في هذه القراءة التي يقدمها الكاتب والروائي الليبي لديوان الشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا نتعرف على سحر البساطة حينما يتضافر مع عمق البصيرة وحدوس النبوءة.

الإله الأخضر

قراءة في ديوان حارس القطيع لفرناندو بيسوا

محمد الأصفر

يقول الروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي في حوار أجرته معه الشاعرة جمانة حداد: "عام 1964 كنتُ طالبا في باريس، في السنة الجامعية الأولى، ضائعا بين اختياري دراسة الفلسفة وشعوري بأنها خيار سيىء لي. بعد سنة من الإقامة هناك، فكّرتُ بالعودة الى ايطاليا. وإذ كنت ذاهبا الى محطة "ليون" لاستقل قطار العودة، اشتريت من إحدى المكتبات كتابا صغيرا وبخس الثمن لكي اشغل بقراءته وقت الرحلة. كان الكتاب عبارة عن قصيدة واحدة عنوانها غريب، "مكتب التبغ"، واستغربتُ إني لم أكن قد سمعت بكاتبها، ألفارو دي كامبوس. وكانت تلك الترجمة الفرنسية الأولى لأحد أعمال بيسوا على يد بيار اوركاد، وهي ترجمة بديعة. قرأتُ القصيدة وأثرت فيّ الى حد بعيد، وتحمست لذلك الكاتب الرائع فتخليت عن دراسة الفلسفة، التي لم أكن مقتنعا بها أصلا، وتسجلت في كلية الآداب في بيزا لكي ادرس لغته البرتغالية وآدابها، إذ قلت يومذاك في نفسي: إذا استطاع شاعر أن يكتب قصيدة بهذه الروعة، ينبغي لي ان أتعلم لغته.

أنطونيو تابوكي يُعتبر الآن من أهم الكتاب الإيطاليين وبعض النقاد يفضله على أمبرتو إيكو صاحب كتاب (اسم الوردة) و (بندول فوكو) وغيرهنا.. ويعتبر هذا الروائي المتخصص والرائد في تناول  أدب (فرناندو بيسوا) الشاعر البرتغالي الكبير، والبرتغال من الدول والأماكن التي منحت الأدب العالمي مدونات بديعة بالرغم من أنَّ لغتها غير منتشرة في العالم اللاتيني وأمريكا اللاتينية بدرجة كبيرة مثل الإسبانية.. فالبرتغالية في قارة أمريكا اللاتينية لا تتكلمها إلا البرازيل، وهذه اللغة البرتغالية هي التي أبدع من خلالها كتاب كبار أمثال (خوزيه ساراماجو) و(جورج أمادو) و(باولو كويلهو) وغيرهم.  لقد قام انطونيو تابوكي في تناوله لأعمال بيسوا بالترجمة والدراسة بعمل أدبي جليل مفيد للإنسانية ومغذٍ لها بزاد نفيس قلما تجود به الحياة عليها. وها هو الشعر يتغلغل في الأماني ويغيرها ويهذب إختياراتها من اختيارات فلسفية إلى إختيارات أدبية مسحت الغبار عن أدب ثمين وقدمت لنا كاتب كبير بحجم انطونيو تابوكي.

في قراءتي لديوان حارس القطيع للشاعر (فرناندو بيسو) أحسست بأنني أمام عمل بسيط جداً في متناول اليد، وبإمكان أي كاتب أن يكتب مثل هذا الكلام أو الشعر، قرأت الديوان الذي ترجمه لنا الأديب المبدع (أسكندر حبش) وصدر عن دار الجمل في جلسة واحدة، وعندما تابعت الموضوع في مقالات منشورة وأخبار عن الشاعر على الشبكة العالمية.. عرفت أنَّ هذا الديوان كتبه الشاعر واقفاً وفي جلسة واحدة أيضاً.. وقف الشاعر مستنداً إلى منضدة عالية قليلاً كالتي نأكل علها الشطائر في مطاعم الوجبات السريعة التي ليس بها كراسي.. لم يهتم الشاعر بنحت اللغة وصقلها وتفجير عروقها واستخراج امكانياتها، ولكنه أهتم بأن يكتب إحساسه نحو الطبيعة، نحو الأشياء التي تحيطه، مادية كانت أم معنوية، كتب علاقته بالآخر، الجامد والحي.. الظاهري والباطني.

