في هذه القصة كثير من خصائص الكتابة السردية عند الكاتب الكويتي والتي تعري بعض جوانب الشخصية الخليجية، وتكشف شيئا من المسكوت عنه في المجتمع، ومن العنف الساري فيه.

قارئ الممحي

محمد الشارخ

في التاسعة صباحاً كان موعد الاجتماع في مكاتب شركة المقاولات الوطنية والوفد الألماني مكون من أربعه. مسئول من البنك الممول واثنين من الشركة المنفذة ومحام يلبس نظارة سميكة بإطار ذهبي. والدكتور فخري يرحب بهم وينتظر وصول أبو سعود الذي لم يصل لا في التاسعة ولا في التاسعة والربع ولا في التاسعة والنصف. لطف ودبلوماسية وضحكة الدكتور فخري استنفدت صبر الوفد الألماني وها هو أبو سعود يكرر نفس التأخير في الحضور. خرج الدكتور فخري لغرفة السكرتيرة وقال اطلبي أبو سعود في المنزل أو المكتب أو أي مكان. بعد دقائق أعطته السكرتيرة ورقة تفيد بأنها لم تجد أبو سعود وفي البيت يقولون إنه خرج قبل التاسعة للاجتماع في شركة المقاولات. خرج الدكتور من غرفة الاجتماع ثانية وسأل السكرتيرة إن كانت تعرف رقم غرفة هنريك بالفندق قالت له هنريك هنا في الاجتماعات قال لها اطلبي لي الغرفة وجاء الصوت "ألو" فأخذ الدكتور التلفون وقال "أريد أبو سعود" احتارت السيدة هنريك في الجواب والدكتور فخري ألح عليها "أعطيني أبو سعود من فضلك. الأمر مستعجل" قالت "ليس هنا" ففاجأها بالجواب "أعطيني أبو سعود وإلا سأخبر زوجك فوراً" أعطته أبو سعود الذي قال "حاضر.. سآتي حالاً" بعد ربع ساعة دخل أبو سعود غرفة الاجتماعات مذهولاً. والسيد هنريك وصحبه والدكتور فخري الذي أفسح له مقعده قال "أنا أخبرت الجماعة بوفاة عمتكم مساء البارحة وتأسفي لأنني لم أخبرهم مسبقاً فلم أعرف بذلك حتى التاسعة صباحاً، اليوم" وغمز لأبو سعود غمزة تعني "استمر.. لا أحد يعرف" وبدأ أبو سعود يشرح كيف ومتى توفت عمته في البيت بعد العشاء وهي تصلي إلخ إلخ.. وهم يعزونه وهو يشرح تقاليد الدفن وصلاة الميت، وإن عليه ألا يتأخر فهو يحب هذه العمة كثيراً والأهل في العزاء ولابد أن يكون معهم.

اتفق الجميع حسب اقتراح أبو سعود على اللقاء في الغد بعد صلاة المغرب بعد انتهاء العزاء؟ والدكتور طار صوابه فهو اختلق قصة الوفاة إبعادا للحرج فقط. وأبو سعود أخذها بجد. ودار في ذهن الدكتور أنه لا يمكن أن تكون الوفاة حقيقية وإلا لسمع بها مساء الأمس.

ماذا ينوي أبو سعود؟ لماذا يؤجل الاجتماع لمساء الغد؟

ودع أبو سعود الوفد والدكتور أوصله للمصعد سأله "أين ذاهب أنت. دعنا نكمل المباحثات" وأبو سعود عباءته بيده وعيناه طائرتان قال وهو يدخل المصعد "للعزاء.. سأذهب للعزاء" أوصل الدكتور فخري الوفد للفندق، ولمح وهو يعبر البهو أبو سعود جالساً في مكان منزو عباءته على فخذه يشرب قهوة بمفرده ومستغرقاً بالتفكير. استدار الدكتور نحوه واتجه إليه وإذ شاهده أبو سعود ظل صامتاً محدقاً بيده فنجان القهوة والدكتور جلس قبالته.

قال الدكتور:ـ أنا اختلقت قصة الوفاة إبعادا للحرج.. الأجانب المواعيد عندهم محددة وهم لابد أن يغادروا بعد غد.. لماذا أجلت الاجتماع.. ماذا جرى؟

قال أبو سعود:ـ العزاء يا دكتور.

