يتناول الباحث والناقد التونسي في هذه الدراسة المستبصرة رواية الكاتب اللبناني شربل داغر بالتحليل كاشفا عما فيها من جدل عميق بين ثقافة الاعتراف والحاجة لحوار التكالم.

مابين ثقافة الاعتراف والحاجة لحوار التكالُم

في (وصيّة هابيل) لشربل داغر

مصطفى كيلاني

بَدْء الاعتراف أو حَدَث الرصاصة الطائشة : حوار مرسل، حركة مشي، في ظاهر المروي، لا تتوقّف عَدا لحظات استراحة مؤقتة قبل استئناف المسير، كما المسجّلة تشتغل لتلتقط كلّ الأصوات والنبرات في الإجابة علي عددٍ هائلٍ من الأسئلة يوجّهها المحقّق إلي الكاتب بدءاً من سؤال الرصاصة الطائشة .

فما الرصاصة؟ ومن مُطلقها؟ ومن الذي أصابته تحديداً(1) ؟ غير أنّ الإجابة لا تكتفي بالإثبات العارض، إذ سرعان ما تُخصب أسئلة تليها أسئلة، كمن ينظر إلي ذاته في مرآة ذاته ليتأوّل جديداً من ذلك السالف المتقادم القابع في دفين الذاكرة: فمَن المُحاوِر؟ ومَن المُحاوَر؟ ومن المتكلّم الأول والأخير منهما؟ ومن الضحية؟ ومن الجلاّد؟ وما الحدود الفارقة بين الواقع والاستيهام؟ وبين الذاكرة والتخيّل؟..

ولئن اقترن الحوار بفضاءات مختلفة حسب اطّراد حركة الذهاب فالإياب، بالمواقع ذاتها، فإنّ موطنه الأساسي والمرجعيّ هو الذات المُفْرَدة والمتعدّدة بثالوث الأنا والأنت والغير، بالأنا المُثْبت وما يجري في صميم الذات من تكالُم (2) ورد علي شاكلة حوارات تتوالد في الأثناء كي تفضي في الأخير إلي الصمت، البياض الحالك"، الفراغ، وحشة الانعزال(3) . لذلك يتّصف المَرْوي بالتكثّر القولي استناداً إلي كتابة الاعتراف Confeion بدافع الرغبة في بعضٍ من التنفيس أو التصعيدSublimation. لقد زخرت الذاكرة بعديد التفاصيل التي تبدو بسيطةً عارضة في حياة صاحبها الراوي والمروي، باعتماد الحدث الأول والمرجعي المتمثّل، كما أسلفنا، في انطلاق الرصاصة من مسدّس الأب في ماضي الطفولة البعيد، ليكتسب هذا الحدث، رغم واقعيته السالفة، مَلْمحاً شبه رمزي يُساعد علي تمثّل العديد من الوقائع الحادثة في راهن الوجود الفردي والجمعي.

فكيف يشكّل هذا الحدث بفعل الكتابة السردية التي صيغت في الأساس حواراً؟ وكيف يشتغل للتدليل علي ما كان ويكون وما يمكن أن يكون في قادم السرد ومستقبل الوجود الماثل فيه والحافّ به؟ 

أأنا مُحاوِرٌ أم متكلّم؟
يعرض في الفصل الأول من وصيّة هابيل لشربل داغر سؤال ما يصل بين الاسم والمسمّي. فالنصوص ـ العتبات Para ـ Textes البدئية تشي بهذه الدلالة الواصلة والفاصلة بين طرفي الاسم. فمَنْ هو هابيل تحديداً، بالمنظور الاستعاري الدالّ علي واقع، بل وقائع حادثة؟ ولِمن وصية هابيل؟ ومن القاتل؟ هل هو قاين (قاييل) الأخ أم الآخر البعيد المتعدّد، بمدلول الإنسانية جمعاء؟ هكذا وظّف شربل داغر النصوص ـ العتبات لتصدير روايته. أمّا الفصول الخمسة فقد اكتفي بالترقيم لتعيينها، وبذلك انزاح عن مُجمل التسمية، تقريباً، إلي ظاهر التنكير الذي يُحيل ضمناً علي القصد من الوصية. ولأنّ السرد الروائي يستدعي في المُتداول الشائع من الأساليب كتابة المطابقة (Dnotation) بالتجزيء والتفصيل وتوصيف الأشياء والأفعال والأقوال احتفاءً بالمكان في صلته بالكيان فقد التزم الكاتب آنَ تحّله من عالم الشعر(4) إلي الرواية بانتهاج التسمية التي لا تنفي معها تماماً الحاجة إلي الإيحا (Connotation)، كالجمعْ بين أقوال شتّي استقدمها مِنْ إنجيل لوقا والدُرّ الفريد وبيت القصيد لـ محمد بن سيف الدين بن أديمر والانتظار، النسيان لموريس بلانشو والبيان والتبيين للجاحظ وحوار لإيمانويل لفيناس. أمّا الواصل بين مختلف هذه الأقوال فهو المعني أو إمْكان المعني، هذا الذي تتحدّد به ماهية الاسم كي لا يلتبس ويضيع في زحمة العلامات، وإن احتاج المعني ذاته إلي مرجع آخر للتسمية، كالقول بالروح، القيمة، مضمون المقال، التقريب، جمالية الالتباس، رؤية ما بين الإبصار والعمي (العشا)، دلالة الصمت، ما وراء الساكن، الحبّ الذي لا يحيل علي غرضٍ جاهز أو قصد ثابت...

