مقدمة
بعد صدور تقارير دولية عدة تدين اسرائيل وتتهمها بارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية والى "ما يقارب" الابادة الجماعية، يبدو من المفيد دراسة التداعيات الاستراتيجية على سابقة في تاريخ العلاقات الدولية منذ انشاء اسرائيل، فلأول مرة تقوم تقارير رسمية أممية بـ"محاولة" مساءلة اسرائيل على ما اقترفته من فظائع. وبالرغم من أن غولدستون حاذر في اعطاء التوصيف الفعلي والقانوني للاعمال الاسرائيلية، وخفف كثيرًا من حدة تقريره، كما اعترف، فلم يذكر سوى "جرائم الحرب" واحتال على التوصيف القانوني لجريمة الابادة، فاعتبر ان هناك "نيات متعمدة اسرائيلية لفرض عقوبة جماعية"، الا أن تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة "ريشارد فولك"، المنوي مناقشته خلال الشهر الحالي، يعدّ أهم وأخطر من تقرير غولدستون[1] وستكون لمناقشته العلنية، وعرضه أمام الراي العام، تداعيات أكبر وأخطر على اسرائيل، فيما لو عُرض.
لن ندخل هنا في التفاصيل القانونية للتقارير، ولا في توصيف الجرائم الاسرائيلية وتفنيدها بموجب القانون الدولي العام، فهذا الموضوع قد أشبع درسًا منا ومن كثر الحقوقيين والمهتمين بهذا الشأن[2]. لكننا سنعالج في هذه الورقة التداعيات الاستراتيجية التي خلّفتها هذه التقارير على اسرائيل عالميًا، وعلى القاعدة الاجتماعية اليهودية في العالم، لاعتقادنا أنه حتى لو لم تتم محاكمة مجرمي الحرب الاسرائيليين، ستكون اسرائيل امام تداعيات مستقبلية خطيرة لن تتخلص منها بسهولة.
ماذا في هذه التداعيات؟
أولاً: انهيار صورة "التفوق النوعي"
ثانيًا: تقويض شرعية اسرائيل على الساحة الدولية
ثالثًا: بداية تحولات في القاعدة الاجتماعية لليهود حول العالم.
أولاً: انهيار صورة «التفوق النوعي»
يمكن القول أن الخطر الأكبر الذي تواجهه اسرائيل حاليًا بعد صدور التقارير الدولية التي تدينها وأهمها تقرير غولدستون هو تحطيم "الصورة" التي رسمتها لنفسها خلال عقود من الزمن، وكلّفتها الكثير من الجهد الدبلوماسي والسياسي والمالي والاعلامي وجهد اللوبيات اليهودية في العالم. فقد عملت اسرائيل منذ ما قبل تأسيسها، وبالتحديد منذ نشوء الحركة الصهيونية، على انتاج صورة عن نفسها وعن شعبها مستندة في ذلك الى معتقدات دينية توراتية، وصولاً الى مرحلة قيام "الدولة" وما رافقها من استعمال "الصور المتناقضة" التي تصلح للاستخدام السياسي والدولي. حيث عمل المنظّرون الأوائل للحركة الصهيونية على استجلاب العديد من مفردات الخطاب الديني اليهودي بهدف إدخالها ضمن النسق الفكري الداعي الى أحقية بناء وطن قومي لليهود في فلسطين، بحيث أدرج هذا الامر ضمن "قيم معيارية ونسق متكامل" من صور "الأنا" و"الآخر"، والتي سرعان ما أضيف إليها صور أخرى بعد تأسيس الدولة مستمدة من مفاهيم توراتية وتلمودية. إذ عمل الاسرائيليون على تكريس صورة "الشعب المختار والمتفوق"، وذلك في كتابات المفكرين الصهاينة الاوائل، وبالتحديد، تيودور هرتزل الذي قال في كتابه: "فلسطين هي الوطن التاريخي لليهود، ومن هناك سوف نشكّل جزءًا من استحكامات اوروبا في مواجهة آسيا كموقع أمامي للحضارة في مواجهة البربرية".[3]
في هذه العبارة، نجد صورة رسمها هرتزل وعملت الصهيونية العالمية على ترسيخها لغاية اليوم، وهي ترتكز على معايير ثلاث:
1 ـ التركيز على تمجيد الذات ورفع "الأنا" الى مستوى أعلى من البشر الآخرين، وهي صورة تتلاءم مع الصورة التي تقدمها النصوص الدينية اليهودية.
2 ـ العمل على تشويه صورة الآخر، فالآخر هو "البربري العنيف" مقابل الأنا التي تجسد "الحضارة والرقي والتمدن".
3 ـ صاغ هرتزل لليهود وللدولة الموعودة، وظيفة ودورًا هامين جدًا تتجلى في حيازة "موقع أمامي متقدم" لاوروبا في مواجهة "العدو"، بغض النظر عن الصفات التي يتخذها هذا "العدو" والتي تتبدل بتبدل اللحظة التاريخية، فقد يكون البربري في لحظة تاريخية معينة لينتقل الى الارهابي في فترتنا الحاضرة.
فيما بعد أضيفت الى هذه الصورة، صورة اخرى تتلاءم مع مرحلة تاريخية مختلفة أي مرحلة تأسيس الدولة، وهي صورة "الضحية المظلومة" التي تأتي لتبرر للمتفوقين أخلاقيًا وقيميًا ما يقومون به من مجازر وعدوان وتعديات، ويمكن أيضًا أن نقتبس من بن غوريون في احد رسائله عبارة معبرة يقول فيها: «مَن يَعلم لمن ستكون الكفة الراجحة، هل هي لعدالة وحضارية انجازاتنا في فلسطين، والمحنة الرهيبة لليهود في المهجر من ناحية، أم لقنابل العصابات العربية وألغامها، وتهديدات وسلطة الحكومات العربية، والعداء المتزايد لليهود في العالم»[4].
