أعلن الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في افتتاح الدورة 133 لمجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة، أنه: «رغم القناعة بعدم جدية “إسرائيل” بتحقيق السلام العادل إلا إن اللجنة الوزارية العربية لمتابعة مبادرة التسوية قررت إعطاء فرصة للمباحثات غير المباشرة» في محاولة أخيرة للوصول إلى تسوية وتسهيلاً لدور الولايات المتحدة". كما عاد موسى نفسه، وأعلن في مؤتمر صحفي في ختام اجتماع للجنة مبادرة السلام العربية المنبثقة عن الجامعة أن «الرئيس محمود عباس ابلغه انه لن يدخل في مفاوضات تحت الظروف الحالية. مضيفاً أن هذا 'يضع التزاما على الدولة الأمريكية بصفة خاصة والتي أعطت تأكيدات لأبو مازن أنها حينما تبدأ المفاوضات لن تقبل بأي إجراءات أحادية ولكن بدأت المفاوضات وبدأت معها الإجراءات الأحادية. ولا يمكن أن يؤدي هذا إلى مفاوضات ذات معنى أو فائدة». على كل هذا ليس قراراً برفض مبدأ المفاوضات، ولا يمكن اعتباره مناورة قد تنجح في فرض موقف عباس في وقف أو تجميد الاستيطان.
المفاوضات خيار استراتيجي
يأتي ذلك في وقت نجحت فيه “إسرائيل” في إقامة علاقات مع 150 دولة بعدما كانت 46 فقط قبل اتفاقية أوسلو التي «بفضلها» تحولت المفاوضات إلى خيار استراتيجي، ثم إلى طريقة حياة، ثم إلى وسيلة للحياة والثراء، بحسب أحد الكتاب الفلسطينيين. رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس «أبو مازن»، ونتيجة لما فرضته “إسرائيل” على أرض الواقع الذي بات يمنع قيام دولة فلسطينية متواصلة وقابلة للحياة، أعلن "وقف" المفاوضات السياسية ــ للمفارقة فإن التنسيق الأمني لم يتوقف للحظة. ومنذ أن أُعلن فيه عن ولادة مشروع اتفاقيات أوسلو، بموجب سلسلة طويلة و«مظلمة» من المفاوضات السرية والشاقة التي عقدها مسؤولو السلطة الفلسطينية مع العدو ال”إسرائيل”ي، فإن تلك الاتفاقات التي لم تكد تر النور حتى انطفأت و"وئدت" بنقض “إسرائيل”ي متوال لمجمل تفاصيلها، ما لم نقل لجميعها.
وللمفارقة وعند كل إدراك لحقيقة فشل المفاوضات بالنسبة للقائمين بها؛ يتم اللجوء إلى طرق وأساليب مختلفة ومتعددة لاستئنافها من جديد؛ وهذه المرة عبر لقاءات غير مباشرة! وعلى الرغم من العراقيل التي تضعها “إسرائيل” أمام استئناف المفاوضات إلا أن اجتماع لجنة المتابعة العربية في القاهرة أعطى ما أسماها فرصة للإدارة الأميركية لنزع الذرائع من الحكومة ال”إسرائيل”ية، بأن الجانب الفلسطيني لا يريد الجلوس على طاولة المفاوضات. ولم تقدم الإدارة الأميركية أي ضمانات بتوجيه اللوم للفريق المعطل للمفاوضات. وفقاً لما نشرته صحيفة "هآرتس" ال”إسرائيل”ية. فلجنة المتابعة العربية التي التأمت في القاهرة أكدت: لا بديل عن المفاوضات إلا المزيد منها، حتى وإن كانت عبثية وبلا طائل و«مضيعة للوقت والحقوق»، ولا بديل عن خيار «السلام الاستراتيجي الوحيد»، سوى خيار «السلام الاستراتيجي الأوحد»، ولا ملجأ من واشنطن إلا إليها. هذا السياق يؤكده عرابو المفاوضات أنفسهم، فالناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة يقول في (6-3-2010) إن «اللقاءات غير المباشرة هي اختبار لمصداقية الإدارة الأميركية وامتحان لمدى جدية “إسرائيل” للعودة إلى طاولة المفاوضات». ويضيف أبو ردينة أن «القيادة الفلسطينية لديها شكوك في جدية الحكومة ال”إسرائيل”ية، نتيجة ائتلافها المتطرف المتهرب من عملية السلام، وكلنا ثقة انه ليس لديها برنامج سلام».