ضحك الدكتور قال:ـ يا سيدي اترك هذه القصة.

قال أبو سعود:ـ تريدني أترك القصة!! أنت؟ أي قصة!! قصة العزاء! أم قصة الفندق؟؟

انزعج الدكتور فخري "ماذا جرى لك.. ستة أشهر نعمل على المشروع وحين أنجزنا كل التفصيلات والعقود والتمويل.. الآن تؤجل الاجتماع. هذا ليس توقيتاً صحيحاً.

نظر أبو سعود نظرة عميقة طويلة كأبد الدهر للدكتور فخري وقال "أنا حر".

لم يصدق الدكتور ما سمع وقال:ـ أحسن تفكر مرة ثانية.. سأتركك الآن..

وإذ هم الدكتور بالمغادرة قال له أبو سعود:ـ انتظر.. لدي كلام معك.

جلس الدكتور فخري ثانية وهو يزم أسنانه ويعدل رباطة العنق وأرنبة أنفه ترتفع كمن يشتم رائحة زفره.

حدق به أبو سعود وقال:ـ لماذا اتصلت بي عندها.. كيف عرفت أنني عندها.. وارتفع صوته وعيناه تطيران غضباً. "أنت تعمل عندي أم تتجسس علي!! أنت مستشار اقتصادي لماذا تتدخل في الأمور الشخصية يا فخري! أنا لا أحب العمل مع من يقرأ الممحي.. لا أريد المشروع، ولا أريدك أن تعمل معي. خذ ما تريد وأترك شركتي، ولا أريد أن أراك ثانية عندي.

أخذ أبو سعود عباءته وترك الدكتور فخري جالساً على الطاولة دون أن يطلب شيئاً ليشربه ودون أن يحاسب الجرسون وخرج مسرعاً والسائق أسرع بسيارته نحوه وهو ركب في المقعد الأمامي جنب السائق وأغلق باب السيارة بقوة، يردد في قلبه "يقرأ الممحي!! يقرأ الممحي!!" وصوابه طار منه.

في الليلة السابقة العشاء في منزل الملحق التجاري، وأبو سعود وسعود ابنه الذي تدريجياً تسلم إدارة أعمال الشركة من أبيه، بعد تخرجه منذ 5 سنوات وخطوبته قبل أشهر من نوال بنت خاله. الدكتور فخري ومجموعة من المحاسبين والقانونين والوفد الألماني وزوجة الملحق التجاري ترحب بهم، والسيدة هنريك تلبس فستاناً كحلياً غامقاً، وفتحة الصدر والظهر واسعة وشعرها كستنائي في الأربعينيات وبروش ذهبي تتوسطه زمردة منحوتة، وأسنانها لؤلؤ مصفوف، وفي عينيها ابتسامة غنج مستمرة تساعد زوجة الملحق التجاري، وتنتقل للحديث من ضيف لآخر. وأبو سعود خير من يتحدث للسيدات، يغريهن ويفتتن به "تعالي معي للهند!" وهي تضحك "أنا أعرف الهند جيداً" يقول وتهز شعرها بيدها والابتسامة لا تفارق الوجه الباسم وهي تنصت له باستحواذ كالمسحورة. وهو يحادثها ينظر لها، ينظر للمغيب بجذوته الحمراوية يتموج في صدرها.

