يعد الروائي والناقد المغربي الدكتور محمد برادة من أهم الأدباء المغاربة الذين ساهموا في ترسيخ الدرس الأكاديمي بالجامعة المغربية ـ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط ـ وساهم في تأسيس اتحاد كتاب المغرب 1978 - 1981 وانتخب رئيساً له، كما ساهم بكتاباته النقدية، وبمجهوداته في مجال الترجمة في الانفتاح على المناهج الأدبية حيث صدرت له بعض الترجمات لكتب أدبية ونقدية ونظرية ساهمت في انفتاح الباحثين على منجز كل من رولان بارت وميخائيل باختين وجان جنيه ولوكليزيو وغيرهم، كم عرفت بعض نصوصه الأدبية أيضا طريقها إلى الترجمة إلى بعض اللغات الأجنبية. نشر برادة عشرات من الروايات والقصص القصيرة والكتب النقدية. أصدرت له أربع روايات: (لعبة النسيان) 1987، (الضوء الهارب) 1993، (مثل صيف لن يتكرر) 1999، (إمرأة النسيان)2001. محكيات (مثل صيف لن يتكرر) ترجمت الى اللغة العبرية في دار أندلس سنة 2006 وإلى اللغة الانجليزية عام 2009. مجموعة قصصية: (سلخ الجلد) 1979 و(ودادية الهمس واللمس) 2004، كتاب رسائل باشتراك مع محمد شكري: ورد ورماد 2000 وكتب نقدية: (محمد مندور وتنظير النقد العربي) 1979، (الرواية العربية: واقع وآفاق) 1981، (أسئلة الرواية أسئلة النقد) 1996، (سياقات ثقافية: مواقف مداخلات مرافئ) 2003 و(فضاءات روائية) 2003.
حصل الدكتور محمد برادة على جائزة المغرب للكتاب، في صنف الدراسات الأدبية، عن كتابه النقدي (فضاءات روائية). وحصل سنة 2009 على جائزة المغرب للكتاب مرة ثانية في صنف السرود والمحكيات،عن روايته (حيوات متجاورة). وتزامنا مع اليوم الدراسي (بصمات إبداعية) الذي نظمته شعبة اللغة العربية بالمدرسة العليا للأساتذة بمرتيل تحت إشراف الدكتور عبد الرحيم جيران. إلتقينا به وكان لنا معه الحوار التالي:
** لقد شكلت رواية (لعبة النسيان) نقلة نوعية في الكتابة الروائية بالمغرب، لا من حيث طبيعة التجريب على مستوى الشكل فحسب، بل أيضا على مستوى المضامين. ولهذا نريد أن نعرف إلى أي حد كان سؤال ذوبان اليوطوبيا يترك أثره البين فيها عن طريق طرح الحدود بين الوهم والحقيقة؛ حيث يصير إعادة تشكيل الحياة الشخصية في إطار هذه الحدود طريقا لتلمس المعنى، ويصير الشكل حاضنا لهذه الطريق، وبخاصة إذا نحن أدركنا أن اللعب على المسافة بين مصادر الحكي كان خصيصة مميزة لهذا الشكل وسر التجريب في )لعبة النسيان(؟
ــ يمكن اعتماد مقولة "الحدود بين الوهْـم والحقيقة" لقراءة مجموعة من رواياتي، كما تقترح ذلك في هذا الحوار. ولكنني لا أستسيغ كلمة 'حقيقة' لأنها ملتبسة وزئـبقـية ولا يمكن أن توجد إلا من خلال النسبية. لذلك أفضل أن أستعمل عبارة 'الحدود بين الواقع والتخيــيـل' لأن الكتابة بقدر ما تمتح من 'الواقع' الشاسع، المتعدد، الحسي والنفسي، بقدر ما تتكئ على التخييل الذي يسعف على التحقـُّق الجمالي، وعلى توسيع أرجاء الواقع الذي غالبا ما يبدو ضيقا في أعين مـَنْ يعيشه ... انطلاقا من هذه الملاحظة، عندما يكتب الروائي عن سيرته أو يستوحيها في نص روائي، فإنه لا يستطيع أن يفلت من قبضة التخييل الذي يتيح له الانتقاء والتوليف والإضافة والتعديل، وفق ما يقتضيه الشكل الذي لا يوجد مكتملا، ثابتا، قبل الكتابة. إذا سـلّمنا أن الروائي يتقصد ملامسة المعنى، فإنه لا يستطيع ذلك من دون أن يغطس ذاته وذاكرته في ما يعتبره 'واقعا' بالنسبة إليه، ومن دون أن يتخيّـل إمكانَ أن تكون حياته على غير ما هي علـيه. ذلك أننا لا نستطيع إدراك واقعنا من غير مقارنة وافتراضات ومخيلة. وهذا ما يخلق فسحة الكتابة ويحررها من الاستنساخ و'ترجمة' المعيش إلى كلمات ثاوية في القاموس. صحيح أن كل حياة شخصية تنطوي على خصوصية وتفرُّد، إلا أن الشكل التعبيري هو الذي يتيح لهذه الخصوصية أن تبرز وتعلن عن نفسها، لأن الشكل له أبعاد ميتافيزيقية منغرسة في الذات .
