تطرح الكاتبة الإماراتية في هذه القصة الماضي في مواجهة الحاضر، والطبيعة المترعة بالذكريات الإنسانية في مواجهة منطق توسع المدينة وآلية الحضارة، وتسبغ على انتصار الحلم مسحة شعرية.

غافة عليّا

فاطمة الناهض

استطيع أن استعيد بوضوح تفاصيل ذلك المساء، وكيف لحقنا سيارة الشرطة مستفزين إلى أقصى حد، بتلك الأضواء الحمراء والزرقاء التي تعمي البصر. شيء ما ضرب في أفئدتنا ذلك الغروب المرير، حين رأينا سيارة الإسعاف في ذيل الدورية تنعطف صوب المزارع. مكان لم يقربه لبلاب الحياة. لا أطفال يتراكضون في عصاري الصيف بين الزروع ولا بنات يتلصصن على الشارع من فتحات الأبواب، لا نساء يتزاورن في النهارات الطويلة في غياب الرجال، ولا مجالس تنادي الكسالى والمتعبين حين تعتلي النجوم دكة الليل. هنا يتعايش حراس المزارع الآيلة إلى انطفاء. زرّاع محبطون لانحسار الماء. ذكور فقط، قلقون على ما سيؤول إليه الغد، فالشارع سيشق المزارع كوحش أسطوري فاردا جناحين من أسفلت وحجر، وسيشردهم مثل سيف يقطع أرزاقا معلقة أساسا من رقابها.

كنت هناك حين ربط مصبّح نفسه بجذع شجرة الغاف! "غافة"! لا نخلة ولا حتى سدره! لا يميزها عما ينبت سهوا من شجر غير ظلها الوارف. وبمثلها تمتلىء الأرض، دون رغبة. لكن مصبّحاً ربط نفسه إليها بحبال من ليف النخل، وقال اقطعوني معها!

حاول أفراد الشرطة باحترام شديد أول الأمر أن يفهموه بأنها تقف في وجه الشارع. الشارع الذي سيجعل الحياة أسهل وأوسع. لكن الناظر إلى وجه مصبح سيدرك انه لم يكن هناك. هَلَعٌ كأنه رجفة الموت يغيبه عما يقال، ويجعله يردد بلا وعي: غافة عليا. غافة عليا!

لا احد يعرف من هي عليا، صاحبة الغافه.

جاء مندوب البلدية، وأحمد الركبي، إبن المنطقة ومهندس المشروع، وجاء ضابط المخفر القريب بنفسه وشرطيين، ومسعف وممرض من المستوصف الوحيد، والطبيب المناوب وكان عائدا من نوبته، وتجمع كل الباكستانيين الذين يحرسون المزارع، ثم استدعي صاحب الأرض الذي تقع الغافة في أملاكه والتي سيقطعها الشارع الجديد، وجاء أولاده وأصدقاؤهم الذين تصادف وجودهم معهم، وارتفع لغط وتوالت محاولات، وطارت شائعات، وحط أسى، دون أن يتحرك مصبح شبراً عن الغافه.

ثم انهمر رذاذ الليل وكان لا بد أن يُسلخ مصبح عن الجذع بالقوة، وفيما انقض عليه كل من أعتقد أن بإمكانه السيطرة عليه، انغرزت إبرة التخدير في ذراعه النحيل بقوه، دارت عيناه المغادرتان على الوجوه وسقطت نظرته الحزينة قبل أن تغيب على وجه الركبي، من سيشق الشارع فيما بعد، وربما قلب مصبح أيضا.

القليلون الذين يعرفون مصبح الذي داس على الستين منذ عامين، يقولون انه ليس من هنا في الأصل. لكنه اختار أن يعيش بينهم منذ آخر رحلة لأهله الذين كانوا يهبطون إلى هذه الأنحاء يبيعون للمقيظين، ثم يتابعون سعيهم في أماكن أخرى. كبر مصبح بينهم يفلح ويداري الأرض. في إحدى المزارع القريبة وحيدا دون أسره، لا يغادر البلدة إلى أهله في الجبال القريبة إلا من شتاء لآخر. لكن هؤلاء القليلين لا يعرفون مصبح حقا كما يعتقدون، ولا لماذا اتخذ قراره بالبقاء، وصولا إلى حادثة الغافة الغريبه.