لعلّ عبارته التي قالها في إحدى قصائد وتوقفت عندها طويلاً، كتوقف (أنطونيو تابوكي) أمام ديوانه الشعري الذي وجده في كشك الصحف، خير محفز لأن اعترف و أقول: أنَّ الكلمة قد تأسرك وقد تقتلك وقد تغيّر مجرى حياتك.. العبارة التي أقصدها هي جملة في قصيدة بيسو تقول: "أعطني من أحلامك كي استطيع اللعب". والسر الكبير يكمن في كلمة أحلامك، فهو تجاوز في الطلب لكل ما هو مرئي لدى الغير والتطلع إلى ما هو أنقى وأسمى، وأحلام الناس جميعاً، نستطيع أن نختصرها في كلمة الجنة، أو السعادة، والجنة في أحلام الناس مختلفة من شخص لآخر.. فكل إنسان له جنته.. وكل إنسان يرى جنته في شيء آخر.. (فرناندو بيسو) الشاعر الكبير طلب أحلام الغير ليس من أجل أن يعيشها أو يستفيد منها.

لكن لكي يستطيع اللعب، وكيف هو يلعب من غير زاد الأحلام الجميلة، وربط الأحلام باللعب إحساس لذيذ جدا.. فالأحلام أعتبرها هي ألعاب النوم.. والنعاس هو حياة اللعبة والاستيقاظ هو خرابها وتوقفها.. كلما استيقظ أبكي.. أبكي على لعبتي من دون أن يراني أحد.. وكل من رأى بكائي أعتبره حبيبي وحبيبتي.. بشرط أن لا أراه.. هذا الشاعر بيسو يتجاوز بجموح كل صورة شعرية ممكنة التصوير ليفجر في خيال القارئ نفسه، صور غريبة عنه، مجلوبة من أحلام الغير، ومن هنا نعترف بأنَّ هذا الشاعر من خلال عبارته هذه "أعطنى من أحلامك كي أستطيع اللعب" قد صنع لنا شعراء آخرين بعدد الأحلام المعطاة وبعدد القراء الذين فرأوا يلعب بهذه الأحلام بشكل جيد.

لـ (فرناندو بيسو) تصوّر عام واضح للطبيعة التي يعيشها ويراها وحتى للجانب الميتافيزيقي المتعلق بوجود الله، لا نستطيع أن نصنف الشاعر بالشاعر المؤمن وفي الوقت نفسه لا يمكننا أن نخرجه من دائرة الإيمان، الشاعر يلعب باللعب التي منحتها له أحلام الإنسانية، يحاول بلورة فكرة عن الإله تختزل تصورات الأديان جميعها، يحاول أن يجعلنا أن نكون مؤمنين بالخير من دون تعقيد أو تأويلات تصارعها ينبح الظلام، يقدم تجربته مع الله ببراءة قريبة من السذاجة الخلاقة،  يقدمها بشفافية تشع بالمرح والانطلاق وكأنه طفل يعبر عن مشاعره بصدق يقول:

التفكير بالله يعني أن نتمرد عليه،
أراد الله أنْ لا نتعرف عليه،
لذلك لم يظهر نفسه..
لنكن بسطاء وهادئين
مثل الجداول والأشجار
وسيحبنا الله، يجعلنا
جميلين مثل الأشجار والجداول
وسيعطينا اخضرار ربيعه
ومياه البحيرة العذبة ساعة
نهايتنا!