وتحت عنوان «خارطة أبو مازن للتسوية»، كتبت صحيفة "معاريف" (8-3-2010)، أن «السلطة الفلسطينية على استعداد لمناقشة إبقاء المستوطنات في إطار الاتفاق المستقبلي، وضم 1.9% من مساحة الضفة الغربية، مقابل الحصول على مساحة مماثلة». ونقلت الصحيفة عن مصادر فلسطينية قولها إن «المباحثات مع المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، جورج ميتشيل تتركز حول قضية الحدود والترتيبات الأمنية، وأن السلطة تصر على الحصول على مساحة مماثلة لمساحة الأراضي التي احتلت عام 1967، على أساس تبادل مناطق». وأضافت الصحيفة أنه إلى «جانب تبادل المناطق فإن السلطة على استعداد لقبول تقسيم القدس، وقبول مبدأ نزع السلاح، بمعنى أن الدولة الفلسطينية تكون ذات جهاز شرطة قوي ولكن بدون جيش». وتوقعت الصحيفة أن يطالب نتانياهو في المقابل، من أجل تجنب تعريضه لضغوط دولية، بالاعتراف ب”إسرائيل” كدولة يهودية.
العودة للمفاوضات؟!!
قبل صدور قرار الوزراء العرب بالعودة للمفاوضات غير المباشرة؛ أصدر قبل شهر ونيف عدد من المثقفين في الضفة الغربية، وجُلُّهم ممن نظّر طويلاً لمسار التسوية، بياناً طالبوا فيه رئيس السلطة الفلسطينية عدم قبول الدخول في مفاوضات مع “إسرائيل”، دون ضمانات واضحة. ولذلك كان عباس مصراً على أخذ إذن من العرب لإعادة إطلاق المفاوضات غير المباشرة والتي استقبلتها “إسرائيل” باقتحام للمسجد الأقصى، وبإعطاء الضوء الأخضر لبناء 112 وحدة سكنية في مستوطنة "بيتار ايليت" في بالضفة الغربية، رغم الإعلان ال”إسرائيل”ي تجميد البناء في مستوطنات الضفة، والجهود المبذولة لإطلاق المفاوضات غير المباشرة.
ويؤكد الكاتب الياس سحاب، في مقال تحت عنوان: «اتفاقية أوسلو ليست قدراً»: ..«لقد استهول أبو عمار، أكثر مرة في حياته السياسية المديدة، النتائج الخطيرة للمساومة التاريخية التي حملت عنوان أوسلو، بعد أن جردت القضية من عمقها العربي أولا، ثم من عمقها التاريخي الفلسطيني ثانيا، الرابط بينها وبين الجريمة الأصلية التي ارتكبت في العام 1948. لذلك، فقد كان بديهيا أن تتحول السنوات الثلاث الأخيرة في عمر ياسر عرفات إلى السنوات الأنضج في حياته السياسية، ولكن الوقت كان قد فات، فوجد نفسه على قمة السلطة في رام الله، أمام مفترق يؤدي، كما يبدو، إلى طريقين لا ثالث لهما:
ـ إما التوقيع باسم شعب فلسطين على وثيقة التصفية التاريخية النهائية للقضية.