"سآخذك لجايبور! الفيلة والقصور القديمة التي حولوها لفنادق. قصور الأمراء والملوك والمهراجات العظام" وهي تبتسم للعالم القديم.. "المهراجات والسلاطين أي حياة نحياها بالمقارنة بحياتهم بذخهم وتمتعهم بالحدائق والزهور يركبون الفيلة والخدم يركضون ورائهم يناولونهم الأكل والماء وما اشتهت الأنفس. والفيلة تمد خراطيمها للسماء وللركاب وتسير الهوينا تصعد الجبل". وسعود والدكتور فخري ينظران له بين الحين والآخر، وهي تمد كفها له "هات يدك.. سأقرأ كفك" يحيط كفها بيده اليمنى والنعومة ودقات القلب تسري في الدماء ويمسح بالخنصر خطوط كفها وزوجة الملحق تمد يدها أيضاً، وأبو سعود استمر يقول لزوجة هنريك "لا أريد أن تصدقيني.. إنها هواية.. قراءة الكف هواية لدي، أرجو ألا تصدقي ما سأقوله.. لكن في جيبور قارئة عجيبة ما أن ترى كفك إلا وأخبرتك من أنت، ومن أين أتيت، واسم والدتك" وزوجة الملحق تعود للعناية بالضيوف، وتوجه الخدم وهنريك يلتحق بأبو سعود وزوجته «تصور سيد هنريك قالت لي قارئة الكف الهندية ستموت في الأربعين كان عمري آنذاك ثلاثة وعشرين عاماً. وقالت ستخلف ذرية كبيرة، ومالاً وفيراً، وأنا صدقتها وتزوجت سريعاً وعمري خمسة وعشرون عاماً، وأصابني خوف وقلق وأنا في الثامنة والثلاثين، ولم أخبر زوجتي بشيء ولم أنجب غير سعود.. ومن جهة ثانية صدقت فقد عملت مالاً وفيراً من المقاولات.. الدكتور فخري يعمل طول الوقت ليلاً ونهاراً. تعرف العلاقات مهمة.. ليس مهماً ما تعرف المهم من تعرف.. وكل أصحابي.. زملاء الدراسة في المناصب الهامة الآن. كنت خائفاً. وفي الأربعين كنت خائفاً جداً قلقاً. وما إن حل الصيف حتى تركت العائلة في سالسبورغ، وسافرت مع مجموعة أصدقاء رحلة بحرية طويلة جنوب تايلاند.. لم أخبر أحداً بهواجسي.. وحين جاء الشتاء كنت ألبس كثيراً من القمصان.. لا أريد البرد أو الأنفلونزا أن تصيبني.. الموت من البرد سخيف.. كل موت سخيف خاصة إذا جاء من البرد، أو مع ازدراد لقمة كبيرة. وها أنا كما ترون في السادسة والخمسين ولم يأت الموت بعد.. زوجتي توفت قبلي. هي التي توفت وعمرها خمسة وأربعون عاماً، أعرفت يا عزيزتي ماذا أقصد؟؟ لا تصدقي العرافين" ضحك هنريك "إنها تصدق العرافين"! وهي قالت مبتهجة بتلقائية الأنثى الشغوفة "خذني معك للهند في المرة القادمة" وهنريك ضحك منصتاً للجواب "قال أبو سعود "وأنت تعال معنا" قال هنريك "لا..لا" هي من زمان تحلم بالهند والبلدان الآسيوية. تحب الأكل المطبوخ بالكاري كما تحب الفلفل. والدكتور فخري كان يمازح مع الضيوف بقهقهة ويسمع ويلتقط حركات العيون والجفون والشفاه والابتسامات ويتنصت. رأى أبو سعود يمس بيده خطوط يدها. يمسح الأصابع ويدقق بالراحة ويقبل كفها. وتذكر كل ما سبق وقاله أبو سعود عن غوايات البنات، فدنى منهم قائلاً "خذوني معكم.. أنا أيضاً أحب الفلفل.. أنا طالما تمنيت أن أذهب للهند.. أليس لديك عمل ترسلني به يا أبو سعود لجيبور، أو حتى دلهي أو بومباي؟" نظر له أبو سعود نظرة تفهم تام وقال "تعال أنت وهنريك معنا.. بعد توقيع العقد. نأخذ إجازة أسبوع أو أربعة أيام. ستتعبون من ركوب ظهور الفيلة". وعلى طاولة العشاء لاحظ الدكتور فخري أو شاهد أو سمع ما لا تراه العين، أو تسمعه الأذن. باسماً مرحاً يتوهج قهقهة ولطف، وبعينين صغيرتين مركزتين نافذتين ينظر لعيني أبو سعود وهي تسرح وبشغف تمرح في لون الغروب الذي يشع من صدر السيدة هنريك وكتفها بين تعرجات الفستان الكحلي.

