تمهيد:
لا تدعي مقالتنا هذه إضافة شيء جديد إلى شخصية ابن خلدون العلمية، لأن ذلك أمر فوق طاقتها، أو بالأحرى فوق طاقة صاحبها الذي ليس متخصصا في علم الاجتماع، وإنما هو متخصص في علوم اللسان، وبالتالي فأنا أحس أني متطفل في هذا الميدان، حيث ولجت ميدانا غير ميداني، ومن ثم وجدت نفسي مجبرا على أن أترك الإضافات لأصحاب الاختصاص، وقد يقول قائل مادام أنك متخصص في علوم اللسان فلماذا لم تكتب في هذا الجانب؟ والجواب هو أنني توقعت أن يكون هذا الجانب قد حظي بالمعالجة من الكثير من زملائي الأساتذة المتخصصين في العلوم اللسانية، فأكون مجترا إن أنا كتبت فيه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ميلي الشخصي للحديث عن الظواهر الاجتماعية الخلدونية، لواقعيتها وأهميتها في نظري، لذا اخترت أن أتحدث في محور الفكر الاجتماعي وواقعيته واستمراره.
تحليل المقولة:
«المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله»(1) هي مقولة أطلقها المفكر الاجتماعي العالمي ابن خلدون منذ سبعة قرون تقريبا، فماذا تعني هذه المقولة؟ وهل مازالت عندها مصداقية وواقعية في فكرنا الاجتماعي المعاصر؟ إننا حين نتأمل المقولة الخلدونية هذه نجدها تؤسس لنظرية اجتماعية أقل ما توصف به أنها حقيقة واقعة مجسدة في الواقع الاجتماعي، ومن ثم فهي ذات مصداقية لا يكاد يرقى إليها الشك في كل المجتمعات التي تعرضت للاستعمار الأوروبي البغيض، وابن خلدون حين أطلق هده المقولة لم يكن قد عايش الاستعمار الحديث، لكنه من خلال معايشته لأحداث زمنه، وملاحظته الدقيقة لتلك المجتمعات، قد أدرك أن العلاقات بين الدول تتحكم فيها القوة، ومن ثم وجدنا دائما الأمم القوية تفرض نمط حياتها على الأمم الضعيفة، إن ترهيبا وان ترغيبا، ووجدنا قابلية عند الأمم الضعيفة لتقبل طروحات، وأنماط حياة الأمم القوية، إن خوفا وإن توقا للقوة. فابن خلدون بصفته عالما اجتماعيا يلاحظ ملاحظة العالم الناقد أن المغلوب دائما يكون مولعا بتقليد من يغلبه، لاعتقاده الكمال فيه. ومن ثم فهو يتوق إلى أن يتمثله في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله، لأنه صار راسخا في نفسه أنه لا سبيل للنهوض في هذه الحياة إلا بتقليد من غلبه.
فلم يتوقف ابن خلدون عند إطلاق المقولة دون أن يبحث عن سببها، لأنها ظاهرة والظواهر لها أسباب، والسبب هو الولع، فهو سبب نفسي كامن في نفسية المغلوب «المقهور» حيث يقول: «والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال فيمن غلبها وانقادت إليه»(2) ثم تابع مفصلا مقولته إن نفسية المغلوب مجبولة على تعظيم الكمال الذي اعتقدته ورسخ فيها، أو أنها تغالط أن انقيادها، أي خضوعها ليس لغلب طبيعي، وإنما يعود لكمال الغالب، ولا قدرة لها أمام هذا الكمال الغلاب إلا التقليد، والمحاكاة في كل شيء «فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به»(3) وقد مثل حالة هؤلاء المغلوبين المولعين بمن غلبهم بحالة الأبناء مع آبائهم، حيث يتشبهون بهم دائما ويحاكونهم، وذلك لاعتقادهم الكمال فيهم، ولكي يقنع ابن خلدون قارئه بمقولته طلب منه أن يوجه نظره إلى الأقطار المتجاورة التي تتغلب إحداهما على الأخرى. كيف يغلب على أهل القطر المغلوب زي الحامية الغالبة. وكذا جند السلطان في الأكثر، لأنهم الغالبون لهم مثل الأندلس مع أمة الجلالقة حيث يتشبه الجلالقة بأهل الأندلس في ملابسهم، وشاراتهم، والكثير من عوا ئدهم، وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران، والمصانع، والبيوت، إلى أن يقول «حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء» (4) فلم يكن ابن خلدون ليترك الدليل على ما يقول، بل نجده بعد ذلك يتلمس الأدلة التي تسند رأيه وتعضده حيث يقول: «وتأمل في هذا سر قولهم العامة على دين الملك، فانه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه»(5) وبعد هذا التحليل الموجز للمقولة نود أن نربطها، أو نسقطها على ظاهرة الاستعمار، ونركز على علاقة الشعوب المغلوبة (المستعمرة) بالغالب (المستعمر) الآن.
علاقة المغلوب بالغالب:
تأسيسا على ما سبق من أن المغلوب يعتقد الكمال في غالبه لذلك يعمد إلى تقليده، ومحاكاته في شعاره، وزيه، وعوائده، قلت تأسيسا على ذلك، فإن علاقة الشعوب المستعمرة، وخاصة نخبها المفكرة، والحاكمة، نجدها تتمثل بشعارات المستعمر في كل مجالات الحياة، فمن الشعارات التي ترفعها حقوق الإنسان، والديمقراطية، وحرية التعبير وحقوق المرأة، وغيرها من الشعارات التي وجدنا نخبنا المثقفة في عالمنا العربي ترفعها بعد الاستقلال، وحتى أثناء فترة الاحتلال اعتقادا منها أن المستعمر تفوق عليها بهذه الشعارات فلقد نادى عدد من المثقفين المصريين بحرية المرأة بعد خروج مصر من تحت الانتداب البريطاني(6) حيث رأوا أن الالتحاق بالإنكليزي المتفوق يكمن في إطلاق حرية المرأة التي تعني انفلاتها عن قيم دينها، وقد تبنى هذا عدد من المثقفين الجزائريين، ورأوا أن الالتحاق بالمستعمر حضاريا يكمن في تحرير المرأة، وتمردها عن قيم دينها، ولقد نتج عن هذه الدعوة أن مزق بعض النسوة حجابهن الذي أعاقهن عن التحضر فيما يزعمن(7).
