رسالة فلسطين

درس النكبة الأولى: مقاومة التهجير

فيحاء عبدالهادي

حين يروي الشعب الفلسطيني تاريخه؛ تتصدَّر النكبة الأولى ذكرياته. وحين يتذكَّر الفلسطينيون ويلات التهجير، وعذابات التشرّد والمنفى؛ يطلّ حلم العودة، ويلحّ، ويشتدّ إلحاحاً، مع النكبات التي تلت نكبته الأولى. ويرتبط حلم العودة لدى أبناء الشعب الفلسطيني، بدرس التهجير. تؤكِّد بعض النساء، ممن قدَّمن شهاداتهن عن النكبة، إلى المركز العربي للمعلومات الشعبية، أنَّهنَّ تعلَّمن درساً قاسياً، بعد تهجيرهنّ، وهو مقاومة أيِّ مخطَّط قادم للتهجير، والتطهير العرقي. تحدّثت النساء المهجَّرات، عن رغبتهنّ في العودة إلى بيوتهنّ، التي طردن منها، وعن حلمهن المستمر بالعودة.

وتعبِّر "رسمية حمد يحيى حمد"، التي هجِّرت من قرية فارة/ صفد، عن وعود العودة، وعن خيبة أملها في تحقيق هذه الوعود، على مرّ السنين، من جانب، وعن إصرارها على العودة حتى الموت، من جانب آخر: «ما هو احنا أثّرت ع نفسيتنا كتير؛ بس إحنا كنّا موعودين بالرجعة، إحنا كنّا موعودين بالرجعة! والناس يضحكوا عالناس، والناس تهدّي الناس، والناس تبرّد نار الناس بكلمة العودة (..)، إنه إحنا راجعين، إحنا راجعين، صار لنا عمر وإحنا نقول راجعين (...)، وبدنا نموت وإحنا نقول راجعين. كما تعبِّر "فاطمة الخواجا"، المهجَّرة من سلمة/ يافا، عن حلمها المتكرِّر، في العودة، من خلال ترداد كلمات أغنية قريبة إلى قلبها، ومن خلال تأكيدها على عدم رغبتها في أي تعويض، أو أيّ شيء بديل للعودة. ويلفتنا من خلال شهادتها؛ أنها عادت مرّتين بعد التهجير، كي ترى بيتها، رغم قسوة العودة كزيارة».

«يا دارنا يا إم العنب والتين
وأقول يا ما أحلى هاي بيتنا والنومه بالزمزم
يا داري من عدت وعادك الله
بشيدّوا بالحنة ناطرك يا دارنا على اليوم ارجع».ّ

«أنا بحلم ليل نهار! على اليوم لو يصحّ لي أرجع! أنا رحت مرتين بعد ما سقطت البلد، والله ما فيه أحلى من بلادنا. يرجّعونا على بلادنا، بدناش إشي، حابّه أرجع على بلادي من الصبح، أقول: يا ربي، لو أموت هناك في سلمة». وتعبِّر "ريا هنيّة"، المهجَّرة من قرية أبو شوشة/ الرملة، عن رغبتها في العودة إلى بلدها، حتى لو كان بيتها مهدَّماً: «أنا مرة اجت عندي صبية، واجا معاها واحد من بيت فوريك، معاه تلفزيون حاطّه في الإرسال، بيقول لي: هان واللاّ بلدك؟ قلت له: لا ولها لقيت، ولها لقيت بدشِّر داري هذه، وبقعد في عريش، في بلدي عريش في بلدي. وطني وطني لا يتعوض الوطن، لا يتعوض الوطن.» وعند سؤالها عن معنى الوطن، ما دامت تعيش في رام الله، وليس في المنفى؛ أجابت بما يعبِّر عن مفهومها للوطن. الوطن هو البلد الأصلي: «لا، لا مش وطني، بيظل اسمي لاجئ بظل اسمي لاجئ، بس لما بكون في وطني، وطني بلدي».