الله في شعر (فرناندو بيسو) شيء أخضر.. ماء.. جدول، يكافئ عباده بالماء العذب ساعة النهاية، وشعر (فرناندو بيسو) وعمقه في الأبيات السابقة يتركز في كلمة " لنكن بسطاء  وهادئين "، بسطاء وهادئين، كلمتان كبيرتان.. قصيدتان كبيرتان، تقدمان حلاً جذرياً لكل القلق والمعاناة والمآزق الوجودية التي يعيشها  إنسان عصرنا، وتقدمان درساً للشعراء والأدباء بصفة عامة في الصدق والتواضع والهدوء والإبداع في صمت، نكون بسطاء وهادئين مثل الجداول والأشجار وسيحبنا الله، أي أنَّ الله عندما يرانا ماءً وشجراً، فسوف يسبغ على هذا الماء العذوبة وعلى هذا الشجر الاخضرار.. لكن إن كنا غير بسطاء وغير هادئين وليس مثل الجداول والأشجار، فسوف لن يحبنا عشاق الأدب الذين يعرفون المبدع الأساسي الله، جل المعرفة.. كل شعر هذا الشاعر الذي يعتبر بإجماع معظم النقاد المرموقين من أهم شعراء العالم الذين وجدوا لهم منفذاً ينفذون منه بكلماتهم وقطعان معانيهم إلى العالم الذي نتوق إليه.

(فرناندو بيسو)  واقف يكتب، يكتب الشعر ببساطة وهدوء، يطلق قصيدته لتمس الوجود المحيط والوجود المحيط بالمحيط، المكان في قصيدته داخلياً، داخلياً لا تعني الذات أو القلب، داخلياً تعني هذا العالم، ذاته وما يحيطها من أحاسيس وما يغلفها من مادة فيزيائية وما تتطلع إليه من أماني، وما يحيطها من عالم حي وجامد.

المكان الأكبر أو النواة لديه هو القلب، والشعر الذي لا يخرج من القلب، فبالتأكيد أنه تاه عن مكان الخروج الصحيح.

(فرناندو بيسو)  يرى العالم من خلال القلب، يراه من أصغر نقطة فيه إلى أطول خط فيه..

يقول في قصيدته:

أرى من قريتي الكثير من الأراضي
بقدر ما نستطيع أنْ نراه من الكون
قريتي كبيرة أيضاً كبلدان أخرى
لأنني على قدر ما أراه
لا على قدر حجمي.
في العبارة الشعرية: "لأنني على قدر ما أراه 
                             لا على قدر حجمي".

يمنح المبدع والإنسان قيمة، يمنح الرؤية نفساً جديداً قيماً، الاعتزاز بالمكان، الإيمان بالنص، لا يخاف من المتورمين.. نصوصاً.. بلدان.. أشخاصاً.. هو يقيس الأشياء روحياً ومعنوياً، وهذا المقياس هو جوهر الإيمان، وهو مقياس السلام والمحبة. ولعلّ ما جاء في قصيدته هذه، ما نحتاج إليه في هذا العصر المادي العولمي العابد للقوة المادية من عسكرية وغيرها وغير المكترث بأي قيم حضارية كرستها الإنسانية على مر العصور. (فرناندو بيسو)  في قصيدته:" لم أحرس قطيعاً أبداً " ولعلّ هذه العبارة لا تحتاج إلى تعليق، فهذا الشاعر لا يحب الحراسة، لا يحب حراسة مشاعره، فما بالك بقطيع جمّع لأمر مهم، فهذا الشاعر لا يحب مسك الأقفال والتربص أمام الأبواب، لا يحترم القطيع، فمحتويات القطيع هي كائنات مستعبدة رضت بأن تكون قطيعاً محروساً، هو يدعو إلى الحرية بطريقته، كما يصّور  طوطمه بطريقته:

إنه طفل جميل ضاحك وطبيعي
يمسح أنفه بكمه الأيمن
يتخبط في مستنقعات المياه،
يقطف الزهور،.. يحبها ومن ثم ينساها.
يرمي الحمير بالحجارة
يسرق الثمار من الحقول،
يركض باكياً أمام الكلاب.