ـ أو الانتظار في موقعه، حتى يقضي شهيدا، شهيدا، شهيدا، كما كان يردد بنفسه، وكما حصل بالسم ال”إسرائيل”ي القاتل، كما ترجح إحدى نظريات موته المشبوه، بعد حصار خانق دام ثلاث سنوات.
والحقيقة أنه كان أمام ياسر عرفات طريق ثالث، لكنه لا يبدو واضحاً أمام عيون القابع في قمة السلطة، هو حل السلطة نفسها، بعد وصولها إلى ذلك المأزق التاريخي، وإلقاء كل مسؤولية المشهد الغريب المعقد، الذي وصلت إليه القضية، على كاهل الاحتلال ال”إسرائيل”ي، وعلى كاهل المجتمع الدولي، المسؤول التاريخي عن وجود القضية من أساسها. والمشهد نفسه يتكرر اليوم، بعد أن ازداد تدهور القضية الفلسطينية باتجاه التصفية سوءا، بتطور العناصر السياسية التي حولت السلطة الفلسطينية إلى رهينة حقيقية بيد الاحتلال ال”إسرائيل”ي، وبيد التحالف الاستراتيجي الأميركي ـ ال”إسرائيل”ي. وعلى هذا لم يعد كافياً للخروج من هذا المأزق أن تكرر السلطة يومياً أنها لن تعود إلى المفاوضات ما لم تعلن “إسرائيل” تجميد الاستيطان ـ هي في العادة تبتلع تهديداتها ـ لأن بوسع أولياء أمور الممسكين بالسلطة إجبارها على العودة للمفاوضات، دون أي تنازل “إسرائيل”ي، ما دام أولياء الأمور هؤلاء، يمولون السلطة. وحتى لو قامت “إسرائيل” بتجميد مؤقت للاستيطان، فلن تكون هذه الخطوة كافية لرد القضية الفلسطينية عن استمرار التدهور والتصفية.
مسار مفاوضات؟!!
مهدت منظمة التحرير الفلسطينية للدخول في المفاوضات بالاعتراف رسمياً خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر في (12-15/11/1988) بالقرار 181 الصادر عن الأمم المتحدة في (29/11/1947)، والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين؛ عربية ويهودية، واعترافها رسمياً بالقرار 242 الصادر عن الأمم المتحدة في (22/11/1967). يقول رئيس الوفد الفلسطيني إلى مفاوضات الوضع النهائي، أحمد قريع، الذي ترأس الوفد الفلسطيني في مفاوضات أوسلو سنة 1993: «تعتبر المفاوضات في القانون الدولي العام إحدى الوسائل السلمية لحلّ النزاعات الدولية. ولعل أبرز قضية في الشرق الأوسط، كانت وما زالت تؤثر على الأمن والسلم الدوليين، هي قضية فلسطين التي ينزف جرحها كل يوم على يد الاحتلال ال”إسرائيل”ي، وعلى يد الفلسطينيين أنفسهم».
