تكشف هذه المراجعة لرواية الكاتب الألباني الشهير اسماعيل كاداريه قدرة الفن الروائي على الحفر في اغوار الواقع، وأركيولوجيا النفس البشرية، واستشراف المستقبل في آن.

إسماعيل كداريه في روايته الملف ه

الألبان وحكايات البلقان والتنبؤ بما حصل في كوسوفو

محمد بنعزيز

يحتاج قارئ كاداريه للتوقف بين حين وآخر لهضم ما يقرأ، ولا يرجع عسر الهضم هنا إلي صعوبة الرواية بقدر ما يرجع إلي الدهشة: كيف يؤاخي الأسطورة والتاريخ، الماضي والحاضر، النقد والهواجس، الواقع والنبوءة، التاريخ والسياسة، الرواية والملحمة؟! ورواية )الملف هـ( خير نموذج لهذا الدّوار السردي/ الثقافي/ السياسي، لأنها تتنبأ بما يقع الآن في كوسوفو) لقد كانت الحرب مصيرية ص103(1). ولأنها كذلك فإن كل سيناريوهات السلام تبقي مهددة بالعداوة التاريخية التي تجمع الأطراف في البلقان.

تتخذ الرواية صورة بحث أكاديمي رصين ـ يوجد علي تخوم الثقافة والسياسة ـ ينجزه إرلنديان لطرح ملف قديم (المسألة الهوميرية) وفق رؤية جديدة تحتكم إلي وسائل تجريبية لإثبات النتائج، أي أن البحثَ ميْداني، ويشكل الوضع في ألبانيا (شخصية نائب الوالي، زوجته، المخبر، الزاهد، العلاقات الاجتماعية...) إطارا عاما للأحداث التي تدور في فترة ما قبل المرحلة الشيوعية، لأن الكاتب لا يمكن أن ينسب الفساد والجهل إلا للماضي ـ قبل الثورة ـ وإلا سيتعرض للمطاردة دون أن تري أعماله النور. فمن هو H؟ ولماذا يضع له المؤلف ملفا؟ ألا يتعلق الأمر برواية بوليسية خاصة وأن كاداريه قد عايش القمع في ألبانيا وعرف برودة المنفي؟(2).

تتحدث الرواية عن رحلة (ماكس روث وويلي نورثن) إلي هارفارد لإنجاز أطروحة عن هوميروس: هل كان فعلا مبدع الإ ليادة والأوديسة أم مجرد محرر؟ كيف تمكن من تحرير الملحمتين الإليادة والأوديسة وليس لديه لا وثائق ولا كتب ولا آلات تسجيل وفوق ذلك أعمي؟ هل كان هناك هوميروس واحد أم أكثر؟... ولم يكن الباحثان يطمحان لتحقيق معجزة لأن الموضوع قد استهلك. ولكن أحدهما سمع صدفة حوارا إذاعيا عن المسألة الهوميرية مفاده أن هناك منطقة معزولة في البلقان يُفترض أن تبقي فيها التقاليد الملحمية حية، وقد قرر الإرلنديان السفر بسرعة إلي هناك لدراسة الموضوع عن كثب قصد إضافة شيء جديد للمسألة العتيقة علي الأقل، ولم لا وقد استعصى الحسم فيها ميدانيا؟  قبل السفر درسا الألبانية واشتريا آلة تسجيل اخترعت حديثا (تتخذ أحداث الرواية الثلاثينات من هذا القرن زمنا لها)، وهنا تبدأ مشاكل السفر إلي تيرانا، لأن قنصلية ألبانيا في واشنطن تتعامل مع الإرلنديين كجواسيس منذ البداية، لهذا تُرك الموضوع لوزير الداخلية، ويسخر هذا من موظفي الخارجية المثقفين دون فاعلية لأنهم يهتمون بالمحاضرات والكلام فقط، أما عندما يتعلق الأمر بالأمور القذرة فإن السيد الوزير يفتخر لأنه يكون ملجأ الجميع ص 11.