بعد الظهر بعد الغداء كان أبو سعود في الصالة يطالع الجرائد ويشرب الشاي ويأكل قطعاً من الفراولة والكرز الشامي. دخل سعود وجلس قبالة أبيه "ما الأمر؟" أبعد أبوه الجريدة وقال له "اشرب شاي"! قال سعود "لماذا لم تحضر الاجتماع كنا على وشك الانتهاء؟ الدكتور فخري اتصل بي قبل قليل وقال "انظر لأبيك ماذا فعل بنا" كان أبو سعود يصب الشاي لابنه "الدكتور فخري اتصل بك! إذاً قل له ما قلته هذا الصباح، لن أوقع العقد، ولا أريد المشروع، ولا أريد أن أراه ثانية" اندهش سعود من كلام أبيه وسأله وهو ينظر له مندهشاً "ما الأمر؟" نحن نعمل على هذا المشروع منذ أشهر الآن حين نبدأ التنفيذ تقول هذا الكلام.. غير معقول" الوالد نظر لابنه نظرة ساهمة حانقة وقال "نصيحتي لك يا ابني ألا تعمل مع الدكتور فخري بعد الآن"! قال الابن "لماذا إنه يدير لنا الشركة ونتائجه طيبة". قال الأب الذي لا يطيق المراوغة والكلام الموزون واللف والدوران والصيغ المتلعثمة "إنه يقرأ الممحي.. يعرف ما بين السطور. لا أريده.. لا أريده لا معي ولا معك" وقام تاركاً سعود.

سعود ينظر إلى أبيه الذي لم يكمل شرب الشاي، يشاهده وهو يسقط فجأة على الأرض.. جرى نحوه رافعاً أباه من كتفيه. الوالد أضخم من الابن، ورائحته زكية معطرة كعادته. وتراكض الخدم وبسرعة للمستشفى جلطة في الذراع اليمنى وعمليتان وأربعة أيام في العناية المركزة، وسعود لا يعرف ما حدث بالضبط. الألمان سافروا والدكتور فخري لا يعرف سبب الجلطة ولا يتحدث عما جرى، لكنه يشك في أنه كان السبب في مرض أبو سعود. أهو خطأ كبير أن يعرف أين كان ويتصل به!

كان غضب سعود على الدكتور فخري عظيماً دون سبب مؤكد أو واضح.. إلحاحه على توقيع العقد مع الألمان نفس يوم مرض أبيه. إلحاحه الشديد. الدكتور يتقاضى 10% من قيمة كل مشروع، تدفع على مراحل التوقيع والتنفيذ.. الدكتور طبعاً لم يكن سعيداً وهو يرى الفلوس تنزلق بين أصابعه دون أن يلمها. وفخري رغم وجهه البشوش، وابتسامته الغامرة، وأنفه الممشوق ذو طرف دائم الأحمرار، وشعره المفروق من الوسط والوردة التي يزين بها جاكتته.. كان مهموماً وحزيناً، وفي الليل يكلم زوجته في كيمبرج بوسطن بهمومه وهمومها ويقول "سآتي.. سأعود.. لا أظن سعوداً يستطيع العمل مثل أبيه.. مازال شاباً وعلاقات أبيه غير علاقاته".

يعود سعود من العمل مبكراً قبل صلاة العشاء، يساعده الخادم يضع أباه على الكرسي ويتمشى به في الحديقة يدفع كرسيه بيديه. يحب والده الذي ما أنبه يوماً، حتى عندما كادت قصة أحمد النون أن تكون مأساة. في منتهى الانشراح في نادي رجال الأعمال الذي ترتاده مجموعة من أصدقائه وبعض الوزراء وأحياناً بعض الصحافيين.. دخل أحمد النون والد لولوه، ولا أحد يعرف حتى اليوم كيف دخل النادي الخاص "يا أبو سعود أريد أن أكلمك بموضوع خاص جداً" وسعود يضع يده على يد أبيه "لا تدعه يتكلم هنا يا أبي" وأحمد النون محنياً ظهره لاماً يديه على صدره يقترب هامساً من أبو سعود "عندي موضوع شخصي" وأبو سعود ينقل عينيه بين سعود وبينه، وأخيراً رفع أبو سعود يده ودفع أحمد النون من كتفه حتى كاد يسقط "ارفع صوتك يا أخي.. لماذا تتصرف مثل الخجول.. ارفع صوتك لن تقول إلا الخير.. لماذا تهمس؟"