ويتكرر حلم العودة، في شهادة "عايشة زغاريت"، المهجَّرة من عراق المنشية/ غزة، حين تعبِّر بدورها، عن رغبتها في العودة إلى بيتها، حتى لو كان خيمة: «إيش بدي أحلم؟! بدي أرجع على فلسطين، هالحين على البلد بعد 77 سنة. 77 سنة عمري، اطلعت بنت 16، الحين كل مناي ارجع عليها، لو في خيمة، أو بخربوشة، اكياس اقعد فيها تكون اظل في بلدي في وطني ولا القصر هان، يعني فيه أحلى من البلد؟! فيه أحلى من وطنك أحلى من بلدك؟! فيه ولو يطوّبوا لي كل الدنيا ومال الدنيا وقصور الدنيا؛ ما ببدّلهم بخربوشة اكياس في عراق المنشية». وتؤكِّد "يسرا السنونو"، أنه لا يمكن تعويض البلد التي هجِّر منها شعبها (الكويكات)، حتى لو كان مكان الإقامة الجديد (أم سنان)، لا يبعد سوى خمس دقائق، عن البلد الأصلي.

ويرتبط حلم العودة لدى أبناء الشعب الفلسطيني، بدرس التهجير. تؤكِّد بعض الراويات، ممن قدَّمن شهاداتهن عن أيام النكبة، انَّهنَّ تعلَّمن درساً قاسياً، بعد تهجيرهنّ، وهو مقاومة أيِّ مخطَّط قادم للتهجير، والتطهير العرقي. تعبِّر "يسرا سنونو"، المهجَّرة من "الكويكات"، إلى "أم سنان"، عن الدرس الذي تعلَمته، بقولها: «إسّا تقوم القيامة ولا واحد بطلع من بيته، وين بدنا نروح؟! أول مره بالتماني وأربعين طلعنا على أبوسنان عند الدروز، وعلى جت، وعلى كسرا، وإسّا وين بدها تروح الناس؟!»، وتعود لتؤكِّد ثاني «بس شو ما عملت الدولة ما راح نطلع من أبوسنان، أنا جرَّبت التهجير مرة واحدة، وغير مستعدة أجربه كمان مرّة، يعني اسّا تقوم القيامة ولا حدا بطلع من بيته». وتعبِّر "عايشة زغاريت"، عن الرأي عينه، بقولها: «قلنا إحنا بنرحلش وين نروح؟! خلص خلينا مرميين هان، بكفّينا هجرة وحدة، بلاش نصير مهاجرين أخرى مرة». وحين سؤالها، عن الفارق بين اليوم والأمس، تعزو الراوية سبب اختلاف الموقف، إلى وعي أعمق بمؤامرة التطهير العرقي المبيَّتة، بالإضافة إلى مرارة التهجير، التي لا ترغب بأي حال من الأحوال في تكرارها. «يعني طُخني في داري ولا أرحل. الرحيل غالي غالي غالي، الرحيل غالي». ومن خلال تعبير الراوية، يظهر تغيير في الأفكار والمفاهيم، إلى جانب الإصرار على عدم تكرار مأساة التهجير.

يظهر هذا التغيير جلياً، حين الحديث عن الموقف من الاعتداء على النساء. ذلك السلاح، الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي، أيام النكبة الأولى، وخاصة حين ارتكاب مجزرة "دير ياسين"، وحين الحديث العلني عن المجزرة، والمبالغة في أحداثها، بما يخصّ هتك عرض النساء، في محاولة لطرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، من مدنهم، وقراهم. وتخرج كلمات قصيرة من "عايشة زغاريت"، تعبِّر بوضوح لا لبس فيه، عن تغيّر في السلوك، ناتج عن تغيّر في المفاهيم: «أنا وبنتي بنطبّ عليه وبنخنقه. لما بده يعني يمسك بنتي لا سمح الله وبده يمسكها اليهودي، لا سمح الله. أيوه بفدي بروحي، بروح وبخنقه بخنقه. أنا وبنتي بنطب عليه وبنخنقه. كانوا الناس لسّه ما يعرفوش. والناس فتَّحت يعني، صارت يعني الحين ببقى الولد يراجم على اليهود واليهودي واقف وبراجم عليه ومش خايف منه، يعني مش معاه برودة؛ برضه مش خايف برضه منيش خايف». 

faihaab@gmail.com