إذًا، بالاضافة الى الصور السابقة التي ارساها المفكرون والاعلاميون والسياسيون الصهيونيين، أضيف اليها صورة اخرى هي "صورة الضحية المظلومة المهددة في وجودها وكينونتها" والتي تعاني الأمرّين في المهجر وتعيش تجارب رهيبة وقاسية، وهي صورة لازمة من المنظور الصهيوني لاستدراج العطف اللازم لتأسيس الدولة، واستجلاب اليهود من انحاء العالم الى فلسطين لتخليصهم من العداء والمآسي التي يعانون منها. في هذه المرحلة، انتقل الفكر الصهيوني الى تحديد أكثر للعدو فلم يعد مجرد "بربري" بل بات له اسم وهوية: إنه العربي الذي يحمل "قنابل وألغام" ويهدد اليهود في وجودهم وحياتهم هو وسلطاته وحكوماته التي روّج لأنها ستلقي اليهود في البحر.
ولان بحثنا اليوم لا يتسع لشرح تفاصيل انتاج البناء المعرفي والصوري عن النفس والآخر في الفكر الصهيوني، يمكن أن نلخّص الصورة التي كانت قد انتجتها اسرائيل عن نفسها وركّزتها في ذهن الرأي العام العالمي عشية حرب لبنان عام 2006 بالصفات التالية:
ـ تفوق أخلاقي وحضاري مقابل أعداء إرهابيين منحطّين أخلاقيًا ومتخلّفين حضاريًا، وهم بالمجمل "معادين للسامية".
ـ اسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط.
ـ لاسرائيل دور ووظيفة تؤديهما، ووجودها ضروري لحماية المصالح الاميركية والغربية في المنطقة.
ـ الضحية المظلومة التي تقاتل للدفاع عن نفسها ضد اعداء يريدون الغاءها.
ـ الجيش الاسرائيلي هو الجيش الاقوى الذي لا يُقهر، وأي حرب يخوضها يخرج منها منتصرًا بسهولة.
وبالرغم من تناقض صورة الضحية مع صورة القوة التي لا تقهر، فقد استطاعت اسرائيل ان تجعل العقل الغربي يقبل صورتين متناقضتين بدون تفكير: صورة الضحية المغلوب على أمرها المهددة في وجودها، وصورة القوة العاتية التي لا تقهر. لكن، ما رسمته الدعاية الصهيونية خلال ما يزيد عن قرن من الزمن وكل الجهود التي بذلتها اعلاميًا وسياسيًا وفكريًا لترسيخ صورة اسرائيل هذه في العقل اليهودي والغربي والعالمي، بدأت ملامحه الحقيقية تنكشف منذ حرب تموز 2006 ولغاية اليوم. وبدأت ألوان الصورة المزيفة تتحلل، وتتكشف يومًا بعد يوم وذلك على الشكل التالي:
1. في صورة القوة العاتية ووهم الوظيفة والدور
بلا شك، كان لحرب لبنان 2006 تأثيرات هامة على صورة الجيش الاسرائيلي "الذي لا يُقهر"، فقد ظهر بشكل جلّي وواضح ان القوة والهيبة الاسرائيلية، والردع الذي امتلكته منذ عقود، وبالتحديد منذ عام 1967، جميعها قد سقطت بالضربة القاضية. وبحسب الخبراء العسكريين، تعد حرب غزة «نكسة» للجيش الاسرائيلي، فقد كشفت الوهن الذي أصابه والذي لم يستطع تفاديه بعد حرب تموز 2006، بالرغم من ملاحظات «فينوغراد» ونصائحه في كيفية استعادة الهيبة والردع. لقد كان لما حصل في غزة من عدم قدرة الاسرائيليين على تحقيق انتصار ساحق على مقاومة لا تملك العمق الاستراتيجي الذي يملكه حزب الله في لبنان، ولا المقومات العسكرية نفسها، تداعيات على الجيش الاسرائيلي الذي أثبت عجزه عن حسم أية معركة يخوضها بعدما كان «الجيش الذي لا يقهر» والذي انتصر على دول عربية مجتمعة واحتل أجزاء من أراضيها في ستة أيام.
لقد أثبتت الحرب التي شنّها الاسرائيليون على لبنان عام 2006 وبعدها الابادة التي مارسوها في غزة، نظرية «عجز القوة»، بل لعلها أعطت الدليل القاطع على ان قرار الحرب لم يعد بأيدي الاسرائيليين منفردين، بل صار ملك منظومة توازن عسكري استراتيجي في المنطقة، وهو ما تثبته التهديدات الاسرائيلية المتتالية للبنان والتي تبقى في اطار التلويح والتهديد لغاية الآن. أما الوظيفة والدور التي حددتها اسرائيل لنفسها كموقع متقدم للجبهة الغربية في حربها واستعمارها للمنطقة، فقد أتت التطورات التي حصلت منذ مجيء الاميركيين عسكريًا الى المنطقة واحتلالها العراق، وبعدها هزيمة الذراع العسكرية للغرب في حرب تموز 2006، لتكشف ان اسرائيل لم تعد مصدر ثقة للغرب، وغير قادرة لاسباب بنوية جوهرية أن تضطلع بالوظيفة والدور المنوطان بها، وأهمها أن تكون "شرطي الغرب في المنطقة".
