمال مراهقين. كنا فى المدرسة سويا. وكان شحته أقوى الطلبة، وكنت أنا أذكاهم. فتعاهدنا: أنا أساعده فى المذاكرة، وهو يدافع عنى فى أى معركة. وهو طيب القلب فى أعماقه، وما زال كما رأيت محافظا على العهد.
قلت:

ـ إذا تعاهدنا لن أطلب منك الكثير. أريد فقط أن نلتقى بين حين وآخر فنذهب إلى السينما، أو تشترى لى جيلاتى فى أحد الكازينوهات المطلة على النيل.
ووافق. وشرحت له كيف نحدد موعدا للقاء:

ـ تأتى إلى شارع الفجالة قبل السابعة مساء بقليل فى يوم الاثنين أو الخميس. وتمر بباب المكتبة التى أعمل بها أو تقف أمام البترينة وتتظاهر بأنك تتفرج على ما فيها حتى ألمحك. وبعد ذلك تنتظر خروجى على الناصية المطلة على باب الحديد.
قال بعد تردد:

ـ الاثنان والخميس فقط؟ ما شاء الله. ماذا يحدث لو أتيت ووجدت رضا فى انتظارك أيضا.
ـ رضا حبوب. ولن يحدث نزاع بينكما. يستطيع أحدكما أن يتنازل للآخر. فإذا تنازلت أنت لقيتك فى الاثنين أو الخميس التالى.
واحتضنته وقبلته:

ـ أعتقد أنك تفهم الآن. صداقتى لن تكلفك الكثير. فهل تعاهدنى؟
ـ أعاهدك.
وتصافحنا تأكيدا للعهد.

وسرت عائدة نحو الميدان الذى يتوسطه القصر. كيف عرف خليل أن القصة التى رويتها له عن بداية عملى كمومس كانت مختلقة؟  كان "ابن لئيمة" بالفعل كما وصفه رضا. لم يكن وسيما، ولا خفيف الظل مثل "ابن عمه"، بل لعله كان أقرب إلى الدمامة. ولكنه استرعى انتباهى منذ رأيته لأول مرة. وما زالت صورته وهو جالس وحده واضحة فى ذهنى كأنما حدث كل ذلك أول أمس. ولكن الزمن مر بسرعة. وقد وقعت منذ تلك الفترة أحداث كثيرة. اختفى رضا من حياتى بعد سنة تقريبا. اختفى فجأة كما ظهر فجأة. أما خليل، فلم يأت قط إلى شارع الفجالة، ولم يصطحبنى إلى السينما، ولم يشتر لى جيلاتى. وأنا اليوم عجوز ذات أحفاد.