لكن، بعيدا عن الوجد الإيماني، يمكن لأي مفكر علماني أن يُذكّر جعيط بأن منطق العقل النقدي الذي يُولّد، حسب زعمه، دُوارا لم يُثن المفكرين العرب من التشبّث بتلك الأطروحة التي ترى أن الأديان متكافئة وأن عقائد البشرية هي فعلا ركام من الأكاذيب والأوهام. لم يُصِبهم أي دوار، ولم يختلجهم أي غثيان، بل إنهم قدّموا الشكوك والمُعضلات وأقاموا البراهين على أقوالهم. والغريب في الأمر كيف تغاضى جعيط عن هذه الحقائق التي اخترقت تراث المفكرين العرب منذ القديم. كان عليه أن يفتح اللزوميات للمعرّي كي يعثر على ضالته: القول بوجود إله خالق حكيم "معناه ليس لنا عقول"؛ الألوهية افتراض ناتج عن الجهل بقوانين الكون؛ مُبتدعو الأديان كذابون؛ التفكّر في الخلق يؤدي إلى نكران الألوهية والخروج عن الدين؛ الأساطير الإسلامية متأتية من كُتب اليهود؛ القرآن يحتوي على أخبار يُكذبها الواقع؛ الأديان تسبّب العداوات والحروب...إلخ. كل هذه الآراء التنويرية (قبل الكلمة "ante litteram") مبثوثة في كتب الرازي الطبيب، وفي مؤلفات المفكرين العقلانيين العرب أو ما تبقى من آثارهم(14). انظر كيف يحتجّ الصاحب بن عبّاد، مبينا تناقض العدل الإلهي مع حرية الإنسان، والتضارب الداخلي في الأوامر الإلهية؛ كلّ هذه الأفكار الهرطقية أوردها المتكلّم الأشعري فخر الدين الرازي في كتابه "المطالب العالية من العلم الإلهي": «قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب كيف يأمر بالإيمان وقد مَنَعه عنه، ويَنهاه عن الكفر وقد جَبَله عليه؟ وكيف يصرف عن الإيمان ثم يقول: أنّى يُصرَفون [غافر: 69] ويَخلق فيهم الإفك، ثم يقول: فأنَّى تُؤفَكُون [يونس: 34] وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول: لِمَ تَكفُرون [آل عمران: 79]، وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول: لِمَ تلبسون الحق بالباطل [آل عمران: 71] وصَدّهم عن السبيل ثم يقول: لِم تَصدّون عن سبيل الله [آل عمران: 99] وحال بينهم وبين الإيمان. فقال: وماذا عليهم لو آمَنُوا [النساء: 39] وذهب بهم عن الرشد، ثم قال: فأين تذهبون [التكوير: 26] وأضلّهم عن الدين حتى أعرضوا، ثم قال: فما لَهُم عن التّذكِرَة مُعرِضِين [المدثر: 49](15) ». أودّ أن أعلن للقارئ بأن التناقضات والتنازلات المنهجية التي اخترقت الجزء الأول من كتاب "في السيرة النبوية"، أعني "الوحي والقرآن والنبوّة" لها مبرراتها الإيديولوجية، وخصوصا لها مبرراتها العملية المباشرة. لن أفصح عنها الآن، سأعرضها في خاتمة هذه الفقرة. بخصوص الوحي يُردّد جعيط نفس مقولات التراث الإسلامي والاختلاف بينهما هو في التسمية فقط: لقد غيّر كلمة "اللوح المحفوظ" بكلمة "الأركيتيب (Archétype) الأصلي الإلهي"(16)؛ القرآن هو كتاب مقدّس ولا يمكن الشكّ في هذه الحقيقة أبدا(17)؛ كل كتب الأديان الأخرى (العهد القديم، العهد الجديد، صحف الزارادشتية والبوذية والهندوسية) لا ترقى إلى مستوى القرآن، سواء في المضمون أو في الشكل، وبالتالي فالرسالة المحمدية تتميز عنها جميعا، بل تتسامى بشكل لا مثيل له(18). النتيجة المحققة هي أن «الإسلام... قام بتحويل للاتجاه وأكد على الرجوع إلى الجذور. ففيما المسيح تجسيد لله حسب الكنيسة، القرآن أساسي في الإسلام إذ به أُقيمت من جديد العلاقة بين الله والإنسان. فما محمد إلاّ إنسان ميّت كالآخرين، غير مكتسب لأية صفة إلهية ولا للقدرة على تعطيل مسار سنة الله، أي الطبيعة بأية معجزة في العالم. ولم يؤهل لينقذ الإنسانية من وصمة أية خطيئة أولى، لكن الله أرسله بشيرا ونذيرا عن طريق الوحي القرآني. وبذلك يلعب الوحي ومحتواه القرآن، دورا رئيسيا في هذا الطور من التوحيد الموحى به تماما بدءا من التكشف الأولي، وبذلك فهو الكتاب المقدس بامتياز(19)». هذا الكلام لا يستقيم رأسا، إنه متناقض ومجانب لأبسط معايير البحث التاريخي، وهو في جوهره ليس إلاّ ضربا للعقل في الصّميم. وليس هكذا فحسب، فعلا، جعيط لم يَكتف بهذا القدر، بل إنه، كما فعل في