تطرح دراسة الباحث الفلسطيني واحدة من أزمات الثقافة العربية الأساسية تتعلق بلغتها وهويتها ووضعها في عصر العولمة وشبكة المعلومات الدولية التي تسيطر عليها وتتحكم فيها بالتالي لغات ورؤى مختلفة.

في أزمة الفكر العربي: الثقافة والهوية

نعرف ألف لغة.... ولا لغة منها تعرفنا

رامي أبوشهاب

المطلع على نظرية ما بعد الاستعمار يواجه نماذج كثيرة من تمثيلات الغرب عن الشرق، فهذه التمثيلات التي اضطلع بها الغرب في تعريف الشرق بمفهومه الخاص جاءت نتيجة حتمية لأدبيات النص التي وقعت مسؤولية إنشائها على عاتق جيش هائل من الفلاسفة والمفكرين والسياسيين والعلماء، في بناء صورة الشرق ثقافيا، كما عبر عن ذلك إدوارد سعيد في معرض دراسته للاستشراق، ولعل التمثيلات العرقية والدراسات الانثربولوجية والتاريخية، قد ساهمت في تفعيل صورة الشرق. فثمة صورة نمطية متموضعة تنظر إلى الشرق بأنه أنثى، وأن الغرب هو الحامي والمخلص والمنقذ باعتباره الذكر القوي والعقلاني، هي منتج غربي مدعوم بعدد هائل من النظريات العرقية والآداب والنظريات الفلسفية. والمتأمل في حال الأمة العربية على كامل المستويات، سيلحظ أن الأمة العربية كلما مضى الزمن أقنعت نفسها بأنها تعمل على بناء نفسها حضاريا وثقافيا، ولكن نفاجأ حين نجد أن حالها تسوء. كيف؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ينبع من معرفة الذات، والتي هي في أحد مظاهرها وأشكالها اللغة والثقافة، فهل نحن معنيون بلغتنا وثقافتنا كي تكون سائدة لا متنحية، هل نحارب من أجل لغتنا رقميا. فالعالم الآن يخوض صراعا على نطاق البحث ومواقع الشبكة حول أحقية اللغة، بينما نحن نرقد في عشق المنتصر. 

إن الأمم تعمل على زحزحة مراكز الثقل، كي تبقي لها مساحات شاغرة حفاظا على مكتسبات اقتصادية وحضارية وربما شوفينية، كما هو الآن في الساحة الرقمية، فمنذ فترة والسجال حول السماح لبعض اللغات بأن تكون رقمية من خلال الاعتراف بها كلغة مستخدمة على نطاق البحث، والذي يعد حكرا على اللغة الإنجليزية، وتحديدا بين يدي العملاق الأميركي، الذي احتكر هذا التميز لصالحه على مدار سنوات عديدة، وأخيرا وجد في النهاية أنه في مواجهة حقيقية، ولكن ضمن النطاق الرقمي، وذلك على أثر تململ العملاق الصيني المتوثب للولوج، ولكن ضمن طقس صيني يعتمد الأناة، و بمصاحبة الدب الروسي، وهو غير راض عما آلت إليه الأحوال، بعد تفكك منظومة الاتحاد السوفيتي، سعيا منه لاستعادة صورته ونفوذه القوي على سطح الكرة الأرضية، التي بدأت تضيق بهيمنة النظام الأنجلوسكسوني، بكل ملحقاته الثقافية والحضارية والاقتصادية، وأخيرا بعد مفاوضات مستميتة تقبلت وكالة الإيكا الأميركية بعض اللغات التي تغتذي بمعطى بشري وثقافي كبير، على أن تستخدم لغتها على الشبكة الرقمية، بدلا من استخدام اللغة الإنجليزية التي احتكرت هذا التميز، وهو استعمار بامتياز ولكن ضمن مظلة الاستعمار الرقمي، وبناء على هذه المقدمة ما الذي نهدف إليه وما الذي نسعى له؟

أبجديات هذا العالم تبدو منتزعة من سياقاتها حين تتقولب في نظرة أحادية هي نظرة الأقوى، وما الأمم المستضعفة إلا أن تسير في مداراته، فكلما انتهت البشرية من شر مستطير انبثق شر آخر، وهكذا تبدو الحضارات في صراعها منتجة لقوى عسكرية حينا، وثقافية حينا آخر، لتكون في مركز القوة، ويبدو أن الصعود ضمن دائرة القوة، بات الآن في منتصف الطريق، لتتحرك منظومة التاريخ فتعمل على التحرك نحو زاوية ساقطة، وهنا ندين لآراء ابن خلدون في مقولته عن أن الحضارات تنشأ وتزدهر ومن ثم تتلاشى، والتلاشي، هنا ليس مقصودا به الاندثار، بمقدار ما يعني أن تسقط عن صهوة السيطرة، وهكذا تتوالى وتدور الدوائر، والحذق من يعرف كيف يحث الخطى لاتخاذ موقعه في سلك المداولة الحضارية حفاظا على نقطة مرتفعة في المستوى البياني للتاريخ. الثقافة العربية في الزمن المعاصر في حالة ترنح شديد، لم يبق لها الكثير من الوقت لتسقط، واسمحوا لي أن أبدو متشائما، ولكن المؤشرات تشير إلى هذه الحقيقة، والطريف في الأمر، أننا لا نلتقط الإشارات الصادرة، لأن أجهزة الالتقاط لدينا لا تلتقط إلا على موجة واحدة هي موجة الآخرين... فتعلمنا ما يرد عبرها كيف نصبح متماهين بأطرهم الثقافية والسياسية.