وبعد أن أوشك الصراع الفلسطيني ـ ال”إسرائيل”ي أن يقترب من تسوية مؤقتة بعد «اتفاق أوسلو Oslo Accords» الذي تم التوقيع عليه في واشنطن في (13/9/1993)، تلاشى هذا الأمل المكذوب، وتراجعت احتمالات السلام أمام حروب لا تنتهي من الجدل القائم على التاريخ وأسانيد القانون. وعلى الرغم من أن جوهر التسوية المجحفة أخذ في الاعتبار كل الأطماع الصهيونية في مقابل إهدار كامل للحقوق الفلسطينية كافة. فقد عملت الحكومات ال”إسرائيل”ية المتعاقبة على إفراغ هذه التسوية من أي مضمون جدي، بعد أن تحقق لدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، "“إسرائيل”"، ما كانت تتطلع إليه من اعتراف فلسطيني بها. (مسار المفاوضات الفلسطينية ال”إسرائيل”ية ما بين أنابوليس والقمة العربية في دمشق، مركز الزيتونة للدراسات). وتتابع توقيع الاتفاقيات الإجرائية التنفيذية لـ"اتفاق أوسلو" فيما بعد، فكانت اتفاقات القاهرة في (4/5/1995)، وطابا في (28/9/1995)، والخليل في (15/1/1997)، وواي ريفر في (23/10/1998)، وشرم الشيخ في (4/9/1999). لكن المفاوضات المباشرة انقطعت بين الجانبين بعد فشل المفاوضات في كامب ديفيد في(12-25/7/2000)، واندلاع انتفاضة الأقصى في (28/9/2000). وبعد ذلك مؤتمر أنابوليس (27-11-2007)، الذي سعى من خلاله بوش إلى التوصل لاتفاق حول إنشاء دولة فلسطينية، قبل أن يغادر منصبه في كانون ثاني (يناير) 2009. وحصلت العديد من اللقاءات التي لم تسفر عن أي جديد سوى المماطلة ال”إسرائيل”ية المعتادة. ويؤيد قريع ذلك بقوله إن: «التوسع المستمر في المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة ألقى بظلاله على المحادثات حول قضايا الوضع النهائي الحساسة مثل: مصير القدس، واللاجئين، والحدود». كذلك جرت في الآونة الأخيرة العديد من الأحاديث سواء تلك المتعلقة بالاقتراح الأميركي بإجراء مفاوضات سرية بين الفلسطينيين و”إسرائيل”، وكذلك المؤتمر الدولي للسلام الذي اقترحته فرنسا، والذي وافقت عليه السلطة، والرئيس المصري حسني مبارك خلال زيارته الأخيرة لباريس، شرط حضور راعي السلام الأميركي.
وكان رئيس السلطة محمود عباس بالتزامن مع كل ما سبق قد رفض اقتراحاً أميركياً لإجراء مفاوضات سرية مع الحكومة ال”إسرائيل”ية، واقترح عوضاً عنه إجراء مفاوضات غير مباشرة بوساطة أميركية، ولفترة زمنية محددة. واقترح أن تكون عشرة شهور، وهي فترة التجميد المؤقت والجزئي للتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية. أما رفض السلطة للمفاوضات السرية فإن أسبابه تعود إلى أن المفاوضات مع حكومة نتنياهو لن تقود إلى أي نتيجة، لأن هذه الحكومة ترفض ليس وقف الاستيطان، وإنما ترفض أيضاً استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت عندها مع حكومة ايهود اولمرت السابقة. وهكذا نجد أنه لم تكن المفاوضات، وما نتج عنها منذ اتفاق أوسلو، إلا مصلحة “إسرائيل”ية ووسيلة تكتسب “إسرائيل” من خلالها المزيد من الوقت لتحقيق مكاسب على الأرض، ويتبدى ذلك في إصرار كل الحكومات ال”إسرائيل”ية على التمسك بالمفاوضات والدعوة إليها، في مقابل تراجع خطير على الجانب الفلسطيني، الذي يخسر المزيد من حقوقه، وفي كل الميادين. فمن يرى الوضع الفلسطيني الآن ويقارنه بما كان عليه الحال عشية توقيع اتفاق أوسلو يكتشف حجم الخسائر التي مني بها الحق الفلسطيني، وتم كل ذلك خلال جولات المفاوضات المتعددة التي يرى أصحابها أن المرحلة تتطلب المفاوضات، وأن خيار المقاومة المسلحة بات مستهلكاً وقد استنفد أغراضه، وباتت كلفته عالية، وبالتالي فإن الخيار الوحيد أمامهم هو خيار التسوية السلمية، والطريق المتاح هو طريق المفاوضات فقط، وهذا كمن يرى بربع عين ويغلق الأخرى.
