تكشف القاصة الفلسطينية هنا عن سيطرة التفاصيل المعطوبة على الواقع وتكرارها الممل بصورة يصبح معها الوجود نفسه معطوبا ولامعنى له في عالم فقد فيه الإنسان ماهيته وإنسانيته معا.

الرجل الذي يتكرر

حزامة حبايب

ولقصّتي قصّة، ولم أقصصها على أحد من قبل.. ربّما لأنني لم أُدرك أنّها قصّة إلاّ بعد أن أصبحتْ قصّة، أعني قصة حقيقية، هذا إذا كانت هي قصة! أنا يا جماعة الخير رجل في التاسعة والأربعين من عمري. احتَفَل أولادي بعيد ميلادي منذ شهر وتسعة عشر يوماً، وبعد عشرة شهور وأحد عشر يوماً سأطرق عقداً جديداً. كانت الكيكة مربعة الشكل، زُرعتْ فيها تسع شمعات. زوجتي قالت لي إنهم لم يتمكّنوا من الحصول على تسع وأربعين شمعة. ابنتي الكبرى قالت لي إنّ منظر الكيكة سيكون "بايخاً" بتسع وأربعين شمعة. ابنتي الصغرى أسرّت لي بأنهم خشوا أن أشعر بحرج إن أنا لم أتمكن من إخماد تسع وأربعين شمعة بنفس واحد، فاختصروها إلى تسع شمعات، ناهيك عن جاطات التبولة والجيلي بشرائح التفاح والكريم كراميل بالسكر المحروق والسحلب الموشّى بالفستق الحلبي المطحون وليالي الشام والمدلوقة وأدركت مؤخراً سبب تسميتها بالمدلوقة إذ إنها تجعل كل ما في المعدة يندلق باتجاه الأمعاء الغليظة ثم إلى أقرب حمّام وفطائر الجبن والزعتر والسبانخ واللحم بالدبس واللبن والبندورة وسندويشات الدجاج بالمخلل والكرز الأحمر والكرز الأخضر والتّفاح والمشمش والموز والخوخ الأحمر والخوخ الأصفر والدرّاق أو كما تُسمِّيه ابنتي الصغرى خوخ (أبو لحية) وكما جرت العادة في حفلات أعياد الميلاد، الفواكه للتصوير وبقايا زينة لا يقربها أحد.

في كل حفلة عيد ميلاد شهدتُها، كانت جحافل المدعوين تزحف أوّل ما تزحف على السندويشات والفطائر، ثم تناوش بعد ذلك جاطات التبولة والكريم كاراميل والجيلي بشرائح التفاح وغالباً ما تمعس شرائح التفاح على السجاد والسحلب بالفستق وأخيراً، وبعد مماطلة ومقاومة وتمنُّع وتعزُّز وحرب استنزاف وحرب أعصاب وحرب مفاوضات تُدَكّ قلعة الكيكة وأي دك! تتناثر الأشلاء على الطاولة وتمعط أمعاء الكريمة الصحون والكراسي وأساور الأكمام والكنب، وربَّة البيت تتصنّع الرِّضا وتقول: "ولو فداكم!" وبوزها يمتد شبرين.

إذن أنا رجل في الخمسين. ولكن ليست هذه هي قصتي. بصراحة أنا لا أعرف كيف أبدأ.. آه.. ستقولون في سرّكم إنّ هذا الرجل يتفلسف ويريد إضاعة وقته ووقتنا معه. معكم كل الحق لكن.. انتظروا قليلاً.. لا تشيحوا عن كلماتي قبل أن تسمعوها إلى النهاية. سأُحاول أن أمسك بأيّة حادثة.. بأيّة فكرة.. لعلَّها تشبكني بخيوط القصة كلها، ولكن سأسألكم أوّلاً سؤالاً عابراً.. لا تتصوروا أهمية هذا السؤال بالنسبة لي، فأنا أعتقد أنّ الإجابة عليه فيها قصتي وقصتكم.