بالنسبة لـ (لعبة النسيان) 1987، هي ليست سيرة ذاتية ولكنني اسـتـثـمـرتُ عناصر وفضاءات حميمية، سيرية، لكتابة نص روائي يبحث عن 'معنى' لفترة من حياتي عشتـُـها متشابكة، متداخلة مع مسار مجتمعي ومسار التاريخ الممتدّ في ما قبل الاستقلال وبعده. هكذا كان تصوري عند بدء الكتابة سنة 1979، لكنني سرعان ما وجدتُ نفسي مأخوذا في مغامرة الكتابة واللغة ولـعـب الذاكرة. وهو ما أفضى بي إلى نوع من التجريب لأعــثـر على شكل يمسك بمتاهة الذاكرة، وتعدد الأصوات واللغات التي هـبّــتْ من مرقدها. هي، كما قال بعض النقاد، لعبة الذاكرة والسرد، ولكنها قبل كل شيء لعبة للنسيان، لأنه العنصر الضروري والغائب الذي يتيح للكتابة أن توجد وسط زخـْـم الذاكرة وحمولاتها المتكدسة، فيكون النسيان وسيلة للاحتفاظ بما يبدو أساسيا، إلا أننا سرعان ما ننتبه، في غمرة الكتابة، إلى أن ما يطفو على السطح ليس هو الأهم، فننبش في منطقة النسيان، لنستخرج ما هو غير قابل للنسيان، القابع في اللاوعي وثـنـيات الذاكرة .
** تستعيد رواية (الضوء الهارب) سؤال الوهم والحقيقة والحدود بينهما، لكنها تفعل ذلك بطريقة وأسلوب مختلفين، إذ تموضع السؤال المذكور في المسافة بين الداخل والخارج .. بين الأنا والعالم الخارجي، فلم تكن مصادر الكلام واردة ولا مشكوكا في مصداقيتها، لكن الشك سينتقل، من دون أن يفصح عن نفسه على نحو مباشر، إلى الحضور في العالم من حيث هو همٌّ، وسيضطلع الفن التشكيلي بوصفه أداة تعبير عن هذا الحضور بخلق ذلك المجاز البلاغي الذي يحمل في طياته كثافة سؤال الحقيقة والوهم؛ حيث تصير الذات تطلبا حاسما أمام فجاجة نثرية العالم، لكن هذا التطلب ظل يعاني من كيفية الوجود في العالم بوصفه برانيا. فكيف حُلَّت صياغة الحقيقي، في تمسكه بما هو ذاتي، انطلاقا مما هو وهمي آت من مصهر الخارج؟
ــ لعلنا فعلا، كما قيل، نكتب عن الأشياء التي نريد استيعابها والنفاذ إلى أعماقها، لتصبح جزءا من ذاتنا ومقومات وجودنا. وعندما أقدمتُ على كتابة (الضوء الهارب)، كنت أمـرّ بفترة حرجة من عمري الخمسيني، وكانت زوّادة الأسئلة منتفخة تضيق بما حملتْ. وأفق السياسة مطموسا وراء سنوات الرصاص التي كادت أن تقتل الأمل في نفوس المغاربة. كنتُ أحســني في مواجهة كلية، غير تجـزيئية، مع نفسي والعالم؛ ومن ثم تشابكتْ الأسئلة والمحكيات التي تلامس العلاقة مع الحب والجنس والفن والموت والقيـم المـتـبدّلة ... لم أكن أفرق بين البراني والجواني، لأن لحظة المكاشفة والسؤال الوجودي يجعلنا كتلة متماسكة أمام أسئلة تتهدد اليقين والطمأنينة الداخلية. لحظة َ هروب الضوء هي أيضا لحظة البصيرة والاستبصار، والعودة إلى النفس والاختلاء بها. من يزعم أنه يستطيع التمييز بين ما هو داخلي وخارجي ساعة َمواجهة هشاشة الوجود والانتماء وخيانة التاريخ؟ الكتابة لا تـُحدث تغيـيرا مباشرا، إلا أنها تستطيع أن توقظ الوجدان وتضفي على الأحداث نسبــيـة تجعلها في دائرة العابر المُـتحوّل. وهذا ما جعلني أتساءل في الطبعة الثانية لـ (الضوء الهارب) :