واستباقا لكل مشكلة حرر الوزير رسالة وجهها الي نائب الوالي في مدينة (N) النائية يأمره فيها بمراقبة الإلنديين بدقة من جهة وجعلهما يحسان كأنهما في بلدهم ومنازلهم من جهة أخري. وصلت الرسالة إلي النائب، تفحص الظرف جيدا لأنه يعرف ـ بالخبرة التي راكمتها الممارسة البيروقراطية ـ أهمية الرسالة من قوة وضوح الخاتم، وكان وزير الداخلية قد طبع بقوة. قرأ النائب الرسالة وأخبر زوجته ديزي المصابة بملل الأغنياء. سرت المدام بالخبر لأنه ينقذها من الروتين والحرمان الذي تعاني منه في منطقة معزولة، وقامت ـ فورا ـ تعد نفسها لاستقبال الضيفين الذين تصورتهما شابين، استلقت في حوض الماء الدافئ بالحمام ومضت تحاول تصور شكليهما بتأمل أسمائهما، تفضل روث، ولكن ماذا لو أحبها ويلي؟ ستلعب علي الغيرة، ولايقلقها إلا أن زوجها عاقر، فإذا حملت سيفضحها طبيب المدينة الوحيد لأنه يعرف عقم زوجها!

بعد متاعب عديدة وصل الباحثان إلي فندق (N)، وليلة الوصول وجه لهما النائب دعوة لحضور حفل استقبال علي شرفهما وبعث مخبره ليفتش حقائبهما ويستنسخ كل أوراقهما. وفي اليوم الموالي سافرا بعربة تجرها الخيول إلي المكان الذي يقصدانه، بناء علي قول الباحث في الإذاعة يوجد في شبه جزيرة البلقان، ويغطي كل ألبانيا الشمالية، ويضم أيضا قسما من الجبل الأسود ويمتد حتي بعض المناطق البوسنية بالتراب اليوغسلافي ص 56. مكان بين شقي الرحي، معزول تحاصره الجبال وهو ما يهم الباحثين لأن المكان المعزول يحافظ علي خصائصه الأصلية ولا يتعرض لمؤثرات خارجية قوية.

وصل الإرلنديان إلي فندق قديم يدعي عظم الجاموس وكان المخبر دول في استقبالهما، وهو مخبر نادر، يحب مهنته ويُنَظِّـر لها، إذ يميز بين المراقبة بالأذن والمراقبة بالعين. يقصي العين لأنها لا تصلح في مجتمع لا يتواصل فيه الناس بالكتابة، ويعتبر المراقبة بالأذن أنجع في مجتمع أمي يتواصل أفراده شفويا فقط، بل يعتبر التجسس فنا سمعيا، لذا يفحص أذنيه دوريا لتلافي الخطأ! وسيواجه هذا المخبر مشكلة خطيرة لأنه لايفهم الأنكليزية وهو ما سيضطره للقيام بمراقبة صـمـاء طيلة المدة التي سيختفي فيها بالسقف الخشبي بغرفة الأرلنديين بالفندق. وقد قرر دول أنه لابد من استقدام مخبر يتقن الانجليزية من العاصمة مع أن وزارة الداخلية تشتكي من نقص خطير في هذا النوع من الأطر، وقد أُرسل مخبر يعرف الانكليزية ويتمتع بفتنة وهيبة مدهشة ستقود إلي وقوع المتوقع!

دخل الأرلنديان غرفتهما و بدآ ـ دون تأخير ـ دراسة أوراقهما وبحث فرضياتهما: ها هم أخيرا في أرض الملحمة، يتساءلا ن: كيف ينكب الدارسون في منهاتن وباريس ودبلن علي مناقشات عقيمة، دون أن يفكر أحدهم بالقدوم إلي هنا ليحلل ويدرس إواليات إنتاج الملحمة المستمر؟ ص57 ليحل لغز هوميروس ميدانيا من خلال الاستماع الي الرواة المنشدين Les rhapsodes ، وتسجيل أصواتهم ثم إعادة التسجيل بهدف المقارنة بين التسجيلات، خاصة وأنه قد أثبت باحثون سابقون استحالة أن يتمكن أي منشد من إعادة نفس المقطع (2000 بيت مثلا) حرفيا، وهنا تدخل إوالية النسيان mecanisme de l'oubli. ويتساءل الباحثان عن طبيعة هذا النسيان، هل هو إرادي أم لا؟ ويفترضان أنه قد يكون إراديا أحيانا من أجل فسح المجال لإبداع جديد، وهو ما يفسر دخول أحداث معاصرة إلي الملحمة. ولدراسة لعبة النسيان والتذكر يعتبر الباحثان أن عملهما لن ينجح إلا إذا سجلا صوت المنشد الواحد مرتين علي الأقل، ثم قارنا بين التسجيلين، مما سيساعدهما علي رصد الثابت والمتحول في مسار الملحمة الشعبية الشفوية، والمقارنة هي جوهر البحث الذي يعملان فيه. وبينما يجتهد الإرلنديان ليل نهار للحسم في المسألة الهوميرية، يجزم النائب ـ الذي يتلقي تقارير يومية عنهما ـ أنهما جاسوسان وما هوميروس إلا ذريعة. ويصور كادريه من خلال تركيزه علي النائب فساد الطبقة الحاكمة. ويقدم لنا ألبانيا(3) : بلاد صغيرة، شعب عريق، تاريخ مأساوي ونصف عدد السكان خارج الحدود (يوجدون في كوسوفو) شعب طيب ونظام فاسد ص127. وسيدفع ماكس و ويلي ثمن هذا الوضع. لأن نائب الوالي ـ وبدل أن يحمي الباحثين ـ يعتقد أنهما لم يأتيا إلا لأخذ زوجته التي قضت ليلتها في أحلام إيروتيكية، يقوم من مكتبه ليراها نائمة، يشتهيها ولا يلمسها كي لا يوقظها، بينما هي مسهدة تكاد تبكي من فرط الرغبة!! ص 75. وبدل أن يهتم النائب بزوجته يرهق نفسه ليقلد أسلوب مخبره، وهو أسلوب يخلب اللب حقا ويظهر كاداريه الشاعر لا الروائي، ولا تنتهي محاولات النائب إلي نتيجة... فمن يزعم أنه يستطيع تقليد أسلوب كاداريه؟