كذلك شعار حرية التعبير: لقد رفع هذا الشعار عدد غير قليل من نخبنا المثقفة، فدعت إلى حرية التعبير، تأسيا بما هو سائد عند الغالب (المستعمر) وليت هذه النخب فهمت حرية التعبير حق الفهم، إذ كثيرا ما نجدها تستغل فرصة حرية التعبير هذه لتتطاول على القيم، والثوابت الوطنية فتدعو لتهديمها، والتمرد عليها تحت ستار هذا الشعار، ولم تتنبه هذه النخب إلى أن المستعمر (الغالب) الذي هي مولعة بتقليده في هذه الشعارات لا يتسامح حين يتعلق الأمر بقضايا الأمة، والوطن فلا أحد تخول له نفسه الحديث، أو الخوض في المسائل التي تضر بمصلحة الوطن، فللتعبير حدود عندهم يقف عندها، ونخبهم يفرقون بين حرية التعبير وعبثيته، ومسؤولوهم لا يتساهلون مع من يخرق هذه الحدود، بل المثقفون أنفسهم لا يتسامحون مع بعضهم، ومع أنفسهم باختراق الحدود المرسومة، ومن الشعارات التي ترفعها نخبنا المثقفة، والحاكمة معا الديمقراطية، وهم يرفعون هذا الشعار ولا يفعلون شيئا لتطبيقه، فهو من الشعارات المرفوعة قولا المفقودة فعلا، وهو واقع نجده يسود معظم البلدان المستعمرة، حيث تقلد نخبها المستعمر (الغالب) في رفع شعاراته دون أن يعملوا على تحقيقه في أرض الواقع. قال الأستاذ الباحث الدكتور محمد العربي ولد خليفة في هذا الشأن «يمكن العثور على أمثلة كثيرة لجدليات التمويه وخطاباتها التي تتحدث عن... الديمقراطية باعتبارها مطلب الشعب أو مساجلات حبيسة نخب تتحدث عنها ولا تمارسها حتى فيما بينها»(8) .
والزي أيضا من الشعارات التي تلتزم بها نخبنا. فهي لا ترى زيا يليق بها غير الزي السائد عند المستعمر لولعها غير المتناهي به، فهي كما قلنا تعتقد فيه الكمال الإنساني، ولكي تكتمل لابد من تقليده في ملبسه، ومن ثم فقد وجدنا ألبسة المستعمر وزيه قد استحوذت على معظم السكان، وقد شمل الرجل والمرأة، والبنت والولد، فصار الرجل «يتكستم ويتربط» إذا كان كهلا أو مسؤولا، ويرتدي «الجين والجاكيت» إن كان شابا. وترتدي المرأة البدلة وتسرح شعرها، وتتزين تزين المرأة الغالبة (المستعمرة) وترتدي البنت والولد زي بنات وأولاد الشعوب الغالبة، ولا يمكن أن نهون منه كما يعتقد بعض الناس، فكيفما كان الحال فإن الزي من العوامل المادية التي منوط بها إلى جانب العوامل الأدبية التوازن الأخلاقي للمجتمع على ما يقول المفكر الجزائري مالك بن نبيز(9) وقد اعتبر الزي مؤشرا من مؤشرات الشخصية الوطنية عند الباحثين الاحتماعيين ـ أي وطنية ـ والتي هي عندهم: «مكان الولادة، السلالة، محل الإقامة، طول فترة الإقامة، التنشئة والتربية، الاسم، اللكنة، الشكل الفيزيائي الخارجي، الزي، الارتباط المصيري بمكان ما»(10) ومن ثم تصدق مقولة ابن خلدون تماما في الزي واللباس، نقول هذا مع تسجيلنا عودة واضحة للمرأة العربية (المستعمرة) بفتح الميم للزي الإسلامي «الحجاب المعاصر» بنسبة عالية جدا بفضل الوعي الإسلامي الهادف إلى النهوض بالمرأة المسلمة، ورسم شخصية متميزة، تميزها عن المرأة الأوروبية (المستعمرة) بكسر الميم، كما نسجل هنا عودة الكثير من الشباب إلى اللباس العربي المتمثل في القميص، وهي ظاهرة ازدادت انتشارا في السنوات الأخيرة متأثرة بالفكر الجهادي السلفي الذي ظهر في المشرق، وتدعم بالجهاد الأفغاني، وكيفما كان هذا الزي فإننا نعتبره عودة للبروز والتميز عن الآخر المسيطر، لأنه يبرز شخصية تريد أن تستقل عن مستعمرها (غالبها) في الزي ـ في رأينا. وقد لاحظنا بعض الحكومات الإسلامية تفرض اللباس الإسلامي فرضا كما هو الحال في إيران مثلا. نقول هذا مع علمنا أن هذا يعتبر رد فعل وردود الأفعال غالبا ما تكون أفعالا غير مدروسة وغير ممنهجة. وقد لا تكون عواقبها محمودة.
العوائد:
ومن مظاهر ولوع المغلوب بتقليد الغالب أيضا تلك العوائد التي انتشرت في مجتمعاتنا المغلوبة بعد استقلالها كإحياء أعياد رأس السنة الميلادية على الطريقة الأوروبية وإحياء حفلات الزواج أيضا على طريقتهم، ففينا من يتفنن في إحضار الحلويات التي تغرس العقيدة الأوروبية الفاسدة، وفينا من يتنقل إلى العواصم الغربية لمشاركة الآخرين في احتفالاتهم، وعليه فإذا أردت أن ألخص علاقة الشعوب العربية (المغلوبة) بالمستعمر(الغالب) فإنني أجدها علاقة رئيس بمرؤوس، أو سيد بمسود، أو إذا أردت أن أترأف فأقول علاقة أبوية (أب بابن) حيث يحرص الابن البار على طاعة أبيه، ومحاكاته في أقواله، وأفعاله وأحواله فهذه هي علاقتنا بهم، وإذا كان معروفا أن الأب حريص على أن يورث ابنه المحا مد، والفضائل، فإن غالبنا وجدناه حريصا على أن يورثنا سلبياته دون ايجابياته، فقلدناهم في سلبياتهم، ولم نقلدهم في إيجابيا تهم، فلم ننهض، وذلك لأن النهوض، والتطور، والرقي والتحضر مفاهيم تبتدع وتبتكر، ولا تكتسب بالمحاكاة، فصار عندنا من يتقن لغة المستعمر أحسن من أبناء المستعمر أنفسهم، وصار عندنا من يتفنن في ممارسة عادات المستعمر وتقاليده، ويتفوق عليه فيها، وصار عندنا أيضا من يتزيى بزيه، ويتأنق أكثر من أبنائه، ورفعت شعاراته، وكتبت من أجلها المقالات، وألقيت الخطب في المحافل، ومع ذلك لم تحدث النهضة، والسبب كنت قد أجبت عنه سابقا، ـ فيما أزعم ـ وهو أن النهضة تبدع وتبتكر وتولد من رحم المجتمع، أي من بيئتنا، ومن أدمغتنا، وهي معطلة بالتقليد، فالتقليد يعطل الفكر والإبداع، ولذلك صارت جامعاتنا اليوم تخرج أناسا ليس بإمكانهم التقدم على الغرب، فهم مجرد أدوات لتشغيل الآلات التي يصنعها الغرب على حد تعبير الباحث سليم قلالة(11).