وحينما نشرع في قراءة الفصل الأول من الوصية ننتقل من الإيماء إلي ما يشبه التصريح، ومن الإيحاء شبه المحْض إلي مطابقة السرد التي لا تخلو من إيحاء رغم إشكال التسمية القائم نتيجةَ إطلاق الاسم علي عديد الأشخاص، كـ شربل داغر الدالّ علي لاعب كرة سلّة وممثّل وكاتب وأستاذ جامعي، وغيرهم من عائلة داغر(5).

فـ "المطابقة الموحية"، إذا جازت العبارة، هي وليدة تمثّل أجناسي لا يقول بالحدود الفارقة بين الشعر والسرد الروائي، لأنّ الالتباس الحدث هو من التباس الحال، مثلما يتبدّي التباس الحال من التباس الحدث. لذلك انفتح النص الروائي علي تداعيات الحال الشعرية المتلبّسة بالذات الراوية، وعلي ضرورة إثراء الأدبية باسترسال الحوار الذي تُقارب الرواية به تخوم الكتابة المسرحية ورمزية الإظهار التشكيلي حينما تتأكّد حاجة أداء الحال والحدث معاً إلي جمالية الرسم. لقد راهن شربل داغر في إنشاء نصّه الروائي علي الحوار الذي هو بمثابة السرد المسند إلي الحاضر، لا الغائب. فَكَسَر بذلك قانون العادة الذي يتّبع توصيف الأحداث بالإحالة علي الغائب (الرؤية من الخلف)، أو الحاضر (رؤية المصاحبة)، مع تضمين الحوار الذي هو بعضٌ من كلّ. وما جرت عليه عادة السرد الروائي باعتباره جُزءاً، أي الحوار، أضْحي كُلاّ، في حين انقلب سردُ الأحداث إلي جُزء. وبهذا الانقلاب الأسلوبي في أداء السرد الروائي بدا الحوار ظاهرةً أسلوبيةً ودلاليةً في الآن ذاته، بعد أن ثبت عند مُجمل أدائه القصد الأول والأخير من المراهنة عليه. فهو أسلوب يتحكّم بجميع الأساليب السردية الأخري، وهو دلالة حينما تتكثّر المعاني الدالّة علي انحباسه بغياب التواصل. وإذا الحوار المرسل، في ظاهره، إمكان للحوار الذي سرعان ما أسفر عن استحالة التواصُل، كي يظلّ التخاطب شبيهاً بـ "تخاطب الطرشان"، أو هو التظاهر بالحوار لِقصد مُبّيت يستلزم الظهور أمام الآخر/الآخرين بصورة من لا يرفض الحوار، ليضمر كلّ طرف القصد الأول والأخير منه وينفي ماهيته في الأثناء مخافة الوقوف عند قرار مُلزم للجميع، دون استثناء.

وكما ينفلت الرمل من بين الأصابع، أو يفرّ الماء من الماء عند جريانه يُضمر الحوار المُفتعل أكثر ممّا يُظهر، بل قد يدفع إلي مزيد من الالتباس، كشاهة تُفضِي إلي متاهات أشدّ التواءً ورعْبا. وما سؤال: ماذا لو نبدأ من الرصاصة؟(6) إلاّ إيغال آخر في النفق الغميق حيث الكلّ يؤاخي الكلّ ويدينه في ذات الحين، شأن الطائفة والوطن في مرجع مُجتمع الرواية، كالقول بأنّ الوطن هو الأصل والمَرَدّ للكلّ، مهما اختلفوا عند التخاطب، وتغليب الطائفة علي الوطن كلّما عاد أي قبيل إلي شرنقته الخاصة، حيث لا حوار ولا تواصل داخل الذات الواحدة.

لذلك لا يُفضي سؤال الرصاصة الأولي إلي إجابة محدّدة، بل يولّد السؤال سؤالاً آخر: عن أيّ رصاصة تتحدّث؟(7). ونتيجة غياب التواصل بين مختلف أطراف الأسرة الوطنية الواحدة، كغيابه أيضاً داخل كلّ طرف منها، تُضحي الأرض المشتركة أرضاً سائبة، يدوسها من يشاء، ويقطف ثمارها البرية من يشاء(8). فيُقارب واقع التخاطُب اللاّمعقول، كوصية هابيل القتيل لم تكتب بعدُ، وقد لا تكتب، رغم كونها تمثّل نواة السدي الحدثيّ لمجمل البناء الروائي، وكالخداع المُتبادل رغم الإيهام بأنّ ما يقال هو ما يراد قوله حقاً، وكتنصّت الكلّ علي الكلّ، وكفيض الكلام ينتفي به الحوار.

