رسالة السودان
حياةٌ آهلةٌ بالموت! حول عروض مهرجان أيام البقعة المسرحية بالخرطوم
بدأت فعاليات الدورة الثامنة لمهرجان أيام البقعة المسرحية بالخرطوم في 27 مارس وانتهت في الرابع من ابريل وأول ما يسترعي الانتباه في المهرجان بدورته الثامنة، غير حضور المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد، الذي قدم إضاءة مهمة عن تجربته التنظيرية "نحو مسرح احتفالي" بمسرح الفنون الشعبية بامدرمان، بعد ان كان ابتدرها، مع عدد من المسرحيين المغاربة أواخر سبعينات القرن الفائت، وظل يغذي طاقتها بالعديد من المحاضرات والكتابات في امتدادات العمل المسرحي المختلفة بالمنطقة العربية إلى اللحظة الراهنة. أول ما يسترعي الانتباه غير حضور هذا المسرحي وأيضا غير الاحتفاء بمكي سنادة وما خلص منه مثل ذلك الكاتب، ومثل تلك اللحظة المؤثرة التي حكي فيها سنادة، كيف بدأ مع المسرح، دامعاً، ومتداعياً بعفوية مع صفير وتصفيق سيد عبد الله صوصل من الصالة، ومبتهجاً أيضا.. هكذا! غير هذا أول ما لفت انتباهي هو أن معظم التجارب التي قُدمت من خلال المهرجان كشفت عن انشغال لافت بسؤال الموت، كل العروض تم إحياؤها لتسأل عن الموت تقريبا، لتستدعيه وتقارب كل متعلقات المسافة ما بينه، والحياة! صحيح أن أمر دال مثل أن هنالك بعض العروض سعت إلى إن تبتكر أمكنة جديدة للعرض هو أمر لافت ويمكن القول في سبيله ان صوصل قدم عرضه (اللصوص يسرقون المنزل مرتين) " تأليف وإخراج" بذلك الممر المؤدي إلى صالة المسرح القومي من الجهة الشرقية، محاولاً أن يظهر إمكانية جديدة للمسرح في تخليق الأمكنة وهو أمر يتلاقي وهموم المسرحيين من اجل إيجاد أماكن للعرض غير خشبة المسرح القومي التي ظهر لنا، غير بؤسها الجمالي، كيف ان أرضيتها العارية تسببت في العديد من الإشكاليات.. أكثر من ممثل سقط بسببها! كذلك هنالك تجربة نوري من كسلا وعرضه (إفادات الكورس في قضية السيد ادروب) والذي قدمه في تلك المنصة التي تسمي بـ "منصة الفكي عبد الرحمن" حيث حاول ان يبين ـ بخياره هذا ـ أن توير أبسط الإمكانيات يمكن أن يمكنا من تقديم المسرح في أي مكان. أيضا هنالك تجربة المخرج عبد الحكيم الطاهر في عرض (خمس حكايات من راندوكا) التي قدمها في ذات المكان لكن بتوسيع مساحته أكثر لتنفتح علي المزيد من المنظورات!
بدأت فعاليات الدورة الثامنة لمهرجان أيام البقعة المسرحية بالخرطوم في 27 مارس وانتهت في الرابع من ابريل وأول ما يسترعي الانتباه في المهرجان بدورته الثامنة، غير حضور المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد، الذي قدم إضاءة مهمة عن تجربته التنظيرية "نحو مسرح احتفالي" بمسرح الفنون الشعبية بامدرمان، بعد ان كان ابتدرها، مع عدد من المسرحيين المغاربة أواخر سبعينات القرن الفائت، وظل يغذي طاقتها بالعديد من المحاضرات والكتابات في امتدادات العمل المسرحي المختلفة بالمنطقة العربية إلى اللحظة الراهنة. أول ما يسترعي الانتباه غير حضور هذا المسرحي وأيضا غير الاحتفاء بمكي سنادة وما خلص منه مثل ذلك الكاتب، ومثل تلك اللحظة المؤثرة التي حكي فيها سنادة، كيف بدأ مع المسرح، دامعاً، ومتداعياً بعفوية مع صفير وتصفيق سيد عبد الله صوصل من الصالة، ومبتهجاً أيضا.. هكذا! غير هذا أول ما لفت انتباهي هو أن معظم التجارب التي قُدمت من خلال المهرجان كشفت عن انشغال لافت بسؤال الموت، كل العروض تم إحياؤها لتسأل عن الموت تقريبا، لتستدعيه وتقارب كل متعلقات المسافة ما بينه، والحياة!