ميادين اقتداء المغلوب بالغالب:
يمكن استخلاص هذه الميادين من خلال المقولة الخلدونية السابقة التي تضمنت الشعار، والزي والنحلة والعوائد وسائر الأحوال، إلا أننا ومن خلال ربط المقولة هذه بظاهرة الاستعمار، فإننا أردنا أن نحدد جملة من الميادين التي رأينا الشعوب المستعمرة بصفتها شعوبا تملك مؤسسات سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وإدارية، وثقافية حاكت فيها مستعمرها بالأمس تماما، فلم يكن لها فيها حظ الإبداع مطلقا، ومن ثم كانت مؤسسات خادمة للمستعمر، وهذه الميادين هي:
الميدان السياسي:
لا يجد صعوبة من يريد إسقاط المقولة الخلدونية هذه على المؤسسة السياسية للبلدان المستعمرة، فمن يتفرغ للبحث في الهياكل المؤسساتية للبلدان المستعمرة (المغلوبة) بجدها لا محالة تابعة للمستعمر حيث تحاكي الدولة المستقلة الدولة المستعمرة بالأمس في دستورها وقانونها وتجعل منها المصدر الأساس في التشريع، وحتى وإن وجدنا البلدان العربية تنص في دساتيرها على أن المصدر الأول للتشريع عندها هو الشريعة الإسلامية فإن الحقيقة ليست كذلك، بل المصدر الأول للتقنين عندها هو قانون الدولة المستعمرة بالأمس، فتبقى الدولة هذه رغم استقلالها تابعة مقتدية بالدولة الغالبة (المستعمرة).وهو ما عبر عنه الكثير من الباحثين العرب يقول الباحث محمد صالح الهرماسي في سياق تشخيصه للدولة المغاربية الحديثة.«لقد تشكلت الدولة الحديثة في المغرب العربي ضمن سياق استيراد الأنماط السياسية الغربية، في حين أن المجتمعات المغاربية تنتمي إلى نظام اجتماعي آخر مختلف جذريا عن المجتمعات الغربية»(12). وقال في موضع آخر من الكتاب نفسه (إن السلطة في المغرب العربي كانت أداة من أدوات إعادة الارتباط بالغرب(13) وهو يرى في تلك السلط الحاكمة بديلا ناجحا لتحقيق أهداف الحضور العسكري الاستعماري(14) ولعل هذه هي الوقائع والحقائق التي تكشف حال نخبنا هي التي جعلت الأستاذ الباحث الدكتور محمد العربي ولد خليفة يصفها بالنخب المتواطئة عن وعي أو غير وعي(15).
هياكل الدولة:
تتبع الدولة المستقلة حديثا الدولة الغالبة في هياكل الدولة رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، والوزارات، وكذا الهياكل الإدارية للوزارات هي نفسها تماما عند الدولة الغالبة، تقسيم البلاد إلى مقاطعات (ولايات) وكل ولاية تتضمن عددا من الدوائر، وكل دائرة تتضمن عددا من البلديات، وهو تقسيم موروث كلية عن الاستعمار الفرنسي، وكل الإدارات المركزية والمحلية مهيكلة حسب النمط الفرنسي، وعلى الرغم من أن المستعمر قد أجرى إصلاحات على نظامه الإداري، فإننا مازلنا محافظين على النظام البالي، وكأنه قرآن لا يمكن تجاوزه أو مخالفته. ونحن هنا لا نعيب على السلطة محاكاتها للإدارة الاستعمارية في هذا التقسيم، فقد يكون التقسيم مفيدا، بل وضروريا، لكن نعيب عليها عجزها عن إجراء إصلاحات ناجعة تعيد للإدارة قدرتها ونجاعتها التسييرية باستمرار. فإدارتنا لحد اليوم لم تستطع معرفة نظامها هل هو نظام ديمقراطي؟ أم نظام إداري فإن كانت تتبع النظام الديمقراطي الانتخابي فلماذا تمنح صلاحيات للسلطة المعينة على حساب السلطة المنتخبة؟ يفترض أن سلطة رئيس البلدية أقوى من سلطة رئيس الدائرة، وسلطة رئيس المجلس الشعبي الولائي أعلى من سلطة الوالي.لأنهما يستمدان سلطتهما من الشعب الذي انتخبهما.
أ ـ الميدان الاقتصادي:
عملت البلدان المستقلة ـ المغلوبة ـ على تكوين مؤسسات اقتصادية وتجارية على غرار المؤسسات الاقتصادية والتجارية للبلد المستعمر ـ الغالب ـ وعلى النظام الذي ورثته عنه تماما فلم تجر عليه التطوير اللازم الذي يجعله يواكب التطور الحاصل في العالم، وحدث أن المستعمر بالأمس قد أجرى إصلاحات عميقة على نمطه الاقتصادي، بينما بقيت البلدان المقلدة له تتبع نفس النظام الذي كان يصلح لزمن غير زماننا هذا، فهو نظام قديم لا يتماشى مع الاقتصاد الحديث المبني على سرعة المعلومة، وعلى المنافسة الشرسة، ثم أن البلدان المغلوبة وحين تبنيها لهذا الاقتصاد تكون قد تبنت نظاما اقتصاديا لا يتلاءم مع نفسية شعوبها، وذلك لاعتقادها الكمال الاقتصادي في مؤسسات الغالب، ومن ثم فهي تعتقد حينما تتبنى النمط المؤسساتي للمستعمر أنها تملك أسباب النهوض الاقتصادي، والحقيقة ليست كذلك ـ فيما نزعم ـ وعلى ضوء ما يقوله أهل الاختصاص وعلى ما يثبته الواقع الاقتصادي للدول المستقلة. فهي لم تستطع الانفكاك عن مستعمرها بالأمس بسبب التبعية المطلقة له وفي كافة المجالات، والتبعية هي:«مفهوم ظهر بعد خروج الاستعمار الاستيطاني وهي عبارة عن تكييف البناء الداخلي لمجتمع معين بحيث يعاد تشكيله وفقا للإمكانات البنوية لاقتصادات قومية محددة أخرى، هي اقتصاد البلد المستعمر وقد سميت بالاستعمار الهيكلي»(16) عند الباحثين. ولعل ما يثبت تبعية نظامنا الاقتصادي كليا هو كثرة الأنماط الاقتصادية المستوردة ـ المجربة ـ والتي لم تستطع أن تحقق الإقلاع الاقتصادي للبلد.