يكتب كأنه يشرب الحليب أو يقضم من قطعة خبز محلاّة، يمارس حياته الشعرية واقفاً، ينتقل من مرحلة إلى أخرى مختزلاً بكرات طويلة من الزمن، يتأمل.. يأكل.. يشرب،، ينام.. يعيش.. يموت.. أو بالأحرى يمارس الألعاب الشعرية جميعها، يمارس الألعاب الأولمبية الأدبية، نرى في تجربته الملكات الشعرية التي أنجبت الكبار من (هوميروس) و(دانتي) و" أبي العلاء المعري " وغيرهم. يمارس حياته أمام النضد الذي يكتب عليه هارباً من كل معرفة تضيء له الطريق، وهو يصنع ضوءه الخاص، الشعر هو الضوء، وفلسفة الضوء أن تكون شاعراً.. وأنت لا تدري وهذا اللا إدراء هو ما حدث لـ (فرناندو بيسو) ولكل الكبار..

يقول (فرناندو بيسو):

أفكاري فرحة
تشبه ضجة جلاجل
خلف استدارة الطريق
ألمي الوحيد معرفتي أنها فرحة

هو لا يحب إعمال الذهن وكدّه والتفكير في صنع القصائد المحكمة، هو يزعجه هذا الشيء الذي يُسمى تركيز وتخطيط وصقل وتشذيب وغيره من مفردات تحسين الشيء وتجويده، لقد كتب كتاباً شعرياً كاملاً في ليلة واحدة ووقفة واحدة، يقول:

التفكير مزعج كالسير تحت المطر.
يقول أيضاً:
ليس طموحي أن أكون شاعراً
إنها طريقتي في أن أكون وحيداً.

ها نحن في هذا الزمن نرى الكثير ممن يتطلعون إلى لقب شاعر، منهم من يقوم بكل شيء في سبيل أن يتحصل على هذا اللقب، وأعتبر ذلك طموحاً مشروعاً لكل قوّالة الشعر، لكن رؤية (بيسو) في كتابة الشعر حسب فهمي أنه يريد أن يتنعم بالهدوء والصفاء الذهني والوحدة ولا يتحقق له ذلك إلا بعد أن يتحرر من كل الكلمات العالقة في مخيلته وها هو قد كتبها جميعاً في ليلة واحدة في ديوانه حارس القطيع وعندما بزغ الفجر كان وحيداً، أندس في فراشه سعيداً. ونام قرير العين، لا حراسة تشغله، ولا معرفة يسعى إليها، لقد نفض ما في مخيلته وعانق الأحلام، يلعب معها وتلعب معه، هذه الأحلام هي أحلامنا نحن الذين نقرؤه الآن.  الشاعر (فرناندو بيسو)  ينحاز إلى الحواس بشكل كبير، لكن هذه الحواس ليست أذناً وأنفاً وعيناً ولمساً وذوقاً وسادسة وحادسة وغيرها، الحاسة التي يقصدها هي حاسة الحب..

الحب هو إحساس بسيط لأننا عاجزون على تصوّره أو تصويره، من الممكن أن أطلق على هذا الإحساس كلمة عادية نسمعها كل يوم، وهي ـ (تمام) ـ أو (كويس) فأي شيء يأتي بهذه الكلمة ويجعلك تقولها بصدق هو حب. وحاسة الحب تتركز فيها كل الحواس، فإنْ تمت محبتك فقد حلت كل مشكلاتك في الدنيا وفي الآخرة.

حاسة (فرناندو بيسو) هي حاسة " صوفية "، مزيج من المادي والمعنوي، سعادة شعرية بالدرجة الأولى، يقول في قصيدته لا فلسفة لدي: ولديَّ حواس. إن تكلمت عن الطبيعة، لا لأنني أعرفها بل لأنني أحبها، وأحبها لأجل ذلك، لأن الذي يحب لا يعرف أبداً لا ما يحب ولا لماذا يحب، ولا معنى الحب..

الحب هو استعادة الأبدية.
النقاوة الوحيدة، أن لا نفكر..