«هل الكتابة مـحـو يساعد على النسيان؟ أم أنها وشـمٌ يسـتقـرّ في الأعماق ليوقظ الوجدان عندما يحاصرنا الابتذال والتفاهــة المُــتــأنـقـة؟»
** تشكل رواية (امرأة النسيان) تحرية في الكتابة تعيد صياغة سؤال الوهم والحقيقة، انطلاقا من محاولة تعقب إدراك العنفوان البشري من زاوية الإحساس بانطفائه، وإدراك تطلب الذات في إلحاحها على حريتها الخاصة، من زاوية اندحار الرغبة وتفكك مصادرها في هيئة انحلال تماسك بنية الذات نفسها، وتمرير العالم في امتداداته، بما فيها السياسي في واقعيته، انطلاقا من هذا الإدراك الذي يؤسس معنى الرواية. أتسعى رواية (الضوء الهارب)، إذن، بسؤالها هذا إلى الانكتاب في المسافة الفاصلة بين الوهم والحقيقة من دون أن تشغل نفسها بتدمير الحدود بينهما، كما هو الحال في الروايتين السابقتين، أم العكس هو الوارد، والاختلاف يظل واردا فقط على مستوى التنويع على طبيعة الموضوع؟
ــ نحن نعيش متكئين على كثير من الأوهام وعلى ما نعتبره حقيقة تسند مسارنا وتضفي عليه قليلا من المعنى. والأوهام كثيرا ما تتبـدّى في زيّ الحقيقة، قبل أن نفيق من توهّــمـاتنا ... وهذا النوع من التأثـيث للحياة يخدرنا ويلهينا عن العبث الذي يلاحقنا، داخل عالم يُـفـرغ ُ أكثر فأكثر من معناه. إلا أن تجربتي في (امرأة النسيان) تـتـحـدّر من صُـلب آخـر: إنها تصـدر عن خلفية يسكنها الموت. ذلك أن كتابة هذا النص اقترنتْ بفقد صديقة حميمة رمزت لها بحرفيْ ف. ب، وهي ذاتها التي كان لها حضور خفيف في (لعبة النسيان)؛ وبعد موتها انتبهتُ إلى أنها لم تأخذ حجمها الحقيقي، الرمزي، في روايتي الأولى. من ثم جعلتها في (امرأة النسيان) شخصية محورية، وأفقا للتأمل، انطلاقا من حقيقة الموت التي تـغـيّر نظرتنا إلى الأشياء، وتجعلها أكثر عمقا وصدقا. بعبارة أخرى، كتبت (امرأة النسيان) نشدانا ً للتعـزّي (pour faire le deuil) كما يقول الفرنسيون، أي لكي أقبل بالخسران والفقدان؛ وأتحمل موت إنسانة عزيزة على نفسي. من هنا، تبدو ف. ب. وكأنها تطل من عالم الغيب لتتحدث لـغة متعالية على العابر، تتوخى الاقتراب من تلك الحقيقة التي تتوارى خلف المواضعات والمجاملة والرياء. بينما يبدو الكاتب السارد مشدودا إلى عالم يضج بالحركة والكلام والطموح إلى تملـّـك العالم؛ لكنني حرصتُ، وأنا في حضرة الموت، أن أتعامل مع كل الأشياء والقيم على قدم المساواة، إذ أن مسافة الموت تجعلنا ندرك هشاشة أحلامنا وأوهامنا وثوريتـنا ...