2. في صورة الضحية وادعاء التفوق الاخلاقي
بشكل لا يقل أهمية عن تهاوي «صورة القوي الذي لا يُقهر» تتهاوى الآن أمام أعين الاسرائيليين، صورة «اسرائيل الضحية الخيّرة المظلومة» التي «تدافع عن نفسها» ضد أعداء شريرين يحاولون القضاء عليها وابادتها و«رميها في البحر». لقد كان للصور التلفزيونية التي بثّتها وسائل الاعلام والتي أظهرت وحشية الحرب التي شنّتها اسرائيل على قطاع غزة، تأثيرها الكبير في كشف صورة اسرائيل العدوانية والعنصرية. وجعلت الاعلام الغربي المسخّر لخدمة الصهيونية عاجزًا أمام هول الصورة الحقيقية، ما جعل التعاطف في الغرب تجاه اسرائيل، والمبني على أسباب تاريخية، يتراجع في أذهان الشعوب. وهكذا شهدت عواصم العالم مظاهرات حاشدة ضد الهجوم العسكري الاسرائيلي على شعب أعزل، محتلة أرضه. ولادانة الحصار الاسرائيلي المفروض على غزة باعتباره "عقابا جماعيًا" لشعب بأكمله.
أما الصور القيمية الاخلاقية الزاهية التي روّجتها اسرائيل عن نفسها، والتي استمرت في رسمها أكثر من قرن من الزمن، فقد لطختها دماء الأطفال الفلسطينيين، والشواهد الدامغة التي أتت بها التقارير الدولية، التي أثبتت بالدليل القاطع أن الجيش الاسرائيلي "استخدم الاطفال دروعًا بشرية"، وانه قصف المناطق الآهلة والمدارس والمستشفيات ومقرات الامم المتحدة "بشكل متعمد". بينما لم يثبت أن حماس قامت بأي من هذه الاعمال الوحشية أو الاجرامية، التي لا تقيم وزنًا لا لضمير انساني ولا اخلاقي ولا ديني. واستكمل تحطيم الصورة الاخلاقية الحضارية الراقية الاسرائيلية، بالتقارير التي كشفتها الصحافة الاوروبية حول قيام القوات الاسرائيلية بسرقة الأعضاء البشرية للشهداء الفلسطينيين والمتاجرة بها، وتتابعًا مع الكشف الخطير حول انتهاك اسرائيل لسيادات الدول الاوروبية من خلال تزوير جوازات سفر لمواطنيها، واستخدامها في عملية اغتيال المبحوح في دبي.
بالاضافة الى مصداقية المنظمات التي ادانت اسرائيل، كان تعيين القاضي الجنوب افريقي ريتشارد غولدستون، ضربة قاصمة لمقولة "معاداة السامية" التي يلصقها الاسرائيليون بكل معارض لهم او منتقد لسياساتهم، فالقاضي المذكور هو من اليهود المؤيدين لاسرائيل وتاريخه وتصريحاته تشهد له بذلك[5]، بالاضافة الى أن عدد من المظاهرات التي انطلقت في العالم ضد الحرب على غزة قادها يهود أو كانوا من المشاركين الأساسيين فيها وفي انتقاد الممارسات الاسرائيلية[6].
3. ادعاءات "الدولة الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الاوسط
أما صورة "الدولة الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الاوسط، والتي نظّر لها الغرب، وبعض العرب، من مفكرين ومحللين سياسيين، فقد بدأت بالاهتزاز أيضًا، بعد تهم الفساد التي تواجه معظم القيادات الاسرائيلية، وآخرها محاكمة اولمرت على ضلوعه بالفساد خلال فترة توليه منصبه، والتي استؤنفت في شباط الماضي.[7] واليوم تتعالى أصوات يهودية من الداخل الاسرائيلي وخارجه لتكشف زيف هذه الصورة بعد التداعيات التي فرضتها التقارير الدولية ومنها تقرير غولدستون، والانباء التي تتحدث عن سياسات حكومية اسرائيلية "مكارثية" كرد على تقرير غولدستون، حيث تقوم الحكومة الاسرائيلية بالتضييق على منظمات حقوق الانسان، وعلى وسائل الاعلام، بسبب "مساهمتها في تشويه صورة اسرائيل دوليًا"، بحسب الادعاء الاسرائيلي. أو بسبب دور مزعوم لهذه المنظمات الانسانية في الحقائق التي استند اليها تقرير غولدستون، والحملة الدولية التي استتبعها ضد اسرائيل، تحاول الحكومة الاسرائيلية تمرير قانون يضيق هامش الحريات التي تتمتع بها المنظمات غير الحكومية، ويضع عليها شروطًا تعجيزية سيؤدي في حال التصديق عليه الى سجن معظم رؤساء منظمات حقوق الانسان الداعية للسلام، وهذا ما يدفع بعض الاسرائيليين الى التشاؤم، واعتباره توجهًا اسرائيليًا نحو الديكتاتورية.
هكذا إذًا، تهاوت أجزاء الصورة التي رسمتها الصهيونية عن اسرائيل، وشعبها المختار المتفوق أخلاقيًا، الى حد وصف كثير من اليهود لدولة اسرائيل بانها تشبه نظام "الفصل العنصري في أفريقيا". ويبقى على العرب من جهتهم، والقيّمين عليهم، أن يرسخوا هذه الصورة اعلاميًا وسياسيًا وثقافيًا، ليس في العالم العربي فحسب، بل في العالم أجمع، لا أن يندفعوا لمد اليد والقبلات، ومحاولات التطبيع مع العدو، لإخراجه من "أزمته الوجودية" التي بدأت تلوح في الأفق.