وسواء اتفقنا مع (بيسو) في مفهومه للحب، أو لم نتفق، يظل تصويره أو تعريفه للحب بأنه استعادة الأبدية تعريفاً مقبولاً.. لارتباط الحب بالبقاء، فكل شيء نحبه نتمنى له البقاء والدوام..

ولم يترك (بيسو) الحياة كأفراد عايشهم أو تقنع بأسمائهم، ففي قصيدته "سيزاريو فيردي" يسرد لنا تجربة إنسان فلاح.. رمت به الأقدار إلى المدينة، في المدينة يشعر بأنه سجين، لاختلاف البيئة، يضعنا (بيسو) أمام مفارقة التحول من الريف إلى المدينة، ما يراه القروي في المدينة وكيف تعمل ذاكرته في جو المدينة الغريب عنه إنساناً ومحيطا.. هذا النص الشعري والسردي نصٌ جميلٌ، يقول (فرناندو بيسو):

كم أتالم من أجله! كان فلاحاً
مسجوناً بحرّية في المدينة
لكن طريقته في النظر إلى المنازل،
طريقته في مراقبة الشوارع،
طريقته في أن يكون قرب الأشياء،
تشبه طريقة ذاك الذي يخفض،
عينيه حين يسير على الطريق،
كي يشاهد الزهور في الحقول،
لهذا كان يشعر بذلك الحزن الكبير،
الذي لم يعترف به قط،
وكان يمشي في المدينة،
مثلما يسير آخرون في الريف،
حزيناً كذلك الذي يسحق الورود في الكتب،
أو الذي يضع النبات في الأصص.

في ديوان حارس القطيع يعود فرناندو بيسو مرارا ليركزّ على علاقته بالله وبالطبيعة..رابطا  بين الله والطبيعة ووضعا سؤاله الذي راوده في محجره المناسب، المستفز والمحفز لكل المختصين والمهتمين بعلوم الأديان والكهنوت للتعمق أكثر في موضوعة الله،، لقد حدّد (فرناندو بيسو) علاقته بالله بصراحة في أكثر من موضع، لكن في هذا النص كان خياله أكثر اقتراباً من الهم الذي يؤرقه:

لا أؤمن بالله لأنني لم أره أبداً
إن رغب في أن أؤمن به
سيأتي ليحدثني من دون أدنى شك،
سيدخل إلى منزلي من الباب
وسيقول لِيِّ: أنا هنا!.
(هكذا كلام قد يبدو سخيفاً
للذي يجهل معنى النظر إلى الأشياء
للذي لا يفهم ما يتكلم عنها
وفق النمط الذي يعلمنا إياه
انتباهنا له).
ولكن إن كان الله هو الورود والأشجار
والجبال والشمس وضوء القمر،
حينذاك أؤمن به
حينذاك أؤمن به كل ساعة
وستكون حياتي كلها صلاة، قداساً،
اعترافاً عبر العينين وعبر الأذنين
ولكن إن كان الله هو الأشجار والورود
والجبال وضوء القمر والشمس
فلماذا نسميه الله؟
أستطيع أن أُسميه وروداً وشجراً وجبالاً وشمساً وضوء قمر.

مقارنته بين الله والطبيعة تقودنا إلى سؤال كهنوتي أو ديني ليس مجاله الآن، وليس لدي قدرة مناقشة لعدم الاختصاص في الأديان لكن أتناول القصيدة  كشعر، الشعر في القصيدة موجود بكثافة، فالله شيء جميل والطبيعة وظواهرها الإيجابية من شجر ونور ومطر وورود وغيرها أشياء ٌ جميلةٌ، وأستطيع أن أقول: إن الجمال شيء مسالم وبسيط، ولا ينتج أي معارك أو مطاحنات من شأنها أن تشوه هذا الجمال وهذا السلام الدائم. يعترف ببساطة بأنه يكتب ليس لنفسه لكن للآخر أو للقارئ المفترض، والآخر ليس كـ(بيسو) فلكي يتم فهم (بيسو) عليه أن يتنازل قليلاً عن رؤيته الصوفية النقية، يتنازل قليلاً عن حواس الحب إلى الحواس العادية التي يمتلكها البشر، وهذا التنازل بالنسبة لـ(بيسو) شيء مؤلم لكنه ضروري من أجل الفهم والتواصل، علي (بيسو) أن يكتب للقارئ بلغته المتكلمة والمكتوبة والمقرؤة والمعروفة والمتداولة، وعليه أن يحتفظ بلغة الحب والطبيعة والتراث في أعماق قصائده يستخدمها صحبة أحلامه وصحبة من يفهمه من (فرناندو بيسوات) آخرين ينسجهم خياله..

