تكشف قراءة الكاتب لسيرة الشاعرة والقاصة الإماراتية ظبية خميس عن براعة استخدام تقنيات القرينة السردية في الكشف عن كثير من المسكوت عنه.

فاصل من حياة

عاشتها وكتبتها ظبية خميس

محمد العباس

منذ هسهساتها الكتابية الأولى، عُرفت ظبية خميس برغبتها وقدرتها على "التسمية" حيث جعلت من نصها، الشعري والسردي على حد سواء، إمتداداً طبيعياً لجسدها، ليس بالمعنى الاستيهامي المصعّد، ولكن، بما هو ـ أي جسدها ـ علامة العلامات، أي الوعاء المادي الحاضن لبنيتها الرمزية وأحاسيسها. ولذلك لم يكن من المستغرب جرأتها على الإنطراح من خلال سيرة روائية صريحة، بدون مواربة، ولا ادعاء، وإن لم تتوغل بما يتناسب مع جرأتها وخبراتها للمناطق الوعرة عاطفياً، ربما لأن سيرتها الروائية ليست مكتوبة من منطلق الإعتراف بقدر ما هي مستدعاة لتمكيثها في الذاكرة، حيث ترتد من مقر عملها في القاهرة، بسرد استذكاري إلى بلومنجتون (انديانا) لتستدعي فاصلاً من ميثاق سيرتها الواقعي، لا المتخيل، تحت عنون "الحياة كما هي  LIFE AS IT IS "* وهي مساحة يصعب مقاربتها في الحياة العربية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بإمرأة.

مهرة بنت عبيد، الإسم الرمزي لظبية خميس ككل الأسماء الواردة في السيرة الروائية، هي ذات (أنثوية/ نسوية) عربية، تسرد بعرض بانورامي خاطف ملامح صدمتها الثقافية وعلاقتها المبكرة والمنفتحة مع (الآخر) بكل تشظياته وتلوناته الشرقية والغربية، حيث تغادر موطنها الأصلي (الإمارات العربية المتحدة) في عمر المراهقة عام 1975، فيما يشبه الفرار من أرض وناس أقل من تطلعاتها المتطرفة فكرياً وجمالياً، إلى بلومنجتون "المدينة الصغيرة في القابعة الميدويست الأمريكي التي أعادت تشكيل مصيرها" لتصاحب الزنوج، وتؤاخي النسويات، وتجادل اليمينيين، وتقارع الحزبيين، فالمكان الذي تموضعت فيه، والزمان أيضاً يحيلان إلى فضاء يزخر بالحركات السياسية والطلابية، حيث يتحشّد الطلبة العرب في جماعات وتنظيمات ذات ميول تحررية تفتح العقول على إيقاع تحرر الأجساد وصخب الأحاسيس، وربما لهذا السبب بالذات قررت أن تنكتب، لتعيش مرة أخرى على الورق إعتقادها بأهمية وجاذبية الأحداث التي عاشتها خلال تلك الفترة وما تضمنته من زخم أيدلوجي، وليس كتعبير عن احساسها الضمني أو الصريح بتميزها عن الآخرين، سواء كان ذلك الإختلاف أفقيا أو ترتيباً سلمياً، أو هكذا جاء هذا الشكل الكتابي الذي يخفف من سلطة ومخيال جنس الرواية ولا يجافي صراحة السيرة، وفي الآن نفسه يعلي من شأن جينات الكتابة.

سيرتها، أو تاريخها الشخصي يتقاطع إذاً مع التاريخ العام، فما بين القاهرة وبلومنجتون عبرت عواصم، وعبرها بشر من مختلف الأعراق والجنسيات. اقترنت عاطفياً برجال، لم تتوقف إلا عند بعضهم، فكان أبرزهم وأكثرهم سطوة عليها هو حسن المأمون أحد قياديي الحركة الطلابية، المتحدر من (القصيم) الذي سردها هو الآخر في رواية بالانجليزية وموهّها باسم ريتا ميسين، بعد أن تاب عن نضالاته وعاد إلى الرياض ليتزوج، ويحتل مركزاً مرموقاً، ويحل ضيفاً على المحطات الفضائية، بزي خليجي مغاير لما اعتادت عليه، يوم كان شاباً "أسمر وبشعر يصل إلى كتفيه" كحتمية من حتميات المثقف الخليجي الذي يعيش لحظة انسلاخ طبقي إبان فترة دراسته الجامعية في الخارج ليعود إلى حاضنته الأولى بكل خيباته وذكرياته المسكوت عنها، وإن لم تكن مهرة بنت عبيد قد وجهت إليه أي تهمة بهذا الصدد، بل استحسنت فكرة زواجه واستقراره كما علقت على الخبر حين نقلته لها صديقتها نيرفانا، وهو ما تأكد في آخر السيرة الروائية من تصالحها مع فكرة العلاقة الدائمة المستقرة بين الجنسين، وكأنها تكاد أو تغالب فكرة الدخول في سجن الندم. 