كتابه "الفتنة الكبرى"، تَهجّم على الأديان الأخرى، بحيث أنه اختار منذ البداية موقعه العقائدي وإطاره المرجعي، أعني الإسلام. ولا يُغني عنه شيئا القول بأن محمدا هو إنسان ميّت كالآخرين، وبأنه لم يكن راغبا في إنقاذ الإنسانية من الخطيئة الأصلية؛ هذا لا يُخرجه من إطار الأسطورة واللاعقل. فالإنسانية تتفسخ إن افترضنا وجود إنسان واحد في هذا العالم يُوحَى إليه من طرف إله ما، وأنّ كتابه، كما يزعم جعيط، هو الكتاب المقدس بامتياز. أما القول بأن النبي لم يتمّ تأييده بأية معجزة خارقة للطبيعة، فهذا نكران للبداهة، أعني بداهة الإسلاميين الذين ركّزوا في جميع كتاباتهم على أن الرسول أيّده الله بالعديد من المعجزات. ولكن في حقيقة الأمر، جعيّط نسي بأن القرآن هو معجزة محمد الظاهرة، التي تحدّى بها الناس أجمعين. كيف يقول بأن محمدا لم يؤيَّد بالمعجزات وهو الذي زعم بأن مرجعه المفضل هو القرآن؟ وإذا أردنا الدقة، جعيط يعترف بهذه المعجزة الأخيرة حتى وإن لم يُسمّها باسمها، أو عمل على صياغتها بلغة حديثة، قائلا صراحة بأن المصداقية التاريخية للقرآن مبنية على العقلانية وعلى «ابتعاده عن كل عنصر لاعقلاني بخصوص النبي بالذات»، وأن القرآن «بخاصة وتميّزا عن الرسالات الأخرى يتكلّم بلغة العقل ويستنطق العالم للبرهنة على وجود الخالق المنظّم له. وهو يحاول الإقناع ولا نرى شيئا من هذا في الأديان القديمة الأخرى التي تكتفي بنقل الرؤى والوحي(20)». نعود ونذكّر القارئ بالضمانات المنهجية التي صدّر بها جعيّط عمله، لقد وَعَد القراء بأنه سيعتبر المُعطى كمعطى ويحاول تحليله لا أكثر(21)، ولكن هذه الضمانات لم تُطبَّق على أرض الواقع، ولم تمنعه، على كل حال، من تعاطي رياضته الروحية الدّائبة، أعني إقامة التفاضل الهرمي والمقارنات الاختزالية بين الإسلام وكتابه من جهة أولى، والأديان الأخرى وكتبها من جهة ثانية (اليهودية والمسيحية والبوذية والزردشتية والهندوسية) (22). نحن لا نتَهجّم على أي دين ولا نُدافع عن أيّ منها ضد الآخر، لأن مَرجعنا واحد ومساوٍ لنفسه دائما، وهو العقل. جعيط زعم بأن القرآن يختلف عن كل الكتب الدينية الأخرى، بالمعنى الإيجابي للكلمة، وإن اعترف بالتناقضات، التي تخترقه، فهو لا ليحطّ من قيمته، لأن التناقض، على حد زعمه، ضروري في الأديان كافة، وبه تستطيع أن تُجيب عن كل التساؤلات وتتّجه إلى جميع الأفراد بمختلف ذهنياتهم وحاجياتهم(23). لقد اختزل المسيحية وديناميكيتها التاريخية في مجرّد «عملية إنقاذ للدولة(24)»، وانجرّت، عن عملية الإنقاذ هذه، نتائج سلبية مثل: «حَذفُ الفلسفة اليونانية والعلم اليوناني والعقل اليوناني(25) »، وبالتالي لم يبق إلاّ التعصّب، وتَفشّت روح اللاتسامح في الامبراطورية التي جعلت من تلك الديانة ايديولوجيتها الرسمية. لا نختلف معه في هذه النقطة، والمُطّلع على تاريخ المسيحية يدرك هذه الحقيقة، وهو أن دعواتها المتكررة في البداية للتسامح ومحاولة تبرير وجودها كديانة، تفسّخت وانقلبت إلى ضدها حينما قَويَت شوكتها وكثر أتباعها. انقلبت المواقف من النقيض إلى النقيض وأصبح الأقوياء، سابقا، هم الذين يدعون إلى التسامح والتعددية، لكن الدين الجديد لا يقبل إلاّ واحدا من الخيارين: إما الاعتناق أو الاقصاء. انظر إلى الحوار اللامتكافئ والمأساوي الذي دار، في القرن الرابع، بين السيناتور الروماني (Symmachus) وبين الأسقف المسيحي (Ambrosius). سيماخوس الذي بقي على دين آبائه، يقول لأمبروزيوس ما معناه بأن المَعبُود واحد ولكن طريقة العبادة تختلف من مكان إلى مكان ومن شعب لآخر، وبالتالي ليس من الحصافة ولا من باب التقوى أن تفرض، على من ليس هو بمسيحي، التخلي عن دينه(26). «نحن نتأمل نفس النجوم، تُظلّنا نفس السماء، عالم واحد يُقلّنا جميعا: ما أهمية الطريقة التي نبحث بها عن الحق؟ لا يمكن أن نُدرك سِرّا عظيما [كَسِرّ الألوهية] باتباع نهج واحد(27)». الجواب العنيف للمؤمن أمبروزيوس مرتقَب جدّا: المسيحية هي دين أرقى من الوثنية لأنها متطوّرة على سابقتها وكلّ ما هو لاحق أفضل من السابق (omnia postea in melius profecerunt)؛ الوثنية شاخت وهرمت (عتيقة، vetus)، وحسب ديناميكية ثاوية في التاريخ الخلاصي يجب أن تترك مكانها للديانة اليافعة الشابة (جديدة، nova). الأسقف لا يأبه بمعاناة خصمه، الذي اعترض عليه قائلا بأنها «مُتأخرة ومُهينة محاولة إصلاح الشيخوخة (28)(sera tamen et contumeliosa est emendatio senectutis)»، فهو لا يشعر بالمهانة ولا بالخجل (non erubesco) من الدخول مع الناس في الدين الجديد. الموقف الريبي الذي جعل من السيناتور الروماني حصيفا ومتريثا في أمور الألوهية يتقشع عند الأسقف المسيحي لأنه مقتنع من أن دينه هو الأصحّ وإلهه أجاب عن كل شيء: «سرّ السماء قد علّمنيه الله نفسه، الذي خلقكم، وليس الإنسان، الذي يجهل حتى نفسه. إلى من أتوجه للإيمان بالله، إن لم يكن لله؟ كيف أستطيع أن أومن بكم، وأنتم تعترفون بأنكم تجهلون الذي تعبدونه؟ أنت تقول "لا يمكن أن نُدرك سِرّا عظيما باتباع نهج واحد". ما تجهلونه أنتم، نحن نعلمه من كلام الله. وما تفترضونه أنتم، معروف عندنا من طرف الحكمة والحقيقة الإلهية(29)». الإله الحقيقي الأوحد (unusquisque deum verum) هو الإله المسيحي (est deum Christianorum) لأن آلهة الوثنيين، كما يقول الكتاب المقدس، هم شياطين، وبالتالي بدون الإيمان به «لا يوجد خلاص أبدا». قلتُ بأنني أتفق مع جعيط من هذه الناحية، ولا أجادله في هذه النقطة، بل إنني دعمت رأيه بالشواهد التاريخية، ولكنني أختلف معه في إلصاقها بدين واحد، أو في محاولة استثناء دين آخر من دائرة التعصّب والإقصاء. وكأن التعصب مُحتكَر في دين واحد، وكأنه مُحتّم فقط على المسيحية: التاريخ وحده يشهد بأن اللاتسامح هو السّمة المميزة لكل الأديان وعلى رأسها الأديان التوحيدية، ومَن يزعم خلاف ذلك عليه أن يُقدّم المعطيات التاريخية، والبراهين اليقينية والحُجج الدامغة. وإذا أردنا الدقة فإن جعيط نفسه يقودنا إلى استنتاجنا من أن الأديان التوحيدية موسومة بالتعصب ولا تتوانى من استخدام القوة: الدين المحمدي، حسب جعيّط، ابتدأ وعرّف نفسه بالقوّة، فكَوّن في البداية «جماعة مسلحة»، ثم نواة دولة(30). لقد عاد وكرّر ما قاله في "الفتنة الكبرى" من خلال الصفحات التي ذكر فيها بروز وتطوّر الدعوة المحمدية: «فالسياسة بكل ما تعنيه من ديبلوماسية وسلطة وحرب فمُصالحة هي التي أكسبته النجاح والاعتراف به في الحجاز(31)». ماذا تَرك محمد لأتباعه؟ جعيط ينبؤنا بذلك: «هذه الأداة الدنيوية بقيت تشتغل بعده عبر إطفاء الردّة ثم انطلاقة الفتوحات(32)». لا أودّ أن أتجنى على المؤرخ التونسي بأي حال من الأحوال، وأنا أعرض كلامه كما جاء في كُتبه دون تحوير، ثم إنني لا أعتبر نقدي له من باب الاخلال بمبادئ النقاش العلمي. أختلف معه في قوله بأن الوحي موجود، وفي تركيزه عليه وكأنه معطى تاريخي مفروغ منه وذو قيمة فذة. لقد أصبح الوحي عند جعيط خاضعا لديناميكية خاصة تضمن وجوده ومصداقيته عبر التاريخ: «فالوحي له ضمان في تاريخيّة الروح التي ليست كأية تاريخية(33)». وهذه التاريخيّة الفريدة من نوعها والخاصة بدُنيا التوحيد، أعني الديانات التوحيدية، تعجّ بالأنبياء، الذين هم، بالنسبة للفيلسوف والمؤرخ الوضعي، كائنات خرافية أو أسطورية حتى؛ لكن في نظر جعيط هم أناس يملكون وجودا صميميا واقعيا لدرجة أنه حسَبَ المُدّة الزمنية التي تفصل بينهم «مرّت أربعة قرون بين إبراهيم وموسى، وأكثر من عشرة قرون بين موسى وعيسى، وستة قرون بين عيسى ومحمّد(34)». أخيرا، وطبقا لمنطق التطوّر الروحي، لا بُدّ للوحي من أن يتوقّف في نقطة ما، وأن يَصل إلى منتهاه: إنها أسطورة ما يُسمى بـ"ختم الوحي" التي تعود الآن مُلحفة بلباس شبه تاريخي جديد. طبعا خَتمُ الوحي لا يمكن أن يَتمظهر إلاّ في محمد نبي الإسلام: «وكأن القرآن يُلمّح إلى ضرورة مبعث جديد وأن الوقت قد حان لبزوغ نبوّة محمد طوال هذه المدة الزمنية. فالروح تتطلّب مخاضا طويلا وسندا في الماضي يَعتمد عليه