قام أحمد النون مذعوراً وتلفت يمنة ويسرة وغادر المقهى مهرولاً، والوالد سأل سعود، وسعود أخبره بكل شيء، وأبو سعود يحدق بابنه. يبتسم بسرور وافتخار "أعوذ بالله" وإذا بأحمد النون يعود ثانية، ورواد النادي والجرسونات يوجهون عيونهم لهم. يقف أمامهما ويقول بصوت مرتفع ويشد أطراف ثوبه "سعود لابد أن يتزوج لولوه"!

قام أبو سعود فوراً وسعود دفع الحساب وأخذا أحمد النون معهما في السيارة، وإلى البيت، وفي البيت شرح أبو سعود أن زواج سعود من ابنته مستحيل. "يا أخ أحمد مستحيل.. نحن لسنا نسباً لكم" أنتم أهل نخوة وأهل شرف، لكننا لن نكون نسباً لكم. هذا مستحيل." في جلسة ثانية "يا أخ أحمد هل أنا مسئول عن ابنتك؟ هل ابني اختطفها؟ هل اغتصبها غصباً أم هي أيضاً كانت تريد ذلك. شباب جرى بينهما ما يجري بين الشباب ماذا تريدني أن أفعل"! وفي اليوم الثالث "لولوه حامل من سعود؟" واستدار نحو سعود، وسعود أومأ برأسه نحو أبيه مؤكداً أن هذا صحيح. والد سعود قال لأحمد النون "هذه غلطة. كيف تريدني أن أصلحها.." "لأ الزواج مستحيل" "ماذا زواج للستر؟ ويطلقها بعد أسبوع..! ابني؟ ابني يتزوج دون حفلة؟ دون أن أدعو أهلي وأصدقائي.. ابني خاطب بنت خاله، وكل الأهل يعرفون ذلك. أرجوك تفهمني ما باليد حيلة. يا أخ أحمد دع أحداً من أبناء عمومتها أو أخوالها يتزوجها وأنا أدفع المهر". في الجلسة الرابعة أبو لولوة غاضباً يكاد يمزق ثيابه، يسير نحو الجدار يرفع الستارة ويضرب رأسه بالحائط ويلتفت نحوهما يضرب بيده جبهته ولطمت يده أبو سعود على فكه صدفة، وبدون قصد فدفعه أبو سعود وهو ضخم غليظ فوقع أبو لولوه على الأرض، ولم يذهب لا أبو سعود ولا سعود لزيارته بالمستشفى. فقط تم دفع كافة المصاريف وأبو سعود يضحك مع ابنه "يا أخي ما أحد منا يقيم علاقة مع واحدة من هؤلاء إلا تخطط هي وأهلها للزواج منه. "لزقة.. أقول "لزقة.. صمغ".

وبعد سنة أدرك سعود أنه لا يستطيع أن يدير الأعمال لوحده. وقرر تصفية أقسام كثيرة في الشركة. وهو يعرف فرح أبيه المفلوج حين ترك الدكتور فخري العمل لديهم وسافر. هو خسر، ونحن خسرنا. المهم ألا يعمل لدى شركة منافسة. لا يمكن. لا يجوز. لن يفعلها ولن يفعلها الأصدقاء أيضاً. دكتور فخري فخور بعمله وشرفه وذكائه. لا يغامر ولا يجازف بسمعته. لا يعمل الغلط. والإدارة تصعب على سعود أكثر وأكثر. ويقدم لأبيه كل مساء صورة دكتور فخري الموقعة إهداء لأبو سعود. ينظر لها الرجل المفلوج، يضعها في حضنه ويركب كرسي المقعدين، وفي الطريق مرة أو مرتين يرفعها إلى وجهه ويبصق عليه. كل يوم. ولا يفهم سعود كلماته بدقة، لكن من الواضح أنه يقول إن هذا هو السبب، فيما جرى له. كل يوم قبل أن يدفعانه بالكرسي يلتفت للشمال واليمين يبحث عن شيء حتى يأتونه بصورة الدكتور فخري فيتنهد ويضعها بقوة في حجره، ويضغط عليها بأصابع يده اليسرى الغليظة. واليمنى منعكفة الأصابع داخل الكف مرمية على فخذه. والشطر الأيمن من شفته السفلى منتفخ أحياناً يسيل منه لعاب، وهو لا يترك المنديل من يده اليسرى.