أتذكر أن محمد شاه ملاحظ نخل الوسيعي عندما سمع بما حدث لمصبح عصرته لحظة حنين وتاهت نظرته قليلا، وهو يعلن أنه يعرفه منذ شبابه، وانه رآه للمرة الأولى في ثالث يوم لمجيئه إلى "رأس الخيمة". حين ينفعل محمد شاه تتجعد جبهته أكثر ويقترب حاجباه الكثيفان من بعضهما ويهرب الهواء من أمامه والكلمات الصحيحة، فيتأتىء ويعود إلى لغته الأصلية بعضا من الغضب قبل أن يتذكر أن من يستمع إليه لا يعرف ما يزعق به فيعاود عربيته المكسورة بلهجة لا تصلح لشروح ناجزه، وقد انفعل دون شك حين سمع همهمة عابرة تصف مصبح بالجنون، فأوقد سراج الحكاية:

"كان الناس يأتون لقضاء الصيف هنا قرب النخيل. يتركون بيوت الجص والحجر في المدينة ويأتون. تقيم كل أسرة عريشاً من جريد النخل والجذوع، ومنامةً في العراء يشاكسون بلادة الأيام وينتهكون جلافة التكرار، بل كانوا يجلبون معهم أحيانا دوابهم مؤونة ورعاية، ولا يغادرون إلا باعتدال الجو وانطفاء القيظ.

الغافة الهائلة كانت علامة.. تحتضن شغب الأطفال وتعب العابرين، أحيانا كثيرة تصبح مجلسا للرجال أتقرب منهم وأتعلم، وأحيانا ينزل تحتها باعة يتحلق حولهم الناس يبتاعون مايحتاجون لإقامة طويلة ومؤقته. فاندس بينهم وأتفرج. وهناك رأيت مصبح أول مره، وكما كنت مأخوذا بالحياة الجديدة، كان مصبح. ويبدو انه تعلق بالمكان وأحب الحياة المنبسطة، تاركا وعورة الجبل للشتاء يطمئن فيه على أهله وعلى بيته، ثم يعود للعمل في مزرعة النخل مع ارتفاع أول عريش بالمكان. وأصبحت الغافة مهبط هواه، من أراده في عمل وجده تحتها أو حواليها. لكن لا أظن أن هناك من يعرف كيف صارت "غافة عليا".

بين الجمع الذي كان يحاول أقناع مصبح بفك ارتباطه بالغافة، سبعيني فارع، صقري النظرة، حازم العبارة، تشاركه الكلام خيزرانة رفيعة يؤشر بها شارحاً، وتدب معه في الطرقات، وجاهة لا سنداً، والذي يعرف عن مصبح أكثر بكثير مما يعرف الآخرون.

غير أنهم حين اخذوا مصبّحاً كخرقة بلا روح بعد أن قشروه عن الغافة أرخوا حباله، وغادروا في جمرة المساء، وتفرق الناس، تكلم الشيخ تلك الليلة، تدحرجت في صدره حصاة الخوف من الموت، وثبوت تهمة الجنون على مصبح، وإدراك مفاجيء شديد القسوة بتناقص أسباب الحياة، وسقطة الرجاء. قال للركبي الذي تخلّف يحوم حول الغافة في حيرة، يذرع محيطها تحت قمر ارتفع في غمرة الفوضى: تعال. سحبه إلى الجذع وقد تنادت كائنات الليل: انظر هناك، وأشار بخيزرانته جهة الشمال من أحشاء الظلام، هنا كان عريش أهل عليا! وتحت هذه الغافة نبضت فراشة قلب مصبح أول مرة حين لمح عليا في ظل العريش، وتحت هذه الغافة اكتمل جناحاها، فطارت صوب عليا وحطت على زهرة قلبها، وهنا جاءه وعد بالعودة في صيف قادم لتحلِّق الفراشة بالوردة صوب الجبال، وأقسمت عليا على ذلك ما دامت الغافة حيّه، وعلى القسم حفر حروف اسمها على الشجرة.

لكن عليا لم تعد، كان ذلك آخر صيف يرتفع فيه عريش عن التراب. لم يعد الناس يأتون لا صيفا ولا شتاء، أكلتهم المدينة واستغنوا عن حفيف النسيم يدور بين البراجيل، وافتتنوا بحياة معبئة بالأضداد. حاولت أن اقنع مصبح أن يمضي في حياته، فالبنات لا يمكثن طويلا في بيوت آبائهن، لكنه ظل ينتظر، كان يشعر أن قطع الغافة سيقتلع أمله في رؤية عليا من جديد فربط نفسه بالرجاء.

مرت على حادثة الغافة أربعة أصياف مسعورة، قضت على سلالات كاملة من النخيل وأشجار قطوفها دانيه، تاركة أشلاء حروب البقاء شواهد تبعث القشعريرة في جلود المارّة. ومَحَلَ المكان واستسلم للهواء العابر أمام ربوة السنين يحمل غموض الذكريات، ولم يعد أحد يسمع عن مصبح الذي دخل فجوة النسيان في الجبال الحجريه.

القادم الآن من جهة الجنوب نحو المنطقة، لن يعرف سبب انحناء الشارع الذي يخترق البلدة، انحناءة ناعمة جهة اليسار على هيئة هلال قبل أن يستأنف استقامته من جديد. تاركاً حضن الهلال لشجرة غاف عظيمه، تحرس خصر الشارع، وتحرث أخيلة العابرين، لكنه لو توقف يستريح في ظلها، سيلمح اسم عليا محفورا على الجذع بكل وضوح، كأنه كتب هذا الصباح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاطمه الناهض/ 2008