ولأنّ اللغة، ولغة السرد الروائي المتداولة تحديداً، عاجزة عن أداء هذه التراجيديا الهزلية"، أو المهزلة التراجيدية"، فقد توسّل شربل داغر علي لسان الراوي المتكلّم بما يشبه الرسم التكعيبي خلافاً للرسم التراجيدي الذي اندسّت تأثيراته في جُلّ ما كتبه شعراً، كأن استقدم علامية المتوسّط بين المشهد والمرجع، علي غرار رسمِ بيكاسو للوجه الذي يبدو مثل خيوط متتابعة من دون تضليل أو تغوير(9) فواقع الرواية المرجعي، إن حاول السرد الروائي التدليل عليه، يُقارب أساس الرسم التكعيبي. لأنّه واقع ملتبس حدّ الفجاجة، فُجٌّ حدّ الالتباس بالحوار المُخادع المُرْسل حيناً، المتقطّع حيناً آخر، الدوراني لانتفاء الوجهة، إذ كلّما حاول الجسد الجماعي التحرّك إلي الأمام ارتبكت الأعضاء، واستبدّ الوهم القتل الثأر برغبة التحرّك للخروج من الهوّة ـ المتاهة إلي نور الصباح الجديد. فما الذي يتبقّي، إذن، للموجود في مأزق هذا الحوار اللاّ ـ حواريّ، إذا جازت العبارة، عدا الاسم الفردي: شربل داغر تحديداً، بمُجمل مسمّاه، بالآثار الكتابية الدالة عليه، وبالكتابة التي لم تُنْجَز بعد، وهي، لا شكّ، في طريقها الحتميّ إلي الإنجاز، ما دام الاسم الجماعي مسكوناً بلَوْثة ثقافة العنف، العدوان، القتل، الثأر، الانتحار حقيقةً ومجازاً؟

يتحوّل السرد الروائي من اللاّ ـ مكان، تقريباً، برؤية الإبطان إلي المكان الضاغط بواقعيته علي المرويّ رغم تحوّله نتيجة تأثيرات الزمن عليه. فبيت داغر الجدّ لم يعد كما كان بعد أن تغيّر الكيان بموت الأوائل وتفرّق شمل العائلة الواحدة. وإذا الأصل المتشرّد فاقد لأصليته بحكم التقادم كداغر داغر اختفي عن الوجود، ولم يتبقّ من الشجرة داخل المكان الأول المرجعي إلاّ الأخ الأكبر(10). وآنَ التحوّل من الكيان المتشتّت في الفصل الأول من وصية هابيل إلي المكان شبه المندثر في الفصل الثاني تتأكّد أزمة الهوية الواصلة بين المكان والكيان، رغم الآثار النابضة حياةً الدالة عليها، إذ تساعد ذاكرة الجار أبو سامي والمرأة القريبة وابنتها علي الكشف عن بعض المُخبإِ من ذاك الآيل السريعِ إلي الاندثار. ولئن اتّصف الحوار بما يشبه التحقيق البوليسي، فقد تطرّق مفاده إلي موضوع أنطولوجي يخصّ هوية الكائن وماهية الكيان عَوْداً إلي داغر داغر تحديداً. كذا الفرع دالّ في الأثناء علي مجمل الشجرة: الجدّ والجدّة والأبناء والأحفاد بحكم التواصل والانفصال نتيجة غياب الأصل وانتشار الفروع في اتّجاهاتٍ ومواطن شتّي، وتوزّع الملكية(11). فتلعب الذاكرة بمختلف تداعياتها دوراً أساسياً في ملء الفراغات الناتجة عن تقادم الزمن واندفان كلّ من هوية الكائن وماهية المكان في زحمة التغييرات الحاصلة. غير أنّها ذاكرة مرتبكة غير متناظمة إلاّ في مواطن محدودة لاتّصاف الحوار ذاته بالتقطّع ونزوعه إلي اللا ـ معقول أحياناً نتيجة ما يحدث من فراغات أخري لعلّها أشدّ أذي وأكثر تعتيماً من فراغات الأصل.

وإذا عُدنا إلي المكان الدالّ علي الكيان الفردي والجمعي تبيّن لنا تعدّده الإثني رغم واحديته الفيزيائية، كأنْ يصل ويُباعد في الآن ذاته بين العرب (قوم داغر) والأرمن والأكراد. فلا تتحدّد هوية الكائن بماهية المكان مثلما لا تتحدّد ماهية المكان بهوية الكائن. ولعلّ هذا التوصيف الأنطولوجي يُمثّل أهم خصوصيات مجتمع الرواية المرجعي (لبنان)، نتيجة التعدّد الإثني الذي يقضي بملكية الوطن للجميع، دون تحديد المواطن كي يظلّ الاسم المرجع الوحيد الذي نستدلّ به علي المكان والكيان، هذا الاسم الجامع بين السلف والخلف، بين ذاكرة الأب وذاكرة الابن بمشترك كينوني اتّخذ له صفة المغامرة والمعني الذي يقارب اللاّ ـ معني، كأن تتردّد حياة داغر ـ الأصل بين وظائف شتّي وإمكانات وجود مختلفة لينتهي به الحُلم إلي البقاء في المكان ذاته، الذي نشأ فيها وعاش مختلف مراحل عمره (12). إنّ حوار الاسترجاع، رغم حرصه علي لملمة شتات المرويّ، هو الشكل الآخر لانتفاء التناظم السردي، إذ الحفر في ماضي الاسم ـ الأصل (داغر) يكشف عن اختلاف شكليّ بين داغر الأب وداغر الابن، إذ لكلّ منهما حلمه الفردي الخاص برحابة المكان وانفتاح آفاقه(13). وكأنّ حلم الابن امتداد لحلم الأب. فما ظلّ رهين الأمنية في البدء استحال في الما ـ بعد إلي حدوث واقعي، كالسفر في المكان والترحال في الكيان بفعل الكتابة، ليظلّ كلّ منهما مهووساً بالمكان، يقطع النظر عن ضيقه أو اتّساعه، المكان الزاخر بالأشياء الدالّة عليه، المكان الذي يدفع الكائن إلي الضياع الجميل(14). فتكشف ذكريات أبو سامي الجار والصديق عن عديد التفاصيل الخاصة بـ داغر داغر كي يتّسع مجال المرويّ في الأثناء بداغر الابن، عوداً إلي زمن المراهقة والالتزام السياسي وحياة الدراسة الابتدائية فالثانوية في الحيّ الأول القديم. وبذا يُقارب المرويّ الترجمة الذاتية التي يتّسع مداها بأسرة داغر وبتعدّد حيوات الأفراد في الحيّ القديم وتواصلاتها الحميمة. 