ويَحصل تجاوزه(35)». أقول: الوحي لا معنى له، والمؤرخ لا يُنتج شيئا إن دَرَسه، وخصوصا إن درَسه على طريقة جعيّط، أي بجَعلِه حالة استثنائية (أمرا خارقا للطبيعة) اكتَمَل تمظهره في لحظة تاريخية ما وفي شخصية مُعينة. الاعتراف بالوحي يعني الاعتراف بسلسلة من الكيانات الغيبية وتَصدِيق ما يَدّعيه البعض من الناس عن تجاربهم الداخلية، وهذا ما يتنافى مع أبسط قواعد كتابة التاريخ. الفلاسفة والمؤرخون والعلماء غير مستعدّين لتصديق هذه الأمور وإلاّ فإنهم يتنازلون عن علومهم لصالح الأوهام. لكن هؤلاء الرجال الأسطوريين أو الواقعيين بالكاد، أعني الأنبياء، يَعلون على حتميات الطبيعة ويُجَرّبون أشياء لا يُدركها أي إنسان سويّ، ومع ذلك، فهم، دائما حسب جعيط، جُعلوا لتربية الإنسانية التي سَبق لهم وأن تجاوزوها. يقول المؤرخ ـ وأنا أوردُ كلامه بشيء من الحذر لأنه غامض، فالرجل غير معتاد على الكتابة مباشرة باللغة العربية، كان يكتبُ دائما مثل محمد أركون بالفرنسية ثم تُترجم أعماله للعربية ـ يقول إن مؤسسي الأديان، موسى وعيسى ومحمد «أعطوا عقلهم وحواسهم دون فقدانها واقتربوا من الجنون دون الوقوع فيه(36)». كيف عَرف ذلك؟ كيف أدرَك هذه الحقيقة؟ ليس بالعقل، فالعقل مرفوض من الأساس، (أو حسب تناقضات جعيط مرة منبوذ وأخرى مَقبول)، على الرغم من أنه وعد في بداية كتابه باستخدام أحدث ما توصلت إليه العلوم العقلية: «هذا ما يصعب علينا فهمه بالعقل الحديث وأدواته، كما أنّ من المستحيل أن تُستعاد النبوّة الكبرى بعد توقفها مع محمد(37)». هذا كلام واضح نوعا ما، ولكن غير مفهوم ولا واضح قوله بأن النبوّة «هي معطى كصلابة العالم الخارجي، لكن قد تغدو يوما ما تراثا فيكون معطى أيضا(38) ». ولا نفهَم أيضا كلامه الموالي، لا لأنه غامض أو كُتب بأسلوب ناشز، بل لأنه متناقض: «وليس لنا مع هذا أن نستسلم ونتخلّى عن طريقتنا الفينومينولوجية، وإلاّ ردّدنا ما أوردته المصادر القديمة(39)». إمّا العقل بكامل صلاحيته، أو اللاعقل ولا ثالث بينهما: أن يزعم أحدهم بأنّ النبوة لها صلابة كصلابة الواقع ثم يَمنع العقل من المسك بهذا الواقع وإدراك ديناميكيته، فهو تناقض واضح علاوة على أنه استسلام أمام اللاعقل. لكن جعيّط مصرّ على موقفه المحافظ من الوحي والأنبياء، وهذا لا يصدمنا كثيرا: «فالوحي للأنبياء مجعول لتنظيم البشر على أفضل طريقة، ويُمثل تدرّجا مُهمّا جدا في تطور المجتمع الإنساني. يتدخل الله بالوحي للرّفع من مستوى الإنسان عن طريق هُدَاة يختارهم. وبالتالي فالنبوّة إفراز من قوى الحياة، كما يقول برغسون، وخطوطها العظمى بتدخّل من الماورائي، أو أن الأنبياء ـ من موسى إلى زردشت إلى البوذا إلى المسيح ومحمد ـ يستقطبون الماورائي ليس فقط لفهم الوجود والمصير، بل وأيضا للتقدّم في بناء الإنسان. وأيّ مجتمع لم يفرز مثل هؤلاء الهُداة لا ترقى إلى مجتمع متحضّر كبير(40)». المؤرخ لا ينبغي عليه أن يستسلم أمام اللاعقل، أو أن يُسلّم به دون نقاش، من المفروض أن يكون كذلك، لكن بالنسبة لجعيط «المؤرخ يقبل ذلك دون نزاع حتى عند أنبياء أستراليا والشامانيين. وبالتالي، فكل تشكيك في النبي من طرف علماء الأديان مغلوط منهجيا(41)». وعلى هذا الأساس فإن الرجل يعارض بشدة تحليلات فرويد بخصوص موسى والتوحيد ويقذفها في عداد الخرافة «ما يرويه فرويد عن موسى خرافة لا أكثر(42) ». كُنّا نودّ أن يُبيّن لنا، المؤرخ التونسي، بالتحديد وبالنصوص والحجّة مواطن الخرافة في عمل فرويد، ثم يُعطينا البديل، لكن لا شيء من هذا القبيل موجود عنده، لا شيء وذلك لسبب بسيط، وهو أنه حسب الذهنية الدينية المؤمنة لو شُكّ طرفة عين، كما فعل فرويد وغيره، في نبوة موسى لَسَقط بناء الديانات التوحيدية ولَفقَدت الكتب "السماوية" والأنبياء من قدسيّتهم، ولَطَفَت على السطح هشاشة ادعاءاتهم بل وتمويههم، وهذا ما لا يرضاه جعيّط. بخصوص الجدة التي وعد بها جعيط وادعائه بعدم تقيّده بنهج السيرة المقدسة التي ارتسمت معالمها منذ القرن الثاني للهجرة، فإننا