إنه الدوار السردي الذي أشرت إليه في المقدمة، دوار تحقق بفعل امتلاك الرواية، كعمل نثري، لمرونة فنية كبيرة وبفعل استثمارها لجميع الأساليب (4) وهذا مصدر غناها وتطورها المدهش أمام أجناس عريقة. فمنذ أن تحول الشعر إلي الغنائية أصبح النثر وحده ـ يقول لوكاش ـ القادر علي أن يدرك ويمسك، بقوة كبيرة، بالألم والإنعتاق، بالمعركة والتتويج، بالتقدم والتكريس... لأن النثر قابل للتمدد ومحرر من الإيقاع وهو ما يمكنه من التعبير عما في العالم من قيود وحرية...(5) وقد استثمر كاداريه هذه المعطيات في توليف نص من أشكال أدبية متداخلة: رسائل، يوميات، تقارير، مقتطفات صحفية، حوارات مسرحية، ملخصات ملاحم، تحاليل أدبية... دون نسيان الجمل الشعرية التي تقطر فتنة وبهاء.  ورغم هذه الجماليات، فإن الرواية، وخاصة بعد الصفحة (150) تشكو من ثقل كبير، بسبب وقف السرد واستعراض أسئة الباحثين الأكاديمية من قبيل أن التقاليد الملحمية تتأسس علي نواة صلبة لا تتغير مقابل وجود قوالب ظرفية تمكن الملحمة من الإستجابة لكل مرحلة... وأن الشفوي أروع من المكتوب(6) لأن هذا الأخير ثابت (ميت) في حين أن النص الشفوي قابل للتعديل وأن الملحمة فن سمعي لذا فإن هوميروس أعمي!

في الأيام الأولي للإقامة بالفندق وصل المنشد الأول وسجل الباحثان إنشاده، علي أن يسافر ويعود بعد أسبوعين أو أكثر، ليسجلا ما سينشده من جديد، ليقارنا التسجيل الأول والثاني والثالث إن أمكن، ومن خلال الوقوف علي الاختلافات سيحاولان تحديد المتغيرات التي سيقيسان عليها مسار تشكل الملحمة التي تسيل بالدم منذ آلاف السنين. وقد شمل التسجيل الأول ملحمتتين دمويتين: Zukو.Aikoune  في الأولي (Zuk) تبحث فتاة في الجبال عن أخيها الذي جرحه الأعداء (من هم؟)، تعثر عليه غارقا في دمائه يشكو العطش، تخاف إن هي ذهبت لتبحث عن الماء أن تتيه في العودة، يقترح عليها أن تأخذ قطعة من ثوبه مضمخة لترسم طريق العودة بالدم، تنفذ نصيحته وتذهب، لكن مطر هطل فجأة فمحي آثار الدم!  تاهت الفتاة والتقي بها غراب ودب، قال لها الأول أنه نقر عيني جريح وقال الثاني أنه التهم رأسه... فالماء منعدم. فجأة يهطل غزيرا ليمحو الأثر، وليس هذا الحدث صدفة لأن السرد الملحمي يستلزم تدخل قوي ميتافيزيقية في مسار الأحداث وإن عاكس هذا التدخل الحقيقة: (الماء يمحو الدم؟ لا يبدو ذلك ممكنا في البلقان، الدم يراكم الدم إلي ما لا نهاية)ص 114.