** لا شك أن رواية (حيوات متجاورة) تحدد تجربة جديدة في الكتابة الروائية التي تميز محمد برادة، وإن كانت تستعيد من حيث الشكل تقنية المسافة تجاه مصادر الحكي، بوضع كلام السراد موضع مساءلة، كما هو الحال في (لعبة النسيان)، بيد أن ما هو مثير في هذه الرواية هو خفوت الذاتي، وهدير الداخل أمام الشغف بتعقب الآخر في مغايرته وتداخل المصائر، بما يعنيه ذلك من نقل لمسألة الحدود من مجال العلاقة بين الحقيقي والوهمي، إلى مجال العلاقة بين الظاهر والخفي، ومن ثمة كانت العناية الفائقة بالحفر في تكوين الشخوص الروائية، بغية القبض على ما يؤسس أفعالها. فهل الأمر يتعلق في هذه الرواية بمحاولة المزاوجة بين تقنية شكلية تعنى بتنسيب فعل الحكي، وموضوع يتطلب الاسترفاد من التشخيص الواقعي؟
ــ ما تسمّـيه الاسترفاد من التشخيص الواقعي هو دائما حاضر، لأنه ملازم للتخيـيل ومكوّن لجسـر التواصل مع القارئ. وعلى الروائي أن يحمي نفسه من طغيان الواقع على عالمه المنسوج من عناصر تطمح إلى مجاوزة ظرفية الواقع ... لكننا نشهد، في العقود الأخيرة، هجمة كبيرة للواقع الذي أصبح يتخطى في عنفه وغرابته ما كان يُــدرج في حساب المخيلة. والمجتمع المغربي يعيش فترة تضجّ بالعنف والاحتيال وانهيار القيم. ولا يستطيع الروائي أن يغمض عينيه عن هذه المواد الخام التي تسائله وتحاصر مخيلته؛ ولذلك فإن توظيف ظاهرات وشخصيات من هذا الواقع يتيح استبطان أسئلة راهنة، لها جذور في الماضي، وعواقب على الحاضر. لكن المسألة الحساسة في التعامل مع عينات من الواقع المكشوف، هي ألا يكتفي الروائي بالاستعارة معتمدا على الاستنساخ ومتوخــيا الفضح، بل إن مهمة الروائي أن يعيد تخيُّـل الشخصيات والظاهرات، ضمن أبعاد تحفر في تربة المجتمع والتاريخ، وتضيء ما يبدو مجرد سلوكات عابرة. وقد انطلقتُ في (حيوات متجاورة) من عنصر المجاورة الذي نصادفه في الحياة والعلائق والأحداث التاريخية، ويجعل فهمنا لما حولنا يأخذ منحى آخـر، غير التحليل المنطقي، وغير التفسير المادي للتاريخ. وهذا ما رمزتُ إليه بالجوار بين نعيمة آيت لهنا، وولد هنية، وعبد الموجود الوارثي، والأستاذ سميح: كيف نتخيل مسار كل واحد من هذه الشخصيات المتباينة في التكوين والثقافة والوضع الاجتماعي؟ أين تقف المسؤولية الفردية؟ ومتى تتدخل عوامل التاريخ في تحديد المسار؟ مثل هذه الأسئلة توجد مقترنة بسلوك وتفكير وشروط مجتمعية معينة، وتفرز أنماطا من القيم والتصورات، والرواية تسعى إلى تقديم تمثيـل أدبي لذلك عبر لغة المتكلمين وردود فعلهم المختلفة؛ من دون أن أتبنى وجهة نظـر شخصية من الشخصيات. من ثم يمكن القول مع إبراهيم الخطيب في تحليله للرواية، بأنها رواية اللاأطروحة، التي تعرض عدة أطروحات متعارضة. وأظن أن هذا الموقف فرض نفسه عليّ من خلال المرحلة التي نعيشها، والتي تحتاج إلى نوع من 'التفريــغ' الإيديولوجي لنتمكن من إعادة التفكير والاختيار على ضوء ما تراكم في الأذهان من مبادئ فقدت حيويتها وطاقتها الحافزة .
