أول ما يثير انتباه المتلقي في هذا النص الروائي هو البذخ على مستوى اعتماد المقدمات أو ما يدعى عادة بالنصوص الموازية التي تمهد للنص دون أن تكون جزءا منه، غير أنها ليست ترفا خاصة هنا في هذه الرواية، لأن الكاتبة كابدت مشقة كبيرة في اختيار هذه العتبات وربطها بالسياق النصي. ومهما كانت مواربة وبعيدة عن النص فإن تواجدها في داخل ثنايا الكتاب سيوجه ـ لا محالة ـ فعل القراءة. وقد أقحمت الروائية هذه المؤشرات الدلالية لإثراء المعنى، وأيضا لجعل النص الروائي ينفتح تلقائيا عبر هذه الكوات على سياقات تفاعلية تربط ما بداخل النص بما خارجه.
1 ـ تراكب العتبات والنصوص الموازية
ـ العنوان: صممت ياسمين مجدي لنصها عنوانا شاعريا طويلا نسبيا، يتشكل من خمس كلمات '«معبر، أزرق، الباء، رائحة، الينسون» وهي كلمات تحتاج من القارئ تأملا في العلاقات المفترضة بينها مع أنها جد ملتبسة، ليبقى العنصر الشعري هو القادر على فك لغزها. ومن هنا تراهن الرواية على انفتاح خطابها منذ أول عتبة على خطابات متعددة. والعنوان هنا كعتبة أولى يؤشر على بنية مكانية عارضة ' معبر' ووصف غريب منسوب إلى المكان لأنه ليس من فصيلته الدالية، ثم نجد مؤشرا حاسيا ' من الحواس' له علاقة بالأنف ' رائحة' منسوبا إلى 'الينسون'.
ـ رواية: هذا التعيين الجنسي خدعة كبرى لأن الكاتبة لا تنوي الوقوف عند حد الجنس الواحد، بل رهانها الأكبر على نمط لا حدود له ولا خلجان، هي تريده نصاً مثل المدى المشرع كلما حدقت فيه انفتح واتسع، وإيرادها لهذا التعيين الجنسي هو تسييج لفعل القراءة ودرء لكل ما يمكن أن يشوش على القارئ، خاصة وأن العتبة الأولى تحيل على نمط آخر هو الشعر. لذلك فعتبة التعيين الخطابي الجنسي يستبعد الشك الذي قد يخامر القراءة.
ـ الإهداء: وهو عتبة تلح على عنصر الحكي. إنه على غير العادة ليس من خارج النص، بل من صميمه، إذ يصبح المهدى له شخصا أساسيا في بنية الحكي، فهو محفز عليه ومستثير لمواده، فغياب هذه ' العميرية' هو الذي يجعل الكاتبة تهفو إلى السرد، وتحقق العمل الروائي وفاء لشخصية سكنتها مثل الأحلام الجميلة.
ـ الإعلان التعاقدي: ويصبح القارئ للرواية، بناء عليه، راكبا لسفينة متاهية من الحكي، ومسافرا مجهولا في بقاع تغري بالمغامرة. وهذا التوجيه لفعل القراءة يحذر القراء من مغبة الغفلة أثناء عملية ركوب صهوة المحكي نظرا للوعي من الكاتبة بتشعب عناصر المحكي ودرجة تفاوته عن التقاليد الحكائية التي رسختها القراءات الكلاسيكية لدى الشرائح الكبرى من المتلقين. إنها بعبارة أصح، تسخر من القراءة الخطية من خلال تأسيسها لتعاقد الانتباه والحيطة أثناء التجوال داخل المتاهات النصية المتداخلة والمتشابكة خوفا على قارئها من الضياع.
