يتبدى في القصيدتين صوت الشاعر المغربي الجديد وهو يحاور سلفه الشاعر العراقي الكبير البياتي، ويحل في استعاراته في أولاهما، ثم يسعى لتأسيس كينونته الأدبية وبيانه الشعري في الثانية.

قصيدتان

مصطفى ملح

 

(1) الشِّيرَازِيّة

إلى روح عبد الوهاب البياتي

وَتَصْرُخُ : لارَا !                                                 

تَرُدُّ خَمائِلُ شِيرازَ: لارَا !

وَتَمْشي خُطاكَ سَريعاً إِلى جِهَةِ الجَرَسِ المُرِّ،

تَتَرُكُ في سَاعَةِ الحَائِطِ المَيِّتَةْ

عَناوينَ أَوَّلَ امْرَأَةٍ صَلَبَتْكَ كَثيراً

على شَجَرِ المُفْرَداتِ العَسيرَةِ،

ثُمَّ تُهاجِرُ أَعْلى فَأَعْلى ..

مُهَشَّمَةٌ ياصَديقي أَباريقُكُ المُنْتَقَاةُ

وَعائِشَةُ المَرْأَةُ الهَائِجَةْ،

سَقَتْكَ نَبيذاً وَعَبَّتْ لَها قَدَحَيْنِ أَخيرَيْنِ ..

عائِشَةُ الآنَ مُنْتَحِباً في بَسَاتينِها العُمْرُ،

تَتْرُكُها وَتُهاجِرُ أَعْلى فَأَعْلى ..

أَحَقّاً رَحَلْتَ؟

سَنُغْلِقُ كَلَّ المَوانِىءِ .. كُلَّ المَواعيدِ؛

فََالشِّعْرُ مُزْدَحِمٌ بِالقَواعِدِ وَالاِحْتِمالِ ..

يَكْفي قَليلٌ مِنَ الحُزْنِ

لِلرَّقْصِ ساعَةَ تَغْرَقُ أَلْفُ القَوارِبْ

وَتَطْفُو الثِّيابُ على السَّطْحِ؛ سَطْحِ المُحارِبْ ..

أَحَقّاً رَحَلْتَ .. ؟

فَوَجْهُكَ لَمْ يَتَغَيَّرْ كَثيراً

وَخَمْرُكَ لازالَ في الحانَةِ القَاسِيَةْ

وَعائِشَةُ المَرْأَةُ الهَائِجَةْ

تَمُدُّ إِلَيْها يَدَيْكَ

فَتَهْرُبَ كَالطَّيْفِ، كَالطَّائِرِ المُتَوَتِّرِ ..

عائِشَةُ انْقَرَضَتْ مُنْذُ أَلْفِ سَنَةْ

وَأَنْتَ إِذا الرِّيحُ قََادَتْكَ

تَصْرُخُ: لارَا !

تَرُدُّ خَمائِلُ شِيرازَ: لارَا !

لأَرْثيكَ يَلْزَمُني جَناحُ يَمامٍ سَريعٍ

لِكَيْ يَسْتَريحَ سُعَاةُ البَريدِ،

فَالشِّعْرُ لايَتَكَرَّرُ

وَالصَّيْدُ فَنٌّ

وَيَكْفي قَليلٌ مِنَ الحُزْنِ

لإِقْناعِ أَجْنِحَةِ النَّفْسِ بِالطَّيَرانِ،

فَالنَّفْسُ جائِعَةٌ،

وَاصْطِيَادُ الوُحُوشِ الأَليفَةِ قَدْ يَتَطَلَّبُ

مِنَّا اعْتِمادَ جَميعِ اللُّغاتِ،

وَقَدْ يَتَطَلَّبُ أَيْضاً تَوَفُّرَ بَعْضِ الحَقَائِبِ

لِتَجْميعِ ما يَتَدَلَّى مِنَ الدَّمْ ...

(2) بَيْنَ الكَافِ وَالنُّونِ

أٌسائِلُكُمْ مَنْ أَنا؟                                            

رُبَّما أَلْتَقي بِالَّذي رُوحُهُ هِيَ رُوحي                              

فَنَتَّحِدُ الآنَ .. ضِدَّ الرَّمادْ

يَقُولُ المُؤَرِّخُ أَنْتَ بَقايا سُلالَةِ آدَمَ

طينٌ فَصارَ عِظَاماً كَساها دَمٌ .