ثانيًا: تقويض "شرعية" اسرائيل على الساحة الدولية
1. توتر علاقات اسرائيل مع حلفائها التقليديين (اوروبا واميركا)
لعل أي مطّلع على الدعم غير المسبوق والتحالفات الدولية التي عقدتها اسرائيل خلال ما يزيد عن ستين عامًا على تأسيسها، يعلم أنه بالرغم من كل الانتهاكات التي قامت بها للقانون الدولي، وكل المجازر التي ارتكبتها، بقي الاميركيون والاوروبيون مستمرين في دعم اسرائيل، واعلانهم الالتزام بازدهارها وحقها في الامن والسلام. كما في "حقها في الدفاع عن نفسها" فهي "دولة تحارب من أجل السلام"، وتتعرض بشكل دائم لخطر "الارهابيين من الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين والايرانيين"، بحسب زعمهم.
إن مراجعة المواقف الحديثة للقادة الاوروبيين التي استفاضت بلادهم في دعم اسرائيل، كبراون وبرلسكوني وساركوزي، على سبيل المثال، الذي اعتبر ان "اسرائيل هي معجزة القرن العشرين التي تتقدم بالرغم من كل التحديات والاخطار التي تحيط بها"، بالاضافة الى تصريحات مسؤولي الاتحاد الاوروبي كنائب رئيس اللجنة الاوروبية السيد فرانكو فراتيني، الذي اعلن خلال مشاركته في مؤتمر هرتسيليا الثامن، باسم الاتحاد الاوروبي: «الالتزام التزامًا عهيدًا بدولة اسرائيل اليهودية، وبحقها في العيش بسلام ... وعدم التسامح مع معاداة السامية أبدًا»[8] ان من يراجع هذه المواقف يعلم حجم الخسارة الاستراتيجية التي يمكن أن تتكبدها اسرائيل في حال بدأت دول العالم تتخلى عن الدعم المفرط لها والتعهد بنموها واستقرارها وأمنها. لإدراكها لخطورة تداعيات تقرير غولدستون عليها في علاقاتها الدولية، طالبت اسرائيل في ردها على التقرير بتغيير قوانين الحرب، والتي تعتبر من أهم قواعد القانون الدولي الانساني.[9]
وفي هذا الاطار، لا يمكن لأي مراقب موضوعي أن يغفل عن الدلالات السياسية والرمزية لإعلان البرلمان الأوروبي خلال الاسبوع المنصرم[10] تأييده لتقرير غولدستون ومطالبته بالعمل على تطبيق التوصيات الواردة فيه، والدعوة إلى إجراء تحقيقات للكشف عن الحقائق، وتحديد المسؤوليات عن الانتهاكات التي حصلت خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة. بلا شك، يعتبر هذا الاعلان ضربة مهمة للعلاقات الاسرائيلية مع اوروبا، والتي تراهن عليها اسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا واستراتيجيًا. وكان تصاعد السخط العام الأوروبي ضد الفظائع الاسرائيلية في قطاع غزة أدى خلال عام 2009 الى تعليق الاتحاد الأوروبي تنفيذ اتفاق مقرر لرفع مستوى العلاقات مع اسرائيل. وقال دبلوماسي رفيع في الاتحاد الأوروبي إن «الحرب في غزة، واستمرار بناء المستوطنات اليهودية واستمرارالحصار على غزة، تجعل من الصعب أن تمضي العلاقات بين اسرائيل والاتحاد الأوروبي بالصورة المعتادة»[11].
وربما يكون من ظواهر التحول في العلاقات الأوروبية الاسرائيلية، إصدار محكمة بريطانية في كانون الاول من عام 2009 أمرًا بالقبض على وزيرة خارجية اسرائيل السابقة تسيبي ليفني على خلفية دعوى قضائية بشأن تورطها في ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة، ما دفعها الى إلغاء زيارتها المقررة الى بريطانيا. ورغم أن قرار المحكمة دفع رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون الى الاعلان عن حاجة لتغيير النظلم القضائي البريطاني، وبالرغم من تقليل بعض وسائل الاعلام من شأنه، لكن يبقى أن مثل هذه الخطوة من جانب محكمة بريطانية ما كان يمكن تصورها قبل عقد من الزمان.
أما العلاقات الاميركية الاسرائيلية، وبالرغم من بعض التشجنات الصغيرة التي تحصل الآن خلال عهد الرئيس الجديد باراك اوباما، وأهمها التوتر الذي حصل خلال زيارة بايدن لتل ابيب[12]، الا انه يبقى من الصعب على تقرير غولدستون أو غيره، أن يهز العلاقات الاستراتيجية بين البلدين والدولتين بالرغم من التبدل "المحدود" الذي يحصل في الرأي العام الاميركي وتساؤلاته حول مشروعية ما تقوم به اسرائيل في قطاع غزة. وفي هذا الاطار،أظهر استطلاع للرأي في الولايات المتحدة الاميركية، ان الاميركيين الذي يعدّون أنفسهم داعمين لاسرائيل تراجع من 69% قبل حرب غزة الى 49% في حزيران 2009، بينما تناقص عدد المستطلعين الذين يعتبرون ان على الولايات المتحدة الاميركية دعم اسرائيل من 69% الى 44% في الفترة نفسها[13].
