يبحث كتاب '(تاريخ الإذاعة الفلسطينية .. هنا القدس 1936 ـ 1948) للكاتب الفلسطيني نصري الجوزي المقدسي الذي صدر مؤخرا في دمشق في تاريخ الإذاعة الفلسطينية وفي الظروف التي اضطرت بريطانيا إلى تأسيسها، لتصبح، بعد ذلك، منبراً للفلسطينيين والعرب للتعريف بسياسة إسرائيل العنيفة ومؤامراتها ضد فلسطين، ودول عربية أخرى كثيرة. ويتابع الكاتب الذكريات حول تأسيس إذاعة فلسطين .. ' هنا القدس' شؤونها وشجونها، والظروف النضالية الصعبة، التي خاضتها صفوة من كتاب وشعراء مرحلة الثلاثينات والأربعينات من القرن الميلادي المنصرم في فلسطين.
تهويد فلسطين 1934
بيّن الكاتب في البداية الأسباب التي حدت بالحكومة البريطانية، المنتدبة آنذاك على فلسطين، إلى تأسيس هذه المحطة الإذاعية الحكومية التي كان لها قصب السبق على جميع الإذاعات الحكومية في الشرق الأوسط. فلقد نشر حاييم وايزمان، زعيم الحركة اليهودية مذكراته بعنوان (الخطأ والتجربة)' وذكر فيها أن الإنكليز والصهاينة كانوا قد اتفقوا على تهويد فلسطين عام 1934. ولما لم يتمكن الفريقان المتآمران من تنفيذ خطتهما بسبب المقاومة العنيفة التي كان يقوم بها الفلسطينيون العرب إضافة إلى الثورات والاضطرابات التي أشعل نيرانها أبناء فلسطين والعاملون المخلصون في الحقل الوطني، فقد لجأت الحكومة البريطانية ممثلة برئيس النيابات العامة البريطاني (اليهودي نورمان بنتويتش)، إلى سن قوانين قاسية صارمة عرفت بـ 'أنظمة الطوارئ'، وغايتها من وراء ذلك: ضرب كل مقاومة وطنية، ومنع العرب من التسلح والقضاء على فكرة القومية العربية والتلاحم الشعبي، وفرض الضرائب والرسوم الباهظة على الأراضي والأملاك بغية إرغام الفلاح على بيع ما يملك من الأراضي، وتشجيع الهجرة اليهودية ،ومضاعفة جهود الإنكليز في تسليح المنظمات العسكرية الصهيونية، وغض النظر عن عصاباتهم السرية الإرهابية.
ثم بيّن الكاتب أن خريف عام 1935 كان نذيراً بالعاصفة، فالعمال العرب العاطلون في ازدياد مستمر، والأزمة الاقتصادية في البلاد على أشدها، ودخول 60.000 مهاجر صهيوني، إضافة إلى القوانين الجائرة التي كانت تسنها السلطات الحاكمة ضد مصالح العرب الفلسطينيين، ومحاولة إيجاد بلبلة بين الأحزاب الفلسطينية الستة، كل ذلك سبّب قلقاً واضطراباً رافقه تحفز ملموس للتمرد والعصيان كما اتسعت الاصطدامات بين الجماعات العربية وقوات الحكومة وازدادت الهجمات على المستعمرات الصهيونية ومخيمات الجنود البريطانيين، كما اشتدت عمليات تأديب الخوارج والجواسيس وباعة الأراضي.