الموقع / المرجع: دلالية الصخرة والثالوث الوجودي
وكأنّ الرؤية البانورامية في الفصل الأول تستدعي رؤية موقعية، مروراً من الوطن إلي الموطن بتمثّل مواقعي (topographique) يُماهي بين مكانية الراوية والمكان المرجعي الواقعي المتغيّر زماناً، والمختلف كياناً عند مقاربة السابق باللاحق. يسترسل الحوار في الفصل الثالث من الوصية كالسابق متناظماً حيناً، متقطّعاً أحياناً بدافع البحث في حقيقة الأصل، في الأساس المرجعي الذي به يُمكن معرفة السبب الحافز علي إطلاق الرصاصة الأولى. وكأنّ الحدث يمثّل أحد أهمّ الثوابت التي تُفضي إلي إنقاذ المرويّ من سلطة العبث المحْض ومحاولة تمعين (من المعني) الوجود بإكسابه بعضاً من دلالة الاتجاه.

ولئن اتّسم المكان بما يشبه المتاهة ممثّلة في الطريق الذي يُفضي إلي طريق، والموطن الذي ينغلق لينفتح سريعاً علي موطن آخر في سلسلة حلقات الحوار القائم علي تواصل الانفصال بدءاً ومرجعاً، فهو الدليل التقريبي الوحيد علي إمكان الخروج من وضع الوجود ـ المتاهة، لأنّه مكان واقعي ورمزي في الآن ذاته، بل إنّ رمزيته ماثلة في مدي واقعيته، وواقعيته الرمزية تعني بالضرورة تفاصيل الأشياء والذكريات والحالات والمواقف الدالّة عليه عند استرجاع زمن المنعطف الحاسم في حياة الشخصية الراوية والمروية تردّداً بين الحبّ والاعتقاد، بين انفتاح المكان وانغلاقه، بين حياة الاستجابة للرغبة بمختلف أحوالها ونداءاتها وبين الالتزام العقدي في أيام الدير عند الامتحان وانقضائه بثبوت الحاجة إلي الفصل أو الانفصال. كذا يغرق المرويّ في سردٍ تَرْجَذاتيّ (نسبة إلي الترجمة الذاتية) دون التقيّد بظاهر المعيش المتذكّر، وإنّما هو الاسترجاع الذي يُكسب ذلك المتذكّر البعض الكثير من الطيف الدلالي الناتج عن الحنين الذي أخصبته المسافة الفارقة بين زمن الاسترجاع وزمن الوقائع والأحداث. فالحوار، إذن، هو الأسلوب العام المتّبع الذي يصل بين سابق المرويّ ولاحقه علي امتداد البنية الروائية. غير أنّ الأسلوب العام يتّخذ له، عند الفصول وسياقاتها المختلفة، أشكالاً موقعية تتنزّل بين المطابقة، باعتبارها الحدّ الضروري لأداء السرد، والإيحاء لكونه علامةً جمالية تُكسب هذا السرد صفة الشاعرية، وتحوّله من مدار الوجود المعتاد إلي الوجود الاستثنائي، بفعل تداعيات التذكّر الذي يتّخذ له صفة اللحظة الجمالية بلغة السرد الروائي المخصوص، وبما يشبه الترجمة الذاتية، كما أسلفنا. ومثلما يستدلّ الراوي بالرصاصة بدءاً دون التوصّل إلي علامة مرجعية مخصوصة يبحث له في الأثناء داخل الوجود من أشياء وأحداث ومواقف قديمة عن دليل قد يساعد علي معرفة ما ينبغي معرفته لتعليل ما حدث ويحدث في الكيان الفردي والجمعي علي حدّ سواء.

لذلك تمثّل الصخرة في الفصل الثالث شبه ثابتٍ علاميّ يمكن الاستضاءة به علي الراهن وممكن المستقبل في مسار الحوار اللاّ ـ تواصليّ، إذ هي مجمع علامات، إن سلّمنا بثبوتها الشيئي وبالأحداث القديمة الحافّة بها وإمكان تدليلها الأنتروبولوجي وحضورها الجمالي المرجعي وتأثيرها في تهييج الذكريات القديمة والحالات الحادثة، واقترانها بوهج البدايات عند استرجاع البعض من تفاصيل الحبّ الأول آنَ التواصل الحميم مع دعْد الخرساء .وكأنّ ثالوث أنا ـ الراوي ودعْد والصخرة يمثّل رحما وجودياً أثمر ولادة ثانية في حياة الكائن ووعي الكيان، بل لعلّ هذا الثالوث يضاهي في مستوي القيمة الرمزية لمجمل الكيان تلك الجنة الرمزية الضائعة التي يسعي الكائن الفردي والمجموعي إلي استعادتها رمزاً بواسطة الاعتقاد أو الوعي الجمالي، بقطع النظر عن الحدّ الأجناسي ووسائل الإبلاغ الفنية. وكما تضيع هذه الجنّة بفطام المشيمة، ثم الرضاع، ودهشة الوعي الأولي، لا يبقي من دعْد وحبّ دعْد إلاّ الصدي لذكريات قديمة تشهد عليها الصخرة شهادتَها علي أزمنة وذواتٍ أخري في سيرورة الوجود العام، بل يحدث ضرب من التفسّخ أو التحوّل (metamorphose)، الالتباس باهتزاز الذاكرة، ربّما، أو بارتباك الكيان ذاته عند الانتقال من دعْد إلي هند"، ومن المقدّس البدئي الطبيعي إلي مدنّس"ٍ جميل آسر تلازم مع مقدّس آخر، إنْ أحلنا علي عديد التفاصيل في سرد الأحداث الخاصة بتجربة الدير وفشلها نتيجة نزوع الذات الراوية والمرويّة إلي بهجة الحياة ورفض التفريق بين المقدّس و"المدنّس إيماناً أنطولوجياً بأنّهما يعودان إلي أصل واحد، شأن الخير و"الشرّ"، الروح والجسد، كالذي يرد اعترافاً أو ما يشبه الاعتراف (15) .

