كنت فى الصباح قد تلقيت دعوة "إبراهيم" لحضور إضراب عن الطعام فى نقابة المحامين. قال: "بسبب ما يحدث" زحمة من شرطة ومخبرين، والنهار خريفى، وعربات بالشارع. قبل أن أتجاوز الباب اعترضنى الشرطى: شيعنى بنظرة فلاح لا حول له ولا قوة، ثم سمعته يلعن سنسفيل الأيام السوداء التى وضعته فى تلك الظروف. قالها "على"، ونهض مسلماً.. ألقيت التحية، وسحبتُ كرسيا وجلست. وقف "إبراهيم" ممسكاً بورقة، وقال بصوته المضطرب: ـ "وحتى تتحقق هذه المطالب سوف نضرب عن الطعام حتى الموت". صمت الجميع لحظة، رأيت خلالها عصفورا ينتقل من شجرة لشجرة. ـ "لكن يا إبراهيم دى مطالب يستحيل تحقيقها.. وانت عارف موقف الحكومة كويس" أجاب إبراهيم. عاد يؤكد. انتهينا إلى أن يكون إضراباً رمزياً. نهاران، وثلاثة ليال عبرت فيها السماء ثلاثة أقمار مكتملة. تزدحم النقابة بالأصدقاء، وتفرغ منهم فى منتصف الليل، وأحوال المضربين تسرى فى المدينة مثل صوت الرعد. همستُ لنفسى وأنا أنظر من خلف السور أراقب الشمس وهى تغيب ويحل على الحديقة ذلك المساء الغائم. اقتربتْ منى وسحبت كرسيا وجلست وهى ما تزال تبتسم. رحبتُ بها فابتسمت لى وسألتنى بمنتهى السذاجة: ـ "هو فيه إيه يا عم؟" أدركتُ مدى طيبتها، وقلة خبرتها.. ربما هى المرة الأولى التى تجوس فى مثل هذه الأماكن. طلبت لها شايا.. شربته وحل صمت مفاجئ على المكان، ثم عاد اللغط يختلط، وأصوات تعلو هنا وهناك.
"هنا ولا هناك؟"
"هنا وهناك.. ميعادنا 12 فى النقابة"
وضع السماعة، ومضى.
ـ "علينا تصعيد الأمور"
قلت من مكانى بصوت عالى:
ـ "لحد الصدام؟"
ـ "لحد الموت"
ـ "إضراب حتى الموت".
قال "على":
ـ "إضراب.. عاملين إضراب.. علشان فلسطين"
تداركت هامسة:
ـ "آه.. صحيح"..
بضربات سردية متمرسة، وعين صاحية للمفارقة، ينفذ القاص المصري إلى عمق اللحظة والنفسية الجمعية لواقع مترع بالتوتر والقهر، ولكنه يجد رغم المحنة فسحة للشجن العذب.
شجن ليليّ