صحيح أن أمر دال مثل أن هنالك بعض العروض سعت إلى إن تبتكر أمكنة جديدة للعرض هو أمر لافت ويمكن القول في سبيله ان صوصل قدم عرضه (اللصوص يسرقون المنزل مرتين) " تأليف وإخراج" بذلك الممر المؤدي إلى صالة المسرح القومي من الجهة الشرقية، محاولاً أن يظهر إمكانية جديدة للمسرح في تخليق الأمكنة وهو أمر يتلاقي وهموم المسرحيين من اجل إيجاد أماكن للعرض غير خشبة المسرح القومي التي ظهر لنا، غير بؤسها الجمالي، كيف ان أرضيتها العارية تسببت في العديد من الإشكاليات.. أكثر من ممثل سقط بسببها!
كذلك هنالك تجربة نوري من كسلا وعرضه (إفادات الكورس في قضية السيد ادروب) والذي قدمه في تلك المنصة التي تسمي بـ "منصة الفكي عبد الرحمن" حيث حاول ان يبين ـ بخياره هذا ـ أن توير أبسط الإمكانيات يمكن أن يمكنا من تقديم المسرح في أي مكان. أيضا هنالك تجربة المخرج عبد الحكيم الطاهر في عرض (خمس حكايات من راندوكا) التي قدمها في ذات المكان لكن بتوسيع مساحته أكثر لتنفتح علي المزيد من المنظورات!
ومما يمكننا قوله في هذا السياق أن خيارات المخرجين في هذه العروض تتفق في كونها، مجتمعة، تركت تلك الخشبة التقليدية ومضت لتبحث عن أمكنة جديدة لكنها تختلف في اختبارها للأمكنة الجديدة التي اختارتها؛ فصوصل، مثلا، كان مهموماً، في إقدامه علي تقديم عرضه في ذلك المكان الضيق أن يقول لنا بمسرح لا تسع مقاعد صالته أكثر من 50 مشاهدا أو يزيد بقليل، يبدو لي أن لصوصل حساسيته مع موضوع مقاعد الجمهور هذا؛ ففي تجربة سابقة له بمسرحية (أغنية الدم) كان لديه تصور معين في توزيع مقاعد المشاهدين بالصالة.. بل هو مضي إلى توجيه المشاهدين بطريقة معينة في الجلوس.. انها إذن دعوة منه لتقاليد مشاهدة جديدة! علي العموم هكذا تتبدي الفروق بين هذه العروض التي تميزت بخروجها واختيارها لفضاءات لعب غير خشبة المسرح.. علي أن الفروق الأكثر كثافة تحققت في الانشغال بسؤال الموت.. أغلب العروض انشغلت به، لكن كل عرض كانت له طريقته الخاصة.
لفتنا أيضا أن بعض التجارب التي مرت بهذه الدورة الثامنة للمهرجان بدت مخلصة لتجارب سابقة قدمتها عبره؛ رأينا أساليب كنا قد رأيناها في دورات سابقة.. يدلل هذا في دلالته العامة علي نوع من السعي إلى الاختمار.. نوع من التحقق بالصورة والصوت عبر الزمن، لقد شاهدنا عرض عوض شكسبير المونودرامي بممثله أبو بكر الشيخ "إلى المدعو الموت" كأننا رأينا التجربة ذاتها، ببعض الفروق القليلة، في دورة سابقة من المهرجان وقد كان اسم العرض (الرجاء اصطحاب الصغار) إن لم تخن الذاكرة، كذلك تجربة فرقة "المشيش" بوليد عمر الألفي في طابع تجربتها بهذه الدورة "أهل الكهف" الكثير مما شاهدناه بعرض سابق لها قُدم في المهرجان بدورة سابقة "كايلك" أما فرقة مدينة مدني فلقد قيل الكثير عن تقديمها لعرضها بهذه الدورة وبه من عرض الدورة الفائتة للمهرجان الأزياء ذاتها، الممثلين، الإيماءات والإشارات، الماكياج.. والرأس الحليق.. الخ!
سؤال الموت علي أن سؤال الموت، هو ما لم نشاهد في خصوصه، في مرة سابقة، هذا الصف الطويل من العروض! فالموت: بلا شك هو من الأسئلة الشقية التي ظل الإنسان يقاربها وسيظل علي الأرجح! ويبقي تعقده قائما، إلى وقت غير محدد بالطبع، ودائما مُحتشدا، بالكثير من الأوهام والأساطير وما لا يعلمون!
طقس الدم: أول التجارب كانت تجربة جاستن جون، في تقديمه لعرض "طقس الدم"، من إخراجه وتأليفه، وهي تجربة تناصية مع المسرحية الكلاسيكية المعروفة "انتجونا" والتي تقوم بنائيا علي منع/ وتحقيق رغبة انتجونا في دفن شقيقها. النص في ذاكرته اليونانية يتحدد علي سؤال "قانون السماء/ قانون الأرض" و يقدم جاستن في تجربته هذه تنويع طقسي للمسرحية، أكثر من أي شيء آخر، مستعيناً ببعض القيم البصرية المتخلقة من التشكيلات التي تتعين من الحركة الجسدية للممثلين، ولقد وسم العرض بـ (طقس الدم) ليمد بذلك آصرة صميمية مابين سؤالي الحياة/ الموت. وما هو الدم.. ما هي مضخته التي أن توقفت؛ توقفت معها الحياة!.
مقبرة علي النهر ثم هنالك عرض (مقبرة علي النهر) من تأليف عادل إبراهيم محمد خير وإخراج عاطف قطيري، وهو يبدأ منذ عنوانه مشواره إلى المقابر، لكن في التفاصيل التي تنضفر بها لوحاته الأولي يمضي العرض لمقابلة عالم الجنرال، الشخصية الرئيسة التي يؤديها الممثل عبد الحكيم عامر، بعالم الشاب الذي يرغب في خطبة ابنته، ويبدو هنا كأننا بمواجهة سؤال "الحاضر/ الماضي"، هذه النغمة الدرامية التي ترمي إلى إدانة الحاضر ومحاسبته من خلال الاحتفاء بالماضي وإعلاء قيمة هي مما سيمضي العرض إلى استعراضه في مجمل لوحاته التالية ويُظهر العرض بعض الإشارات الدالة ـ في سبيل الموت ـ عندما يعلمنا بالرغبة القوية للجنرال التي تحمله على ان يرهن استجابته لطلب الشاب يد ابنته بان يضمن له انه سيدفن قرب النهر عندما يموت، يطلب منه توفير تصريح الدفن.. وبهذا الموضع يطلعنا العرض، تلميحاً وتصريحاً، علي بعض الإجراءات المعقدة التي تحيط بهكذا عمل: دفن الموتي! ونقول ان الموت هنا يحضر كحيلة يحاول من خلالها المؤلف كسب المزيد من التأثير الدرامي من طاقته العالية، لتقوية وتعقيد ايقاع المسرحية وهو ما نجده ايضا لدي عوض شكسبير!
الي المدعو الموت: عرض (إلى المدعو الموت) من تأليف وإخراج عوض شكسبير، ويبدأ بإشارة مسموعة إلى أن البطل سيرحل عند الساعة الثانية عشرة، وفي هذا الطريق القصير، المحسوب بالدقائق ونبضاتها، وخفقات الساعة أعلى غرفة العمليات بالمستشفي الذي يرقد به بطل المسرحية "ابو بكر الشيخ" يتداعي البطل بالكثير من الحكايات والمشاهدات، يملأ الفجوات إلى أن يرحل، ينتخب عوض شكسبير من اللحظات السابقة للموت تلك التي تجعلنا نحس بنوع من العبثية والنفاق والخوف والمحبة والعديد من المشاعر المتناقضة التي تنطوي في النفس الإنسانية.. لعبة التأليف هنا في هذه الدرجة العالية من الترقب والانتظار ما بين الحياة والموت، بإيقاع نبض خافض.. نبض مرتفع، يمضي العرض؛ ليسكت بالنهاية تماما في: نبض ميت..!
العزاء لا ينتهي بانتهاء مراسم الدفن: أما عرض (العزاء لا ينتهي بانتهاء مراسم الدفن) من تأليف ذو الفقار حسن عدلان وإخراج عوض بطران فيقدم لنا الموت في علاقته بواقع السلعية والاستهلاكية الذي نعيشه، إذ يقارب العرض بحس تأليفي عال كيف انه أمر بالغ التعقيد ان يُدفن المرء ـ في حال موته ـ بمكان من اختياره، نحن نشاهد مجموعة من الصعوبات التي تواجه تجربة كهذه ويستمد العرض بعده الدرامي من سؤاله الجدلي "الروحي/الجسدي" فالذي يُراد له ان يُدفن هو ذاته الذي يبحث عن موضع للدفن.. هكذا رحلة الجسد مع الروح، جسد متحرك وروح ميتة أو العكس ربما.. والعزاء لا ينتهي بانتهاء مراسم الدفن!
خمس حكايات من دار اندوكا: والموت يحضر في تجربة عبد الحكيم الطاهر (خمس حكايات من دار اندوكا) متصلا بالحرب في دار فور، دار فور كسؤال لم تحضر عبر عروض المهرجان إلا هنا، وبذلك الفضاء الذي اختاره خارج الخشبة قدم طاهر العديد من اللوحات التعبيرية ليبين لنا أحوال الرعب والموت في دار فور.. متفجرات ورصاص، وأهوال لا تحد!
الخرطوم