أَنْتَ مُفْتَرَقُ الكَافِ وَالنُّونِ،

في الأَبَدِيَّةِ،

وَالعَدَمِ المُتَشَكِّلِ مِنْ حَجَرِ الأَعْصُرِ الرَّعَوِيَّهْ ...

يَقُولُ المُنَجِّمُ : بُرْجُكَ مُضْطَرِبٌ .

أَتَساءَلُ كَيْفَ أُرَوِّضُهُ كَحَمامَةِ سِرْكٍ ؟

يَقُولُ: هُوَ الثَّوْرُ،

بُرْجُ الحَرائِقِ وَالمَطَرِ المُتَشَرِّدِ

بَيْنَ جِراحِ السَّحَابْ

تُؤَكِّدُ قارِئَةُ الكَفِّ: كُنْ حَذِراً

لاتُصَدِّقْ نَشيدَ الرَّسائِلِ، لاتَلْتَفِتْ

خَلْفَكَ النَّهْرُ تَجْرَحُهُ الرِّيحُ، لا

تَنْتَقِمْ أَبَداً أَنْت طِفْلٌ وَحيدْ

وَأَولَئِكَ الآخَرُونَ .. كَثيرُونْ

يُحَاصِرُني عَالِمُ النَّفْسِ بَيْنَ يَدَيَّ

وَيَرْكَلُني قائِلاً أَنْتَ قاتِلُ أُوديبَ؛

أَنْتَ العُصابِيُّ مُرْتَكِبُ الشِّعْرِ

أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ مُخْتَبِئاً في رَصيفٍ

حَسِبْتَ حِجارَتَهُ شَجَراً

فَدَفَنْتَ القَصيدَةَ تَحْتَ الكُرُومْ

يُخَاطِبُني النَّاقِدُ الأَدَبِيُّ: لِماذا

تَرَكْتَ القَصيدَةَ فَوْقَ الحَصى تَلِدُ اللُّغَةَ الخائِنَهْ ؟

أُجيبُ: أَنا شاعِرٌ مُفْرَدٌ

عِنْدَما نامَ شَعْبي أَفَقْتُ،

لأَبْنِيَ فَجْراً مِنَ التُّرْبَةِ الوَثَنِيَّهْ،

وَلَمَّا قُتِلْتُ بِتُهْمَةِ ذَبْحِ الهَواءِ

دَفَنْتُ هُنالِكَ ظِلِّي

وَقُمْتُ بِتَحْطيمِ كُلِّ المَرايَا

لأَحْكُمَ مَمْلَكَتي بِاللُّغَةِ الصَّاعِقَهْ

جَميعُهُمْ أَوَّلُوني

وَلَمْ يَدْرِ أَوَّلُهُمْ وَلا آخِرُهُمْ مَنْ أَنا؟

لأَنّي أَنا مُصْطَفى الوَلَدُ الحَجَرُ الرِّيحُ

بَيْتي السَّمَاواتُ وَالبَحْرُ نافِذَتي

هُنالِكَ في مَدْخَلِ الأَبَدِيَّةِ

نَهْرٌ مُعَدٌّ لِيَغْتَسِلَ اللَّيْلُ .

أَمَّا جَنُوباً،

فَإِنّي أَرى كَفَناً مِنْ حَريرٍ على جُثَّةِ الحُلْمِ .

أَمَّا شَمالاً،

فَريحٌ وَفاكِهَةٌ وَدُخانْ ..

سَأَلْتُ فَتًى كانَ يَنْظُرُ نَحْوي:

مَتى سَنَمُوتُ، وَفي أَيِّ جُرْحٍ سَنُدْفَنُ ؟

قالَ يُعاتِبُني: إِنَّنا مَيِّتُونْ !

تَحَسَّسْتُ رُوحي وَجَدْتُ الرَّمادَ

صَرَخْتُ فَلَمْ أَرَ إِلاَّ نَهاراً قَتيلاً

وَأُغْنِيَّةً تَتَحَطَّمُ فَوْقَ الصُّخُورِ

وَمَوْجاً حَزيناً تَشَرَّدَ في الغَابَةِ المَيِّتَهْ ..