** يطرح إشكال علاقة الدرس البلاغي العربي بالنقد الغربي إشكالات عدة، ورغم مرور فترة طويلة من الزمن، أي منذ كتابات طه حسين، لا تزال هذه العلاقة غير واضحة، رغم أنهما معا ينتسبان لشجرة الفكر الإنساني برحابته وشساعته. كيف تنظرون إلى هذا الالتباس؟
ــ أظن أن مصدر الالتباس بين ما أسميته الدرس البلاغي العربي والنقد الغربي، راجع إلى أن النقد في الغرب، منذ القرن التاسع عشر، أقدم على محاورة العلوم والعلوم الإنسانية منها بخاصة، تطلعا إلى تحقيق علمية دقيقة في مجال النقد الأدبي. وبغض النظر عن مدى تحقق ذلك، نجد أن هاجس علمية النقد قد قاد الباحثين والمحللين إلى تخليص النقد من الانطباعية والذوقية، وأقام مناهج تستفيد من الألسنية والسوسيولجيا والتحليل النفساني والسيميائية والبنيوية ... أي أن النقد العالمي أنجـز نوعا من القطيعة المعرفية مع التراث البلاغي والنقدي القديم، تماشيا مع تحولات مفهوم الأدب وتطور الأشكال، وتفاعل الأجناس التعبيرية ... بينما ظل النقد العربي في مطلع القرن العشرين وإلى الخمسينات منه، محصورا في محاولة الملاءمة بين الموروث والمعاصر، ولم يقدم على تجديد عميق للأدوات المنهجية والمعرفية إلا في السبعينات، لكنه واجه وإلى الآن، معارضة أنصار 'الأصالة' الذين يقاومون تطوير المعرفة ومناهجها باسم أصالة مُـتوهّـمَـة .
** يحفل كتابكم (فضاءات روائية) بقضايا نقدية شائكة، مثل المقارنة، ومرجعيات اختيار المتن الروائي المدروس، والخلاصات التي انتهيتم إليها في هذا الكتاب، فهل مرد ذلك تشاكل الذائقة الابداعية والنقدية لدى محمد برادة؟ أم أن الامر مرتبط بطبيعة الكتابة الروائية لدى كل من عبد الرحمان منيف، وسليم بركات، وغادة السمان؟
ــ في (فضاءات روائية) وفي كتاب سيصدر في الأشهر القادمة بعنوان (أربعون رواية عربية تسائل الذات والمجتمع) (دار أزمنة، عمان)، أحرص على قراءة ما أعتبره مهما من الروايات العربية الساعية إلى تقديم اجتهادات في الشكل والمضمون واللغة. وأعتبر هذه القراءات المبسطة وسيلة للفت نظر قراء الصحف والمجلات إلى خطاب جديد يتوسل بالرواية والسرد، ليلتقط مستجدات في طرائق العيش والسلوك والصراع، وتصوير التحولات النفسية والإيديولوجية. والروائي كما نعلم، له الجرأة لاقتحام الموضوعات المحرمة، واستعمال اللغة اليومية الساخنة، بدلا ً من انتظار ما تـتـفـتـّـق عنه قريحة المجمع اللغوي من كلمات فصيحة، تترجم الأشياء والمشاعر التي نصادفها في حياتنا المتسارعة، الخاضعة لإواليات العولمة، وتناسل المخترعات. من هنا، أجد أن قراءة أكبر عدد من الروايات العربية هي عملية مفيدة من حيث أنها تجعلنا نطلع على ما يكتبه روائيون قابلون لأن يُــقرأوا على امتداد بلدان تســعُ 300 مليون نسمة، وتحمل في الآن نفسه تنوعا وابتداعا داخل نفس اللغة العربية، سواء على مستوى تركيب الجملة أو اللغة الدارجة. لكنني أتحرى ألا تكون النصوص التي أقرأها فاقدة للمسافة الجمالية الضرورية التي تُـبعد النص عن الاستنساخ والاجترار. بطبيعة الحال، هذه القراءات تتصادى مع ذائقتي الإبداعية والنقدية، لأنني أبحث في منجزات الآخرين عن احتمالات نظرية وشكلية. ومن ناحية أخرى، أعتقد أن على النقد العربي أن يبدأ بقراءة أولى للنصوص اللافتة، حتى يمهد الطريق أمام الدراسات المقارنة والاستخلاصية، على مستوى النتاج الروائي في مجموع الأقطار العربية.