وكتب حامد الدباس في (الجزيرة نت)، تحت عنوان «مفاوضات من أجل المفاوضات»: «إن من يريد التفاوض ينبغي عليه في الحد الأدنى أن يعرف على ماذا يفاوض؟ وما هو الهدف النهائي والمقدس الذي يسعى إلى تحقيقه؟ وما هي الوسائل المناسبة لتحقيق هذا الهدف؟ ولكن المفاوضات ـ الفلسطينية ال”إسرائيل”ية ـ، لم تتبين هدفها ولم تتبن وسائلها المناسبة، فأضحت المفاوضات ـ وخاصة من الجانب الفلسطيني ـ ليس فعلاً بل رد فعل على شراسة المفاوض ال”إسرائيل”ي، وتشرذم المفاوض الفلسطيني، وقهر رعاة المفاوضات وابتزازهم للمفاوض الفلسطيني، سواء فيما يتعلق بالمنح والمساعدات، أو سيطرة القوة على الأرض من قبل الحكومة ال”إسرائيل”ية».
ويهدد بعض الأحيان عباس باللجوء لمجلس الأمن للشكوى ضد “إسرائيل”، ولكن هذا طريق مجرب يعرف عباس قبل غيره أن نهايته مسدودة، لسببين رئيسيين، فمجلس الأمن الدولي، أولا، أبوابه مغلقة إذا انغلقت أبواب البيت الأبيض الأميركي ـ كما أثبتت تجربة "تقرير لجنة غولدستون" الشهير مؤخراً ـ. وكما أثبت "الفيتو" الأميركي طوال أكثر من ستين عاما منذ النكبة الفلسطينية عام 1948. أما السبب الثاني فأوضحه وزير خارجية السلطة د. رياض المالكي، عندما أعلن في طوكيو بأن أحد الاستيضاحات الثلاث من واشنطن، هو ما إذا كانت "خريطة الطريق" هي أساس "المحددات" للمباحثات غير المباشرة المقترحة. ومن المعروف أن هذه الخريطة تنص على ثلاثة مراحل، يفخر المفاوض الفلسطيني، بتكرار الإشارة إلى وفائه بالالتزامات الفلسطينية بموجب المرحلة الأولى منها، المتمثلة بتفكيك "البنية التحتية للإرهاب". ويسجل تكراراً كذلك على خصمه التفاوضي عدم وفائه بالتزاماته بموجبها، المتمثلة بوقف الاستيطان وتفكيك المستوطنات (التي توصف بال"عشوائية") التي أقيمت دون موافقة الحكومة ال”إسرائيل”ية على إقامتها كما تدعي هذه الحكومة.
لكن المرحلة الثانية من هذه الخريطة تنص على إقامة دولة فلسطينية مؤقتة على مساحة (42%) من الضفة الغربية مع قطاع غزة، يقود تنفيذها إلى الاتفاق على الوضع النهائي للأراضي المحتلة عام 1967 في المرحلة الثالثة. ورفض المفاوض الفلسطيني، وما زال يرفض الدولة المؤقتة، ويسعى حالياً إلى الانتقال مباشرة إلى التفاوض على الوضع النهائي طبقاً للمرحلة الثالثة من الخريطة، مما يناقض دعوته المتكررة إلى اعتماد "خريطة الطريق" مرجعية لأي مفاوضات مستأنفة، وبالتالي فإن طريق خريطة الطريق يبدو مسدوداً بدوره.