سعود يدفع أباه بالكرسي. وصار شيئاً فشيئاً يكره دكتور فخري. يحتاجه ويكرهه. الكره يزداد، والرغبة في الانتقام تتنامى، وهو يدفع كرسي والده في الحديقة. جلس سعود أمام المقعد، وشد على يد أبيه اليسرى التي تضغط على صورة دكتور فخري. قال سعود لأبيه مبتسماً "سآتي به" وانزعج الأب وتعثرت ألفاظه وزبد فوق شفتيه. ويوماً بعد يوم تفهم نوايا ابنه، فارتاحت سريرته، وأدنى بيده وجه ابنه وقبله، وهو يبكي. مسح عينيه ونظر إلى صورة دكتور فخري وأخذ يهز رأسه ويضحك فرحاً بمكر ابنه.

وأخيراً أقنع دكتور فخري زوجته بعودته لإدارة شركة أبو سعود، وطلب عقداً لمدة خمس سنوات غير قابل للفسخ إلا لسبب جنائي وبمرتب ضخم بالإضافة 30% من صافي الربح. وقبل سعود كافة شروطه. وضحك أبوه وسعود يقرأ العقد ووجهه يحمر وينظر لصورة دكتور فخري يبصق عليه. يقول شيئاً لأبنه وسعود يظنه يقول "حسناً ما عملت."

عاد دكتور فخري. الشعر المفروق في الوسط، والحذاء اللامع يتناسب دائماً مع لون البدلة، البنطلون، أو الجاكت الذي يضع في جيبه الأعلى وردة بيضاء أو حمراء. الوجه الباسم، سرعة البديهة والحنكة، وطول البال والمقدرة على كسب الأصدقاء وبناء الثقة معهم. يومان جلس في نفس الفيلا التي كان يسكنها من قبل ولم يغير في البيت غير اللمبة التي تنور المكتب والكومبيوتر. يومان لوحده في المنزل يراجع المراسلات السابقة ويقرأ كل ما هو محفوظ في E ـ Mail الشركة. والتلفون لا ينقطع مع السكرتيرة والمديرين والمهندسين، دون أن يقابل منهم أحدا. في المساء يمر عليه سعود يتعشيان معاً، يطمئن على صحة الوالد، ثم يناقشان كل ما تم خلال السنة التي ترك بها العمل.

قال سعود "متى ستأتي للمكتب" قال الدكتور فخري "أنا أجهز نفسي للمجيء.. لا أريد أن أدخل على الموظفين دون تصور واضح للأولويات.. لا أريد أن أضيع في التفاصيل مبكراً. أريد أن أعرف أولاً من بقي من مهندسينا، وما الأعمال التي بيدهم. دعني أرتب نفسي.. وأيضاً أريد أن أزور الوالد. أنا آسف لما حصل له" قال سعود "الأقدار.." ابتسم الدكتور قائلاً "الصحة تاج على رؤوس البشر.. وإن فقدها الإنسان فقد التاج.. التاج هو الهيبة والبأس والنشاط والأمل.. لا أستطيع أن أنسى أباك في حركته وشبوبيته وحبه للحياة والمال والنساء.. كان آلة ديناميكية تعمل بطاقتها الذاتية" وأكمل مبتسماً ساهماً "وفي كل اتجاه.. لا أنسى يوم قرر بناء مصح للسرطان كان حماسه لا ينقطع.. تابع كل أجزائه.. الأطباء والاتفاقات والعقود والمستشارين والبناء كما لو كان يتابع مشروعاً تجارياً. أبوك يحب الخير. يحب بلده. لاحظ دكتور فخري أن سعوداً كان ساهماً سأله "بم تفكر؟" قال سعود وهو يرفع رأسه يا دكتور أن يحب المرء، أو رجل الأعمال بالذات المسائل الخيرية.. هل هذا ضروري لنجاح أعماله؟ ظننت أننا نريد أن نبني مشاريع أكثر.. بربح أكبر، لا أن نصرف جهدنا في مشاريع خيرية.. هذا شغل الحكومة"!