ألا يحدث وأن تشعروا أحياناً بأن حدثاً ما.. لوناً ما.. إنساناً ما قد تكرر؟! كان قد عبر، وها هو ذا يعبر ثانية.. نفس الشخص، بل نفس البلوزة الخمرية بياقتها المقلَّمة بالأسود والجوارب المنسولة من تحت البنطال وسوار الكم ذي الزر الناقص. الرّوائح تُنسخ ثانية. الأصوات ذاتها تنتقل من النسخة الأُولى إلى النسخة الثانية حاملة معها كل شوائبها كما هي، وكأنّ العملية مجرّد تشغيل شريط ما للمرة الثانية دون تعديل. "وماذا في هذا؟!" قد تسألون. معكم حق، الأمر طبيعي. وأيّ منّا مُعرَّض لاستقبال حدث ما بنفس الحجم والوزن والطعم والحدَّة مرتين.

الأمر طبيعي.. طبيعي جداً!

كانت الحوادث تبدأ متباعدة.. إلاّ أنه، شيئاً فشيئاً أصبحت ما تكاد تخلق حتى تموت لتخلق ثانية بنفس تفاصيلها الأُولى. ومع هذا، الأمور في البداية بالنسبة لي كانت عادية. أين الخطورة في أن تتكرّر الأشياء مرة أو اثنتين بل وثلاثاً؟! ومع أنني كنت أتنبّأ بما تحمل وراءها إلاّ أنني حرصتُ على أن أتعامل معها كما لو كانت جديدة عليّ.. "سوبر"! أسكت حيث يجب أن أسكت.. أتكلَّم حيث يجب أن أتكلّم.. أُدهَش حيث يجب أن أُدهَش.. أتصنّع التّأمُّل حيث يجب أن أتصنّعه.. أعطس حيث يجب أن أعطس.. أسعل حيث يجب أن أسعل.. أعقد يدي حيث يجب أن أعقدهما.. أحكّ أذني حيث يجب أن أحكّها.. أُسرع حيث يجب أن أُسرع.. أُنظِّف أنفي برأس إصبعي حيث يجب أن أُنظفه.

أذكر منذ شهر تقريباً، أنّ ابنتي الكُبرَى.. أسمهان.. كان وجهها برتقالياً بأقراص خضراء.

               ما هذا؟
               خلطة.. لإزالة حَبّ الشباب.
               خلطة؟!.. والأقراص؟
               شرائح خيار.
               أجل! أذكر.. أذكر.
               تذكُر ماذا؟
               الخلطة.
               لكنني لم أستعملها من قبل. هذه هي المرة الأُولى التي أُجربها على وجهي.. فكيف تعرفها؟
               كانت على وجهك.. ذاك اليوم!
               أي يوم؟! بابا.. أنت تتوهّم.

أنا أتوهّم؟! لكنني أذكر جيداً أنني رأيتُ وجهها برتقالياً من قبل وحتى الأقراص الخضراء، أعني شرائح الخيار.. أذكر حتى إنني قلت لها عابثاً؟

               إذن نحنُ موعودون مع سلطة أسمهان بالمايونيز!
               بابا! كُف عن المزاح.

قَبَعْت أمام التلفاز ببؤبؤين يقاومان ضغط الجفنين المثقلين بالعجينة البرتقالية. لماذا تتكرر الأمور بحذافيرها.. نفس البيجامة بالجاكيت المهدّل.. الياقة الذائبة.. الأزرار غير المتناسقة.. زر كحلي.. زر أخضر.. زر فضي مقشّر.. زر بخرزة صفراء.. وآخر استهلك لونه.. الثّقب الواسع عند الركبة.. الحبر المتفشي داخل الجيب اعتادت أسمهان أن تضع أقلامها في جيوبها حتى رائحة الغرفة، هي ذاتها.. اختلطت رائحة الغسيل ببخار مرق الباذنجان المحشي، أجل.. في المرة السابقة لنفس الحدث ألا تتفقون معي أن كلمة حدث خطيرة ومضحكة هنا كانت أم العيال تغسل، وكان غداؤنا باذنجاناً محشياً، وأسمهان كانت قابعة أمام التلفاز بوجه برتقالي وأقراص خضراء، وأنا جائع.

               متى سترحميننا يا امرأة.. الهواء يلعب في بطني.
               دقائق...
               دقيقة واحدة وأموت.
               لم أسمع عن أحد مات من الجوع.
               إذن ستسمعين.. قريباً!