محطة الإذاعة الفلسطينية
في هذه الأجواء الوطنية الصادقة، وفي خضم هذه الانتفاضات والثورات وقيام نشاط بعض الأحزاب، وبلوغ التذمر مداه في جميع مدن فلسطين وقراها، أنشأت الحكومة البريطانية محطة الإذاعة الفلسطينية في شهر نيسان (أبريل) سنة 1936 رغبة منها في تهدئة الخواطر وتحويل الجماهير المناضلة الثائرة عن أهدافها الرئيسية وهي: إيقاف بيع الأراضي، ومنع الهجرة اليهودية، والحفاظ على عروبة فلسطين. ولعل من أهم أهداف الإنكليز في تأسيس الإذاعة الفلسطينية هو شعور بريطانيا بكره العرب الفلسطينيين لهم وميلهم لبطل الساعة آنئذ الهر أدولف هتلر. ولكن الإذاعة الفلسطينية كانت خيراً على العرب، وتوعية لجماهيرهم، وتفنيداً للأفكار المضللة التي كانت ترمي إليها السياسة البريطانية المخادعة. كانت محطة الإذاعة الفلسطينية عند تأسيسها (عام 1936) تشغل غرفتين من غرف فندق بالاس الواقع في شارع مأمن الله في القدس. وفي أوائل الحرب العالمية الثانية أي سنة 1939 انتقلت إلى دار كبيرة مكونة من تسع غرف للإذاعة وخمس غرف للأعمال الهندسية. كانت مدة البرنامج اليومي عشر ساعات ونصف الساعة مقسمة كما يأتي: أربع ساعات ونصف الساعة باللغة العربية ، وثلاث ساعات ونصف الساعة باللغة العبرية ، وساعتين ونصف الساعة باللغة الإنكليزية. وعند افتتاح محطة الإذاعة الفلسطينية كان عدد أجهزة الراديو في البلاد ما يقرب من الواحد والعشرين ألفاً.وكانت قوة المحطة 20 كيلو واطاً وتبث على 449.1 متراً بما يساوي 668 كيلو سيكل.
تسلم إدارة القسم العربي في محطة الإذاعة الفلسطينية ثلاث شخصيات معروفة هم: إبراهيم عبد الفتاح طوقان .. أحد رواد الشعر العربي في فلسطين، وعجاج نويهض. صاحب القلم السيّال، محرر مجلة (العرب) التي كانت تصدر في القدس، وعزمي النشاشيبي. أول من حصل على دبلوم الصحافة من إنكلترا وساهم في تحرير جريدة ' فلسطين' باللغة الإنكليزية، فضلا عن أدباء معروفين في العالم العربي قد أسهموا إسهاماً فعالاً في تقدم القسم العربي وتطوره أمثال الأساتذة: محمد أديب العامري، عصام حماد، سعيد العيسى، موسى الدجاني، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، عبد الحميد ياسين وراجي صهيون. كما بيّن الكاتب أن المناهج التي اختطها المدراء ومساعدوهم، والأهداف التي عملوا من أجلها كان أهمها:
تعزيز اللغة العربية الفصحى، ومقاومة الأفكار الاستعمارية التي كانت تسعى إلى إدخال اللغة الدارجة بدلا من اللغة الفصحى. وحجة القائمين الإنكليز على تسيير دفة الأمور في محطة الإذاعة، أن الشعب بجميع طبقاته يفضل اللغة الدارجة التي يفهمها وينفر من لغة امرئ القيس والنابغة الذبياني، ولكن العرب الفلسطينيين المسؤولين عن القسم العربي تصدوا لهذه الهجمات المسعورة وردوا المستعمرين إلى نحورهم. ومقاومة السياسة البريطانية الخرقاء، ومخالفة القوانين الصارمة التي أحدثتها لتكبيل أيدي القائمين على إدارة القسم العربي. وقد لعبت الصحافة الفلسطينية دوراً بارزاً في هذا المضمار. وأيضا توعية الشعب العربي الفلسطيني إلى الأخطار المحدقة به والدسائس التي كانت تحاك له في الخفاء وتذكيره بتاريخه المجيد وأبطاله الذين خاضوا المعارك والحروب ورفعوا اسم العرب عالياً. كل ذلك عن طريق الأحاديث، والقصص، وبرامج الأطفال، والمسرحيات، والأغاني. أما أهداف الإذاعة لدى المستعمر فكانت: إعاقة الجهود العربية للدفاع عن فلسطين، إظهار اليهود بأنهم شعب متحضر لاقى ما لاقى من الظلم والاضطهاد في جميع أرجاء العالم، وتطبيق نظرية المستعمر المعروفة بـ ' فرّقْ تسد'. ولكن الإذاعة الفلسطينية كانت خيراً على العرب، وتوعية لجماهيرهم، وتفنيداً للأفكار المضللة التي كانت ترمي إليها السياسة البريطانية المخادعة.