توازنات جديدة
أما في جانب آخر، فإن عقد اللقاء الثلاثي في دمشق الذي جمع السيد حسن نصر الله، والرئيس أحمدي نجاد، والرئيس بشار الأسد، ومن ثم لقاء قادة الفصائل الفلسطينية مع الإمام الخامنئي، إنما هو تعبير عن مرحلة جديدة من مراحل الصراع الطويلة، وبأن المغزى الأساسي من اللقاء هو توجيه رسالة "ل”إسرائيل”" ومن يقف وراءها ومعها بأنه لم يَعُدْ مسموحاً الاستفراد بأحد عند شنِ أي حرب، وبأنها رسالة تعطي دلالة واضحة أن جبهة المقاومة والممانعة اليوم تقف سداً منيعاً أمام جبهة الأعداء، وهي رسالة ردع ضد الحرب أكثر منها طلباً لها. والدليل على ذلك الخطاب الذي ألقاه السيد حسن نصر الله قبل اللقاء الثلاثي وتوعد فيه "ال”إسرائيل”يين" بحرب مختلفة وخسائر أكبر في جبهتهم الداخلية. والقراءة الواقعية تشير إلى أن وقوع الحرب ليس بالأمر المستبعد، إلا أنه من الصعوبة بمكان حصوله في ظل ما تعانيه أمريكا في العراق وأفغانستان. يُضاف لذلك أن تشابك جبهات المقاومة والممانعة يجعل هذا الأمر محسوباً بدقة من قبل "“إسرائيل”" لنتائجه الخطيرة ليس على بلد معين وإنما على المنطقة بأسرها. فأيُّ مواجهة محتملة ستجعل (المجتمعات ال”إسرائيل”ية) في خضم جحيمٍ من الحرائق والتدمير. الأمر الذي تتجاور تداعياته إرباك الداخل "ال”إسرائيل”ي" إلى وضعه على محك الانهيار. وما يميز هذا اللقاء هو التأكيد على شرعية المقاومة في فلسطين ولبنان، وأن الأمة قادرة على المواجهة والصمود، وأن النصر سيكون حليف المقاومين، الذين باتوا يشكلون في فلسطين ولبنان حالة لا يمكن تجاوزها، بعد حرب 2006 و صمود غزة 2008 ـ 2009.
فالولايات المتحدة الأميركية راهنت مع حلفائها، غرباً وشرقاً، على فك التحالف السوري الإيراني، فجاء الجواب من دمشق بإلغاء الحواجز بين البلدين عبر إلغاء التأشيرات، في رسالة تحمل الكثير من المعاني للرد على رسالة النصح التي أطلقتها وزيرة الخارجية الأميركية قبل ساعات من وصول الرئيس الإيراني احمدي نجاد إلى العاصمة السورية. وخصوصاً مع قرب وصول السفير الأميركي إلى دمشق، مما يعني رسالة بأن دمشق محافظة على نهجها ومتمسكة به. وبالتأكيد أن هذا اللقاء سيكون له ما بعده من التحديات والمواجهات على أكثر من صعيد؛ بدايته أن المقاومة اليوم مجتمعة وباتت تملك قدرات ولن يكون من السهل على أحد ضربها أو حتى تجاوزها. كما أن هذا اللقاء قد يخضع لاختبار “إسرائيل”ي أو أمريكي، لكنه اختبار مكلف جداً وسيترتب عليه نتائج وتداعيات لن تستطيع الولايات المتحدة و”إسرائيل” التعاطي معها، وهو لقاء استطاع إيصال رسائل أطرافه بشكل واضح وصريح وفاعل. بل وعبّر عن حالة جديدة من حالات المقاومة والممانعة، التي باتت تخطو خطوات ثابتة وواثقة، في مواجهة التغول والهيمنة والإملاء ال”إسرائيل”ي ـ الأمريكي.