لكن متى كان ذلك؟! متى وقعتْ المرّة السابقة لنفس الحدث؟! أذكر جيداً أنّ ما أذكره لكم الآن كان قد وقع منذ شهر.. فهل كان نفس الحدث قد وقع قبل شهر من ذلك الشهر، أم قبل أسبوع منه أم قبل يوم؟! لكن أسمهان قالت إنّها المرة الأُولى التي تُجرِّب فيها هذه الخلطة على وجهها. لعلَّها نسيت أنّها جرّبتها من قبل! لازلت محتاراً. ما بال الأشياء تتكرّر بذرّات تفاصيلها الكئيبة!

               إذن نحنُ موعودون مع سلطة أسمهان بالمايونيز!
               بابا.. كف عن المزاح.

               صرخت على أم العيال:

               متى سترحميننا يا امرأة؟! الهواء يلعب في بطني.
               دقائق...
               دقيقة واحدة وأموت.
               لم أسمع عن أحد مات من الجوع.
               إذن ستسمعين.. قريباً!

               في الأمر شيء!

*  *  *

               ولكننا كنا عندهم منذ أسبوع.. ألم تَمَلِّي؟

               نظرت زوجتي إليَّ باستغراب قائلة:

               مالك يا رجل؟ لم ندس عتبة بيتهم منذ أربعة شهور. والجماعة عاتبون علينا..

ما هذا؟! كنتُ واثقاً ثقتي بوجود خمس أصابع في قدمي اليمنى، وخمس أُخرى في قدمي اليسرى مع انكشاط نصف أظفر الإصبع الكبير في اليسرى، وإيماني الْمُطلَق بأن أنفي لا يزال مثبتاً وسط وجهي وأن حشوة ضرسي كسر الشيطان يد الطبيب الذي حفره لا تفتأ تتحرّش بالعصَب أننا كنّا قد زرنا دار أبي محمود منذ فترة ليست بالبعيدة، قد يكون ذلك منذ أسبوع.. أو قد يكون منذ عشرة أيام.. ولربما أكثر قليلاً.. إلاّ أنّه في جميع الأحوال لا يمكن أن تكون منذ أربعة شهور.

               أين هذه الغيبة؟!
               واللّه في البال يا أبا محمود.
               ولو يا رجل! أربعة شهور لا حسّ ولا خَبَر! كأنكم لستم في البلد.
               أربعة شهور؟!
               أجل.. أربعة شهور.. أتنكر؟!
               لا أبداً.. سامحنا يا أبا محمود.. الظروف. أنت عارف!
               لا تنسوا موعدكم معنا الليلة.
               طبعاً.. طبعاً! إنّما اتصلتُ بك اليوم لأُؤكِّد على ذلك.

وأبو محمود يقول أربعة شهور. الرجل خرّف.. وزوجتي خرّفت.. أنا متأكّد أنّها خرّفت. بنت المجنونة! إنّها تنسى حتى أين تحتفظ بسراويلها. ماذا عن أم محمود؟! فكرتُ أن أتصل بها لأتأكّد بطريقة ما متى كانت آخر مرّة زرناهم فيها بعد أن تيقّنتُ تقريباً من خَرَف زوجها. لكنني تردّدت. خشيتُ أن تظن المرأة بي شيئاً. لعلَّها كانت سترتدي نفس الفستان الأخضر الفستقي ذا التطاريز النافرة وياقة الدانتيل البيضاء، والذي رأيناها فيه عندما زرناهم منذ أسبوع أو عشرة أيام.. وتكرّر زوجتي نفس العبارة عقب مغادرتنا في السيّارة:

               ألا تنظر هذه البَغَلَة إلى نفسها في المرآة!

وأم محمود كريمة. يومها استنزفتْ ثلاجتها، فلم تدع حلواً ولا مالحاً إلاّ ووضعته على الطاولة.. استظرفتُ "البقلاوة" التي تصنعها في البيت بنفسها مع "العوامة"، ولو أنّ القَطْر كان خفيفاً مايصاً ودون ماء ورد!