إن المنظومة الفكرية العربية التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر للنهضة والتحديث ابتداء من رفاعة الطهطاوي والكواكبي ومحمد عبده، ومرورا بطه حسين والرافعي وسلامة موسى وحسن البنا وسيد قطب ولويس عوض، وصولا إلى أركون والجابري على اختلاف أنماط توجهاتهم جمعتهم نتيجة واحدة، أنها لم تحقق شيئا، ولعل النتيجة هنا هي شيء متحقق وواضح، في زمن ضاقت الأوطان والسبل بالمواطن العربي الذي لم يعد لديه ما يتباهى به، أمام منجزات الحضارات الأخرى، التي تعرف أين تسير وفي أي مكان هي، باستثناء الثقافة العربية التي بدأت تتهجن وتتلقح كأنثى مشاع، وأعتقد أن المنتج سيكون مسخا مشوها بلا ملامح وأعضاء غير متناسقة، إن مفهوم التأثر والتأثير الثقافي مصاب لدينا بالخلل، حيث إن مفهومنا له ينتج من أن ننحدر في تعريف أنفسنا ثقافيا بأن لغتنا وثقافتنا هي عائق نحو أن نكون منجزا حضاريا، فسقطت اللغة وما تحمله من قيم تاريخية وموضوعية وبناء فكري، لنصبح منغمسين في تشكيل ملامحنا من أشلاء ثقافات أخرى نلصقها حيناً هنا وحينا هناك، فأصبحنا كملاءة فيها ألف بقعة ولون، نعرف ألف لغة، ولكن لا لغة منها تعرفنا! إذا ما كان علينا النظر في منجزات الحضارات على مر التاريخ سنعرف أن النهضة لا تنطلق من استعارة لغة المنتصر أو ثقافته إنما هي تتجه نحو الداخل، إن الانغلاق الذي تمارسه بعض الثقافات على أنفسها لهو خاطئ حيث سيؤدي إلى تأخر منجزها، ولكنه لن يؤدي إلى تلاشيها وذوبانها، فالخطر الحقيقي هو ذاك تضطلع به بعض الثقافات في الاستعارة المطلقة للثقافة الأخرى بكل صعدها من أطر تربوية واجتماعية ولغوية وأدبية ونقدية، وحتى ترفيهية، ولتصيب أنماط الحياة.

علينا أن ننظر صوب ما خلفناه من مشاريع في محاولات للنهوض وتشكيل رؤية فكل سلسة مشاريعنا على صعيد التنوير لم تصل إلى أكثر من عتبات واضعيها، فلا وجدنا منظومة سياسية قادرة على الخروج بنا إلى الشمس، ولا نحن نحمل منظومة ثقافية سائدة تعلي من شأن مفاهيم كالعمل والإنجاز وبالبناء الصناعي الذي هو أهم أعمدة قوة الأمم. وإذا ما عرجنا على المشاريع الأدبية والثقافية والنقدية فإن تنويرية وعقلانية طه حسين وماركسية سلامة موسى وحداثة أدونيس وإنسانية محمود درويش لم تكن مؤثرة في بناء موقف فكري صلد حيث انتهى بنا المآل إلى عناوين إخبارية تتصدرها فلسطين والعراق ولبنان ودارفور والصومال، بل على العكس من ذلك فقد اتجهت تلك الرؤى إلى نحو مزيد من الارتماء في أحضان الآخر وتبني مشاريعه الفكرية والثقافية وخلق انعزال النص عن المتلقي نتيجة للتعالي الثقافي الذي اعتقد البعض أنه حق مشروع للمبدع بينما سقط البعض في تجانبية رمادية بين أن أكون مع أو ضد في ظل الانبهار في أنسنة الصراع لصالح تحقيق رضا من لا يرضى. إننا بحاجة حقيقة لعدة استراتيجيات لمعرفة أين الخلل؟ ولماذا هذا العقم الذي تعاني منه هذه الأمة؟ وما سبب هذا العقم في أن نكون منتجين ومنجزين؟ هل أصبنا بالخصاء، فلا نكون قادرين على أن نبتكر فكرة؟!، نعم إن المشكلة في الأفكار، فنحن ما زلنا في حيرة من أين سنأتي بالفكرة هل سنأتي بها من الله؟ أم نستوردها من الجزء الغربي من الأرض، أم من الجزء الشرقي؟ ومن يملك هذه الفكرة هل سيكون النبي الجديد لعصر الظلمات، فينير الضوء لتنقشع أزمة الفكر العربي في خلق فكرة واحدة من صنع يديه تنطلق من معرفة ذاته. إن الثقافة العربية حائرة منذ قرون في معرفة النهج الصحيح وتبني رؤية واحدة تضطلع بمهمة النهوض؟

أعتقد أن النتيجة لما سبق، أننا لا نعرف من نحن؟ فنحن في تجاذب نحو تحديد ذواتنا بين العروبة والإسلام والقوميات الأخرى ذات المرجعيات التاريخية عوضا عن الطوائف الدينية والصراع بين الرغبة في التغريب ومن يرغب في التقوقع حول نفسه، إننا ذوو طبيعية ثنائية بنيوية مسيطرة على عقليتنا منذ بدء الأزل، إما أن تكون مع أو ضد، إما أكون أو لا أكون، إما غنيا أو فقيرا، وإما خائنا أو وطنيا، إما مسلما أو كافرا، إما رأسماليا أو اشتراكيا، أما كل فلسطين أو لا شيء، إما إن تتعرى المرأة لدينا أو لا ترى منها سوى العينين، أما أن أكون زعيما إلى أخر قطرة أو فلترق آخر قطرة دم لأجل الزعيم، هذا النسق الثنائي البنيوي، هو ملخص العقلية العربية المصابة بحالة من عمى الألوان، فلا ترى في هذا الكون سوى لونين الأبيض والأسود. 

rrabushehab@gmail.com