المقاومة والقدرات المتزايدة
وأكدت دراسة “إسرائيل”ية أعدها الدكتور ميخائيل ميليشطاين، صادرة عن معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة "تل أبيب" بعنوان: «تحدي المقاومة، خواصها والطرق ال”إسرائيل”ية الممكنة لمواجهتها»، أن ميزان القوى الراهن بين المقاومة في الشرق الأوسط، وبين أعدائها وخصومها، شبه متوازن، ويميل لصالحها، وأنها تهدد “إسرائيل” أكثر من الجيوش النظامية. وأوضحت الدراسة أن المقاومة غيّرت وجه المنطقة، كما تدلل التحولات الهامة بالساحتين الفلسطينية واللبنانية، والتي عززت فكرة المقاومة كمفهوم مهيمن لدى غالبية الجماهير في المنطقة. وقال معد الدراسة إن: «قادة مشروع المقاومة لم ينجحوا بعد في ترجمة الفكرة لنظام بديل في المنطقة، لكنها مرتبطة بعمق بمسيرات ثقافية واجتماعية وسياسية فيها». واقترح التنازل عن فكرة القضاء على المقاومة بضربة عسكرية قاضية، وتبني معركة استنزاف طويلة، لا تتمحور في قوتها العسكرية، وتسعى لزعزعة أسسها، وركائز تبلورها في وعي الناس. وتذكر الدراسة أن المقاومة بلغت ذروتها في المنطقة قبل عقدين، وحازت شعبية واسعة غير مسبوقة، وتقول إن قيادتها الجديدة صبّت فيها دلالات فكرية مختلفة، وحددت أهدافها الحالية: بناء نظام بديل في المنطقة بروح إسلامية، مكافحة تأثير الغرب، والأهم محاربة “إسرائيل” حتى إبادتها. وبنظر الدراسة حققت قوى المقاومة في هذه الفترة إنجازات واضحة كالسيطرة على مساحات أرض، وبناء قوة عسكرية، وزرع أفكارها بوعي العامة، حتى باتت تشكل تهديداً خطيراً ل”إسرائيل”. وتشير الدراسة إلى أن المقاومة تعتمد فكرة استنزاف العدو، وعدم الاعتراف به وبشرعيته، والتضحية والصمود والمثابرة والصبر، حتى تحقيق الانتصار. لا بالحسم العسكري المباشر، بل حرمانه منه، وإحباط تسويات سياسية مع “إسرائيل” والتطبيع معها.
ويلفت الباحث إلى أن المقاومة تضع “إسرائيل” اليوم في تحد جديد، بعد تبني عناصرها ذات السيادة الكاملة كإيران وسوريا أنماطاً قتالية تستخدمها المنظمات المسلحة، وبعد حيازة هذه المنظمات قدرات جيوش نظامية. وهذا الأمر يجعل “إسرائيل” مدعوة لتعديل طريقة تفعيل طاقتها العسكرية، وتغيير تعريف مفهوم أمنها القومي، في ظل تراجع قوة تهديدات تقليدية لدول كانت تشكل خطراً أساسياً عليها في عقودها الأولى. وترى الدراسة التي تراجع دروس حربي لبنان وغزة الأخيرتين، أن مواجهة المقاومة عملية مركبة، كونها متعددة الأوجه والمجالات، وبسبب تعاظم قوتها تدريجياً وببطء، والأهم أنها تطرح تهديداً خطيراً يقوم على الاستنزاف الطويل الأمد، الذي يستهدف مناعة المجتمع في “إسرائيل”. وتوصي “إسرائيل” بفهم التحولات الجيوـ إستراتيجية الناشئة في المنطقة، مؤكدة أنه «ينبغي تبني الافتراض بأن المقاومة خطر زاحف، لا مجرد ظاهرة عابرة، وسط عملية تسلح تجعل الواقع قابلاً للانفجار، رغم الهدوء الراهن على الجبهتين اليوم». وتدعوها أيضاً للكف عن محاولات يائسة للنيل من صورة قوى المقاومة لدى الجمهور الواسع، بتحميلها مسؤولية الدمار البالغ، الناجم عن المواجهات معها، والتعلم من المقاومة في التحلي بالنفس الطويل، وتحديد أهداف قابلة للتحقيق. ويحذر الباحث من وهم الإجهاز على المقاومة في معركة واحدة. ويدعو لتفادي احتلال كامل أراضي المقاومة لمدة طويلة؛ منوها بالتجربة "المرّة" في لبنان والعراق.