ونورد فيما يلي بعض النماذج التي تؤشر الى "بدايات" خجولة، لفقدان اسرائيل قوة الدعم العالمي التي تمتعت به في العقود المنصرمة، لكنها كما سنلاحظ أنها تأتي في إطار المجتمعات المدنية أكثر مما هي سياسيات رسمية:
في الميدان القانوني
ـ أصدرت محكمة بريطانية مذكرة اعتقال في حق تسيبي ليفني على خلفية اتهامها بجرائم حرب بوصفها وزيرة خارجية إسرائيل أثناء عملية الرصاص المصبوب[14].
ـ أثار قرار القاضي الإسباني فرنندو أندراو، محاكمة سبعة من القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين بتهمة ارتكاب جرائم حرب، ضجة كبرى في إسرائيل. وقامت وزارت الخارجية والعدل والاتصالات الاسرائيلية بتجنيد مجموعة من كبار السياسيين ورجال القانون في إسبانيا وأوروبا عمومًا لإجهاض هذا القرار وإلغاء المحاكمة، خوفًا مما وصفوه بـ "تسونامي من المحاكمات" قد تحصل في اوروبا بسبب حربهم على غزة.[15]
ـ رفعت منظمات فرنسية دعوى قضائية إلى محكمة الجنايات الدولية ضدّ الرئيس الإسرائيلي، ووزيرة الخارجية ووزير الدفاع الاسرائيلي بسبب جرائم الحرب التي حصلت في غزة.[16]
ـ قدم نشطاء أتراك في مجال حقوق الإنسان بتقديم دعوى تتهم أيهود باراك بالإبادة وارتكاب جرائم ضد الإنسانية في الحرب التي شنتها إسرائيل على غزة، وطلبوا من المدعي العام إصدار مذكرة اعتقال بحق وزير الجيش الإسرائيلي بتهمة الإبادة في حرب غزة، لدى زيارته تركيا[17].
ميدان الأمن
ـ إثر حرب غزة، وبسبب المشاهد التي بثت، أصدرت الحكومة البلجيكية قرارًا بحظر تصدير أسلحة الى اسرائيل "يمكن أن تقوّيها عسكريًا".[18]
ـ صوتت نقابات العمال البريطانية لصالح قرار فرض حظر على البضائع المستوردة التي تنتجها إسرائيل في "المستوطنات غير الشرعية" ووقف الاتجار بالأسلحة مع إسرائيل[19].
منظمات المجتمع المدني
ـ رُفع في المظاهرات التي نُظمت في تشرين الثاني 2009 في شوارع البرازيل ومدريد وبيونس آيرس، لافتات تشبه القادة الإسرائيليين بالنازيين وتتهمهم الإبادة الجماعية.
ـ اتهمت ماريد ماغواير الحائزة على جائز نوبل للسلام إسرائيل بانتهاج سياسة "تطهير عرقي" في القدس الشرقية.[20]
ـ أعلن المنتدى الاجتماعي العالمي ـ وهو مظلة تضم المئات من الجماعات الاجتماعية، والمناهضة للعولمة، والحقوقية من شتى أرجاء العالم - عن إطلاقه حملة تدعو كافة المنتسبين إليها إلى مقاطعة اسرائيل.[21]
الميدان الأكاديمي
ـ في احد أكبر المعاهد الأكاديمية في النرويج، عزمت جامعة بيرغين على فرض مقاطعة أكاديمية رسمية على إسرائيل لما وصفته بسلوك إسرائيل الشبيه بالتفرقة العنصرية في افريقيا الجنوبية.[22]
ـ عقد مجلس إدارة جامعة ترودنهايم في النرويج جلسة تصويت على إقرار حملة مقاطعة أكاديمية لإسرائيل. وأقامت الجامعة سلسلة ندوات حول استخدام إسرائيل لمعاداة السامية كأداة سياسية[23].
ـ أطلقت مجموعة من أساتذة الجامعات الأميركية حملة لحث الاكاديميين الاميركيين على "المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل" بسبب الفظائع التي ارتكبتها في لبنان وغزة[24].
ـ اثر بثّ صور المجازر في غزة، رفعت مجموعة من الاساتذة الجامعيين الكنديين الى الحكومة اقتراحاً يطالب بفرض مقاطعة أكاديمية على إسرائيل[25].
ـ تنظم الجامعات البريطانية منذ عام 2007 أسبوعا للتوعية بضرورة المقاطعة الأكاديمية للجامعات والجامعيين الإسرائليين، وقد شارك فيه عام 2008 18 جامعة، وارتفع العدد إلى 29 جامعة عام 2009، ثم إلى 40 جامعة عام 2010.
ـ وقّع 400 أكاديمي في بريطانيا بينهم يهود، رسالة نشرتها صحيفة الغاريان، تدعو الى وقف الحرب في غزة، وتحثّ على مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها فيما لو لم تلتزم[26].
ـ وجّه أكثر من 400 أكاديمي رسالة الى متحف العلوم في بريطانيا يطالبونه فيها بإلغاء ورش العمل التي تروّج للمنجزات العملية الإسرائيلية في أوساط طلاب المدارس[27].
ميدان السينما
ـ اضطرت احدى شركات الافلام الى الانسحاب من مهرجان تورونتو الدولي للأفلام السينمائية بسبب الضجة التي أثيرت لاختيارها تل أبيب موضوعاً بحثياً[28].