كان حسن المأمون بمثابة الروح الحارسة لها، حسب وصفها، فكما دعتها "كاثي" للتخلص من بيوريتانيتها، حرّرها هو من رهاب ملامسة الرجل، كما اختصرت ذلك في عباراتها "لم أكن أعرف أن الأمر سلس وجميل إلى هذا الحد. كنت أسمع قصص مرعبة عن هذه اللحظة... وعن الألم الذي يرافقها. إنني لا أشعر بأي ألم.. إنني أشعر بالسعادة والحرية". وهكذا أصبحت علاقة الحب الأولى تلك في حياة مهرة بنت عبيد "مصدر نمو هائل لها.. كان أيضاً كائناً مختلفاً في حياتها. لم تعرف مهرة آنذاك بأن هذا الرجل سوف يكون الأكثر تحضراً من أي رجل آخر سوف تقابله فيما بعد، ولم تعرف أن طمأنينتها تلك التي عاشتها معه... سوف تطعن آلاف المرات فيما بعد".

بنعومة مدروسة تسرب حسن المأمون إلى حياتها عبر "الندوات، كافيتريا اليونيون، المكتبة، مقهى رانسبيل سبون، حفلات الأصدقاء، المظاهرات الطلابية، أفلام السينما، مساعدتها في مواد دراسية". ومن وحشة الوحدة تسلل الصحفي والمثقف المصري ضياء إلى حياتها "الهادئة، المتعبة، والحزينة" في القاهرة بعد أن أهداها مجموعته القصصية موقعة بعبارة لا تخلو من دلالة عشقية "إلى العاصفة التي تسكن قلب الوردة" لتبدأ علاقة مشوشة وغير متكافئة بين امرأة في الأربعين من عمرها ورجل في الثامنة والعشرين من عمره. ورغم أنه غمرها بمتعة مشوبة بعاطفة، إلا أن ذلك التماس اللاهب كان مجرد لقطة عابرة، وأشبه ما يكون بالنزوة، فعندما قال لها "أحبك" لم تجبه مهرة بالكلمة نفسها. قالت له "أنه شعور خاص، غير أنه ليس الحب" وتوقعت أن يخونها مع أخريات، وهو الأمر الذي تحقق بلهاثه وراء الفنانة التشكيلية "سحر" ثم المصوّرة الايطالية "ماريا". ورغم وداعها له بغصة إلا أنها عادت واستسلمت لحالة الحنين تلك التي انتابت كليهما.

كانت مهرة بنت عبيد (ظبية خميس) تعلم أنها تثير مخيّلة الآخرين.. مخيلة التفتيش في أوراق المبدعات الشخصية.. حياتهن.. أسرارهن.. علاقاتهن.. ذلك الاختلاف غير المتفق عليه حتى في أوساط المثقفين العرب. فقد طاردها شاعر مظهره الخارجي شديد الرجولة، ولكنها "اكتشفت بعد شهرين من اللقاءات أن تلك الرجولة كانت من ذلك النوع الغبي والفارغ.. مظهر مجرد مظهر". وبعدها بعامين تعلق بها المترجم وكاتب النص المسرحي "عادل" لكن العلاقة لم تصمد لأكثر من ستة أشهر حيث "انتهت القصة دونما خسائر كثيرة. لم يكن الحب هناك في كل الأحوال، كانت استراحة متبادلة للطرفين". ومن ذات المنطلق كتبت، ومرضت أيضاً بالرمز السياسي الشهير داخل دائرة عملها معاذ العيسى، وكادت أن تتورط معه بعلاقة حب لولا أن "الحرس، والموظفين، والمنتفعين. أغلقوا ذلك الباب الذي كان مفتوحاً بينهما. ولم يرد معاذ أن ينقذها.. ربما خاف منها.. ربما خاف من نفسه، غير أن الأكيد أنه خاف من كل تلك العيون المفتوحة عليهما معاً".

بمنتهى الفصاحة وصفت وفاة والدها بموت "جبل من الخوف" فقد كانت تحب أباها، غير أنه بالنسبة لها كان الخوف مجسداً لها في هيئة رجل مهيب وشائخ. وبأقصى حالة من حالات الإنكشاف كتبت عن عملية الإجهاض التي أجرتها في عيادة خاصة في "سانت لويس" للتخلص من الجنين الناتج عن علاقتها بحسن المأمون. وبدون أي احتراز ولا تورية، بل بانتشاء، تحدثت عن معاشرتها للغجر (الخيتانو) وعن عملها كموديل مع النحات العجوز "خوان" الذي قال لها "أنت آلهة قديمة.. وقد عشت ها هنا من قبل.. عليك أن تجدي طريقك إلى السحر الذي تعرفينه بداخلك.. اعثري على عصاك السحرية لكي تعيدي خلق الأشياء. لا تتوقفي عند ما قد حدث فالحياة أمامك.. وأنت لا تزالين طفلة. إن هنالك أدواراً كثيرة في انتظارك في هذه الحياة.. ولا تختاري منها إلا ما يناسبك تماماً.. كوني مثل أفروديت، إيزيس، عشتار.. لا تتوقفي عند أحلام صغار البشر".