لكن.. هل زرناهم منذ أسبوع أو عشرة أيام؟! واللّه لو نطقت حشوة ضرسي المنخورة لشكت أنفاس أم محمود الدَّسمة إليكم.

في الأمر شيء!

ما عادت حياتي كالسابق. أصبح من الطبيعي جداً والعَبَثي جداً أن تولد الأشياء مرتين، وأحياناً ثلاثاً وأربعاً، بل إنّ المسافة بين وقوع الحَدَث للمرة الأُولى والثانية قصرت.. ما أن أرى شيئاً اليوم حتى يُبعَث بعد يومين.. هو ذاته، ألأنّ شوالات السكَّر تتناسل في مطبخنا؟! ما أن يفرغ واحد حتى يحل محلّه آخر منسوخاً عنه.. حتى ذلك الثقب المكّار يتوارث من شوال لشوال، ليتوارث معه تعليق زوجتي:

               الشوال مثقوب.. يجب أن تنتبه في المرة القادمة..

خطرت لي فكرة رائعة. قررتُ أن أعمل سجلاً خاصاً أُدوّن فيه ما يقع لي.. سجلاً شبيهاً بدفاتر الوزارة الزرقاء التي كانت تربض فوق مكتبي بسأم. كانت تنتأ أسماء بشر منسوخين، حفظتهم وما عرفتهم! وكيف لا أحفظهم و"محمد أحمد محمود" لوحده يتمطّى على ست أو سبع صفحات! محمد أحمد محمود عامر.. محمد أحمد محمود عبود.. محمد أحمد محمود عدلي.. محمد أحمد محمود عمران.. محمد أحمد محمود غسان.. فإذا ما تغيَّر يصبح "أحمد محمود أحمد" ليسحب هو الآخر خمس أو ست صفحات أُخرى.. ثم "محمود أحمد محمد" وأربع صفحات.. و"أحمد محمد محمد محمود" سبع صفحات و"محمد أحمد أحمد" وثلاث صفحات. ومن دفتر إلى دفتر.. ومن أزرق إلى أزرق والبرج الأزرق المستطيل يعلو إلى أن يصدر قرار إداري في النهاية.. "للحفظ"!

لكن دفتري كان أصغر قليلاً من دفاتر الوزارة.. أما لونه فكان أزرق.. تماماً كدفاتر الوزارة! قُسِّمتْ كل ورقة فيه إلى خانتين.. أما الأُولى فكانت لكتابة تاريخ وقوع الحدث، وقُسِّمتْ هذه الخانة إلى أربع خانات صغيرة، للساعة واليوم والشهر والسنة. وأما الخانة الثانية فكانت لوصف الحدث نفسه. وكنت أميناً في نقل أدق التفاصيل.. فحرصت على أن أذكر كل شيء.. كل شيء.. لم تغب عنّي حتّى رائحة الضراط!

وابتدأتُ. وابتدأتُ أول ما ابتدأت بالسوبرماركت. ولا أدري ما إذا كنتُ قد قصصتُ عليكم قصته هو أيضاً. كنتُ قد اشتريته بعد تقاعدي بشهرين بعد أن أجمعت كراسي البيت وأسرّته على ثقل قفاي. أشارت عليَّ زوجتي بذلك لا لأنّنا نحتاج نقوداً.. لا واللّه! مستورة والحمد لله! لكن يبدو أن مجرد وجودي في البيت من الصباح حتى المغيب أمر جديد عليها، وفي نفس الوقت مُخجل أمام جاراتها! "أأقول لهنّ أنّ زوجي يخصي عُجُولاً؟!" لكن السوبرماركت كان مقيتاً. إذ ما قيمة مغادرة علبة جبن واحدة أو علبة معجون طماطم من على رف طويل عريض خلال ثماني ساعات؟! وهكذا ترسّبت هذه الساعات الثماني على السجل الأزرق.

الاثنين 14 أغسطس.. الساعة التاسعة والثلث صباحاً.. أم عدنان ترتدي فستان شانيل نصف كم.. يوجد فتق طوله أربعة سنتيمترات تقريباً تحت الإبط الأيمن.. ذيل الفستان الأمامي أطول من الخلفي، حيث إنّ مؤخرتها المنفوخة تكشف عن جزء من فخذيها المتعرّقين.. أم عدنان تتناول علبة جبن "كرافت" من الحجم الوسط وعلبة سَلَمُون..