ابتسم دكتور فخري قال "هذا صحيح وكلامي أيضاً صحيح والدك الله أنعم عليه بالخير الكثير وهو ـ ضحك الدكتور ضحكته المرحة الخافتة ـ وقال "هل أنت يا سعود بمثل شبق أبيك" رفع سعود عينه نحو الدكتور فخري متفاخراً "هذا الشبل من ذاك الأسد"! ابتسم الدكتور وهو يعتدل في جلسته "أنا منذ تزوجت لم أقرب امرأة أخرى. لم أشتهِ امرأة أخرى.. زوجتي هي نصفي الثاني.. لا جمال بعد جمالها، وأنا آوي لفراشي كل يوم أهاتفها أسمع رنين صوتها وأتخيل سواد عينيها.. لا مثيل لهذا السواد وصخب ضحكتها.. كأنها وهي تقهقه مغنية أوبرا في رنين الصوت وترجيحاته.. صوت يملأ دنياي" قال سعود "ربنا يهنيك ويهنيها بك.. والآن لنعد للأعمال"! اعتدل الدكتور في جلسته وقام نحو الكومبيوتر.. ثم رفع رأسه نحو سعود "أنا أريد أن أزور الوالد قبل أن أذهب للمكتب" قاطعه سعود "الوالد قد لا يميزك.. قد لا يتعرف عليك.. أجرينا له ثلاث عمليات ومازال على حاله" عزائي الخروج معه كل مساء نتمشى.. أدفع كرسيه في الحديقة، وكثيراً ما يطلب صورتك التي لديه في البيت، كما لو كنت أخيه ينظر لها يقبلها ثم يرفع يديه للسماء لا أدري ماذا يقول أو بم يدعو ربه.." كان الدكتور فخري قد استند مسترخياً منصتاً على ظهر الكرسي الجلدي الذي يرجع للوراء بسهولة وراحة وقال "صداقة خمس سنوات.. لقد عملت له أكثر مما كان يحلم به.. وهو لم يقصر.. أعطاني كل مالي وأكثر، فقط في المرة الأخيرة لا أدري ما الذي جعله يترك المشروع الألماني.. لا أدري لماذا.. على أي حال أنا خسرت الكثير.. شغل أشهر، أكثر من ستة أشهر على المشروع، وبعد أن فزنا به ضاع. أبوك على كل حال سقط مريضاً في ذاك اليوم. لا أدري ما حل به.. كان يمكن أن تربحوا الكثير من هذا المشروع" قال سعود "إذاً أنت تريد زيارة الوالد، فلتكن مساء الغد قبل أن آخذه للمشي.. في النهار أنا في الشغل، وهو عنده الممرض وقارئ اسمه هاني.. هو ثالث قارئ للجرائد.. يغيرهم لا أدري لماذا.. يقرؤون له الجرائد اليومية بصوت مرتفع ويشاهد الأخبار بالتلفزيون.. ينصت كما لو كان يفهم". إلى الغد.. إلى الغد مساءً أمر عليك ونذهب معاً في السادسة".

وأبو سعود ينتظر وصول سعود، على الكرسي يحركه جيئة وذهاباً وكأنه على غير استقرار. كأنه على صفيح ساخن يتراءى له وجه دكتور فخري، والصورة في حضنه يرفعها بين الحين والآخر، ينظر لها ويبصق عليها. وحين دخل سعود كاد أبوه أن يقفز من الكرسي. وسعود حكى له والأب ينصت بكل طاقته، ويركز النظر في وجه سعود. "سيأتي.. سيأتي إلى هنا". ويضرب بكفه الملتوية وأصابعه مضمومة داخلها. يضرب ذراع الكرسي فرحاً كطفل أتت له أمه بهدية يريدها من زمان. يضرب الكرسي ويحركه، ينطلق مبتهجاً إلى الأمام ويدور للخلف. يصرخ ويتلفظ كلمات غير مفهومة وبصوت أعلى من المعتاد. وينظر لسعود بفرح يمد يده نحو وجه سعود يضمه إليه بقوة ويقبله، وصورة الدكتور فخري في حضنه. ينظر لها ساخراً ويمد لسانه عليه.. يتوقف الكرسي بزر يضغط عليه. ينظر إلى سعود بإلحاح حميم. ينظر له سعود وهو يحاول أن يقوم متكئاً يساعده على الكرسي. سعود يفرح لصوت أبيه الذي صار مرتفعاً، وأكثر وضوحاً ومحاولته القيام من الكرسي. يأخذه يتمشيان في الحديقة.