هي الآن بعيدة عن "بلومنجتون" المدينة الكوزمبولوتينية المسترخية. المكان الذي يستولى على الأشخاص ويمكث للأبد في قلوبهم. ويبدو أنها صارت تخاطب ذاتها كأمثولة بشرية تقاوم فكرة انتهاء صلاحيتها، فقد جربت أن تعيش الحياة كما استنتجتها "وحيدة أكثر من أي يوم مضى.. وحيدة في ملف ذكريات تلك الوحدة" تشبه في عزلتها، ومحاولاتها للتمدد عبر السرد ما سماه سماه لوكاتش " تجربة الفرد الخصبة عن اكتساب أبعاد كليه" على اعتبار أن السرد توسيع للأنا، فهي فريسة الوحشة والتوحش، تحمل الفراغ معها إلى كل مكان. وربما لهذا السبب بالتحديد ترى ضالتها في الكتابة، فأفضل طريقة للتخلص من تلك الذكريات الشاحبة، الغامضة، المرتبكة، الملتبسة بتصورها "هو أن تحاول أن تتذكرها تماماً كما قد حدثت. أن تشعل الضوء في تلك الغرفة المعتمة من الروح والجسد. أن تتذكر بقسوة، وصرامة، تلك التفاصيل التي تحاول دائماً أن تفر منها.. تفر منها إلى درجة تجعل حياتك المعاشة تفر منك، هي أيضاً".

تلك هي سيرة مهرة بنت عبيد، الطالعة من زبد البحر، المضمّخة بالبخور. مهرة التي تنروي على حد القطيعة بيت عالمين متصلين، أحدهما تعيشه بما هو حادث في الآن، والثاني مستجلب من الماضي وآخذ في الأفول، وعليه تغدو "أناها" أصلاً لوعي الماضي ومنطلقاً للتحرك في الحاضر والمستقبل، فهي ذات محمولة على التجربة "تجربة الحياة، الكتابة، السفر والترحال، والقارات التي عاشت فيها". وبالتأكيد لم تسرد ظبية خميس "الحياة كما هي" فثمة مناطق أشد وطأة وحرجاً لم تقاربها، ولكنها كتبت بعض ما عاشته في عرض روائي يغلب عليه حس الإخبار عوضاً عن الإنفعال، أي مجرد عناوين تحيل إلى شخصيتها وتكشف عن طباعها وميولها وعلاقاتها، بدون أن تكلف نفسها مهمة رسم ظلال الكائنات الذين عايشتهم، رغم ما أبدته من جسارة لافتة، وإفصاح جريء واستثنائي على "التسمية".

على ذلك الإيقاع السردي جاءت أناها المستّلة من الوقائع، لا المخترعة، منحوتة بقبلات الرجال وراحاتهم. محروسة بالظلال الرخيمة لشجرة صديقاتها. مرتوية حد الثمالة بالسانغريا والجانا كليس. محمولة على إيقاع موسيقى "السلو" يوم التصقت بصدر حسن المأمون لا يفصلها عنه حتى الهواء، فهي امرأة معجونة بجسد شعائري يتأرجح بين الحب والنضال والهوس بالعيش في سحرية النطاق الأيكولوجي، فقد أرادت التشبه بأيقونة بلومنجتون الربيعية زهرة "الهني سكل" التي تذوقت الدخول إلى جنة أنوثتها تحت وابلٍٍ من رائحتها، لكن صخب الأيدلوجيا سرق من تلك الذات الممسوسة بفائض عاطفي مكوّنها الرومانسي، وكانت تحلم بأن تقتدي بالمناضلة العمانية "طفول" شهيدة الحركة الوطنية في الخليج.

هكذا أصبحت حكاية الحب في حياة الهيبية مهرة بنت عبيد التي خرجت من وطنها بقلادة ذهبية تتدلى من عنقها آية الكرسي وخارطة ذهبية لفلسطين، مجرد لقطة عابرة، أو خلفية لحياة مناضلة لا تتعب من التحديق في صورة لها بمظاهرة على كورنيش الشارقة ضد العدوان الأمريكي على ليبيا، وقد تنتشي لكثرة إمعان النظر في البوم صورٍ يجمعها بشعراء ومناضلين من شتى بقاع العالم، اشتركت معهم في رومانسية الحلم الثوري بتغيير العالم، فما باحت به من نثار سيرتها يحيل بصراحة إلى متعلقاتها الحميمية، والأهم أنه يشير إلى ذات مسكونة بالحب لم تنروِ بعد، وإن كانت قد وضعت في ميثاق سيرتها المعاش لا المتخيل جانباً هاماً من خبراتها اللغوية واللا لغوية، مع إتكائها الواضح والمكثف على سطوة الخطاب الذي يحتل المكانة الفنية والموضوعية الواسعة في السرد الأتوبيوغرفي، بتصور فيليب لوغون، حين يتعلق الأمر بميثاق السيرة. 


m_alabbas@hotmail.com