ـ بعد احتجاجات كبيرة وتهديدات بالانسحاب، اضطر مهرجان إدينبورغ الدولي للأفلام السينمائية الى إعادة منحة بقيمة 300 جنيه إسترليني كانت السفارة الإسرائيلية قد قدمتها.[29]
2. توتر علاقات اسرائيل مع الحلفاء الاقليميين
كما بالنسبة للاتحاد الاوروبي، كذلك بالنسبة لتركيا التي شهدت علاقاتها مع اسرائيل خلال عام 2009 وعلى أثر حرب غزة، أسوأ مرحلة منذ التحالف الاستراتيجي الذي قام بين الدولتين. لطالما نظرت اسرائيل الى تركيا بوصفها حليفها الأهم والأكثر تأثيرًا في الشرق الأوسط، وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين خلال عام 2008 ثلاثة مليارات دولار، وشمل شراء أنقرة أسلحة إسرائيلية وطائرات من دون طيار بقيمة 183 مليون دولار. وقد وفرت تركيا ولفترة طويلة جسرًا بين إسرائيل ودول عربية خليجية، كما لعبت دور الوسيط بين سوريا واسرائيل تمهيدًا لاجراء مفاوضات غير مباشرة خلال عام 2008، وقد أوقف العدوان الإسرائيلي على غزة هذه الاتصالات من الجانب السوري، في حين أن الحرب نفسها زادت من تدهور العلاقات الإسرائيلية مع تركيا.
وقد شهد العام المنصرم الكثير من الازمات الدبلوماسية والسياسية بين تركيا واسرائيل، بدأ بالموقف التركي الشهير في «دافوس» في كانون الثاني عام 2009 حينما انسحب رئيس الوزراء التركي رجب اردوغان من الجلسة احتجاجًا على السلوك الاسرائيلي، ومخاطباً بيريز بقوله «صوتك العالي يثبت أنك مذنب لأن الجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال على شواطئ غزة»، في حين أن معظم العرب الحاضرين لم يحركوا ساكناً. ثم أتى قرار أنقرة إلغاء مشاركة اسرائيل في مناورات "نسر الاناضول" الجوية في تشرين الاول 2009 وأزمة المسلسل التلفزيوني التركي "الوداع" الذي يعرض التنكيل الاسرائيلي بالفلسطينيين في الاراضي المحتلة، والأزمة الدبلوماسية الكبيرة التي حصلت بعد أن قام نائب وزير الخارجية الاسرائيلي داني ايلون بإهانة السفير التركي في اسرائيل، لكن تركيا منتصرة ومرفوعة الرأس بعد الاعتذار الاسرائيلي الرسمي.
دفعت هذه المواقف والازمات المتتالية العلاقات بين البلدين الى التباعد أكثر فأكثر، مع تأكيد اقتناعنا بأن تركيا في حركتها لن تصل الى مستوى القطيعة أو الجفاء مع اسرائيل حيث تحرص هي بدورها على تلك العلاقة الاستراتيجية. وقد عبّر أحد مسؤولي الخارجية الإسرائيلية لصحيفة هآرتس الإسرائيلية عن تشاؤمه بمستقبل عودة العلاقات التركية الاسرائيلية الى سابق عهدها بقوله "الواقع ربما تغير وربما أصبحت علاقتنا الإستراتيجية بتركيا في مهب الريح". قد لا تكون الجرائم الاسرائيلية المرتكبة في غزة بحد ذاتها هي المحفز لتغيير الاستراتيجية التركية في الشرق الاوسط، ولا شك أن تركيا تتحرك للتعويض عن دور فقدته في المنطقة منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، ولم تستطع ان تجد ما يناسبها من دور اقليمي في موقعها اللصيق بالغرب، كما باتت على قناعة تامة بأن اوروبا لن تقبل بها عضوًا في الاتحاد الاوروبي، بالاضافة الى ادراكها للتبدلات الاستراتيجية التي فرضتها حروب اسرائيل على لبنان وغزة وتأثيرها على هيبة اسرائيل وقوتها ودورها ووظيفتها في المنطقة. لذا عمدت الى استغلال حرب غزة وما تلاها، وما قامت به اسرائيل خلالها من فظائع، والتقارير الدولية التي ادانتها، لرسم مسار آخر لسياستها الخارجية، بالعمل على تحقيق مصالحة على نطاق واسع مع أعداء تركيا التقليديين كالأرمن والسوريين واليونانيين والأكراد، والدخول كلاعب اقليمي مهم في الشرق الاوسط من بوابة دعم القضايا العربية المحقة، ولعب دور الوسيط الذي يجعل من التحالف مع إسرائيل يغدو عبئًا أكثر منه ورقة رابحة، في ظل تبدل المعطيات، وبروز توازن استراتيجي جديد في المنطقة.
أما بالنسبة للدول العربية التي توصف "بالاعتدال"، فان تقرير غولدستون والمجازر التي حصلت في غزة وبالرغم من أنها عرّت الانظمة العربية المذكورة، فان التغيير في علاقاتها باسرائيل لم يحصل، ولو حصل فاسرائيل لن تهتم بسبب استتباع هذه الانظمة وتبعيتها وعدم امتلاكها لقرارها المستقل.