ـ النصوص الموازية: وتسبق كل فصل من فصول الرواية، وهي لا توضع هكذا عبثا وبشكل عشوائي، بل لحضورها ما يبررها على مستوى البناء والتأسيس الدلالي، لذلك لا بد من تأويل القارئ لمؤشراتها، وتأمل مقترحاتها الباطنية قصد ربطها بالمحكي النصي. ووجودها يدخل فيما يدعى في الأدبيات النقدية بـ' الميتاروائي' ذاك الذي يأتي على هامش المروي ليناقشه ويساجله من داخل التجربة.
ـ الصور والأشكال المتخللة للنص الروائي: وتأتي تطعيما لرؤى النص وتعميقا لها، فالروائية الشابة تعي الثورة التي تحدثها الصورة في عالمنا، وتخبر أثرها السلطوي على المتلقي بصفة عامة، لذا فهي تشركها في الصوغ الخطابي لنصها الروائي حتى يكون شديد الحساسية من منظور القراءة التفاعلية للخطابات الهجينة، تلك التي تنفتح لتقحم وسط رحمها بذرات متعددة وفسائل متنوعة تبرعم مشكلة خطابات داخل خطاب، بما يثري القراءة ويغني السجال الداخل نصي.
2 ـ شخوص وعوالم
يعج المتن الروائي في «معبر أزرق» بالشخوص التي تلبس أقنعة الواقع المزيفة وتصول بمنظور التخييل في العالم الروائي. لقد استدعت الروائية الفواعل من المكان المرجعي محافظة على سماتها المميزة وأفكارها المضطربة وتيهانها في جحيم اليومي القاهر حالمة مرة باللذة وغارقة تارة في العذاب، لكن من كل'هذه الشخصيات يظل لـ ' سبأ' قصب السبق في تحويل بنية المحكي وتحريك عجلته، إذ عليها تدور رحى الأحداث. وتتخذ هذه الشخصية المحورية في علاقتها بالذات الكاتبة بعدا اسطوريا محيرا، فهي الحافز على الحكي، وهي الشخصية الغائبة، وهي الراوية ' نغلق ضلفتي الدولاب علينا، أرى حكاياتها كلها تدفع بشخوصها ليسكنوا الدولاب... يتحركون في ظل زحام البنطلونات والقمصان والبذلة الوحيدة، يحاولون شد حبل الزمن.. فيقودون سياراتهم، ويقبلون عشيقاتهم، ويجردونهن من ملابسهن قطعة قطعة فوق رأسي، التي احنيها حتى لا تخجل سبأ، ولتستمر في الحكي'، وهي الشبح الذي يهوس الرواة، وهي سر المكان الخالي الذي يعيش على ذكرياتها وماضيها المتهالك إلا من ذاكرة الكاتبة. وبالنظر إلى الطريقة التي تتعامل بها الكاتبة مع الشخوص والواقع المرجعيين يتأتى لنا القول بكون الرواية تعجن الواقعي بالمتخيل، وتقدم السير ذاتي في لباس الروائي التخييلي برؤية فنية عالية وتمثل فكري عميق.
تورد الرواية شخصياتها مغلفة بنظرة مستاءة للعالم، ويرافق هذه النظرة التوظيف الساخر من الكاتبة: الشخصيات تكاد تكون لا إنسانية بفرط ما تحمل من قيم سمجة سخيفة، وبالنظر إلى ما تتحمله من ألم لا تقوى على حمله إلا الدواب. وفي هذا تشكيل فني لرؤيا الروائية للواقع. إن الحكي في هذا النص يتوزع بين راو مشارك في الأحداث يروي بضمير المتكلم، وآخر محايد يحكي بضمير الغائب، وما الراويان معا سوى وجهين لراو واحد يستعمل ضمير المتكلم عندما يريد كشف الذات ليقترب من عالمها أكثر ويذوت المحكي، ثم يرتقي أحيانا ثانية لينظر إلى العالم الذي يحكي عنه بضمير الغائب. وفي كلا الحالتين ينم الاشتغال عن دقة متناهية في الصوغ الفني والخطابي. كما أن الروائية تختار رواة ذكورا لتجعل بينها وبين العالم المسرود مسافة لتوهم متلقيها أكثر بحياديتها وتملصها من ربقة الأنا الساردة. وقد حالف الكاتبة النجاح في التعبير عن رغبات الرجل وأفكاره وهلاوسه تماما كما أفلح الكثير من الروائيين الذكور في تشخيص معاناة النساء وأحاسيسهم. ومن يتفرس جيدا في المؤشرات اللغوية الدالة على الفضاء، يلفي أنها لا تخرج عن أفضية مرجعية مصرية حيث الضجيج والشقق العامرة والأسواق المزدحمة، وحيث المواقع القاهرية تتكلم لغتها الخاصة العبقة بالتاريخ.... وتلبس هذه الأفضية في النص أردية غير أرديتها في المرجع، فالكاتبة تضفي عليها حيوية خاصة لتكسبها سمات المكان الإبداعي المتخيل الذي ينزاح عن طبوغرافيته الأصلية.