أَنا الكائِنُ اللُّغوِيُّ

 بُعِثُّ لِتَغْييرِ رَسْمِ الخَرائِطِ:

هُنا لَوْحَةُ المُوناليزا

تَحُفُّ بِها باقَةٌ مِنْ ظِلالِ المَسَاءِ.

هُناكَ دَمٌ يَتَدَحْرَجُ فَوْقَ الرَّصيفِ

وَبَيْنَهُما شَاعِرٌ

مِنْ سُلالَةِ طِينِ الكُهُوفِ القَديمَةِ

بَاكٍ على طَلَلٍ فاسِدٍ،

وَعلى دُمْيَةٍ دَاعَبَتْها أَصَابِعُهُ في المَنَامْ.

أَنا مُصْطَفى الوَلَدُ الحَجَرُ الرِّيحُ

بَيْتي السَّمَاواتُ والبَحْرُ نافِذَتي:

كُلَّما طَرَدَتْني القَبيلَةُ

قُلْتُ القَبيلَةُ مَطْرُودَةٌ ..

كُلَّما جَرَحَتْني المَدينَةُ

هَرْوَلْتُ نَحْوَ النَّخيلِ البَعيدِ البَعيدْ ..

أَنا مُصْطَفى ابْنُ التُّرابِ القَديمِ

نَزَلْتُ إِلى الهاوِيَهْ

لأَنّي كَتَبْتُ كَتَبْتُ القَصيدَةْ ..

أَنا مُنْذُ عِشْرينَ عاماً

أُفَتِّشُ عَنْ رِئَةٍ تَتَنَفَّسُ بَحْراً

وَعَنْ شَجَرٍ لأُغَطِّيَ جُرْحَ الخَوارِجِ ..

مُنْذُ سِنينَ مَضَتْ

وَأَنا أَتَصَبَّبُ حُزْناً على الشِّيعَةَ النَّائِمينَ

هُنالِكَ فَوْقَ التُّرابِ الـمُرِّ،

حَيْثُ الخُيُولُ الجَريحَةُ

وَالوَجَعُ العَرَبِيُّ الطَّويلْ ..

أُفَتِّشُ أَيْضاً بِقَلْبِ الجَزيرَةِ عَنْ جِسْمِ أَنْدَلُسٍ

حينَ كَفَّنَهُ الأَبْيَضُ المُتَوَسِّطُ؛

لَمْ يَكُ طارِقُ يُدْرِكُ يَوْمَئِذٍ

أَنَّ بابَ الجَحيمِ سَيُفْتَحُ فَتْحاً

وَأَنَّ غَديرَ دَمٍ أَسْوَدٍ

يَتَدَلَّى على كَتِفَيْ قُرْطُبَةْ ..

أَنا مُنْذُ عِشْرينَ عاماً

أُحاوِلُ تَأْويلَ كُلِّ العَلاماتِ:

خَبْزُ المَسيحِ وَمِلْحُ العَشاءِ الأَخيرِ .

حَمَامَةُ أُوديسَا حينَ تَحُطُّ

عَلى غُصْنِ طَرْوادَةَ النَّائِمَةْ .

مَدائِحُ تَرْبَةِ أَوَّلِ يُولْيُو .

نَجْمَةُ فَجْرٍ وَلَيْلٌ تَثَاءَبَ قَبْلَ الرَّحيلِ.

زَغاريدُ أُمّي وَفَرْحَتُها الشَّاسِعَةْ

وَأَشْعَارُ لُورْكَا

بِكُرَّاسَةِ الجِنِرَالْ !  

فَكَيْفَ إِذَنْ أَتَعَلَّمُ تَأْويلَ هَذي العَلامَاتِ؟

كَيْفَ أُفَسِّرُني ؟

مَنْ أَنا يا تُرَى؟ مَنْ؟

أَنا شَمْعَةٌ لِلْحَنينْ

وَأُغْنِيَّةٌ لِلْوَداعْ

وَنايٌ يُمَزِّقُ ثَوِبَ السُّكُونْ

أَنا مُصْطَفى الوَلَدُ الحَجَرُ الرِّيحُ

بَيْتي السَّمَاواتُ .. والبَحِرُ نافِذَتي