هنا القدس .. تخاطب العالم
وبيّن الكاتب أنه كان للأحاديث العلمية والأدبية والفنية والدينية والتاريخية دور هام في تاريخ الإذاعة الفلسطينية ـ أي من عام 1936 إلى عام 1948 ـ فهي، أي الأحاديث، شاركت في تذكير الشعب بأبطاله العرب الميامين الذين خاضوا معارك فاصلة دفاعاً عن التراب المقدس، وذوداً عن كرامة الأمة العربية، وفتحت أعين الشعب إلى حقوقه المغتصبة، ونبهته إلى الأخطار المحيطة به، وساعدت المرأة العربية الفلسطينية في أن تلعب دورها الكبير في الحياة الاجتماعية والوطنية والسياسية. وأوضح أن الخوض في موضوع الأحاديث الإذاعية التي قامت بها الطبقة المثقفة العاملة يطول ويطول، فهناك المئات من الموضوعات التي أسهم فيها كتابنا وشعراؤنا وأدباؤنا وأساتذتنا خلال سني الإذاعة الفلسطينية، ولكنه آثر أن يمرّ مرور الكرام على بعض الأحاديث التي لا مصادر لها ولا نصوص، ويتوسع في أهم الأحاديث التي كان لها الوقع الحسن والتوعية الوطنية. ويذكر ما ذكره يعقوب العودات (البدوي الملثم) في موسوعته الفلسطينية من أعلام الفكر والأدب في فلسطين نقلاً عن عجاج نويهض الذي تسلّم إدارة محطة الإذاعة الفلسطينية في القدس مدة أربع سنوات، ما يلي: ومن الذين أسهموا في المجهود الإذاعي من أدباء العرب وعلمائهم وشعرائهم: محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي في دمشق، وخليل مردم وشفيق جبري وسامي الكيالي وفؤاد الخطيب وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وطه الراوي وعبد الوهاب عزام وخليل تقي الدين ونسيم يزبك وحليم دموس وعباس العقاد وعبد القادر المازني والشيخ عبد العزيز البشري والدكتور محمد عوض.
ومن فلسطين الأساتذة: عبد اللطيف الطيباوي وعمر الصالح البرغوثي ومحمد عبد السلام البرغوثي وحمدي الحسيني وخليل بيدس (القاص الأول في فلسطين) والشيخ سليمان الجعبري ومحمد يونس الحسيني ووديع الحسيني ووديع البستاني واسكندر الخوري البيتجالي وعادل جبر ومحيي الدين مكي وجميل الجوزي ونصري الجوزي وطيبو الصيداوي من هواة الرواية والتمثيل وغيرهم. وكانت من أبرز الأديبات النسائيات: سلوى السعيد وماري صروف شحادة وأسمى طوبي ووديعة شطارة وقدسية خورشيد وعزيزة الحشيمي الصالح وغيرهن. كما أورد الكاتب في نهاية كتابه ملحقا أثبت فيه مقالا حول تأسيس محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية في يافا في فلسطين.
الكتاب عبارة عن ذكريات الكاتب حول هذه الإذاعة، حيث كان من مؤسسيها الأوائل. فقد ولد نصري الجوزي الملقب بالمقدسي في القدس عام 1908 ، وعاش في دمشق بعد النكبة حتى وفاته يوم 17/8/1996..ولقد أصدر العديد من المسرحيات الصغيرة التي مثل بعضها في فلسطين، وكان يشارك في التمثيل والإعداد، وله كتاب بعنوان تاريخ المسرح الفلسطيني الذي صدر في العام 1990 وكان الكتاب الأول في مجاله، حيث حاول أن يرصد فيه تاريخ المسرح الفلسطيني ذاهبا في المكان حتى العمق، متحدثا عن فلسطين ونشوء المسرح فيها، مركزا على الكثير من الظروف التي أحاطت بنشأة هذا المسرح، ذاكرا شخصيات كثيرة ساهمت في بناء هذا المسرح ..
الكتاب: ' تاريخ الإذاعة الفلسطينية .. هنا القدس'
المؤلف: نصري الجوزي المقدسي
الطبعة: الأولى - 2010 م
عدد الصفحات: 176 صفحة من القطع الكبير
الناشر: الهيئة السورية العامة للكتاب ـ سلسلة آفاق ثقافية - دمشق