ثالثًا: بداية تحولات في القاعدة الاجتماعية لليهود حول العالم
بالفعل لقد شهد عام 2009 تحوّلاً ملموسًا في مواقف اليهود من إسرائيل، وخاصة الأميركيين منهم. وكان لافتًا بروز الكثير من المنظمات اليهودية التي تعارض السياسات الاسرائيلية ومنها منظمات "جي ستريت" التي تبدو الآن كمنافس مستقبلي حقيقي لمنظمة آيباك، بالاضافة الى منظمات أقل قوة مثل منظمة "يهود أميركيون من أجل سلام عادل"، و"يهود ضد الاحتلال" الخ... وقد قام هؤلاء بمظاهرات حاشدة جدًا للمطالبة بوقف العدوان على غزة، وأيدوا التحقيقات التي دعا اليها تقرير غولدستون. وتبدو "جي ستريت" التي تأسست عام 2008، كمنظمة يهودية جديدة تقتحم النفوذ التقليدي والمتجذر لآيباك، مطوّقة من اليمين واليسار على حد سواء. فخلال نزاع غزة، أصدرت المنظمة بياناً أدانت فيه حماس وإسرائيل لأنها "عاقبت مليون ونصف مليون غزاوي يعانون أصلاً من ممارسات المتطرفين في وسطهم"، بحسب البيان. كان موقفاً شجاعاً من منظمة يهودية مبتدئة تحاول كسب الدعم في أوساط الاتجاه السائد، وقد أثار البيان غضب المسؤولين في الجالية اليهودية. فبعد حرب غزة، بدأت طلبات الانتساب الى المنظمات اليهودية المعادية للسياسات الاسرائيلية تزداد. وقد تضاعفت لائحة المشتركين برسائل البريد الإلكتروني على موقع منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" التي تتّخذ من أوكلاند مقراً لها، لتصل إلى 90 ألفاً مع تسجّل ستة آلاف شخص كل شهر. وتقول المديرة التنفيذية للمنظمة إن المنظمة تجد دعماً يهودياً في أماكن غير متوقّعة مثل هاواي وأتلانتا وجنوب فلوريدا وكليفلاند، وهو أمر لم يكن ممكنًا قبل حرب غزة، والتقارير التي أتت لتكشف الانتهاكات الاسرائيلية.
إن دراسة تطور التوجهات السياسية لليهود الاميركيين تفيد انه كان حرب 1967 التأثير الابرز في صعود اللوبيات اليهودية الداعمة لاسرائيل، وقد وجد المدافعون عن اسرائيل و"حقها في الوجود والدفاع عن نفسها في بيئة تريد رميها في البحر" في الانتصار السريع الذي حققته اسرائيل دافعًا لهم للتعبير عن أنفسهم بقوة.
وفي السنوات التي أعقبت حرب 1967، اكتشفت الثقاقة الأميركية "المحرقة" وبدأ الحديث عنها في المناهج التربوية وفي اللقاءات المنظّمة وفي الاعلام، ما أدى الى طغيان شعور عارم بوجوب عدم السماح بتكرار الامر، الأمر الذي أدى تصاعد قوة اللوبي اليهودي الإسرائيلي الحديث. ببساطة، تنظّم اليهود الأميركيون في سياسات دعم اسرائيل بدون قيد أو شرط، انطلاقاً من اقتناعهم بأنهم الوحيدون الذين يقفون بين إسرائيل والنسيان[30].
بهذا المعنى، غزة هي بمثابة الخط الفاصل الذي يُطلق مرحلة جديدة مختلفة عن مرحلة ما بعد حرب 1967 في الوعي اليهودي. ويبدو التحوّل أكثر وضوحاً في القواعد الاجتماعية اليهودية في الجامعات، حيث أصبح تأييد الفلسطينيين الاختبار الحاسم للالتزام التقدّمي بين الطلاب والاكاديميين اليهود. ويؤدي الشباب اليهودي دورًا رئيسيًا في الحركات المناوئة للسياسات الاسرائيلية وفي الدعوات الى المقاطعة وسحب الاستثمارات. في تحليل هذه الظاهرة علميًا واجتماعيًا، يمكن القول أن الشباب اليهودي الجديد ليس متأثرًا بدعايات حرب ،1967 والخوف من محرقة اخرى، بل إنهم بمواقفهم الآن يطبّقون على إسرائيل ما تعلّموه عن حقوق الإنسان والمساواة والديموقراطية والقيم الأميركية الليبرالية. لذا تتقدّم المسألة الإسرائيلية ـ الفلسطينية لتحتلّ المركز في عالمهم السياسي، ويبدون رأيهم فيها من هذا المنظار.[31]
وكما في أميركا كذلك في بريطانيا، فخلال العدوان على غزة قامت مجموعة من المنظمات اليهودية، وبالاضافة الى فاعليات يهودية بارزة ومرموقة باصدار بيان دعوا فيه "الى وقف النار فورًا، والى مراقبة دولية لاتفاقية وقف النار". واعتبروا "ان من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها ولكن ردها العسكري المفرط سيقوض الاستقرار في المنطقة". وقد قويت المنظمات اليهودية المعادية للصهيونية في بريطانيا خلال عام 2009 بعد ما حصل في غزة. وقد نظمت منظمات يهودية عدة منها منظمة "يهود لمقاطعة البضائع الإسرائيلية"، و"يهود من أجل العدالة للفلسطينيين" اعتصامات خلال شباط المنصرم في وسط لندن، ضد "احتلال إسرائيل غير المشروع للضفة الغربية والقدس الشرقية والعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة" وما وصفوه "بسرقة إسرائيل جوازات سفر بريطانية"، ورفع المحتجون لافتات كتب على بعضها "لا تأخذ جواز سفرك إلى إسرائيل"، و"إسرائيل سرقت مياه الفلسطينيين وجوازات سفر البريطانيين". ودعت هذه المنظمات إلى "عزل إسرائيل بسبب مواصلتها انتهاكها القانون الدولي، كما دعت لحملة دولية واسعة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية وفرض عقوبات على إسرائيل". وكما في الجامعات الاميركية، يلعب الطلاب اليهود في بريطانيا دورًا في الحركات التي تنتقد الممارسات الاسرائيلية، ما دفع بالمنظمات الصهيونية الى اعتبار ان "الجامعات بدأت تتحول الى مقر تنمو فيه سياسات معاداة السامية الجديدة".
