يقدم الشاعر والكاتب ومراسل (الكلمة) في المغرب هذه المراجعة لكتاب خالد أمين (مابعد برشت) وتأثيرات المفاهيم البريختية وخاصة مفهوم التغريب في المسرح العربي والمغربي خاصة.

نحو إعادة كتابة الجسد البرشتي

(ما بعد برشت) للباحث خالد أمين

عبدالحق ميفراني

صدر مطلع هذه السنة وعن منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة كتاب الدكتور خالد أمين (مابعد برشت ـ Beyond Brecht) ترجمة الأستاذ عبدالمنعم الشنتوف ومراجعة وتقديم المؤلف. يتضمن الكتاب مجموعة من الدراسات المقارنة حول برتولد برشت أنجزها باللغة الانجليزية في مناسبات متفرقة {1993 ـ 1995}. ومن المؤكد أن أية قراءة جديدة من موقع مختلف ستسلط المزيد من الضوء على المؤسسة البرشتية، وخاصة مسألة التغريب ومستلزماتها المعرفية والايديولوجية. وإذا كانت الدراسة لها قيمة مضافة للكتابات السابقة إلا أنه تعمق الوعي بأحد أهم دعامات الحقل المسرحي المعاصر. ومنظومة مسرحية ظلت تلقي بظلالها على صناعة الفرجة والتنظير المسرحي. 

برشت العربي/ المغاربي
يلاحظ الباحث خالد أمين أن المسرحيين المغاربة ومنذ فترة السبعينات عثروا على ضالتهم في مفهوم التغريب البرشتي، إذ كان لبرشت الفضل في نحت مجموعة من النظريات البديلة في الخارطة المسرحية المغربية {مسرح النقد لمحمد مسكين،المسرح الجدلي، المسرح الثالث، المسرح الاحتفالي الى حد ما}. وقد ساعد هذا العبور الجمالي المسرح والمسرحيين المغاربة على إقامة الجسور مع تراثهم الفرجوي والمصالحة معه. دخل برشت المسرح العربي نهاية 60 من القرن العشرين وبداية 70 وهي فترة التوهج والاحتقان، بعدما أصبح هذا المسرح تواقا نحو مسرح الرفض، وهكذا أمسى برشت عند المسرحيين العرب في مرتبة الأب الروحي لمسرح الرفض والمقاومة. ويلاحظ الباحث خالد أمين أن اسثتمار النظرية البرشتية قد ساعد المسرحيين العرب على تفكيك منظومة المركزية المسرحية الغربية. إذ ساهم هذا الاسثتمار في إبراز خصوصيات المسرح العربي انطلاقا من توظيف عربي للوعي التاريخي البرشتي والمادية الجدلية.

فعلى المستوى العربي تبرز تجربة عزالدين المدني، وسعد الله ونوس. أما على المستوى المغاربي فتجربة الجزائري عبدالرحمان كاكي {1934 ـ 1995} رائدة في تشبعها بالمسرح البرشتي التعليمي والملحمي. الى جانب تجربة عبدالقادر علولة {1939 ـ 1994}. الذي ينطلق من التصور البرشتي للتطور الخطي للتاريخ مسائلا الرؤى الهيجيلية الماركسية للسيرورة الخطية لجدلية التاريخ.  

جينيالوجيا الأثر التغريبي
في جينيالوجيا الأثر التغيربي عند برتولد برشت يحدد الباحث خالد أمين الروابط الجمالية بين نظرية برشت في المسرح الملحمي والأثر التغريبي وبعض الممارسات المسرحية والدرامية التي سبقته في الماضي القريب بغية رصد مختلف مظاهر الاختلاف والائتلاف الجنيالوجيين. البحث الذي يفضي الى التأكيد الى أن أثر التغريب يختلف ويمكن النظر الى تطور المشروع المسرحي البرشتي بصفة تعاقب أساليب مسرحية وأسس جمالية مختلفة مندرجة في إطار تعاقب آخر وفق كيفية جدلية، برشت لم يكن حبيس صورة لأثر ببسكاتور، أو راين هارت، أو مايرهولد أو شكلوفسكي... بل كانت اتجاهات مثلت محطات بارزة في خط جنيالوجي متسم بالامتداد وبرشت يشكل عصبه الرئيسي. 

