يكشف الناقد المصري من خلال تحليله لرواية الكاتب السوداني هشام آدم الأولى عما تنطوي عليه من مشترك مع روايات بداية القرن الجديد العربية بالرغم من اختلاف مناخاتها وتوجهاتها.

الهروب الاحتجاجي إلى إرتكاتا

شوقي عبدالحميد يحيى

من أهم ما يميز الرواية بصفة عامة، والرواية العربية بصفة خاصة، استجابتها للتغيرات والفورات المجتمعية الحادثة بها، نتيجة الانفتاح علي العالم، وما أدي إليه من زيادة الوعي بما تعانيه هذه المجتمعات. ولما كانت هذه المجتمعات لا زالت تعيش الأمية الديمقراطية، وتفرض سطوتها وقمعها علي كل صاحب رأي أو رؤية، وفي مقدمتهم الكتاب عامة، فطاردتهم وألحقت الكثيرين منهم السجون والمعتقلات، أو أرغمتهم علي الهجرة خارج البلاد. والأمثلة علي ذلك كثيرة، خاصة كتاب الستينيات الذين استيقظ وعيهم علي ما يدور تحت السطح، من كبت وتكميم، فلجأوا إلي الأساليب الرمزية التي تحايلوا بها علي جهل الرقيب، أو الهروب من المباشرة في المواجهة، فاستعاض بهاء طاهر بـ «صفية» عن مصر رمزا في "(خالتي صفية والدير)، وصنع الله إبراهيم بـ «أشرف عبد العزيز» في (شرف)، واستحضر جمال الغيطاني عصر المماليك، ليلبسه ثوب الحاضر في الزيني بركات.  ومن قبل كان فتحي غانم قد صورها في شخصية صفية في (زينب والعرش)، و كان نجيب محفوظ قد صورها في «العوامة» في رائعته المبكرة في هذا المضمار في (ثرثرة فوق النيل).

وإذا كانت الرواية قد لعبت دورا تنويريا، بفتح باب الحوار بين الثقافة العربية والثقافة الغربية، فأشعلت قنديلا لا شك كان له دور كبير في محاولة إيقاظ تلك الشعوب النائمة. فقدم توفيق الحكيم (عصفور من الشرق) وقدم يحيي حقي (قنديل أم هاشم) وقد اللبناني سهيل إدريس (الحي اللاتيني) وقد السوداني الطيب صالح (موسم الهجرة إلي الشمال) اعتمدت إما علي عودة العربي من الغرب محملا بالجديد من الأفكار علي مجتمعه، وإما بتجربة العربي في الغرب، فكان الاحتكاك وكانت المقابلة، خالقة نوعا من الصراع بين الحالتين.

ثم يأتي الكاتب السوداني هشام آدم في أولي روايته (أرتكاتا)(1) مستفيدا من تلك الحالات الرمزية والاحتكاكية، ليخرج بشكل جديد. حيث يزرع العربي في الخارج متخفيا بزي أفرنجي «أسباني علي وجه التحديد»، ليصب جام غضبه ورفضه للممارسات العربية عامة، والأصولية خاصة، وكأنه وهروبا من المواجهة المباشرة غير محسوبة العواقب، يهرب إلي الخارج ليعلن معارضته لما يدور في بلده التي سيطر عليها حكم الأصوليين والإسلاميين، في عهد كل من النميري والترابي، ولما جري من وراء حكمهم من اعتقالات وكبت حريات، وتطبيق للحدود تطبيقا حرفيا مجحفا.

لمن لا يعرف أسبانيا مثلي، يبدو العنوان محيرا (أرتكاتا)، فما في لغتنا العربية ما يؤدي بنا إلي معني أو إيحاء، فنضطر إلي تجاوز العنوان لفاجأ أننا أمام عنوان مغاير، يبدو كما لو أنه نص مترجم، فالأجواء غير عربية، ثم نجد شخصا يدعي "كاسبر سارجينيو" يروي ذكرياته، يقوم برحلة خارجية ـ عبر أسبانيا ـ وداخلية عبر الأديان، تفرغ أبوه بعد التقاعد للعبادة. إلا أنه لم يغادر قساوته، بل وغلظته. وفي رغبة منه لاستثمار ما خرج منه عند التقاعد يقرر تربية الخيول، يتأمل الفتي كاسبر وتخرج منه أمنية تعبر عن عمق العلاقة بينه وبين الأب، ومدي التباعد والفجوة «ربما يفلح في تربية الخيول، طالما لم يفلح في تربية أبنائه». ولم تكن العلاقة مع الأب بأفضل منها مع الأم، التي تنظر للأبناء ـ كإحدي الأرستقراطيات ـ إلا علي أنهم للوجاهة الاجتماعية فقط. ثم تبتر جميع العلاقات النسائية للفتي كاسبر، حتي تلك التي هجرها منذ تسع سنوات«كارسيس» التي لم تصارحه بالحب إلا بعد هذه الفترة، وبعد أن تكون قد تزوجت، إلا أن علاقة جسدية تقوم بينهما، ليتأمل الفتي بإحساس شرقي/ رغم أنه لم يكن شرقيا:

«وفكرت ذات يوم فيمن أكون، وذهلت للنتيجة التي توصلت إليها، فلم أجد نفسي سوي خاسر متبجح، فقد خسرت ساريسيا وكارسيس ووالدي ونفسي قبل كل ذلك، ولم أزل أبحث بين الكتب المقدسة عن إجابات لأسئلتي المهرطقة، عرفت عندها أنه يجب علي أن أبحث عنها في مكان آخر»(2). وليكشف عن الرحلة الأخري «الداخلية)» حيث يجد «كاسبر» في إحدي الرحلات الجامعية يواجه المرشد السياحي المسلم «جهاد» ـ ولا شك أن الاسم هنا ذا دلالة ـ فلا يفتأ أن يتفجر الكره الدفين الذي زرعه فيه جده للمسلمين منذ أن «غزوا» ـ علي حد تعبير الجد ـ أسبانيا في مطالع عهد الاسم. غير أن الفتي «كاسبر» عندما يطالع بعض الكتب التي تتحدث عن ذلك الرجل الذي جاء (قبل ألف عام) فكنت «عكس ما توقعت، فمضيت أقرأ في سيرته حتي وصلت إلي اللحظة الأخيرة التي سبقت موته، فوجدتني أبكي كأنني فقدت صديقا مقربا لم أقرأ عن شخصية مثيرة بقدر ما قرأت عن محمد نبي العرب، فأحسست تجاهه باحترام كبير، وتمنيت أن يكون ما قرأته عنه صحيحا وغير محرف»(3). ولنكتشف نحن أن هشام آدم ما أراد نقد الأساليب الاسلامية في حد ذاتها، وإنما أراد إدانة أساليب أتباع الاسلام، في الحين الذي يتبرأ منه نبي الاسلام ذاته. وليصل في النهاية إلى «قناعة لا أعرف منبعها أن التدين لا يشترط وجود دين، يجب أن يحاسب الناس علي أعمالهم، لا علي اتباعهم لدين ما بعينه»(4).  

الرواية والتلقي
تثير رواية (أرتكاتا) العديد من التساؤلات التي تدور حول عملية التلقي التي تستتبع عملية التلقي، تلك التي تقوم علي اعتبار القارئ طرفا فعالا للعمل، وعنصرا فاعلا في وجود النص. فهل يتفاعل قارئ (أرتكاتا) معها رغم ما قد يخالف أفق توقعه حول كتابة لكاتب عربي؟ إن الفضاء والشخوص يعيشون بيئة ليست مألوفة لهم. علي الرغم أن الكاتب لم يستطع التخلص نهائيا من بيئته، حيث نستطيع تبين بعض الملامح التي تنتمي إلي البيئة الشرقية والتي قد تبدو غير مألوفة في المجتمع الغربي «حتي لو كان في الأندلس التي تعيش بقية من الأجواء الاسلامية» مثل ذلك الإحساس بالخطأ الذي عاشه السارد بعد العلاقة المحرمة مع محبوته السابقة، رغم زواجها. كذلك، تلك الوصية التي أوصاها الأب لزوجته باصطحاب الأبن «إلى حيث مسقط رأسه لتتعرف علي أقاربنا هناك، كان تصرفه هذا الذي بدافع صلة الرحم» و {لا يخلو من زهو ذكوري طالما رغب أن يشعر به»(5)، وأيضا «المرأة التي ترفض (الزنا) أو تستغيث كانت تعد امرأة غبية لأنها تفضح نفسها بنفسها»(6). وهو الأمر الذي يعتبر إحساسا شرقيا تماما، يشهد علي ذلك حالات الاغتصاب التي تصيب الكثيرات، ويفضلن الصمت خشية الفضيحة. ولا شك أن أن هذا الخلط يوقع القارئ في الحيرة. ويؤدي لعدم نقاء الفضاء المكاني، خاصة وأن هناك من المواقف التي كانت تصلح لللأداء في البيئة السودانية وتمنح العمل مصداقية أكبر، وللمكان فعلا أقوي مثل مشهد غرق الطفل في نهر «كويريو»، وما استتبعه من خلع الرجال لملابسهم، فما كان أحري به أن يتم في أحد فروع النيل الساري في العديد من دول إفريقيا، ليبث في ليخصب الأرض، وليتحول في ذات الحين لمصدر الموت أيضا.  