وأظهرت دراسة أجراها فرع الأبحاث في سلاح الجو ال”إسرائيل”ي، أن الحرب المقبلة ستشهد تعرض القواعد الجوية لعشرات صواريخ أرض ـ أرض. وتطالب الدراسة بإعداد العاملين في هذه القواعد ذهنياً لمثل هذا الاحتمال، الذي يتطلب بحسب خبراء آخرين تغيير عقلية السلاح بحيث ينتهج أسلوب العمل تحت القصف. وكانت تعرضت قاعدة مركزية واحدة لسلاح الجو، على الأقل، لقصف صاروخي من جانب «حزب الله» في حرب تموز 2006. كما أن إحدى أكبر القواعد الجوية في النقب تقع ضمن مدى إطلاق الصواريخ الفلسطينية من قطاع غزة. ويعلم الجيش الصهيوني أن مدى ودقة وكمية الصواريخ المتوفرة لكل من «حزب الله» في لبنان، والمقاومة الفلسطينية في غزة، باتت أكبر مما كانت عليه في حربي لبنان وغزة. وهذا من دون الحديث عن القدرات الصاروخية الإيرانية والسورية، وهي قدرات يأخذها الكيان بالاعتبار بشكل جدي.
وكان عاموس هارئيل قد كشف النقاب في «هآرتس» قبل أيام عن أن المشاركين في المناورة الاركانية المسماة «حجارة نارية 12» التي جرت في أواخر شباط الماضي، أشارت إلى تعاظم القوة ال”إسرائيل”ية وأيضا إلى تزايد الشكوك بشأن نتائج استخدامها. وبحسب كلامه فإن «الكيان يجد صعوبة في إيجاد صيغة ناجحة لمواجهة مستقبلية في الشمال. صحيح، هي قادرة على أن توقع خراباً ودماراً على لبنان وبناه التحتية، ولكن ليس بوسعها أن تقلص بشكل حاد وكاسح نار الكاتيوشا، أو المنع التام لنار الصواريخ الأثقل على منطقة تل أبيب».
رحيل السلطة
ومن هنا، فإن المتغيرات العديدة التي فرضت نفسها على الساحة الفلسطينية والإقليمية قد أرخت بظلالها على مجمل المنطقة. وما حصل بعد إطلاق مؤتمر مدريد (1990)، وتوقيع اتفاقية أوسلو (1993) مروراً بالاتفاقيات العديدة وصولاً إلى انتفاضة الأقصى، وحرب لبنان (2006)، وحالة الانقسام، والحرب على غزة (2008ـ2009)؛ جعل تلك المتغيرات تفرض واقعين جديدين على الساحة:
ـ المفاوضات وأصحابها الذين نذروا أنفسهم لها كخيار أوحد لهم.
ـ خيار المقاومة والممانعة الذي أثبت واقعياً أنه الأقدر، والأكثر قدرة على مواجهة الأعداء والانتصار عليهم.
ولهذا إن القبول باستئناف المفاوضات ـ والأسوأ دون تحقيق شروط مسبقة وضعتها السلطة ـ لا يعني إلا القبول بالاستيطان وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وضم المقدسات، وفي النهاية القبول العلني بكل الجرائم التي يرتكبها حكام “إسرائيل”، وإقرار رسمي بشرعية وجواز هذا الإجرام! وإلا كيف بإمكاننا تفسير قبول العودة إلى طاولة المفاوضات؟! وفي الوقت الذي يتوجب على هذه السلطة العمل على إنجاح عوامل المصالحة والحوار، نراها تنسف كل إمكانيات المصالحة والوحدة، بضربها عرض الحائط رؤية الفصائل الأخرى وتوجهها. فممارسات السلطة وسلوكها وضع المصالحة في موضع ابعد مما كانت عليه سابقا. ووضع سلطة أوسلو في موضع بعيد جدا، عن رؤية الشارع وتوجهه .. لا بل ان هذا التوجه يثير التساؤلات حول جدوى بقاء هذه السلطة!
مقتبس عن «كنعان» كاتب فلسطيني