** بعد أن أسهم الدرس اللساني والمناهج الإنسانية في تطوير أفق النقد نشهد اليوم تنكرا واضحا لهما من دون وجود بديل نظري وإجرائي مقنع. كما أن غياب هذا البديل أفضى إلى نوع من التيه النقدي يتراوح بين اللجوء إلى النقد الثقافي والعودة إلى استنطاق التراث. أيعني ذلك حسما نهائيا مع ضرورة المنهج في الدراسة الأدبية؟ أم أن الأمر يتعلق بحالة مؤقتة في انتظار نضج الأسئلة بصدد التحولات الحادثة في العالم والتي تفتقر إلى التحيزات الإيديولوجية الواضحة والقادرة على فهم ما يحدث؟
ــ لا أظن أن هناك تنكّرا للمناهج النقدية الحديثة؛ لأن أثر تلك المناهج في الثقافات والمؤسسات الأكاديمية العالمية يظل قائما وفاعلا ومؤثرا، بكيفية أو بأخرى. لكن ما نلاحظه بين الفينة والأخرى هو تحـوّل في مركز الأسئلة الأساس التي تنتـقل من مجال معرفي إلى مجال ثان، تبعا للمعضلات والتبدلات التي تطرأ على ساحات المجتمع والبحث ... ولا شك أن الصراع الفكري والإيديولوجي يلقي بظلاله على صوغ الإشكاليات الجوهرية في كل مرحلة من تاريخ الثقافات. ليس هناك، في نظري، حسم باستبعاد مكتسبات المناهج الحديثة، لكن علينا ألا نبالغ في تقدير 'استطاعة' هذه المناهج، لأنها توجد وتنمو وتعيش بدورها وسط عالم فاقد للبوصلة أكثر فأكثر. وتمارس تحليلاتها داخل فضاء المتاهة وضياع المعنى في عالم اليوم. وهو ما يدفعني إلى القول بأن المنهج يظل وسيلة لا غاية، وأن قدرته نسبية، وأن تكاثـر المناهج والمقاربات يستجيب لتكاثر الأسئلة الملغـزة .
** يقدم النص الإبداعي بوصفه موضوعا جماليا عوالمه للمتلقي الذي يراهن على تشكل المعنى وفق ذائقته، ألا يمكن اعتبار عمل الناقد بوصفه أداة لتجنب سوء الفهم، عبر استعادة وعي المؤلف، وتجاوز الضوابط الموضوعية للنص الإبداعي، واستعادة الخبرة الجمالية، قد يساهم في تشويش هذا التلق، وخلق أفق مغاير لتلقي النص الإبداعي؟
ــ يمكن للبعض أن يعتبر النص الإبداعي في غـنىً عن النقد والناقد، لأنه يتوجه إلى القارئ القادر على التذوق والتقيـيم. ومن ثمّ نضمن عدم 'التشويش' على المتلقي، ونترك له حريته في التفاعل والانفعال.