بين مسرح المواقف والمسرح الملحمي: بين سارتر وبرشت
قام سارتر بنقل مفهومه الفلسفي من حرية الإنسان الى نظريته الأدبية، وتجلى ذلك على الخصوص في أعماله الدرامية، ويتمثل مسرحه البديل للمسرح البورجوازي المهيمن آنذاك في مسرح المواقف، الذي تخلله الرؤية الوجودية المتكاملة الى الوضعية الإنسانية. وتتحدد المسألة المركزية في نظرية سارتر الدرامية في إقصاء الدراما الطبيعوية والواقعية السيكولوجية بسبب نزوعاتها البورجوازية لفائدة الدراما الفلسفية.

وتنزع نظرية سارتر في الدراما نحو جعل المسرح محور تقاطع حريات متنوعة: حريات التشخيص، الشخصيات والمتلقين {القراء/ المتفرجون}, ويتغيا سارتر إقامة مسرح جديد في مقابل المسرح الطبيعوي أو المسرح الدرامي ونزوعاته المفرطة صوب السلبية في مستوى فاعلية المسرحية وتلقيها.

أما المسرح الملحمي فينزع مسرح برشت الى عرض الحياة الاجتماعية والإنسانية بطريقة شبه موضوعية وقد تمظهر هذا الاختيار لبرشت من خلال ابتداع المسرح الملحمي الذي طوره برشت الى المسرح الجدلي. لقد قام مسرح برشت الثوري على أساس التصور التغريب، أو الأثر التغريبي، وهو التصور الذي يلتقي كثيرا بمفهوم الاستيلاب.

لكن الأثر التغريبي انتقل الى ما هو جمالي من لدن برشت لدحر خطر الاستيلاب داخل المجتمع المشيأ، وتفكيك الوهم لدى برشت يتضمن خلخلة النظرة المحدقة والنظام الرمزي للوجود الإنساني. يمثل أثر برشت في التغريب، أساسا لتدمير معظم نظام الجمهور الرمزي المشيء، ومشروعا مسرحيا لإرغام المتفرج على وضع كينونته الخاصة ووضعه الاجتماعي موضع تساؤل. إن مكمن الاختلاف بين تصور سارتر وبرشت للمسرح يتجه الى تعارض تصور موضوعة الإنسان ميتافزيقية وتجرد سارتر في مقابل جدلية برشت. 

دراماتورجية هاينر مولر وجدلية برشت
يتشكل العرض المسرحي عند برشت باعتباره عملية إنتاج وضمنها يتم عرض جدلية البنيات الباطنية وآليات الإنتاج بممارسة التغريب، وهذه التقنية عصب المؤسسة المسرحية البرشتية. ودراماتورجية هاينر مولر الجدلية إضافة الى فهمه العميق لبرشت وانزياحه عن الممارسة المسرحية البرشتية فيما بعد، يمثل تكلمة لمشروع أستاذه وتشكل المسافة التي يقيمها بينه وبين برشت شرطا لوجود دينامية لتطور المسرح الملحمي، فهاينر مولر هو الامتداد التاريخي لبرشت.

تتسم الكتابة الدراماتورجية عند مولر بـ "التشدر" ويقوي تجاوزه للمسرح الملحمي اهتمامه العميق بجعل العرض المسرحي مشروعا سيميائيا مكثفا، قدرته على التحكم في اللغة إضافة الى الطابع الذاتي لتاريخانيته وجدليته، تقوم صلب نظريته على موت المؤلف. وتكمن المسافة الكائنة بين برشت ومولر عبر مقاربة هذا الأخير الذاتية للتاريخ، إنه يتجاوز مفهوم برشت المشروط بـ "التغريب التاريخي" الذي يتغيا الحفاظ على فاعلية اللحظة التاريخية عبر تغريبها. مقاربة مولرالجدلية تنجز التاريخ من خلال نزوع كوني.

انتقاد مولر لبرشت يعد تثبيتا لإسهام برشت في الدراما الجدلية، والانتقال من المسرح الملحمي الى المسرح الجدلي استكمال مشروع برشت في عد استساغة برشت آواخر أيامه لكل من لفظ الملحمي ونزوعاته الموضوعاتية، دراما هاينر مولر بريشتية بامتياز، هي بحث في الجدل القائم بين التاريخ والفوضى. 