ب ـ الميدان الاجتماعي:
لقد حاكت معظم البلدان المستقلة حديثا مستعمرها بالأمس، فعملت على تأسيس مؤسسات اجتماعية مشابهة تماما للتي عنده اعتقادا منها أنها بهذه المحاكاة تلحق بالركب الحضاري الذي وصل إليه غالبها، فكونت مؤسسات اجتماعية وإن كانت شبيهة في الهيكل مؤسسات العدو فإنها في الواقع لا تستطيع أن تنتج شيئا ذا قيمة اجتماعية خاصة الجمعيات الثقافية، والمدنية، أو ما يعرف بالمجتمع المدني، مؤسسات نخبوية تحمل ثقافة الآخر وتعبر عن طروحاته اجتماعيا ومؤسسيا، ومن ثم فهي تتعامل مع المشكلات الاجتماعية والسياسية والمدنية من منظور غربي، ومن ثم فدورها يأتي مكملا لدور النخبة الحاكمة، وهكذا تتضافر جهود النخب السياسية، والاقتصادية، والمجتمعية لتصب في خانة التغريب، وقد عبر عن هذا الواقع أكثر من باحث، يقول الباحث محمد صالح الهرماسي عن هذه النخب: «إنها تميزت بإنكار الانتماء للأمة العربية واصطناع انتماء مستقل وتأليه الغرب وتقليد نمطه الحضاري وتحقير الإسلام وتحميله مسؤولية التخلف... وعمقت ظواهر الاستلاب الثقافي والازدواج اللغوي الموروثة عن الاستعمار» (17) وعليه فنحن نرى أن البلدان المغلوبة تحاكي العدو في تكوين الهيكل فقط. فهي تنقل الشكل دون الجوهر، ومن ثم نظر إلى هذه الهيمنة الاجتماعية على أنها أداة من أدوات تشويه العقل العربي(18).
ج ـ الميدان الثقافي:
معظم البلدان التي خرجت من نير الاستعمار لم تستقل ثقافيا، فهي بقيت تابعة لمستعمرها بالأمس ثقافيا، وهو أمر يمكن ملاحظته من خلال سيطرة وسائل الإعلام المكتوبة بلغة المستعمر، حيث وبعد مرور عدة عقود على استقلالنا، مازالت الكفة راجحة للغة العدو، وثقاته، كميا، ونوعيا. ويمكن ملاحظته أيضا من التبعية العامة للآخر، وفي كل المجالات إلى درجة الذوبان في الآخر، والتبرؤ من الثقافة الأصلية للوطن، وقد عبر عن هذا الحالة من التدهور والمستوى الهابط غير واحد من الباحثين يقول في هذا الصدد الأستاذ محمد العربي ولد خليفة:«ويستخف رجال ونساء بخصائص ثقافتهم الوطنية وقيمهم التاريخية ويصفونها بالظلامية» (19) ويصف هذه النخب المثقفة بثقافة الآخر بأنها عاجزة عن التحرر العاطفي والعقلاني من رواسب الكلونيالية (20) بل ويرى أنها نخبة تمعن التشبه بالا خر وتعتبر ذلك مقياسا للحداثة(21)، بل أكثر من ذلك أنها تقصر الفكر والفن والحياة بكاملها على ما يحدث هناك(22). وعموما إن النخبة المثقفة غربيا المتحكمة في دواليب المجتمع سياسيا وثقافيا، واجتماعيا، واقتصاديا مؤمنة ومكرسة لنظرية التبعية التي تم تطويرها في الغرب والتي كانت وراء الهيمنة الأجنبية، وحالة الاعتماد على الغرب، وقبول الاندماج أكثر في آليات تلك الهيمنة والخضوع لمطالبها، وهي تبعية شاملة، تبعية غذائية، أمنية، ثقافية... ولعل التبعية الثقافية أخطر التبعيات، لأنها تساهم في خلخلة الإطار المرجعي للأمة(23). ولأن المدخل الثقافي يعتبر مدخلا مناسبا لخلق علاقة التبعية، وتكريسها من خلال الترويج لنمط الحياة الغربية، وإشاعة القيم الاستهلاكية.
ميدان التعليم والتربية:
لم تخرج المنظومات التربوية للبلدان المستقلة حديثا عن منظومة الدولة الغالبة، فقد سيطرت المناهج التربوية للدولة الغالبة بالأمس، واليوم بعد الاستقلال، إذ بقيت تؤدي دورها في تكوين أجيال مدجنة، صالحة لخدمة مستعمرهم بالأمس، أكثر مما هم صالحون لخدمة وطنهم المستقل، يتجلى لنا هذا الأمر في معظم البلدان العربية التي خرجت من تحت الاستعمار، إن مناهج التعليم التي تطبق في الأقطار العربية المستقلة لم تستطع تحقيق نهضة تربوية، وعلمية تقفز بالمجتمع نحو الأمام، والسبب ـ كما نعتقد ـ هو أن هذه المناهج التعليمية المستوردة (الموروثة) وضعت في زمن غير زماننا، ولمجتمع غير مجتمعنا، ولأهداف غير أهدافنا، فهي مناهج تجاوزتها الأحداث، ومع ذلك بقينا متشبثين بها بحكم التقليد الذي ترسخ في أذهاننا، فالغالب هو الذي وضع هذه المناهج، وقد عمل على تطوير هذه المناهج في وطنه لتواكب التطور الحاصل في العالم، وبقيت عندنا كما هي عليه، وهكذا بقينا نحن تابعين له فكلما قلدناه في منهج عمل هو على تطويره، ثم نأتي نحن لنقلده فيتطور هو، ونتأخر نحن، ولا يصح مطلقا، أن نفهم أنفسنا ونعالج مشكلاتنا بواسطة المناهج الغربية(24) ومن ثم فنحن في حاجة إلى ثورة منهجية كاملة(25) ولعل ما يدل على فشل المنهج الغربي عندنا هو:(26)
ـ بقاء البحث في الميدان الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي عديم التأثير.