إلا أن وظيفة الناقد، فيما أرى، لا تقتـصـر على تحليل وتقييـم العمل الأدبي، وإنما تستجيب لوظيفة أشمل تتصل بالإسهام في بلورة جوانب من 'الخطاب' الثقافي الذي يُـنتجه مجتمع مّا، في سياق معين. وهو خطاب ذو مكونات عديدة يتضافر فيها الأدبي بالفلسفي، والسوسيولوجي بالاقتصادي، والديني بالتاريخي، والنقد العفوي الشفوي خلال السهرات (critique mondaine) بالنقد التحليلي المنهجي ... صحيح أن ظهور العمل الأدبي هو الذي يتيح وجود النقد، لكن هذا الأخير هو جزء من الرأي العام المتلقي، وهو الذي يصوغ 'التعليق' المواكب للتلقي ويخرجه من الصدور إلى التحقّـق عبر الكتابة والخطاب. وخطاب النقد يرصد علائق العمل الأدبي الجديد بما قبله، ويُـموضعه ضمن خارطة الإبداع وحساسية المتلقين المعاصرين.
لكن خطاب النقد ليس نهائيا، لأن النص الإبداعي يستمـرّ في الوجود بالصورة التي ظهر بها، ويستطيع أن يكتسب قراء آخرين في عصور مختلفة ويـستثـيـر نقودا أخرى مغايرة. لأجل ذلك يبدو خطاب الناقد ضروريا، لأنه يضيء جوانب من الخطاب الثقافي العام للمجتمع، ويكشف عن دور الأدب في تغيـير، أو تعديل الحساسية والذوق والقيم الجمالية.
** لا شك أن المنجز النقدي لا يتساوق والمنجز السردي المغربي الذي عرف تحولات مهمة منذ (دفنا الماضي)، لكن إلى أي حد ساهمت موجات التجريب في تطور هذه السرود، وهل التضحية بسحر الحكاية، وغياب الشخصيات، يمكن أن يحفظ لهذه السرود هويتها الأجناسية؟
ــ قد لا تكون المصادرة التي بنـيـتَ عليها سؤالك صحيحة، لأن المنجز النقدي المغربي تجاه السرديات على جانب من الأهمية، خاصة في الأبحاث الجامعية التي أنجزها طلبة باحثون وأساتذة، خلال العقود الثلاثة الماضية. لكنها لم تعرف طريقها إلى النشر أو نشرت في صحف ومجلات ... أما عن المنجـز السردي المغربي فلا مناص من التميـيـز بين روائيـين يجربون عن وعي وفهْـم نظريـيْـن، وآخرين ينجذبون إلى الطريف والغرائبي لمجرد الظهور بمظهر المُـنتهك، الخارج على حدود الجنس الروائي. هذا النوع الثاني من التجريب يندرج غالبا في نطاق الموضـة ولا يخلف أثـرا أو يكتسب قراء. يبقى، إلى جانب ذلك، أن شكل الرواية يغري بابتداع تشكيلات لامتناهية، تذهب إلى حد الاستغناء عن الحكاية المحبوكة، والشخصيات المتماسكة، وتعويضهما بعناصر أخرى تُوفـر التشويق وتنسج عوالم تستمـيـل المخيلة. المسألة تتصل بضرورة اعتبار تاريخ منجزات الرواية في العالم، وضرورة أخذه في الاعتبار عند التطلع إلى التجريب والتجديد، وإلا ّ فإن طرق الرواية المعـبدة لم تستنفد بعد إمكاناتها، وتنتظـر الموهوبين لاستـثمارها وفق ما يضمن المتعة، ويبعث على التأمل والحلم .