               حار؟
               اقرئي يا أُم عدنان.. "هوت" سَلَمُون.. "هُوت" يعني حار!

الاثنين 14 أغسطس، الساعة الرابعة والربع مساء.. مسعدة ابنة أخت أم ماهر تدقّ الأرض الصقيلة بقبقابها الخشبي.. ترتدي فستاناً قديماً بطّيخي اللون برسوم هندسية صفراء وكستنائية.. الخصر ساحل وهناك عروتان لحزام من نفس القماش يبدو أنه ضائع.

               طول بعرض من أجل كبريتة.. هذا سوبرماركت لا بقّالة!
               وما الفرق؟
               بسيطة.. أقول لك.. البقالة خلقها ربنا لنشتري منها علبة كبريت أو علبة تونة صدئة أو أقلام جافة.. جافة! أما السوبرماركت فهو لليف والشامبو والمعلّبات وعصير بوبي وداني وراني والخبز الفرنسي والتُّوسْت.
               سأقول هذا لخالتي.
               ولا تريني وجهك من أجل كبريتة!

الثلاثاء 15 أغسطس.. الساعة الواحدة ظهراً.. أيمن يشحط قديمه عند مدخل السوبرماركت.. يرتدي بنطالاً جيشي اللون.. الجيوب الخلفية نصف ممزقة، فيبدو مكانها أكثر اخضراراً من باقي الأجزاء.. آه سَقَى اللّه أيام الجيش.. البنطال المكوي بالمسطرة وأزرار الجاكيت النحاسية المسحوبة على مدى كيلومترات. هناك.. في الجيش.. كنت أعمل. البلوزة ممغوطة من جميع أجزائها أعني بلوزة أيمن لونها أقرب إلى الرصاصي منه إلى الرمادي. هناك آثار مخاط يابس عند أساور الكمين.. أيمن يمسك بسيخ حديد يطرق به رفوف المعلبات محدثاً صوتاً مزعجاً.

               كسر اللّه يدك!

               يطرق الطاولة بالسيخ غير مبال.

               قنابل بسرعة!
               ابتعد! انظر كيف جرّحت حافة الطاولة! هاك!

               ويركض.

               باقي قرش!
               سجله.
               على مَن؟!
               على صفية الجنكيّة.. ها.. ها.. ها!
               واللّه لأربيك يا عرص!

بدأتْ عملية السجلات تستهويني.. واستهوتني أكثر تلك التفاصيل والأحجام الدقيقة لأحداث اليوم الواحد بإفرازاته شبه المتنبأة. كنتُ أجد مُتعة عظيمة في كتابة كل شيء.. كل شيء! وعلى رأي المثل "الفاضي بيعمل قاضي؟" اشتريت خزانة خاصة لحفظ السجلات التي كانت تتكاثر بسرعة عجيبة. كنتُ أقوم بعد الانتهاء من كتابة خمسة سجلات على الأقل بتفريغها في سجل آخر لإحصاء عدد مرات حدوث الحدث. كنتُ أُسمِّي هذا السجل سجل التفريغ وأُعلّمه بطابع أحمر، حتى إذا ما كثرت سجلات التفريغ، فرغتها من جديد في سجل آخر، أُصنّفه تحت اسم سجل تفريغ التفريغ. وأُعلّمه بطابع أصفر، ثم أُفرغ تلك الأخيرة في سجل تفريغ تفريغ التفريغ وأُعلّمه بطابع أخضر، اشتريت خزانتين: خزانة لسجلات الوصف وخزانة لسجلات التفريغ، ومع تحدّب خزانة سجلات الوصف كانت خزانة سجلات التفريغ تتحدّب هي الأُخرى.