ـ ظهور أنماط من الثقافات، والاستهلاك، والراحة، والعمل، مشابهة للأنماط الغربية.
ـ ظهور محاولات لخلق مجتمع مناقض للمجتمع الغربي، بالعودة إلى الأصول الدينية، وباسم الوطنية مرة أخرى مما تولد صراع بينهما.
ثم ما هو جدير ملاحظته هنا اللغة التي يدرس بها هذا المنهاج، إذ معظم البلدان العربية تبنت مناهج الغالب، ولغته، لغة تدريس اعتقادا منها أن لغتها الوطنية لا تصلح أن تساير هذه العلوم التكنولوجية، وهذا الاعتقاد كاف وحده، ليثبت روح الانهزام في البلدان المغلوبة، ليرافقها هذا الشعور دائما وأبدا، فهي تعتقد في الغالب الكمال في كل شيء، في مناهجه التربوية، والتعليمية، ولغته، وإدارته وكل شؤونه، ولذلك وجدنا ابن خلدون يصفه بأنه مولع بالتقليد، إن شعوبنا العربية، وعلى الأخص نخبها مولعة أبدا بمستعمرها بالأمس استيطانا، واليوم حضارة، وثقافة، وقد قيل «أهم العوامل الاجتماعية التي تساهم في انتشار لغة ما هي الغلبة»(27) فإن هذه المقولة تتجسد في بلدنا الجزائر ـ ومعها أقطار المغرب العربي ـ الذي انتشرت فيه اللغة الفرنسية باعتبارها اللغة الغالبة، وأمة هذا حالها لا يؤمل في نهضتها، ذلك أن التقليد للغالب، وبهذه الدرجة يميت عوامل الإبداع في الأفراد، والأمم، لأنها تكون فاقدة الأمل، وتبقى هذه الأمة مجرد آلة تخدم سواها وهذا ما يعنيه ابن خلدون بقوله «وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل»(28) إلى أن يقول «فأصبحوا مغلبين لكل متغلب و طعمة لكل آكل»(29) وهو ما نعتقده نحن، حيث أن تقليدنا للغالب في كل أحواله السلبية، وتبنينا لشعاراته الزائفة، ولغته، وإدارته وعاداته، وتقاليده أفقدنا مقومات شخصيتنا، فصرنا أمة منسلخة عن جذورها، فلا نحن تمسكنا بمقوماتنا، واتخذنا منها أساسا للنهضة، ولا نحن بمقومات الدولة الغالبة نهضنا وصرنا مثلها.
سمات الشخصية الوطنية للشعوب المغلوبة:
بناء على ما سبق أن قلناه، وبيناه من أن الشعوب المستعمرة لا تنفك أن تحاكي مستعمرها في كل حركاته، وسكناته، بناء على ذلك فإننا وجدنا الشخصية الوطنية للشعوب المغلوبة شخصية مهزوزة مسلوبة حضاريا، وأخلاقيا، وإذا كان الفلاسفة، وعلماء النفس، وكذا علماء الاجتماع يقررون أن الشخصية الوطنية لأية دولة يجب أن تتكون من عناصر أهمها اللغة، فإن شخصيتنا الوطنية طبقا لهذا القرار تكون منقوصة، لأن اللغة السائدة في إدارتنا، وجامعاتنا، ومستشفياتنا، وكل مراكز البحث عندنا هي اللغة الفرنسية، ومما زاد الوضع تعقيدا أكثر، أن التدريس في قطاع التربية يتم باللغة الوطنية، وحينما يصل الطالب إلى المرحلة الجامعية يفرض عليه الدراسة باللغة الفرنسية، خاصة التخصصات العلمية كالطب الذي لم يتم إدخال الحرف العربي إلى كليته مطلقا. حتى صار بعض الناس يعتقدون أن الطب لا يدرس ـ وفي العالم كله ـ إلا باللغة الفرنسية، مع العلم أن هذا الاعتقاد ينعدم عند الإيطالي، وعند الإسباني، والبرتغالي، والروسي، ولا أقول الإنكليزي، والأمريكي، لأن الطب يدرس في هذه البلدان بلغاتها الوطنية، أليست هذه هي قمة الشعور بالضعف والهوان أمام الغالب (المستعمر)؟ انه الولع الشديد الأبدي بلغة الغالب على حد تعبير ابن خلدون.
إن اللغة كما هو مقرر عند كل المنظرين في العالم أقوى مقوم من مقومات الأمة لأنه بها يتم التواصل والحوار ونقل العلوم والمعارف والتثاقف. فاللغة والثقافة تتبادلان صلات وثيقة(30). وهما من مكونات الهوية كما قال الأستاذ جان بيير قارنيي(jean ـ pierre warnier): «تقع اللغة والثقافة في قلب ظاهرات الهوية... وتتحدد الهوية بصفتها مجموع قوائم السلوك واللغة والثقافة التي تسمخ لشخص أن يتعرف على اتنمائه إلى جماعة اجتماعية والتماثل معها»(31). ثم إن الثقافة التي رأينا أنها واللغة في قلب الهوية تتميز بالتعقيد والخصوصية والتموضع.وقد عبر عن هذا المفهوم الأستاذ جان بيير قارنيي فقال: «فالثقافة كلية معقدة من المعايير، والعادات، وقوائم السلوك، والتمثل اكتسبها الإنسان بصفته عضوا داخل مجتمع وكل ثقافة هي ثقافة فريدة ومموضعة جغرافيا، واجتماعيا وموضوع للتعبير الخطابي داخل لغة معطاة وعامل لتعيين هوية»(32). ولذلك وجدنا الدول التي تحترم نفسها، تحترم لغتها إلى درجة التقديس، فتعمل على نشرها، وتطويرها بكل السبل، وخير مثال على ما نزعم، فرنسا التي ما فتئت تعمل على تقوية وجودها اللغوي القوي في كل مستعمراتها السابقة، فهي تدعم اللغة والحضارة الفرنسيتين بعدة وسائل منها الصداقة الفرنسية، منظمة الجامعات الفرانكفونية... السفارات، معاهد البحث والتكوين.(33) وقد تعهد المرشح الفائز في الرئاسيات الفرنسية السيد نيكولا ساركوزي في حملته الانتخابية بالعمل على تطوير اللغة الفرنسية وإعادة حضورها بقوة في دول المغرب العربي، والأمر لا يخص فرنسا وحدها، بل نجده يخص معظم دول العالم، فهذه الأمة الروسية تعشق لغتها إلى درجة التقديس يقول الباحث الدكتور محمد العربي ولد خليفة في هذا الشأن مبينا دور اللغة الروسية في توحيد المجتمع الروسي: «توحدهم لغة يعشقونها باعتزاز كبير ويتباهون بتراثها القديم والحديث ويرون فيها مرآة تاريخهم الموحد»(34) .