أما إيقون (Aikoune) فهي زوجة قائد ألباني مويو خطفها قائد صربي، وقد حاول الألباني استرداد زوجته فقبض عليه عدوه، ولن يستطيع أحد أن يخمن ماذا فعل به! لم يقتله ولم يحرقه أو يسلخه حيا، قيده و ربطه عند قائم السرير ووضع في فمه مشعلا ليضيء ليلة الحب الأولي بين زوجته وعدوه. ولا أستطيع أن أتصور إذلالا أكبر من هذا إلا إذا كان يغذيه حقد أكبر من ذاك الذي تركه الإرلنديان في دبلن وبلفاست وجاءا ليحلا (يحلا؟) مشكلة الألبان والصرب. وليس الأساسي هنا إبراز القدر الخاص بـ مويو وزوجته كأشخاص، وإنما إظهار أسلوب المعاملة بين شعبين، وقد أوضح لوكاش أن بطل الملحمة لا يكون فردا بل عشيرة (7) ، ومصير هذه العشيرة بالأساس، ولا تهتم الملحمة بالقدر الخاص للفرد إلا في علاقته بمصير الشعب، عكس الرواية التي تركز علي الذات المفردة والمعزولة (الوعي في غرفة).

وقد استمع الإرلنديان إلي أحداث ملحمة Aikoune في أربع صيغ مختلفة، و قارنا بين هلين طروادة وإيقون ألبانيا، فالأولي خطفها باريس ولكن هوميروس لم يوضح هل أحبت عشيقها أم ظلت مخلصة لزوجها... في حين أن موقف الثانية واضح لأنها أخلصت لزوجها حتي النهاية. ويقول كاداريه ـ بشكل مبطن ـ أن هوميروس ربما شكل شخصية هيلين من الصيغ الأربعة الألبانية لملحمة إيكون ص115. مما يترك موقف هيلين غامضا. وعلي هذا الفرض فالملحمة الشعبية الألبانية هي أصل الملحمة الأدبية عند هوميروس؟!  وقد كان كاداريه ذكيا في اختيار جنسية الباحثين، لأن بيتهما من زجاج وجاءا إلي البلقان ليؤكدا نسبة الملحمة للألبان، وهو ما لن ينجح، خاصة بعد ظهور راهب صربي ذو اهتمامات ملحمية سمع بالإرلنديين فزارهما ودخل معهما في حوار ساخن شرحا له فيه سبب وجودهما في المنطقة: ندرس الملحمة الألبانية لأنها الأقدم ولأن الألبان هم سكان البلقان الأصليين ولأن الملحمة الألبانية غنية بالعناصر الميثولوجية مقارنة مع الملحمة الصربية (السلافية)، والغني الميثولوجي دليل علي العراقة... أتوافقنا؟  ولكن لا! رد الراهب، فوجد الإرلنديان نفسيهما أمام معطي لا يدخل في سياق بحثهم ـ غير علمي ـ ولكن لا مناص منه: لقد أصبحا طرفا في الحرب الدائرة في البلقان!!

غادر الراهب فبدأت المشاكل، أحد المنشدين لم يرجع أبدا، آخر تعرض للتعذيب، ثالث عاد وقدم إنشادا غريبا لم يتمكن الباحثان من تفسيره... ولم يكتف الراهب بهذا، بل زار متصوفا ألبانيا متعصبا يسكن كهفا وبدأ يحرضه ضد الإرلنديين وآلتهما الشيطانية. وقد سجل دول اللقاء الذي دار بين الراهب والمتصوف ونقله إلي النائب حرفيا وجدد طلبه بإرسال مخبر يتقن الأنكليزية لتجاوز المراقبة الصماء التي يقوم بها. وبعثت وزارة الداخلية المخبر من تيرانا، وسمعت ديزي الخبر، فخافت أن ينصت للإرلنديين يتحدثان عنها ويخبر زوجها، لذا استدعته لتتفق معه علي حماية أسرارها. جاءها مخبر العاصمة وزعم أنه سبق له أن رآها عارية في فندق أنتر كونتينونتال بتيرانا لأنه مكلف بمراقبة حمامات الفنادق! فكرت إذا كان قد رآني عارية فكأنه... والباقي شكليات ص 195. ولم تكن للمخبر الجديد أية فائدة لأن المتصوف قد حسم المشكل عندما جمع أنصاره وهاجموا الفندق فجرحوا أحد الإرلنديين ودمروا آلة التسجيل وأتلفوا الأشرطة التي تضم تسجيلات الملاحم بأصوات المنشدين... وهكذا حقق الراهب الصربي هدفه. ولم يبق هناك مجال للبحث، فغادر الإرلنديان الفندق بحزن عميق دون أن يتمكنا من حل اللغز الذين حلما بحله. لأن القوي الرجعية في الداخل قد تحالفت مع الأعداء لتدمير كل ما يفيد الوطن.