كيف قرأ برشت شكسبير؟
تأثرت نظرية برشت الدرامية بشدة، بالمقوم الجدلي لدراماتورجية شكسبير والخاصية الانفتاحية القصوى لمسرحياته، ويبدوبرشت ناقد شكسبير الأكثر إدراكا لسحر مسرحه، فقد عبر عن إعجابه بالسرد الملحمي في مسرحياته وتمثله شخصيات تاريخية ومؤاثراتهم. تشدد قراءة برشت لـ "هاملت" بالإضافة الى مجمل اقتباساته الأخرى على همجية ووحشية الأحداث الممثلة انطلاقا من حيل ركحية تغريبية مختلفة وبالاحتكام الى المنظور التاريخي يرى برشت الى هاملت شكسبير وكل الإنتاجات الإليزابيتية من حيث أنها صراع محتدم بين خطابين:

انحسار بنيات التفكير المواكبة للفيودالية من جهة، وانبعاث التشكيلات الخطابية المصاحبة للرأسمالية من جهة أخرى.

لقد انصبت رؤية برشست على الطبيعة التاريخية لهاته التراجيدية التاريخية. وتنزع قراءة برشت لشكسبير الى عدم اعتبار هذا الأخير كلاسيكيا ميتا، وإنما فنانا متحديا، إن مناهج برشت في إنتاج شكسبير تمثل محاولات جادة لملء الهوة التاريخية التي تفصل الإليزابتيين عن الجمهور في اللحظة الراهنة. وتعتبر هذه المناهج تثويرية وتقدمية من خلال التشديد على طرائقها وعناصرها الجدلية والصراعات الراهنة، وهي من تم تقعد تفاعلا جديدا مع الكلاسكيين. تتضمن إنتاجات برشت حذفا تحليليا للإمكانات الى الحدود الدنيا وسوف لن يظهر على الركح إلا ما هو أساسي للفعل المسرحي. ويتيح هذا الاستدعاء الأساسي للصياغة الأصلية التأمل فيما تم إدراجه من خلال إعادة كتابة الجسد الشكسبيري فوق الركح. 

المتلقي عند برشت وبيكيت
يعتبر برشت بالنسبة للباحث خالد أمين كات بمسرحي ملتزم، تقدم نظريته المسرحية الدليل على ارتباطها بتصور الشكلانيين للفن، ومفهوم البنيويين للانزياح. أما صمويل بيكيت فكاتب مسرحي "عبثي" قام بثوير المعايير المألوفة للمسرح. لقد قام برشت بإطراح مفهوم أرسطو المتمثل في المحاكاة، والذي يهدف في نهاية الأمر الى إنتاج التطهير من حيث هو رد فعل ووسيلة يندمج من خلالها المتفرج. وقد قام برشت بإعادة نمذجة جذرية للتطهير في إطار غرس الرغبة في المعرفة والتأهب المستمر للفعل، وتعتبر هذه النمذجة أنظومة مسرحية تجمع اللذة والاكتشاف.

ويتحدد البديل البرشتي للمسرح العاطفي الانفعالي في المسرح الملحمي السياسي، وهو ما يسعى على الرغم من ذلك الى إقامة نظرية مسرحية جديدة متأسسة على الأثر التغريبي الذي تتحدد وظيفته الأولى في ضرورة تحرير العرض المسرحي من آليات التنويم وتفكيك الوهم. ومن تم اختزال القدرات العاطفية للمتفرج. لإفساح المجال للإمكانات الذهنية كي تتسم بالفاعلية. أما دراما صمويل بيكيت الجمالية التثويرية لما بعد الحداثة فتختلف على رؤية برشت إذ لايعمد بيكيت الى توظيف التغريب، فجمهوره معد للشعور بثقل ومأساوية الوضعية الوجودية المعيشة المقدمة على الركح، كما ينزع متلقي بيكيت الى أن يكون منتجا للنص. وتبدو طبيعة دراما بيكيت أنها تقوم بإطراح الدراماتورجية المألوفة، وتتطور بشكل ملح نحو ارتباط شديد بين الشكل والمعنى. ورغم هذا الاختلاف البادي لكلا الرؤيتين، سواء البرشتية او البكيتية، إلا أنهما ينزعان الى تمثل التلقي من حيث هو دينامي وطرف أساسي في سيرورة العمل الإبداعي. وتكون النتيجة أن برشت يسيس الجمالية فيما يضفي بيكيت الطابع الجمالي على السياسة.