أمضي (بيسو) ليلته واقفاً يكتب ديوانه حارس القطيع، وعندما أتمّه تركه عرضة لهذا الزمن المجنون الذي قد يحترم كتاباته ويقدرها ويحتفى بها أو يتجاهلها كي يلفها الغبار والإهمال.. لقد كان كتاب (بيسو) محفوظاً إذ تلقفه الباحث عن الروح (أنطونيو تابوكي) وغاص فه ليصل إلى جواهره المطمورة في الحبر وبين ثنايا الورق.. يقول تابوكي في مرحلة من مراحل الحوار الذي أجرته معه جمانة في شقته بباريس عن تجربته مع الأديب فرناندو بيسو:

"بيسوا استثناء عظيم من الصعب أن يتكرر. بيسوا هو من الكتّاب الذين أحملهم معي في حقيبتي، وأعيش معه أيضا علاقة من نوع خاص لأكثر من سبب، منها أني ترجمت كل أعماله الشعرية تقريبا الى الايطالية. لقد كان أكبر مصادفة في حياتي، وكما تعلمين أنا أؤمن كثيرا بالمصادفات التي تغيّر مسار الناس."

"كانت تلك المرة الأولى اقرأ فيها قصيدة بهذا العمق، بهذا الصدق الصاعق، بهذه المرارة الموجعة. كنت معتادا على شعرنا الايطالي المفرط في الغنائية، وها إني أجد أمامي قصيدة تدور حول النظر، إذ يروي فيها بيسوا ما رآه أثناء ساعتين أمضاهما عند نافذة غرفته، وما شعر به وفكر فيه، وذلك بقوة لا مثيل لها. كانت قصيدة درامية جدا، فضلا عن كونها شعرا حكائيا، ينطوي على قصة متشابكة مع تأملات فلسفية عميقة مصوغة ببساطة كي لا تثقل على الشحنة الشعرية. بسبب تلك القصيدة كذلك رغبت في ان أكون كاتبا. في اختصار، لقد غيّرت حياتي."

"بل إنني اعشقه في شكل خاص لأنه كان روائيا. لم يكتب بيسوا الشعر فحسب. لقد عمر العالم بشخصيات جديدة، شخصيات اخترعها ودفعها الى التواصل والتفاعل في ما بينها: هو كتب في رأيي رواية كبيرة خيالية شخصياتها هي الشعراء الذين أوجدهم، او لنقل إنه اخترع مسرحا من دون خشبة، كوميديا إنسانية عظيمة في الشعر. تساءل عن معنى الهوية، وعن الروح المتعددة الانتماء، وذلك بالنسبة لكاتب مثلي لإنجاز استثنائي وجاذب كبير."

هاهو ديوان حارس القطيع أمامنا متألقاً يمنح البهجة للروح ويعيد للشعر اعتباره.. شعر (فرناندو بيسو) أعجبني وأحببته لذلك اكتب عنه وأحب أن أُنهي قراءتي لهذا الديوان بأبيات (بيسو) التالية:

بما أنني أكتب كي يقرأونني
أُضحي أحياناً
من أجل حماقة حواسهم.
لست على وئام مع نفسي ولكني أسامح نفسي
لأنني لست سوى هذا الشيء الجدّي
وثمة بشر لا يفهمون لغتها.. لأنها ليست لغة حتى.  


كاتب من ليبيا