إنّ الدير الذي ترتضيه الذات الراوية والمرويّة لها هو دير الحياة، لا الدير ـ المؤسسة. لذلك لا اختلاف بينهما في التمثّل، عدا ما يباعد بين القرار الأبوي والجماعي بالمدلول الإثني، وبين الاختيار الفردي بحرية وهبتها الطبيعة أو الله في الإنسان، كي يتفرّد ويختلف ويلتزم بمحض إرادته، علي وجه الخصوص، ويتحمّل مسؤوليته كاملة نتيجة هذا الاختيار الملزم له في الوجود. غير أنّ فردية الذات، هنا، لا تنفي الانتماء إلي الأسرة، لأنّ الشجرة واحدة وإنْ تعدّدت فروعها. كما أنّ اختلاف الفرد بدأ داخل الأسرة ذاتها(16)، بل إنّ البعض الكثير من هوية الفرد يتحدّد بهذا الانتماء، كانتماء الفرع إلي الشجرة، مثلما أسلفنا، وانغراس الشجرة في التربة. كذا الأصل في تعريف الكائن الفرد: ذات لجسد وجسد لذاتٍ يتخصّصان معاً بالأسرة ومجمل قيمها ومحصّل وعيها الأنتروبولوجي عوداً إلي أقدم سلالتها، ما انقرض منها وما تبقّي أثره حياً نابضاً في راهن وعي الوجود ومستقبله.

فلا تنفي الذات الراوية والمرويّة الأبوّة بالمنظور السلالي أو الأنتروبولوجي (الدير). إلاّ أنّها تسعي منذ البدء إلي إنشاء عقد خاص جديد معها يحمي حقوق الابن مثلما ينصّ علي واجباته(17) . لقد مثّل الإصداع بهذه الحقيقة أهمّ وجه للاعتراف في أداء ثقافة الاعتراف، كأن تنزّلت الأبوّة"، هنا، بين الاعتقاد العربي الموروث الإسلامي والمسيحي، علي حدّ سواء، القائل بالأبوّة الأبدية الرافضة للابن مهما تعاظم شأنه أو تقدّم به العمر، بتحويله إلي ظلّ عابر في هيكل الحياة شبه الساكنة وبين الأبوّة الغربية التي تحرص علي إنشاء علاقة تجاوز مثمرة بين الابن وأبيه بتنسيب الأبوة وتحرير الابن من عقدة الخوف، وذلك بتشجيعه علي المغامرة والترحال في المواطن القصية للحياة والموت. حيث تستعيد الذاكرة بعضاً آخر من حياة الطفولة انطلاقاً من الصورة العائلية، عوداً إلي غاندي صديق الحيّ"، و"خيطان الصوف في بكرة إحدي الأخوات"، ورسم الإمام عليّ الذي يعلو الطاولة في دكّان والد غاندي، وبعض سمات الأم ضمن الاستمرار في الحوار أو الاعتراف بالرجوع إلي الرصاصة"، لينشأ عن ذلك اختلافٌ حادّ بين المحاوِر والمحاوَر، فتظهر عديد الاستطرادات، كحكاية العشيق المخدوع وتجربة التمثيل ودخول النفق كي تستبدّ العتمة بالوجه من غير أن يفقد الصوت فِعليّته.

هكذا تتعالق المشهدية المسرحية وإمكان المشهدية السينمائية ضمن ما يشه الترجمة الذاتية باستطراد الأقوال والحركات تبعاً لتداعيات الذاكرة عند الإحالة علي أوقاتٍ وأحداثٍ قديمة، كالفرار من الشرطة إلي المسرح والرجوع إلي التضمين من جديد، مثل هابيل وقاين وفيكتور هيغو، يفضي حوار التكالم، أو إمكانه المعطّل، إلي موقع ملتبس يصل بين العبث واللاّ ـ معقول والواقعية أيضاً حيث تُسفر التراجيديا الهزلية أو المهزلة التراجيدية عن تأزّم الحال بحدث البُكاء(18)، إلي الانحباس، كأن يتوقّف الحوار وينقلب لأول مرّة في مسار المرويّ إلي سردٍ بالضمير المفرد المتكلّم آنَ انتهاج أسلوب التقرير العالِم عوداً إلي سفر التكوين وتأويل قصة هابيل وقاين في بيان البعض من قصديّة الشر والنقصان والعنف والجريمة. فيتغيّر أسلوب السرد من الحوار إلي ضربْ من الكتابة التقريرية باعتماد الاستطرادات العالِمة، مروراً من سفر التكوين إلي القرآن ومنه إلي بيان الأغراض من الأخوّة المغدورة والأبوّة القاتلة بُغية الوصول إلي تضمين رسالة المؤلّف والردّ علي هذه الرسالة دون الخروج عن الموضوع ذاته المتمثّل في القصد الإلهي من الجريمة بقتل هابيل لأخيه قابن.