الأمور تطوّرت! كانت الأحداث تتكرر بصورة متضاعفة كما حسبت لها. فبعد أن كنت أرى الفستان وصاحبته مرة كل أسبوعين، أصبحت أرى ذات الفستان وذات الزخارف والنقوش الخبيثة بل نفس رائحة الفم الكريهة والفخذين اللاهثين مرة كل أسبوع، ثم مرة كل ثلاثة أيام أو أربعة أيام، ثم مرة كل يومين ثم مرة كل ثلاث أو أربع ساعات.. مسعدة لا تكف تجر طولها من أجل كبريتة من المحتمل أنّ خالتها لم تُميِّز بين السوبرماركت والبقالة وذاك العرص الصغير لا يزال يشحط جسمه الكاكي على صفحات السجلات الزرقاء، لو كان يأتي ببنطال آخر ومخاط آخر لنسيتُ الأمر! لكن كل شيء ككل شيء.. حتى إصراره على تسجيل القرش المتبقي على صفية جنكية الحارة سجلته أنا بنفسي عشرين مرة. لعلَّ أيمن يأتي مرة واحدة فقط فتتولّى مرايا عقلي نسخه..أخلط بين الأصل والصورة، وبصورة ما تتحول الصور إلى أُصول. لكن أيكون يتكرّر حقاً، وفي كل مرة يحمل نفس تفاصيله مهما ضؤلت؟! لِمَ لا؟! إنّ أي صورة مهما بلغت من صدق نقلها للأصل لا يمكن أن تنقل رائحة الأصل نفسه. إذن أيمن كان يتكرر.. أم عدنان تتكرر.. مسعدة تتكرر. الوجه البرتقالي يتكرّر.. والشرائح الخضراء تتكرر.. بقلاوة أم محمود تتكرر.. فخذا أم عدنان المتعرّقان يتكرّران.. وجودي يتكرر..

               أنا.. أنا كلِّي أتكرر!

أأقول إنّ قصتي تنتهي هنا؟! أأقول إنها تبدأ هنا؟! لعلُّكم لم تفهموها. لا ألومكم. أنا نفسي لا أفهمها لكن مَن يدري! لعلَّني واجد من بينكم مَن يتكرّر هو الآخر أيضاً بوجوده وموجوداته، فيعاني ما أُعاني أنا من غزو التفاصيل المعطوبة بروائحها النتنة. أتدركون معنى أنّ يعطب الوجود؟! معنى أن تدثره كثبان العَفَن الأخضر؟! أتدركون معنى أن تُستثنى من الأشياء الجديدة والقيَم الجديدة والبشر الجديدين؟! يركبك العتق وتركبه! لعلّه السوبرماركت! قد يكون هو السّبب! لكنّ سبب ماذا؟! ماذا هنالك حتى يكون له سبب؟! كانت الأشياء تضيق حولي وتتحدّد. ما أشدّ ما رغبتُ في أن أشرح الأمر لأحد. لكن لِمَن؟ هل كنتُ أقدر أن أحلف لأبي محمود بأنّ سجلاتي تدوِّن أننا زرناهم سبع عشرة مرة، وأنّنا في كل مرة أكلنا "عَوّامَة" وكل مرة عَابَت زوجتي زوجته؟! أأشرح لأُم عدنان أن "الهوت سَلَمُون"، تتمدَّد على صفحة كاملة في سجلات التفريغ وتفريغ التفريغ؟!

آه.. نسيتُ أن أذكر لكم شيئاً مهماً، قد يفيدكم؛ منذ شهر وتسعة عشر يوماً احتفل أولادي بعيد ميلادي وبعد عشرة شهور وأحد عشر يوماً سأطرق عقداً جديداً. كانت الكيكة مربعة الشكل، زُرعتْ فيها تسع شمعات. زوجتي قالت لي إنهّم لم يتمكنوا من الحصول على تسع وأربعين شمعة. ابنتي الكبرى قالت لي إنّ منظر الكيكة سيكون "بايخاً" بتسع وأربعين شمعة. ابنتي الصغرى أسرّت لي بأنهم خشوا أن أشعر بحرج إن أنا لم أتمكن من إخماد تسع وأربعين شمعة بنفس واحد، فاختصروها إلى تسع شمعات، ناهيك عن جاطات التبولة والجيلي بشرائح التفاح والكريم كاراميل بالسكر المحروق والسحلب الموشّى بالفستق الحلبي وليالي الشام...