وإذا كان هذا هكذا فإن شخصيتنا تكون مهتزة لغويا، مسلوبة حضاريا، حيث أن هذا المتكون بلغة غير لغته القومية يكون شعوره بالانتماء إلى الأمة العربية مريضا ومهزوزا، بل تجدهم يحتقرون هذا الانتماء وينكرونه، وبالتالي فهم لا يساهمون في بناء حضارتهم، حتى وإن أبدعوا فإن إبداعاتهم ـ مصادرة من أمتهم ـ لأنها تكون مكملة وبانية لحضارة الآخر، أي لحضارة اللغة التي ينتجون بها، لذلك تجدهم يصابون بالإحباط ويشعرون بالاغتراب وهم في أوطانهم، ثم أن هذه النخبة المتكونة بلغة الآخر المثقفة بثقافته، المتخلقة بأخلاقه المتحضرة بحضارته (الغالبة) تسيطر على دواليب الحكم والمجتمع، فتعمل على فرض نمط حياتها، وثقافتها، وفكرها، وشخصيتها المسلوبة، فيعم هذا السلب الحياة العامة للأمة، ولذلك حكمنا على شخصية هذه الدول بأنها مسلوبة مهزوزة، وهذا ما يعنيه ابن خلدون بقوله الولع الشديد بالغالب، والخطر الأكبر هو أن معتنقي المنهج الغربي، ومن والاهم يرفضون أية محاولة لتقديم المنهج الآخر البديل، وأخطر منه انتقال الثقافة السياسية هذه من جيل لآخر(35). ومهما كانت المخاطر فإن هذا لا يعفي الأمة من مسؤوليتها في وجوب المحافظة على شخصيتها وشخصية شعبها(36).
الأضرار التي تلحق بالأمة:
إذا كان هذا هو حال الأمة، فان الأضرار التي تلحقها غير خافية على أحد ـ نظرا لفداحتها ـ فما بالنا إذا كان هذا الأحد مثقفا وقد عملنا على حصر هذه الأضرار في محاور ثلاثة هي:
المحور السياسي: يصير البلد محكوما بطبقة سياسية تخدم مصالح البلد (الغالب) أكثر مما تخدم مصالح الوطن، لذلك لا نستغرب إن وجدناها ترسم سياسات عامة للبلد، وكذا سياسات قطاعية تصب في خدمة المستعمر (الغالب) فتصير سياسة البلد عرضة للكشف، والاختراق في كل المجالات، بل يصير المستعمر بالأمس هو الذي يضع الأشخاص في مناصب المسؤولية بشكل أو بآخر، يحدث هذا الأمر في معظم البلدان المستعمرة سابقا دون استثناء وبالتالي يبقى المستعمر هو الذي يوجه سياسة البلد نحو أهدافه سواء بشعور منا أم لا.
المحور الاقتصادي: يعمل الغالب (المستعمر) عن طريق السياسيين الذين وضعهم في السلطة، والذين هم مولعون به في كل شيء على توجيه السياسة الاقتصادية للأمة المغلوبة وجهة تضر الأمة ولا تنفعها، لذلك وجدنا السياسات الاقتصادية للبلدان المغلوبة تتغير بتغير الأشخاص الذين يتولون المسؤولية تبعا، أو حسب انتمائهم الثقافي، فالثقافة تتحكم في إبرام الاتفاقات الاقتصادية، فمثلا يميل المسؤولون الاقتصاديون في البلدان المستعمرة فرنسيا إلى إبرام الاتفاقات مع الشركات الفرنسية نظرا للتقارب الثقافي واللغوي، بينما يميل المسؤولون الاقتصاديون في البلدان العربية المستعمرة إنكليز يا إلى إبرام الاتفاقات مع الشركات الانكليزية، والأمريكية، وهي كلها أفعال تضر بالمصالح الاقتصادية للبلدان العربية، حيث لم يهتم المسؤولون بالبحث عن النجاعة بقدر ما يبحثون عن التفاهم بسبب العامل اللغوي.
المحور الاجتماعي: لاشك أن الأضرار السياسية، والاقتصادية التي ذكرنا بعضها سابقا يكون لها انعكاس مباشر على المجتمع بكل فئاته، وشرائحه، لذلك انتشرت فيه مظاهر الفساد من رشوة ومحسوبية، و لصوصية، وزوال هيبة الدولة التي يراها المواطن أنها لا تمثله، ولا تخدم مصالحه، فيحتقن هذا المواطن، ويصبح هو الأخر مضرا لوطنه وأمته، فيصبح يتلف عوض أن يبني، ويشيد، لأنه يرى أن حقه قد اغتصب، ومن مظاهر السياسات المضرة بالوطن مثلا سياسة التكوين في الجزائر، والعالم العربي، حيث يعمل النظام العربي من خلال سياسة التكوين التي ينتهجها على تكوين كفاءات علمية متخصصة في شتى المجالات، ثم يدفع بها إلى الغرب، إن النظام العربي ومنذ مدة يتبع سياسة تهجير الأدمغة، فهو يصرف الملايير على تكوينها، ثم لما تصير إطارات كفأة يجبرها على الهجرة، لتسهم في خدمة الآخر (الغالب) وفي اعتقادي ليس هناك مثال أدل على الأضرار التي يلحقها النظام السياسي في الوطن العربي من هذا المثال، فكيف بدولة تصرف الملايير على أبنائها لتكوينهم من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الجامعية ثم ترسلهم للتكوين في الخارج فتدفع مقابل ذلك العملة الصعبة للبلدان التي تكونهم، ثم يبقون هناك، وقد يجبر على الهجرة من عاد منهم إلى أرض الوطن، في اعتقادي ليس هناك أغبى من هذا لنظام السياسي الذي يمارس هذه السياسة، وهو إذا لم يتهم بالغباء فحتما سيكون الاتهام الآخر، وهو الخيانة، خيانة الأوطان، ـ وهي تهمة ثقيلة لايمكن تحملها على كل حال ـ ونحن لانتجرأ على إلصاقها بأحد ـ وهنا نتعارض مع مفكرنا ابن خلدون، إذ لم يكن سياسيونا هنا مولعين بتقليد الغالب، ذلك أن الغالب (المستعمر) شديد الحرص على جلب العلماء إلى بلاده، وإغرائهم بشتى المغريات، واستغلالهم أشد الاستغلال، فهل يقصد مفكرنا ابن خلدون أن المغلوب (المستعمر) مولع بتقليد الغالب في السلبيات دون الإيجابيات، هذا ما نعتقده نحن جازمين، وهو ما تؤكده الوقائع أيضا.نقول هذا لكلام مع استشعارنا أن قيادتنا السياسية الحالية واعية بالأمر، وهي على ما يبدو متجهة لاتخاذ إجراءات إيجابية في هذا الشأن، كما هو واضح من خطاباتها، وهو ما نأمله.