فعلا نعثر على بعض الأشياء في كتابه هذا على الرغم من أنها متناثرة وغير منسقة. لكن تلك الجدة يُمكن إدراجها، بشيء من الجهد، في لائحة عناصر بسيطة وعَرضية. لقد ركّز شكوكه على جزئيات غير محدِّدة ولا أهمية لها في التاريخ المقدس، وفي مقابل ذلك أبقى على بنيتها ولم يمسس من هيكلها الأساسي. مثل رفض قصّة غار حراء، ثم رفض فكرة أن محمدا لا يُحسن القراءة(43)، لكن حتى بخصوص النقطة الأخيرة لا ندري ما موقفه تحديدا، فهو من جهة يقول: «لا نستبعد أن يكون محمدا جاهلا للقراءة(44)» ومن جهة أخرى يؤكد قائلا: «ومن الواضح عندي أن شخصا مثل محمد... كان يُحسن القراءة والكتابة(45)». الحل الأقوم الذي يقطع شكوك المستشرقين اللامؤمنين ويُعيد للمسلمين قناعاتهم ويحافظ على نقاوة دينهم هو التوفيق والجمع بين الضدّين: «أما بالنسبة إلينا كمسلمين معاصرين، فلا تَضارب بين صفة الموحَى إليه ـ أي محمد ـ وحقيقة الوحي، وبين صفته كشخصية فذة من طراز أعظم مؤسسي الأديان، وفي رأيي الخاص أكبرهم قامة(46)». إذا وزنّا تحليلات جعيّط بمعيار علمي بحت فإنه لا محيد من القول بأنها، فاقدة للموضوعية العلمية، بالاضافة إلى أنها مشحونة خطابة ووجدانا إيمانيّا، وأراهن على أن الرجل لو وُلد في العالم المسيحي (وكان من أتباع البابا راتسينغار)، لقال نفس الشيء في المسيح ولاعتبره ابن الله المخلص الأوحد للبشرية، والذي ما بعده مخلص، ولا دين ولا كتاب مقدس، ولأنكر على المسلمين أقوالهم في المسيحية وادعاءهم بأن رسالة محمد هي الخاتمة وأن كتابه كلام الله الأزلي. وأترك لخيال القارئ تصوّر ما سيكون عليه الحال، وما طبيعة مواقفه من الأديان التوحيدية لو أنه وُلِد في العالم الهندي وشبّ على الديانة الهندوسية. انظر بأي طلاقة لسان يتكلّم في المسيحية وبأي تَداعٍ حرّ يُشَرّح العهد القديم متبنّيا هذه المرة حرفيا أقوال المستشرقين (47). نحن لا نعيب عليه ذلك إطلاقا، فالمستشرقون درسوا الكتب اليهودية والمسيحية دون أي تقديس أو تعالٍ مُخل بالمنهجية العلمية، وجعيّط نفسه يستشهد بهم ويزكّي نتائج بحوثهم: كان عليه أن يتحلّى بنفس الموضوعية إزاء كل الأديان بدون استثناء. لكن، كما يلاحظ القارئ، حينما يمسّ النقدُ القرآنَ، فإنه يفقد رصانته ويتهجّم على المستشرقين بشدّة، وتخمد التداعيات الحرة، ولا نحصل إلاّ على استثناءات وحذر شديد وإرادة تنزيه. المستشرقون الوضعيون هم في حالة إدانة نظرا لجَهلهم بمعاني القرآن وعدم قدرتهم على تذوّق فصاحته لأنهم لم يَتربّوا في كنف اللغة العربية منذ الصغر(48) . الملفت للنظر هو أن في ثنايا الكتاب الذي نحن بصدده أخذ دور المؤرخ الوضعي يتقلّص رويدا رويدا، لكي يحلّ محلّه الفقيه أو المفسر للقرآن، وذلك بتركيز جهده على الجانب الدفاعي لتنزيه الإله الإسلامي وإخراج كلمات سورة النّجم من معناها الأنثربومورفي التشبيهي(49). لكن، علاوة على الشكوك الجمّة التي تحوم حول تأويله لتلك السورة، فهو قد أخطأ حينما قال بأن القرآن لم يذكر من أسماء العلم إلاّ أبا لهب. وزيد، ألم يذكره القرآن بصريح العبارة؟ جعيّط يَقف ضدّ السيرة الكلاسيكية لا لكي يتجاوزها، بل ليعود بنا إلى الوراء. يقول مثلا بأن تجربة الوحي «مِن حيث خصوصيتها للنبي وصفتها الخارقة للقوانين الإمبيريقية للطبيعة.... ليست بالرؤية العادية...خلافا لما ذُكر في السّيَر». ما هي بالتحديد، إن لم تكُن رؤية عادية؟ «هي رؤية لا بمعنى الحُلم لكن بمعنى إدراك ما لا يُدرك عامة وعادة. أي أنّا هنا ندخل في واقع لاإنساني وحقيقة تفوق الإنسانية(50)». النتيجة التي يعرضها جعيط بخصوص الرؤية تبدو وكأنها أتت بالشيء الجديد إلاّ أنها في حقيقة الأمر لا تَفوق ولو طرفة عين ما جاء في التفاسير القديمة وفي كتب السيرة: «الخلاصة أن رؤيا النبي حسب النجم هي رؤيا لجبرائيل، قوة الله وروحه، وهي رؤية من موجود إلى موجود آخر تكشّف له في شكل يُرى...