وبلا شك، ساعد النزاع في غزة على كسر المقاومة اليهودية التقليدية لانتقاد إسرائيل. ويقول المحللون أن الاضطرابات والغضب في أوساط اليهود في مختلف أنحاء أميركا يعود الى السلوك الإسرائيلي الاجرامي والعنصري، الذي ظهر جليًا خلال تلك الحرب. وفي ما يلي بعض النماذج من كتاب ومحللين كانوا سابقًا من أشدّ الداعمين لاسرائيل:
ـ إم جيه روزنبرغ، وهو محلّل مخضرم في واشنطن يعد تقارير لشبكة "ميديا ماترز أكشن"، يقول: إن غزة كانت «الكارثة الأسوأ في العلاقات العامة في تاريخ إسرائيل». لأول مرة في جيل كامل، حصلت قطيعة بين يهود أميركيين بارزين والدولة اليهودية بسبب سلوكها.
ـ كاتب العمود الخاص في صحيفة "نيويورك تايمز" روجر كوهين يقول إنه "يشعر بالخجل" من الممارسات الإسرائيلية.
ـ في حين كتبت ميشيل غولدبرغ في صحيفة "الغارديان" إن قتل إسرائيل مئات المدنيين رداً على الهجمات الصاروخية "همجي" وعلى الأرجح "عقيم".
ـ في "ذي نايشن"، دافعت اليهودية نعومي كلين عن مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها؛ ولاحقاً لدى زيارتها رام الله، اعتذرت من الفلسطينيين بسبب "جبنها" وعدم اتخاذها ذلك الموقف من قبل.
ـ الحاخام برانت روزن من إفانستون في ولاية إيلينوي، يقول: "طوال سنوات، كان هناك "صوت ملتبِس" في رأسي يبرّر الممارسات الإسرائيلية ... خلال الانتفاضتَين الأولى والثانية والحرب في لبنان، كنت أقول ‘هذا معقّد’... عندما قرأت التقارير عن غزة، لم أعد أسمع الصوت الملتبس".
ـ أطلق بعض الحاخامات مجهوداً بعنوان "الصوم اليهودي من أجل غزة". كل شهر، يشارك أكثر من سبعين حاخاماً من مختلف أنحاء البلاد إلى جانب قادة من أديان مختلفة وأشخاص معنيين في صوم يستمر يوماً كاملاً "لوضع حد لصمت اليهود حول العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل في غزة".
بالتأكيد، تبدو هذه الحركات اليهودية عاجزة لغاية الآن عن التأثير الكبير في الرأي السائد بين اليهود في العالم في دعم اسرائيل، ولكن يمكن القول ان كوّة فتحتها حرب غزة في جدار الصمت، والمستقبل ينبىء بتغييرات إضافية في حال عرف العرب والفلسطينيين كيف يستفيدون من هذه النوافذ.
خاتمة وتوصيات
ما من شك ان التداعيات التي ستخلفها التقارير الدولية والجرائم التي ارتكبتها اسرائيل في كل من لبنان وغزة، لن تؤدي الى تبدلات دراماتيكية سريعة، ونحنا لسنا مفرطين بالتفاؤل بحيث نعتبر ان هذه التداعيات ستؤدي الى انهيار اسرائيل في وقت قريب، أو الى عزلها دوليًا. لكننا بدون شك ندرك أهمية هذه التداعيات على المدى البعيد فيما لو استعمل العرب استراتيجية مدروسة تؤسس منذ الآن لعهد جديد تنقلب فيه موازين القوى رأسًا على عقب، لكن هذا يحتاج الى كثير من العمل الدؤوب والالتزام بالقضية والجهد والصبر لترسيخ ما تحقق والبناء عليه للمستقبل.
وفيما يتعلق بالتوصيات التي يمكن أن نقترحها، انطلاقًا مما ناقشناه في ورقتنا:
1. العمل على تثبيت وتدعيم أسس الصور الحقيقية التي بدأ العالم يراها عن اسرائيل، وذلك من خلال الاعلام والثقافة والمنظمات الحقوقية ومنظمات حقوق الانسان وغيرها.
2. ترسيخ صورة العدوانية والعنصرية الاسرائيلية مقابل صورة "الضحية" العربية، وعدم القيام بما يؤدي الى قلب الصورة مجددًا.
3. التأسيس على الخروقات التي بدأت تظهر والتباينات بين القواعد اليهودية والصهيونية، وذلك من خلال دراسة اعلامية وسياسية شاملة تؤدي الى خلق وعي سياسي للخيط الرفيع الذي يفصل الصهيونية واليهودية.
4. المحافظة على علاقات جيدة مع الاتحاد الاوروبي ومنظماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتشبيك networking مع المنظمات غير الحكومية العالمية الداعمة لقضايانا العربية على المستويات كافة.
5. العمل للمحافظة على الاصوات التي تدافع عن القضايا العربية وعدم خسارتها، بل القيام بعمل تراكمي يفيد من الموجود ويضيف اليه.
6. التشبيك مع الاكاديميين والاعلاميين في العالم الداعمين للقضايا العربية ودعمهم ومدّهم بالمعلومات والامكانيات اللازمة.