واقعية الفكر الخلدوني واستمراريته:
إذا كان هذا هو واقع البلدان المغلوبة في علاقتها مع الغالب (المستعمر) كما تسرده مقالتنا، وإذا كان هذا هو حالنا، فان البرهنة على واقعية الفكر الخلدوني، واستمراريته، تكون قد حدثت و لا تحتاج منا مزيد بيان، إذ الواقع خير برهان على قوة الفكر الخلدوني، وعمقه، وواقعيته، واستمرار يته منذ ظهوره والى الآن، إلى أن يثبت المستقبل الغامض عكس ما يقول ابن خلدون، وصدق الدكتور عبد الغني مغربي حين وصف الفكر الخلدوني بالموضوعية والتعقل(37) فالفكر الذي يستمر صالحا لقرون لاشك انه في منتهى الموضوعية والعقلانية (38) ولعل ما يدل على واقعية الفكر الخلدوني واستمراريته هو أن معظم المؤرخين الفرنسيين قد انتهلوا منه على ما يذكر الدكتور عبد الغني(39) ومما يدل على واقعية فكره أيضا أنه لم يكن مقيما في مخبر ويصدر معلومات، بل كان عالما مزودا بالمعلومات المستقاة من الميدان مباشرة، وأنها بالتالي معلومات علمية موثوق بها(40) ولذلك فهو في نظر الكثير من الباحثين المنصفين عالم اجتماعي ذو خبرة واقعية(41) اتسم فكره في مقدمته بالموضوعية والعقلانية (42) ثم ما يزيد فكره واقعية، وصدقا أنه كان مورطا في الأحداث معنيا بها، وملتزما بالمعنى التجريبي للفظة(43) زيادة على نزاهته الكبيرة في نقل الحياة الحافلة بالأحداث التي عاشها، وتلك هي مواصفة العالم الموضوعي ولا شك، وبهذه الرؤية الرافضة للتقليدية العمياء فضل على نخب عصره، ونحن هنا نظم صوتنا للأصوات التي ترفع من شان الرجل، باعتباره عالما اجتماعيا واقعيا، ولا نعتبر أفكاره تحاملية على العرب كما ذهب إليه طه حسين(44) كما لا نوافق على الرأي الذي يذهب إلى أن الرجل كان يحمل فكرا عدائيا ضد العرب(45) لأننا نرى واقعية الفكر الخلدوني منذ هذه القرون كافية لتنفي عنه هذه التهمة التي ألصقها به البعض دون فهم لفكره ـ فيما نرى، وإذا صح هذا ـ وهو ما نعتقده ـ فإن ما ذهب إليه الدكتور محمد الصغير بناني يكون مؤكدا، ومطلوبا حيث يقول «فليس بالبعيد أن يعود المنظرون السياسيون عندنا في يوم من الأيام إلى آراء ابن خلدون لمزيد من الفهم لأسرار المجتمع العربي الإسلامي»(46) وقد حاول الدكتور محمد الصغير بناني الدفاع عن ابن خلدون فقال «محنة ابن خلدون لم تنته بعد إذ لم ينج من نقد الناقدين الذين حاولوا ولا يزالون يحاولون النيل من شخصه ورميه بأشنع التهم»(47) ثم قال «ويمكن أن ننسب إلى ابن خلدون جميع العيوب لكن لن يستطيع أحد أن ينكر له خصلتين أساسيتين تبرزان بقوة عند قراءة الأسطر الأولى من كتابه: عمق التفكير وبلاغة العبارة»(48) ولسنا نوافق على ما يقوله الباحث علي حرب: من أنه لا جدوى من العودة إلى الوراء للبحث لدى الماضين عن حلول لمشكلاتنا المعاصرة... بحجة أن أهل كل عصر أو مجتمع مسؤولون عن تشخيص واقعهم، واستنباط الحلول لمشكلاتهم(49) فنحن هنا ندعو إلى استلهام العبر من هؤلاء لنقرأ مشكلاتنا واستنباط الحلول لها، ونعلم أن لا حلول جاهزة لمشكلاتنا عند هؤلاء الماضين، وهذا لا يكون إلا باستخدام عقولنا بصورة فعالة ومبتكرة تمكننا من تطوير مفاهيم القدماء للاستفادة منها على ما يقوله الباحث علي حرب نفسه(50)، كما يمكن لنا أن نتعلم من الغرب كيفية تعامله مع ذاته، وطريقة تدبره لأزماته هذا العقل الذي رأى فيه الباحث علي حرب عقلا يقيم علاقة نقدية مع ذاته بالعودة على أنظمته المعرفية واستيراتيجيته العملية لتفكيك نماذجه في الرؤية، والتقييم، أو لتغيير طرقه في التفكير والتقدير(51) ومن ثم فنحن ندعو إلى الاستفادة من تجارب الغرب، وخبراته، ولا نرى التعلم منه مجرد محاكاة، أو تقليد، أو مماهاة.
الخاتمة:
وخلاصة لما سبق فإن قراءتنا لمقولة الرجل وتحليلنا لها المدعومين بما كتب عن الرجل وما قيل عن فكره، على الرغم من المراجع القليلة التي استأنسنا بها في القراءة والتحليل، فإنها خلصت إلى أن الفكر الخلدوني يتسم بالواقعية والموضوعية والعقلانية والصدقية والصلاحية، وأعني بهذا أنه فكر صالح لعلاج المشاكل المعاصرة له، ونراه مازال صالحا رغم مرور هذه القرون عليه لأن نسترشد به لحل الكثير من القضايا، والظواهر الاجتماعية التي تطفو على سطح المجتمعات العربية المعاصرة، وعليه ندعو الباحثين إلى تكثيف القراءة، وبذل مزيد من الجهد بغية فهم الفكر الخلدوني، واستلهام الحلول لمشاكلنا المعاصرة، كما ندعو السياسيين إلى العودة إلى الفكر الخلدوني دراسة وفهما لفهم المجتمع العربي الذي يسوسونه، وهي دعوة سبقنا إليها الكثير من الباحثين المنصفين للرجل المؤمنين بفكره، لكن من باب وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، ومن باب إيماننا أن الكلمة تسهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية على حد تعبير مفكرنا مالك بن نبي(52)، وإيماننا أن الظواهر خير شاهد على رجوع الحاسة الاجتماعية إلى الجزائريين دائما على حد تعبير مالك ابن نبي(53). وفي الأخير بجدر بنا أن نشير إلى أن المجاهرة بنقد نظمنا السياسية، والإدارية، والتربوية والتعليمية، والاقتصادية، والاجتماعية ليست مجاهرة بمعصية تستوجب التعزير، وإقامة الحدود، وإنما هي دعوة صريحة إلى التواصل، والحوار، ونقد الذات بهدف إعادة تشكيل هذه الذات من جديد لتنهض.