إلخ(51)». لا يكفينا التاريخ الذي يعجّ بالخوارق وبأنبياء متعالين على الشرط الإنساني؛ لا يكفينا الوحي والكتب المقدسة، بل علينا أن نتجرّع أيضا مرارة بانتيون (Panthéon) الملائكة وعلى رأسهم جبريل. نحن نطلبُ من المؤرخ، هشام جعيّط، أن يرحم عقولنا، وأن يتحلّى بشيء من الموضوعية: إنّ تركيزه على تفرّد التجربة النبوية، على خصوصية القرآن، محمد، الإسلام، لهو أمر مُخيب للآمال؛ وكأن الإسلام مقطوع عن شجرة التاريخ الدنيوي، وكأن النبوّة لم تَنبَع من صُلب تجربة أنبياء بني إسرائيل، أو من صيرورة الخلاص المسيحية. كل شيء في الإسلام هو استثناء، والنبوات ككل هي تجارب إلهية خارقة للعادة. ولنا أن نحدس، والأمر على هذه الشاكلة، أن جعيط سيرفض رفضا قاسيا كل تفسير علمي مادي لظاهرة النبوة: «من الغلط التام أن يعتبر فيبر أن محمدا كان محاربا استلابيا...(52)»؛ ماكس فيبر «كوضعي عقلاني حديث، اعتبر سلوك الأنبياء من النمط المَرَضي»، الاعتراض هو هذا: «كيف يمكن تقديم مثل هذا التفسير وقد أتوا بالحكمة والكلام العميق؟(53)». لقد قهرنا جعيّط بعمومياته، لستُ أدري أين هي الحكمة في خطابات تشبيهية وفي أساطير مُذلّة للعقل. ولكن استثارته لحساسيتنا الفكرية تكمن أساسا في سدّه على المفكرين الأحرار أي منفذ لتمتين أفكارهم وإضفائها مصداقية ما، يقول بأنه من حق الفيلسوف أن يُبدي رأيا بخصوص الأديان، وله أن يدينها ويكذبها «لكن هذا يعتمد على خيار فكري إيديولوجي هو بذاته تاريخي(54) ». هل هناك أقوال تثير الشفقة أكثر من هذه؟ يعني أنّ رفض العقول التنويرية للأديان جميعا وأساطيرها وخرافاتها، هو مجرّد خيار شخصي للمفكر، ولا يعكس حقيقة الأشياء على ما هي، بل من مجال الإيديولوجيا، وعلى كلّ حال فهو خاضع للتبدّل والتاريخ، وبالتالي ـ هذا استنتاجي ـ مِن غير المستَبعد أن تعود الإنسانية القهقرى وتستعيد أساطيرها القديمة. هذا أمر معاين ونعيشه حاليا، وما صعود المتعصبين الإنجيليين في أمريكا وأوروبا وتشكيكهم في نظرية داروين، لإعادة أساطير الخلق من العهد القديم، إلاّ بوادر لهذه الصيرورة الكارثيّة. التفريط في العلم لأجل المحافظة على الأوهام، أو لغرض إحياء خرافات بالية، ليس من الحصافة العلمية في شيء. إنها مفارقات جدّ رهيبة، وهذه المفارقات تمس في العمق تفكير جعيّط ومواقفه المعرفية فضلا عن مهمته التعليمية، وإن لم يتدارك الأمر فإن مصداقية أعماله ستتبَخّر. ابستيمولوجيا جعيّط هي ابستيمولوجيا العدمية: لا حقائق ثابتة، ولا قوانين علمية قادرة على معرفة الكون، والكل يخضع لديناميكا نسبية تاريخية، وملفوف في ثنيات التزمّن؛ أما جوهر الأشياء وأسبابها وعللها فتبقى مجهولة. يقول، في لهجة لا يَختلف فيها معه أي ذهن متدين مشحون بالأساطير «العلم بذاته رَسَم حدودا لنفسه، فحقائقه نسبية ودقيقة في آن...وتبقى أصول الأمور وأسبابها النهائية مُعلّقة(55)». مَن يرى في الأديان مجرّد ركام مِن الأساطير فهو فاقد لسلامة العقل، غبيّ، وينقصه العلم والحكمة، لأن جعيّط أوجب، أقول أوجب، على مَن هو مِن «أهل العلم والحكمة وحتى سلامة العقل [أن يَنظر إلى الأديان] بمحبّة وتقدير، ويجب عليه ذلك. فمن الغباوة أن تُرمى اليوم الوثنية المصرية بالجهالة...(56)». على كل حال يجب الكف عن البحث وقطع الشكوك والإنبراء بالصمت أو الاكتفاء بالإيمان والتصديق بكائن غيبي، غير محتمل الوجود، عن طريقه تُحَلّ كل المشاكل التاريخية والمعضلات الفلسفية: «هناك رجال دين تلقّوا وحيا، وهناك كتب موحاة في كل مكان وبكل شكل من الأشكال، وليس علينا أن نشكّك فيما قالوه أو أن ندخل في مشاكل ميتافيزيقية ولاهوتية(57) ». بخصوص الكتاب الذي نحن بصدده أكتفي بهذا القدر، ولكنني أذكّر القارئ بما كنتُ قد قُلته من قبل، أعني أن هذه اللاعقلانية السارية في مخطط جعيط لكتابة السيرة ومواقفه الإيمانية من الوحي والنبوة والقرآن لها مبرّرات عملية مباشرة، نَجدها في تلميحاته الواردة في الصفحة 13 من الكتاب أعلاه، حيث يقول: «لا بدّ هنا من أن أسدّد شكري لمؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود في المغرب، لأنها مكّنتني من إلقاء محاضرة حول الموضوع وطلبت مني نشرها. لكن المحاضرة غدت كتابا». لقد انكشف السرّ وتَجلّت كل المعضلات والتناقضات التي اخترقت عمله: أتريدون أن يُلقي أحدهم محاضرة في مؤسسة دينية أمام حشد من المؤمنين ويقول أشياء مخالفة للإسلام السني الوهابي؟ هذا لا يكون ولا ينبغي أن يكون إطلاقا. ما ينبغي أن يكون حصرا هو هذا: خُطب ومَواعظ دينية كتِلك التي تُلقى من على منابر المساجد «وإذا كان محمد ممّن بنى الضمير الإنساني الداخلي ومن ثم الحضارة والثقافة والأخلاق، وكان ممّن أسهم بقوة في قفزة كبيرة في مسار الإنسانية من الحيوانية إلى الإنسانية، وهؤلاء الهداة قلة، وإذا كان ممن أعطى لمسار التوحيد أرقى تعابيرها من الوجهة الأنطولوجية على الأقلّ، فهذا النبي يبقى شاهدا على الله وعلى أمته شهيدا. ولَهذا لَهُو حقيقة النبوة المحمدية وجوهرها في الأعماق(58)». 2 ـ السيرة النبوية (2). تاريخية الدعوة المحمدية في مكة: هذا الاستنتاج هو بالتحديد ما يقودنا إليه جعيط حين يُبرئ ساحته أمام المؤمنين قائلا: «ويجب على القارئ أن يقتنع بأن هدفنا ليس المس بالمقدسات الإسلامية ولا بالذات النبوية وليس إقامة أحكام تقريظية ولا سلبية بالمثل(61)». هذا وعد صادق نابع من تعاطف مع موضوعه، ومع قرّائه، ليس جميعهم بل المسلمين فقط، أما أهل الأديان الأخرى فإنه أطلق عنانه حتى في كتابه هذا للحط من أديانهم طبقا لنهجه المعتاد. ثم من جهة أخرى ـ وهذا الذي يهمّنا تحديدا ـ يبدو أن قوله أعلاه هو اتهام مباشر للمستشرقين، وتَمَلُّص من علماء الغرب الذين دَرَسوا الإسلام وأخلصوا إلى نتائج تتعارض ومقدسات المسلمين، بل إنه في جوهره اتّهام لكل من درس الديانات بروح موضوعية غير عابئ باعتقادات المؤمنين، أو ناكر من حيث المبدأ لفكرة المقدسات والوحي والنبوة. هذا الموقف يتطابق مع ما دأب عليه لاهوتيّو المسيحية واليهودية الذين رأوا مقدساتهم تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، وتتقشع هالة القدسية عن رجال مكثوا لمدة قرون عديدة خارج الشرط الإنساني. كيف يمكن والحال على هذه الشاكلة ألاّ يَختلجنا الشك في ضماناته المنهجية وتصريحاته التالية: «قلتُ إن التاريخ كواقع وكعلم يجري على سطح الأرض ولا يتناول الحقائق الميتافيزيقية في حد ذاتها... وبالتالي على المؤرخ المسلم أن يضع بين قوسين قناعاته الدينية عندما يدرس بزوغ الإسلام». لكن على العكس من ذلك فإن جعيط في كتابه الأول وفي كتابه هذا عن السيرة قد أجرى التاريخ على سطح السماء. لقد قذف بأعمال المستشرقين في عداد الخرافة ونعتَ الاستشراق الأكاديمي بضيق النظر والعَبث وبُعده عن أسس العلم(62). فرويد خرافة؛ أقوال مايكل كوك عن مكة هي أيضا خرافة(63)؛ باتريسيا كرون عديمة الشعور بالمسؤولية العلمية، وبخصوص هذه الدارسة لم يتزحزح قيد أنملة، بل عمّق نقده واتّهمها باستحداث نظريات وهمية. لقد مرّت على أحكامه القاسية ضدّها قرابة العشرين سنة (الفتنة الكبرى)، ولم تزده هذه المدّة إلاّ تشبثا برأيه واستماتة على مواقفه، مع التصعيد من حدّة اللهجة التي وصلت إلى حدّ السباب. وبالجملة الاستشراق، حسب قناعته الدائبة، انفلتَ «من عقاله [وابتعد] عن الصرامة المنهجية التاريخية بتعلّة الصرامة ذاتها أو حبّا للجديد(64)». نحن نُطمئِن جعيّط بأننا سوف لن ننتهج نهج «اللامبالاة بنتائجه العلمية(65)»، كما تَحسَّس مسبّقا بشيء من المرارة. لكن من حقنا أن نعرف ما الجديد الذي جاء به؛ أن ندقّق في نتائج دراساته وأبحاثه التي وصفها قائلا بشيء من البطولية: «وكأن الموضوع طُرق لأول مرّة(66)»، أو في الأخرى التي يقول فيها: «ولِي آراء متعددة تتنافى في كثير من الأمور مع معطيات السيرة والمصادر الأخرى(67) ». كاتب هذه السطور لديه تحفظات جمة على أقوال جعيّط، وتحديدا بشأن الجدّة التي وعد بها: لقد عاد وكرّر ما قاله عن شخصية النبي من أنها شخصية استثنائية تعلو على حتميات التاريخ(68)؛ القرآن «كلام الله والكتاب المقدس الجديد والمدشن لتاريخية كبيرة ومقدسة(69)». أصحّ النسخ هي نسخة عثمان، حتى وإن كانت الشواهد التاريخية المباشرة للكتاب المسلمين أنفسهم تُفنّد هذا الزعم، وحتى إن أورد الطبري قراءات مغايرة. هذه كلّها، بالنسبة لذهنية رجل مثل جعيط، مجرّد «تركيب من الخيال وإن بقي شيء منها فهو تافه، ولا أعتقد أنه بقي شيء منها(70)». شخصية النبي محمد لا جدال فيها، إنها شخصية استثنائية تعلو على كل الأنبياء القدامى: «أما بخصوص محمد، فالشأن آخر: هو نبي مرسل بكتاب مقدس، وهو من جهة ثانية رجل نجح في تكوين أمة وإدخال كل الحجاز في دينه وضمن سلطته(71)». الخطاب القرآني أيضا هو استثناء، والقرآن لا يدخل في أي قالب من قوالب الكلام الإنساني: لا يُضاهيه أي نثر أو شعر أو خطابة «لأنه مطبوع بطابع عبقرية شخصية ملهمة في الفكر والتعبير، في المعاني الميتافيزيقية، في قوة الإيحاء(72)». أما شكوك المستشرقين بشأن روايات المؤرخين القدامى، حول سيرة محمد، وتقديمهم صورة غير لائقة به، وابتداعهم أساطير توري عن تلفيق واصطناع، وهي شكوك تبدوا لأول وهلة مبالغ فيها، فإن جعيط يؤيدهم في هذه النقطة. لقد سفّه هو نفسه أحد المؤرخين القدامى (ابن اسحاق)، وقال بأن رواياته «قد تَسقط في السفاهة أحيانا عندما يُصوّر النبي في المدينة متلهّفا وراء الجنس(73)». بخصوص مِحوريّة مكة وموضِعها المتميّز في بروز الدعوة، ليس هناك أدنى شكّ وغير مسموح به إطلاقا، بل أصبحت بُند إيمان ديني: «نؤمن بأن محمدا ظهر في مكة، وأن مكة كانت تحتل المكان الذي هي عليه اليوم، وأن الرسول لم يدع في اليمامة أو في مكان ما من وسط الجزيرة وأن مكة لم تكن متموقعة في فلسطين(74)». الشكوك الوحيدة التي سمح لنفسه بتقديمها على السيرة الكلاسيكية، هي شكوك جانبية ولا تمس هيكلها: قصة الغرانيق معدومة الصحة(75)؛ ثم «ما ترويه السّير من قلق قريش من هذه الهجرة وتخوفها من أن ترجع عليها بالوبال، فهذا لا مبرر له إطلاقا، وهو إسقاط من المستقبل على الحاضر(76)»؛ وأخيرا قصة الغار محبوكة(77) . بخصوص الكتاب أعلاه أكتفي بهذا القدر وأتمنى أني قدّمتُ للقارئ صورة أمينة لبعض أعمال جعيّط وأنني لم أبالغ في نقدي لمساره الفكري، ولم أتجنّ عليه في معارضتي لمجمل طروحاته التاريخية. ولستُ أدّعي بالمرة أنني أفوقه علما، أو أرغب في منازعته على أرضية اختصاصه، كل ما في الأمر هو أنني وضعتُ بعض أطروحاته على محكّ النقد، وامتحنتُ انسجامها الداخلي ومدى مطابقتها للواقع ولروح العلم، بكل تجرّد وموضوعية. وعلى كل حال أترك التقييم النهائي في يد القارئ. ختاما لا أودّ السكوت عن نقطة حرجة في مواقف جعيط السياسية التي من المحتمل جدّا أنها أرقت كثيرا من المثقفين العرب: يقول مثلا في كتابه أعلاه بأنه يَتفهّم الاحترازات والمعارضة التي قد تَلقَاها بعض تحليلاته التاريخية، من طرف المسلمين. إنه يتفهّمها لأن العالم الإسلامي، حسب قوله: «في أزمة هوية وأنه محاصر من الخارج ومن الداخل، وأنه مازال يعيش صدمة الحداثة وصراع الذات والصيرورة(78)». إحساس نبيل وحصافة لا تليق إلاّ برجل العلم، ولكنني أتساءل: كيف يسمح لنفسه بأن يقول هذا وهو الذي دعا أمريكا أن تُدخِل، لا بل أن تَفرض الديمقراطية في العالم العربي؟ «أنا أتمنى لو أن الولايات المتحدة الأميركية تفرض على دول المنطقة بالخصوص دول الشرق الأوسط التوجه إلى الديمقراطية (79)». لقد تفوّه بهذا الكلام وكانت قد مرّت سنة كاملة على تجربة (مُعاناة) فرض الديمقراطية الأمريكية على العراق، لكن، طبقا لصريح عباراته، تلك المعاناة لم تؤرّقه بالمرة، بل طلب المزيد وعلى نطاق أشمل. عجب عجاب حقا: نودّ أن يُجيبنا جعيط، وإن أخطأنا أن يُقوّمنا بحدّ العقل. محمد المزوغي: أستاذ الفلسفة بمعهد الدراسات العربية والإسلامية. روما. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ |
يكشف الباحث التونسي في هذه الدراسة عن واحدة من سلبيات البحث التاريخي العربي وهي تناقض المقدمات المنهجية مع متن البحث وتوجهاته من خلال تحليل كتابي هشام جعيّط.
نقد التاريخ المقدس عند هشام جعيّط