** دشنت كتابات نيتشه وفوكو بداية للموكب الجنائزي لموت المثقف، وغيابه الكلي عن رصد التحولات الفكرية والثقافية والسياسية، وغياب رؤى واضحة إلى السلطة، المرأة، الطفولة؛ مما ساهم في التباس الوضع الثقافي بشكل غير مسبوق. كما أن غياب سرديات كبرى، قادرة على تفسير العالم، وطرح بدائل لتغييره، يفضيان إلى حيرة المثقف تجاه علاقته بما يجري حوله، إلى درجة صارت معها مقولة المثقف العضوي تثير من الشك ما يكفي للاحتراس من تبنيها. فهل يعني كل ذلك تحول ما في وضع المثقف وفي دوره ووظيفته؟
ــ بدلا ً من الحديث عن موت المثقف، أفضل الحديث عن تحوّل دور المثقف وموقعه، ضمن خارطة مجتمعات اليوم وصراعاتها. لم يعد المثقف هو 'ضمير' المجتمع، وهاديه إلى 'المحجـة البيضاء'، لأن متغيرات كثيرة خلقت أنماطا من المثقفين المتحدرين من صلب الاختصاصات المعرفية والعلمية، وأكسبتهم سلطة الانتقاد والتقويم، فلم يعد هذا الدور مقتصرا على الفيلسوف والأديب والناقد والمناضل، بل اتسع ليشمل المهندس والطبيب والمحامي والعالم ... إلا أن ما يقلص من دور المثقف اليوم هو ما أشرت َ إليه من اختفاء المحكيات الكبرى القادرة على تفسيـر العالم. وهذه الظاهرة تعود، في ما أرى، إلى فقدان الاعتقاد في حتمية 'التطور' والتقدم، كما كان الشأن في عصر الأنوار الأوروبي. عالم اليوم هو عصر الشكّ بامتياز، لأن المفكرين يجمعون على غياب المعنى، وافتقار الحضارة إلى أهداف كونية منبنـية على قيم لها مصداقية مشتركة بين جميع الثقافات والحضارات ... وسط هذا السديم، تضاءل دور الأحزاب السياسية وتحولت إلى مؤسسات تديـر الأزمة، وتحافظ على مصالح الأقوياء، وتنتج خطابا لا يخلو من الكذب والكيل بمكيالين، فلم يعد للفكر السياسي حضور فاعل، ولم يعد المثقف يجد آذانا صاغية لوقف النزيف والاستغلال الوحشي للمستضعفين والفقراء ... لكن هذا لا يعني أن الثقافة لم تخلق أشكالا أخرى لإسماع انتقاداتها ومعارضتها؛ لأننا شهدنا بزوغ حركات تلقائية لمناهضة العولمة الربحية، ولمناصرة الآلاف ممَـنْ ليس لهم مأوى أو أوراق إدارية، ومعاضدة المهاجرين الذين يتهددهم الطرد، والعاطلين ضحايا الرأسمالية المتوحشة. وهذه الأشكال الجديدة من النضال أوجدتْ أنماطا من المثقفين الجماعيين المناهضين لانحرافات المجتمع .
بالنسبة لمصطلح 'المثقف العضوي' الذي صاغه أنطونيو غرامشي في ثلاثينات القرن الماضي، أظن أنه لم يفقد إجرائيـته، لأنه يتوفر على كفاية نظـرية تتيح له أن يتكيف مع أوضاع وسياقات متعددة، إذا ما حرصنا على فهم المصطلح في تفاصيله وتلاوينه، وهو ما ظل غائبا عند الكثيرين من مَــنْ روجوا له في الفكر السياسي العربي. لا يتسع المجال، هنا، للخوض في دلالات هذا المصطلح، لكنني أكتفي بالإشارة إلى أن غرامشي لم يعـط قيمة إيجابية مطلقة للمثقف العضوي، وإنما استعمله لتوصيف علاقة معيـنة توجد بين المثقف، والطبقة التي ينتمي إليها، أو يختار الانتماء إليها منقلبا على طبقته؛ وهو مصطلح يُـفهـَـم بالتقابل مع مصطلح 'المثقف التقليدي' الذي يمثل طبقة لم تعد في مركز الجدلية الاجتماعية الصاعدة. معنى ذلك، أن المثقف العضوي لا يلعب دوره إلا إذا توافرتْ شروط سياسية وتنظيمية تتيح له أن يضطلع بهذا الدور، الذي لا يقتصر على المتعلمين والمفكرين، بل يشمل مناضلي الهيئات السياسية الذين يقتنعون بأطروحات وأهداف تخدم الطبقة التي ينتمون إليها عن وعي وإدراك. من هذه الزاوية، أجد أن المصطلح يتوفر على مرونة نظرية تسمح بتوظيفه الآن أيضا.