إلاّ أنّ تداعيات السرد العالِم لم تُمثّل في مسار المرويّ عدا موطن اعتراض كي يعود حوار التكالم إلي الاشتغال عند الانتقال من مكان مكشوف إلي آخر غير مكشوف دون غياب آلة التسجيل والاستمرار في التضمين بمعاوية بن أبي سُفيان ومحمد بن سيف الدين بن أديمر البغدادي(19)، وحضور وثائق مكتوبة عثر عليها المحقّق أو المحاور عند التفتيش في أوراقه كي يستدلّ بها في الأثناء علي بعض الأحداث والمواقف، وليستعيد المُحاوَر بذلك الرغبة في البكاء ويوغل المحاوِر في الكشف عن عديد التفاصيل الصغيرة في حياة المؤلّف ـ المُحاوَر آن التصريح بوقع الرصاصة: يبقي أن أقول لك أخيراً: الرصاصة لا توجعني، ذكراها هي التي توجعني(20)، بل يسفر الاعتراف، هنا، عن إصرار علي مغالبة وجعها في النفس(21)، ليتعالق ذلك واستذكار الكنيسة وحدث الالتجاء مع أصدقاء الطفولة إلي المكان الخرب وحدث انطلاق الرصاصة من مسدّس الأب عند اللعب سرّاً به. وإذا الرصاصة"، في بنية المرويّ، حدث يُحيل علي طفولة الذات الراوية والمرويّة وحضور رمزي حينما يستحيل وقعها إلي حدث آخر ينتقل من الخارج إلي الداخل، ومن الزمن الواقعي إلي الزمن الكينوني، وهي الرصاصة التي أطلقها المؤلّف علي المحقّق أيضاً، والأنا علي الأنت الملازم له في مسار حوار التكالم وعلي الذات أيضاً لدفعها إلي الارتعاب والسفر فراراً من طيفها، ومن الآثار الحافّة بها عند توسيع دائرة التواصل من أنا ـ أنت إلي الغير، وهي استعادة للحدث البدئي في تاريخ الذات الجمعية عند إحالتها علي الأصل المشترك الإنساني بهابيل وقاين، تلك الرصاصة القابلة في كلّ حين لتنطلق بإعادة تاريخ الجريمة وتكرار واقع المأساة. 

أأكون أنا أم أصير أنت؟
حينما يشرف حوار التكالم علي النهاية يتأكّد مزيد الحاجة إلي الاعتراف. غير أنّ الذات المعترِفة تقرّ في الأثناء الحقيقة التي مفادها أنّ الأنا والأنت والغير هم من طينة واحدة تعرّف تقريباً، بالذات المشتركة، تلك الحافزة علي التكالم، بل إنّ الأنت ليست إلاّ وجهاً آخر للأنا(22). كذا الضمير في لعبة البوح ببعض المُخبّأ هو مجموع ضمائر تتماهي وتتعالق بإمكان الحوار ذاته الذي لا يتحقّق منه إلاّ النزر القليل ويظلّ بعضه الآخر إمكاناً للتحقّق فحسب. لذلك يزخر الفصل الخامس من وصية هابيل بالأسئلة انتصاراً للشكّ علي اليقين، وللعتمة علي الضوء المخادع، بل يعاود المسار بالإياب بعد الذهاب حينما تأكّد أنّ الذات الكاتبة ليست في الأصل والمرجع واحدة، فهي أنا وأنا وأنا، بمنظور الاختلاف، أو هي ثلاثة في واحد كي ينشأ السؤال: من المحاوِر؟ ومن المحاوَر؟ ومن الذي يحقِّق؟ ومن الذي يُحقَّق معه؟ وأين الوصية أو ما مفادها بعد محاولة حوار التكالم الذي تلبّس بالهذر، حسب عبارة الراوي؟(23). ولِمَ أفضت محاولة التكالم في الأخير إلي أزمة كلام بانتفاء التواصل أو تعطّله؟ وكيف يحلّ المسمّي مقام الاسم باعتماد اسم آخر؟(24)، وما صلة الوجه بالقناع؟ وهل الكتابة كلام أو نوع خاص من الكلام؟ وهل ما نفعله هو ما نريده حقاً أم الفعل هو ذاك المتردّد بين الإرادة ونقيضها أو نقائضها حظراً أو بصفة لا واعية؟ وهل شرح الكلام كلامٌ آخر؟ وهل يُمكن إرجاء المعني بتعطيله؟ وهل الكلام لعب خاص(25)؟ ولِمَ التسمية؟ أليس السرد في كلّ الأحوال نظراً بالاستناد إلي ما يمكن أن تلتقطه عين السارد أو تستفيد ممّا تراه وممّا لا تراه بأقوال شهودٍ آخرين، كأن تتردّد بالقصد بين المطابقة والإيحاء، بين الاعتراف والإخفاء، بين الإظهار والإضمار؟ كيف يُخفي الاسم ليظهر ويُظهر ليضمر، كياسر عرفات وسنغور وأدونيس في عديد الاستطرادات المائلة في مسار المرويّ؟