باحث وجامعي من الجزائر
tm_barek@yahoo.fr
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ ابن خلدون: عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، دار القلم بيروت ط 11 سنة 1992م ص147.
(2) ـ المرجع نفسه الصفحة نفسها.
(3) ـ المرجع نفسه الصفحة نفسها.
(4) ـ المرجع نفسه الصفحة نفسها.
(5) ـ المرجع نفسه الصفحة نفسها.
(6) ـ لقد رفع عدد غيرقليل من المثقفين العرب في البلدان العربية شعارات هي من وحي الاستعمار، كشعار تحرير المرأة، وشعار الديمقراطية، وشعار حقوق الإنسان، وكان هذا بعد الاستقلال، وأثناء فترة الاحتلال، ونحن لا نمانع في كون المرأة عندنا في حاجة إلى رعاية، كما أننا نتوق إلى الحكم الديمقراطي، واحترام حقوق الإنسان، لكننا نعيب على هؤلاء المثقفين أنهم رفعوا هذه تقليدا للغالب دون أن يعملوا على تكييفها لتتلاءم مع مجتمعاتنا.
(7) ـ الدكتور سليم قلالة، التغريب في الفكر والسياسة والاقتصاد، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية رغاية سنة1990م ص134و 135.
(8) ـ د:محمد العربي ولد خلية، النظام العالمي، ماذا تغير فيه؟وأين نحن من تحولاته؟/مدخل لدراسة الهيكلة الجديدة للعالم من الحرب الباردة إلى الأحادية القطبية، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر سنة 1998م ص374
(9) ـ مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين، وكامل مسقاوي، دار الفكر دمشق والجزائر ط 4 سنة 1986م ص132.
(10) ـ الدكتور:حسان منير حمزة سنو، وعي احمد الطراح، الهويات الوطنية والمجتمع العلمي والاعلام، دار النهضة العربية بيروت ط1 سنة2002م ص70و71
(11) ـ د:سليم قلالة، مرجع سابق ص134و135
(12) ـ محمد صالح الهرماسي، مقاربة في إشكالية الهوية ـ المغرب العربي المعاصر ـ، دار الفكر بيروت ودمشق سنة 2001م ص118
(13) ـ المرجع نفسه ص130
(14) ـ محمد صالح الهرماسي، مرجع سابق ص 130
(15) ـ د محمد العربي ولد خليفة، المرجع السابق ص36
(16) ـ د علي الدين هلال ود نيفين مسعد، النظم السياسية العربية ـ قضايا الاستمرار والتغاير ـ مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، ط2 سنة 2002م ص18
(17) ـ محمد صالح الهرماسي، مرجع سابق ص129
(18) ـ د حسنى عبد الباري عصر، تشويه العقل العربي، تقديم د احمد المهدي عبد الحليم، المكتب العربي الحديث، الاسكندرية ط 1 سنة 1999م ص 49
(19) ـ د محمد لعربي ولد خليفة، مرجع سابق ص39
(20) ـ المرجع نفسه ص نفسها
(21) ـ المرجع نفسه ص145
(22) ـ المرجع نفسه ص158
(23) ـ المرجع نفسه ص 379 و380 إلي 382
(24) ـ مالك بن نبي، مرجع سابق ص43
(25) ـ المرجع نفسه ص71
(26) ـ المرجع نفسه ص72
(27) ـ فلوريال كولماس، اللغة والاقتصاد، ترحمة الدكتور أحمد عوض، مراجعة عبد السلام رضوان، عالم المعرفة الكويت سنة 2000م ص235.
(28) ـ ابن خلدون، المقدمة ص 148.
(29) ـ المرجع نفسه الصفحة نفسها.
(30) ـ جان بيير قارنيي، عولة الثقافة، ترجمة عبد الجليل الازدي، دار القصبة للنشر، سنة 2002م ص 13
(31) ـ المرجع نفسه ص 14
(32) ـ المرجع نفسه ص 19
(33) ـ المرجع نفسه ص102
(34) ـ د محمد العربي ولد خليفة، مرجع سابق ص139
(35) ـ نظرية الثقافة، تأليف مجموعة من الكتاب، ترجمة الدكتور علي سيد الصاوي، مراجعة وتقديم الأستاذ الدكتور الفاروق زكي يونس، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت ستة 1997 م ص 350.
(36) ـ الدكتور محمد بن عبد الكريم الجزائري، الثقافة ومآسي رجالها، شركة الشهاب الجزائر(دت) ص24
(37) ـ الدكتور عبد الغني مغربي، الفكر الاجتماعي عند ابن خلدون، ترجمة محمد الشريف بن دالي حسين، المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر سنة 1986م ص 189
(38) ـ لرجع نفسه الصفحة نفسها
(39) ـ المرجع نفسه ص 47
(40) ـ المرجع نفسه ص 20
(41) ـ المرجع نفسه الصفحة نفسها
(42) ـ لمرجع نفسه الصفحة نفسها
(43) ـ المرجع نفسه ص 21
(44) ـ ا ينظر القول في المرجع السابق ص 24
(45) ـ لمرجع نفسه الصفحة نفسه
(46) ـ الدكتور محمد الصغير بناني، البلاغة والعمران، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر سنة 1996م ص 6
(47) ـ المرجع نفسه ص 7، 8
(48) ـ المرجع نفسه ص 8
(49) ـ علي حرب، حديث النهايات ـ فتوحات العولمة ومآزق الهوية ـ المركز الثقافي الربي ط 1 سنة2000م ص71
(50) ـ المرجع نفسه ص 78
(51) ـ المرجع نفسه ص نفسها
(52) ـ مالك بن نبي، المرجع السابق ص 25
(53) ـ لمرجع نفسه ص45