الشخصيات والإسلوب
علي الرغم أن كل الشخصيات الواردة بالرواية جاءت كلها مجرد أدوات مساعدة، إلا أن الكاتب استطاع زرع كل المسببات التي تصنع من "كاسبر" شخصية مهيأة لما آلت إليه من ضياع وتفتت وتشتت لم يصل لحد اليقين في لحظة ـ حتي تلك التي بكي فيها عند القراءة عن نبي العرب «وتمنيت أن يكون ما قرأته عنه صحيحا وغير محرف»، فجاء كاسبر شخصا فقد التعاطف مع الأب المنحدر من "القبائل النوركية"، والأم المنحدرة من أصل فرنسي والنفس التي تشتت وازداد تشتتها عندما «وقعت في يدي بعض المخطوطات والمنشورات الدينية في مكتبة الجامعة تتحدث عن الخطبة التي ألقاها البابا أربان الثاني في "كليرمون " والتي يحرض فيها المسيحيون علي عداء المسلمين الذين نعتهم بأنهم "أبناء عاهرات" وأكد في المقابل حصولهم علي مكافأة من الرب لكل من يقتل مسلما، عندها توقفت عن القراءة وتساءلت ن عن أي رب يتكلمون؟ هل يكون الرب يدا يبطش بها كل من استساغ القتل؟ وإلي جانب من يقف هذا الرب؟ كيف يهب جنته للبرابرة مقابل قتلنا، ويكافئنا بذات الجنة مقابل ذات الفعل؟»(7)، ذلك التشتت والتشكك إلي جانب الخوف من السباحة، والخوف من الطيران، جعل من "كاسبر" شخصية مهيأة للضياع وفقدان الثقة والحب في كا ما ومن حوله، حتي الأديان ذاتها، الأمر الذي لم يكن ليبوح به (كعربي) فاستزرع تلك الشخصية الغربية حتي يعلن من خلالها رفضه للممارسات الآنية.

علي الرغم من استخدام الإسلوب السلس الهادئ النبرة، وما يؤديه من جذب للقراءة، إلا أن تأخير البوح بما تريده الرواية إلي الصفحات الأخيرة، جعل الرواية تسير كما لو كانت مجرد ذكريات لشخص لا يعنيني (كقارئ) ـ حيث يفقدني التعاطف الذي هو أول مراحل التفاعل ـ ساعد عليها استعمال تواريخ معينة ومحددة، ليس لها أي دلالة عامة، مما يزيد من الاحساس بذلك، الأمر الذي قد يجعل القارئ أقرب إلي الهروب، خاصة أنه لا يستطيع أن يجد نفسه في العمل، طالما العمل في المحك الأول رسالة، فضلا عن كونه موضوعا جماليا، موجه لقارئ، هو الآخر نتاج أوضاع اجتماعية متغيرة. كما توجد بعض الأخطاء التي كان يمكن التجاوز عنها بحكم العمل الأول، غير أن حصول الكاتب علي الماجستير في اللغة العربية يجعل من الصعب التجاوز عنها خاصة تلك التي تتعلق باستعمال الهمزة، والركاكة الإسلوبية في القليل مثل: «حتي وأنا أعلم كيف سوف أوصلها إليك» والتي علي الرغم من قلتها، إلا أنه في هذه الحالة لا أستطيع تجاوزها. وعلي الرغم من ذلك يبقي لهشام آدم رؤيته غير المسبوقة ـ فيما أعلم ـ والتي تعطي لروايته طزاجتها، وريادتها في عملية التخييل التي يتحايل بها الكتب علي الواقع. 

shyehia@yahoo.com

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أرتكاتا ـ هشام آدم ـ شمس للنشر والتوزيع ـ الطبعة الأولي ـ القاهرة 2008 (2) ص ـ 127
(3) ص ـ 122
(4) ص ـ 114
(5) ص ـ 13
(6) ص ـ 49
(7) ص ـ 111