سعود كالعادة يمر كل صباح على أبيه مع الممرض يطمئن على نومه ونظافته وحسن هندامه ويتأكد من اكتمال الأناقة المعتادة، ويرى وجهه مسفراً، وبعض كلماته وإشاراته واضحة، يشير بكفه المصابة التي تنعكف داخلها الأصابع نحو السادسة. يقبل سعود جبهته، وهو يشد عليه بقوة "السادسة" والوالد يتأوه كما لو انزاح عن قلبه حجر ضخم.

صحب سعود الدكتور فخري الذي كان متأنقاً مبتسماً ينتظره في الصالون. قال الدكتور "لا أدري كيف سأنظر له. بني آدم جميل وهو في صحته. حين يمرض تود ألا تراه. أريد صورته في ذهني كما عرفته دائماً. حيوية واندفاع وضحك. صدقني البارحة واليوم كنت أفكر هل الأفضل أن أزوره وهو على كرسي ولا يتكلم.. لكن طالما اتفقنا على ذلك." قاطعه سعود وهو يقود سيارته "أنت طلبت أن تراه" ضحك الدكتور فخري مسروراً مفكراً "نعم هذا صحيح، أنا الذي طلبت أن أراه. وربما لو كان معافى لطلب هو ذلك" قال سعود "أكيد".

حين دخل سعود والدكتور فخري غرفة الوالد الجالس منتظراً متحسباً راسماً كل شيء بدقة، يكرر مع نفسه طوال اليوم السيناريو المعد لاستقبال الدكتور فخري. طلب سعود من الممرض أن يخرج من الغرفة، وأن يقول للخدم ألا يأتوا للغرفة ولا يقدموا القهوة أو الشاي. قفل الباب بالمفتاح بسرعة، ودكتور فخري يتقدم مسرعاً نحو أبو سعود الذي حين وقف أمامه دكتور فخري، ومد يده على كتفه محيياً سحبه أبو سعود بقوة الجبال، وأحاط بوجهه، وعضه من أنفه دون حرام، دون عيب، دون تردد، دون رحمة، وبيديه الاثنتين الضخمتين يضغط وجهه حتى نزل الدم ملطخاً شارب أبو سعود ورقبته. الدم المخلوط بالروائح الزكية التي يستخدمها دكتور فخري في الصباح والمساء. وسعود يسحب دكتور فخري من ساعدي أبيه، الذي هب واقفاً من كرسيه وانفردت كفه المشلولة، وصرخ بسعود "هات الأوراق.. يا سعود" واستدار سعود ليجلبها من المكتب، والدكتور مرتمياً على السجاد على وجهه، ويده التي امتلأت دماً تمسك بأنفه، وألم شديد لم يألفه من قبل. والدنيا تدور به وبلا وعي منه، أو قدرة على فهم ما يجري، الألم والدم يعصرانه، وأبو سعود واقفاً عالياً شامخاً "وقّع يا دكتور.." اندهش سعود فأبوه عاد يتكلم، والدكتور يئن على الأرض ممسكاً أنفه بيده، يظنه أو قطعة منه، فُصلت منه يتلمس أرنبة الأنف يحاول إمساكها وفي غمرة الألم الموجع يتخيل وجهه أفطساً وكيف تقبله زوجته ويفكر بأطباء التجميل، وأرنبة صناعية، والدم يسيل بغزارة. أعطاه سعود قلماً "وقع هنا" وأعطاه سعود منديلاً يمسح به أصابعه "وقع" ورسم دكتور فخري إمضاءه، وهو لا يدري ما بالورقة. صرخ به أبو سعود "هذا تنازلك عن العقد يا من تقرأ الممحي.. تقرأ الممحي.