لقد تناول كاداريه المسألة الهوميرية وجعل منها بؤرة توتر قارب من خلالها محنة البلقان من زاوية جديدة تتعامل مع الثقافي والسياسي كوجهين لعملة واحدة، مادام الثقافي وسيلة قوية لتحصين الذات وإثبات الحق التاريخي أمام العدو الدموي. وليس ضروريا أن نتفق مع الكاتب في كل المواقف التي حاول تمريرها، إنما الضروري أن نقرأ هذه الرواية لنقف علي الصراع القدري بين الألبان والصرب الذين تنازعوا منذ قرون حول كل شيء: الأرض، الحدود، المراعي، المياه، قوس قزح... والملحمة التي توجد في اللغتين، الألبانية والصرب ـ كرواتية، من أبدع الملحمة ومن سرقها من الآخر؟ لا يمكن أن يبدعها شعبان مرة واحدة ! وتكمن قيمة الملحمة في تضمنها لجواب عن سؤال مصيري: من سكن البلقان أول مرة؟ إنهم الألبان، ثم جاء الصرب ودفعوا السكان الأصليين إلي الهامش، ويبدوا أن المد الصربي لن يتوقف أبدا، لذا كانت الحرب مصيرية في كوسوفو، وقد تحققت النبوءة!

هذا ما يقوله الروائي (المحايد؟) علي لسان ماكس و ويلي اللذان كانا يعتقدان أن بحثهما سيحسم في الخلاف الذي دام ألف سنة، وهذا كثير، كثير، ص (100ـ101). وليست الملحمة موضوعا للحرب فقط، إنها تتحدث عن الحرب ولا شيء غير الحرب، أو مايسمه كاداريه الحداد البلقاني الذي صورته الملحمة المنقرضة وتصوره الرواية التي حلت محلها والصاعدة دوما. كل هذا ولم يتعلم الألبان والصرب شيئا، لذا فالسلام ليس غدا، يقول شاعر ألباني. في الحقد المتبادل ولدنا... وفيه سيعيشون رغم المؤتمرات الإجبارية... لأن الذين يتعاركون علي قوس قزح لن يتمكنوا من تحقيق السلام علي الأرض! هذه الأيام، يستعد الألبان والصرب لمواجهة جديدة، هي حلقة في سلسلة لا يبدو أنها ستنتهي. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) Ismail Kadar Le doier H traduit de l'albanais par Jusuf Vrioni Gallimard 1989
كل الإحالات علي الرواية يشار إليها في المتن. و H إشارة إلي الحرف الأول من إسم الشاعر الملحمي الإغريقي هوميروس.
(2)  كاداريه:شاعر وروائي ألباني ولد سنة1936، درس في معهد غوركي بالإتحاد السوفياتي، وانقطع عن الدراسة بعد الأزمة بين البلدين (1960)، وقد صور أثر هذه الأزمة بشكل رائع في روايته الوحش إذ يصور العدو كحصان طروادة الجاثم خارج تيرانا ينتظر اللحظة المناسبة للإنقضاض عليها. وأعتقد أنه سيفوز بجائزة نوبل ذات يوم!
(3) ألبانيا كلمة تعني أرض النسور وهي تسمية تقتضيها منطقة البلقان، ولن يترك النسور أرضهم للصرب.
(4) تقول مارت روبير أن الرواية تستثمر لمصلحتها جميع الأساليب دون أن تكون ملزمة حتي بتسويغ استخدامها (4) رواية الأصول وأصول الرواية اتحاد الكتاب العرب 1987ص 62.
(5) جورج لوكاش، نظرية الروية ترجمة الحسين سحبان، منشورات التل، ط1 الرباط 1988. ص55. ويميز لوكاش في كتابه هذا بين الملحمة والرواية بوضوح.
(6) وقد دافع كاداريه عن الشفوي لأن الكتابة تجمد الفكر الحر في أحابيل الحروف وقال أن إثبات الأغاني علي الألواح بمثابة صلب لها وأن الموشح المكتوب ميت لأنه عاجز عن التنفس ولايمكن حقنه بفرح أو حزن جديدين... الوحش ترجمة عفيف دمشقية، دار الآداب ص 163 -164
(7) لوكاش م م ص 62 بعد انهيار الأوهام صارت الرواية تركز علي الفرد ووعيه، الوعي في غرفة بتعبير باختين.