كذا محاولة حوار التكالم في (وصية هابيل) لشربل داغر إرباك متعمّد لنظام التسمية المعتاد بتفكيك الاسم والتبعيد بين مختلف أطراف الدلالة التسموية، وإرباك لنظام السرد بتحويله إلي حوار مرسل تعترضه في الأثناء مواطن وصفية قليلة، وإرباك للذات الساردة بالخروج بها من النواة الواحدة إلي متعدّد الضمائر(26)، وإرباك للمشهد الموصوف بنظر مختلف تبعاً لتبئيرٍ (Focalisation) خاصّ لا يباعد، كما جرت عادة السرد وتقدير علماء السرد، بين الرائي والمرئي، إذ مجال الرؤية جواني، والمكان طيفٌ للمكانية بمجمع المواقع التي تحوّلت إلي مزيج من المرئيات المحسوسة وأطياف للحالات الناتجة عن القديم، كما هو في أصليته والمستعاد منه، والشخصيات باعتبارها متعدّداً في واحد، إنْ حدّدنا المتكالمين والذات الشاهدة عليهما، والزمن السردي في لحظة التداعيات التي تستقدم إليها أوقاتاً من وضعيات ومواقف مختلفة، والدلالة السردية مجمع كوارث قديمة وحادثة، بدءاً بأصل بالوجود ومرجع الجريمة ومروراً بتاريخ الجرائم، كلّ الجرائم، ووصولاً إلي الآن حيث الواقع مشرع بفجاجةٍ علي كلّ الاحتمالات. فرصاصة الإثم ضاغطة علي نصّ الوصية"، وهي قابلة للانطلاق في أيّ لحظة ما دام حوار التكالم مشروعاً، أي لم يستمرّ في التكالم"، وما يتراءي حواراً هو من قبيل الإبهام بالتحاور، كأن ينعدم التواصل وتضيق الوضعية بالفراغ وانحباس الأفق: أتتركاني أقف وحيداً في هذا البياض الحالك؟ لعلّهما توجّها إلي غيري؟ إنّي أشعر بالبرد(27)

من قبيل الخاتمة:
هكذا يغرق نصّ الوصية في تعتيم الاسم الباحث عن جذور مسمّاة، وعن هوية أثبتت الوقائع المفجعة أنّها طيف لهوية غير قادرة علي أن تتجاوز سجن المتاهة (متاهة المكان والكيان) الذي يلفّ الجميع، دون استثناء. إلاّ أنّ محاولة التكالم"، القصد الأول والأخير من الحوار، أمكن له أن يدلّل في الأثناء علي اقتران الذاكرة الفردية بذاكرة الجماعة المتعدّدة، بمنظور الأسرة والطائفة والحيّ والمدينة والوطن أو المجتمع اللبناني بأكمله. وما عجز عنه آخرون حواراً أو تكالماً أمكن مقاربته في وصية هابيل لشربل داغر، كأن يستدعي هذا الحوار التكالمي التكلّم الفردي الذي هو أساس الانفتاح علي الآخر (الغير) الماثل في الذات وخارجها، آن الاستفادة من ثقافة الاعتراف التي يمكن بها التطهّر وجوداً، ولو بصفة جزئية، كي نثبت مدي اقتدارنا علي التواصل في الداخل والخارج معاً.

وإذا نصّ الوصية مشروع للقراءة، إذ هو مجمع ملفوظات موقعية دلالية تتوزّع علي امتداد مسار المرويّ، وتستدعي جهداً تأويلياً للوصل بينها، بغية التوصّل إلي تحديد بعض الثوابت القيّمية التي يمكن الاستضاءة بها علي راهن الوجود الفردي والجمعي والمستقبل آنَ الإحالة علي مجتمع الرواية (لبنان) كالآتي:

أ ـ تنتصر وصية هابيل لثقافة الاعتراف، وتدعو إليها تلميحاً وتصريحاً، باعتبارها الأساس الأخلاقي المرجعي الذي لا يتحدّد باعتقاد واحد، وإنّما هو مسلك وجوديّ يمكن للذات الفردية والجمعية أن تنتهجه بإرادة حرّة متكلّمة أو كاتبة، دون غَصْب.

ب ـ تنفتح الوصية أو مشروع الوصية أسلوباً سردياً علي ضرب من الواقعية الرمزية خارج تأثيرات الواقعية الفجّة أو الرمزية الصفيقة، وذلك بالاستفادة من ثقافة الفنون التشكيلية، ومن التكعّبية علي وجه التحديد آنَ الإحالة علي البعد الثالث الماثل فيها والمختلف عن كلّ من الانطباع والتجريد، كأن يستقدم الداخل الخارج ليتعالقا في الأثناء دون أن ينفقد أحدهما، لتظلّ عديد السمات الواقعية المرجعية حاضرة، ولكن باستخدام جماليّ يراهن أسلوباً علي البعد الثالث المذكور.

ج ـ كذا يقارب السرد الروائي في وصية هابيل الترجمة الذاتية من غير أن يتحدّد بها تماماً، لأنّه بمثابة رؤية الإبطان الحريصة علي التذكّر والبناء الرمزي علي هذا التذكّر، وذلك بدافع الحفر الجينيالوجي في ذات الاسم الفردي والوجودي الإثني والمجموعي، الوطني والقومي.

د ـ وإذا السرد الشبيه بالترجمة الذاتية محاولة للخروج من وضع المتاهة إلي هوية غير مكتفية بذاتها، قادرة علي ممارسة حقها في الاعتراف أو بعض الاعتراف انتصاراً للحبّ والكتابة علي مسبق القيمة وجاهز المعني.

هـ ـ ذلك ما استلزم مراجعة المفاهيم الخاصة بالأبوّة آن التوجّه إلي أبوّة جديدة حداثية مخصبة لا تنتهج سبيل قتل الابن، بل تدعو إلي تجاوزها بحادث الأبوّة ومختلفها فكراً وعملاً، إبداعاً وتغييراً...