3 ـ سخرية من الشكل والعالم
من الواضح من خلال المتن الروائي أن الروائية تسخر من كل ما تحفل به الرواية، إنها تبني القيم وتهدمها تعبيرا عن احتجاج صريح تجاه إنسان العصر الذي يطأ بكلتا رجليه القيم الإنسانية التي تميزها عن غيره من المخلوقات«'كما أنها تسخر من الجنس الأدبي الذي يدعي النقاء عبر تهجينه وتفتيت بناه وإقحام أشكال خطابية جديدة فيه، كما أنها تسخر من اللغة الفصيحة عبر تهجينها باللغة الأجنبية والدارجة. وتسعى لخلخلة بنية النمط الذي تتخذه الشخوص عبر منحها أكثر من وجه محاكاة لوجه الشخوص الإنسانية التي يحبل بها الواقع. ونلمس كسر الخطية في الأحداث الروائية التي تتجاور في شكل فوضوي يدعو القارئ إلى إعادة بنائها. وبهذا فهي تسخر من المتلقي المستهلك السلبي الذي ينتظر نصا جاهزا دون بذل أدنى مجهود.
كما أننا نلحظ أن تنظيم الورقة يعرف انقلابا مكشوفا، بحيث أن فضاء الصفحة اتسع ليشمل عددا كبيرا من أشكال التعبير ' مقالة في جريدة، صوراً تشكيلية، صوراً فوتوغرافية، جداول، ترسيمات مقلوبة، استعمال الهوامش، الإكثار من نقط الحذف، تنويع الخطوط والبنوط، اللعب بالبياض والسواد والفراغات، التوازي على مستوى الفقرات«««'. وبهذا الاستغلال للسند البصري تكون الكاتبة قد سخرت من عقم اللغة وعجزها عن التعبير، وكشفت آليات تعبير جديدة من شأنها إثراء الدلالة وتنويع أشكال الخطاب. وتصل درجة الاشمئزاز من القيم السائدة إلى حد انتقاد الشخصية الرئيسية للأب والشكوى من أفعاله الشائنة ' من مؤخرته تخرج الكثير من الروائح إلى فمي وأنفي مباشرة، فأتذوق الطعام مرتين، مرة مهروسا ومسلوقا، ومرة غازيا'.
إن العالم الروائي بما يحمل من رؤى، وما يستضمره من شجب لممارسات الإنسان تجاه ذاته والآخرين والعالم الذي يعيش فيه، وما يطفح فيه من أشكال خطابية وتعبيرية وفنية، وما يشي به من دقة الوصف والتأمل والتصوير، يكشف لنا عن خصوصية الكتابة الروائية عند ياسمين مجدي، وقدراتها الطبيعية على اختلاق نص متخيل تعجن فيه الواقعي بالمتخيل، وترهن فيه الوعي بالكتابة بالوعي بالمجتمع والإنسان في حلة بديعة من السرد الروائي تحتاج إلى أكثر من مساءلة وأكثر من مقاربة نظرا لما تزخر به من مكونات نصية وتناصية وجمالية.