و ـ إنّ الرصاصة الطائشة ذكري مرعبة، وحدث متكرّر، وإمكان لإعادة الحدوث، إن لم تتوسّل بثقافة الاعتراف والتصالح مع الذات ومع الغير الملازم لها والآخر والاستمرار في حوار التكالم"، لا حوار الطرشان"، أو ذاك الحوار المفتعل المشهديّ الممسرح الذي لا يخرج الذات الفردية والجمعية السجينة من ليل المتاهة.

يكفي أن نتوقّف قليلاً عن الكلام كي ننصت لذواتنا بدءاً ثم لبعضنا البعض، لندرك جوهر الوصية": أليس حوار التكالم هو جوهر الوصية باعتباره ظاهرة أسلوبية تسعي إلي إقرار دلالة قيمية جديدة، أساسها الدعوي لثقافة الصمت والتكلّم والتكالم والإنصات معاً؟ كيف ينتهج كلّ فرد سبيل التكلّم كي يثبت بالفعل اقتداره علي التكالم"؟ كيف يتعالق، باختصار، اللسان والأذن والروح المفردة والمتعدّدة في أداء جوهر هذه الوصية لإنهاء تاريخ الجريمة وتحويل الوجهة من الصراع والتناحر إلي التعايش بمحبةٍ وسلامٍ؟

كاتب من تونس 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ شربل داغر، وصية هابيل"، لبنان: رياض الريس للكتب والنشر، ط 1، 2008.
"لي أن أسألك: من أين أتيتَ بالمسدّس والرصاصة؟"، ص 243.
(2) ـ لماذا تريد التأكيد علي التكالم"؟ السابق، ص 259.
(3) ـ أين أنتما؟ أتتركاني أقف وحدي في البياض الحالك؟ لعلّهما توجّها إلي غيري؟ إنّي أشعر بالبرد . السابق، ص 282 ـ 283.
(4) ـ له من الشعر: فتات البياض و تخت شرقي و"حاطب ليل و"غيري بصفة كوني و"إعراباً لشكل و"لا تبحث عن معني لعله يلقاك و"تلدني كلماتي .
(5) ـ وصية هابيل"، ص 9.
(6) ـ السابق، ص 18.
(7) ـ السابق.
(8) ـ السابق، ص 20.
(9) ـ السابق، ص 32.
(10) ـ السابق، ص 40.
(11) ـ هذا صك وصية جدّي الذي يوزع ممتلكاته العقارية علي أولاده، بمن فيهم عمّي .السابق، ص 49.
(12) ـ السابق، ص 67.
(13) ـ أكان يحلم بالسفر مثلك؟ ـ لا كان يحلم دوما بفضاء واسع، لا أن يكون في مكان محصور، ضيق .السابق، ص 75.
(14) ـ كانت تروق له رؤية هذه الطرق الداخلية الملتوية. كان يحلو له الضياع فيها... السابق، ص 79.
(15) ـ تتنازعني مشاعر متضاربة: أستسيغ ملذات الحياة كفاية، لكن أقوي علي الابتعاد عنها، كما تحلو لي أحياناً متعة الانقطاع والانصراف إلي الصمت .السابق، ص 148.
(16) ـ خمس بنات إلي جانب أمي وأربعة ذكور إلي جانب أبي (...) كنت أقف أمام والدي (...) لا أعرف ما إذا انقدت إلي يديه، إلي حمايته، أم هو الذي دعاني إليه .السابق، ص 154ـ 155.
(17) ـ السابق، ص 169.
(18) ـ أأنت تتألم أم تتذكر أنك تتألم؟" السابق، ص 212.
(19) ـ صاحب القول: لا تنظر إلي من قال، أنظر إلي ما قال!" السابق، ص 225.
(20) ـ السابق، ص240.
(21) ـ سبق أن قلتُ لكَ: جف دمعي منذ زمن بعيد... حتي حين انطلقت الرصاصة لم أبكِ فعلاً السابق، ص 240.
(22) ـ يذهب مارتن بورر إلي أن العلم مزدوج بالنسبة للإنسان، إذ أساس اللغة ليس الكلمات المفردة بل الأزواج؛ وأهم هذه الأزواج أنا ـ أنت"، كما الآخر (الغير) هو أنا ـ هذا . ويمكن تعويض هذا بـ هو أو هي"، دون أن يتغير المعني. السابق، ص 19.
Martin Burer, "Je et tu", prface de Gaston Bachelard, France: Aubier, 1969
(23) ـ وصية هابيل"، السابق، ص 257.
(24) ـ كـ علي أحمد سعيد اسبر وأدونيس...
(25) ـ Hans Georg Gadamer, " Verite et methode, les grandes lignes d'une hermneutique philosophique ", Seuil, 1976.تتدرج اللغة والعمل الفني وأخطر قضايا الوجود، تقريباً ضمن ما أسماه غادامير اللعب الجاد"، كأن يصعب الفصل بل ربما يستحيل بين ذات اللاعب وبنية اللعب، إذ اللعب يمثل منظومة خاصة لها تشكلها الحركي الذي لا يخلو من القصد والجهد...
السابق، ص 30. بمجرد أن نكون، أنت وأنا، يكون الثالث، يكون غيرنا: غيرنا الجالس من دون أن ينبس ببنت شفة، وغيرنا الذي يتعين في مستقبل الكلام .
(26) ـ السابق، ص 266.
(27) ـ وصية هابيل"، السابق، ص 283.