تظل قضايا تأويل النصوص الدينية من أكثر القضايا الإشكالية المحفوفة بالكثير من المزالق السياسية والفلسفية والمنهجية منها على السواء، هنا يتناول الباحث المغربي أحد أحدث الكتب في هذا المجال.

جدلية النص.. والتأويل

صراع النظم المعرفية في التراث العربي الإسلامي

يوسف بن عدي

«وقد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه، لا يحسبون القران تلاوة، ولا يعرفون معنى السورة أو الآية ما عندهم الا التشنيع عند العوام والتكسر عند الطغام، لنيل ما عندهم من الحطام، اعفوا نفسهم من الكد والطلب [...] يدرسون بالليل صفحا ويحكونه بالنهار شرحا اذا سئلوا غضبوا واذا نفروا هربوا».
[الإمام أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري]


 أولا. من مدارات النص إلى بناء التأويل
لاشك أن اختيار الكاتب عبد القادر فيدوح لمقاربة نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية هو اختيار منهجي ونظري صعب، ذلك لان هذا النوع من التقريب والقراءة هي بالأساس مغامرة فكرية عويصة.

وهذا يرتد إلى محاولة الباحث الإلمام بالهيكل العام للثقافة العربية ومكوناتها ونظمها المعرفية ونماذجها ومساراتها. والحال أن على طول خريطة العقل العربي القديم والحديث إنما نجد انتاجات فكرية وفلسفية ومذهبية هائلة، يعسر معها الإحاطة والإلمام. بدءا بـ (الإيديولوجية العربية المعاصرة) لعبد الله العروي و(نقد العقل الإسلامي) لمحمد اركون و(التراث والتجديد) لحسن حنفي مرورا بـ (نقد العقل العربي) لمحمد عبد الجابري و(نقد العقل الغربي) لمطاع صفدي وانتهاء بـ (فقه الفلسفة) لطه عبد الرحمان وغيرها من المشاريع القوية في البناء النظري والقوة المنهجية والصياغة الايديولوجية... والتي تحاول بصيغة أو بأخرى رسم معالم نظرية التأويل في ثقافتنا.

لذا كانت المحاولة المعرفية من قبل د.عبد القادر فيدوح معركة شاقة، وذلك لتداخل البنيات الفكرية والنظم المعرفية والمسارات الاجتماعية والإيديولوجية المساهمة في بلورة النماذج والصيغ، وتشكيل الحقائق والمقولات... لقد كانت بوابة الانخراط الفكري والنقدي ومبتداه في كتابه: (نظرية التاويل في الفلسفة العربية الاسلامية) (2005) للكاتب من خلال طرح مجموعة من التساؤلات الأساسية ذات الطابع النظري والإيديولوجي. وهي كما يلي «هل استطاع العقل العربي في منظوره الذي أسهمت الفلسفة في تحريره أن يقوم بالدور الفعال المستمد في معرفة الوجود لما هو موجود؟ أم أن مفهومه لم يتجاوز العقل العملي المكتسب من وصايا الثوابت؟ وهل استطاعت الفلسفة العربية ـ الإسلامية ـ في نظرتها التأويلية أن تميز بين المعقول واللامعقول في تطوير الفكر الإسلامي تباعا؟ وقبل كل ذلك هل نستطيع الحديث عن الفلسفة العربية الإسلامية بمعزل عن العقيدة؟ والى أي مدى استطاع هذا العقل أن يراهن على تحليل النص؟ وأي نص؟» [صفحة 11].

فلما كانت هذه الإشكالات الجوهرية ـ أعلاه ـ من صميم بنية العقل العربي وآليات اشتغاله واستثماره. فان الإجابة قد كانت معلنة في بدايتها، أعني بذلك أنه كان من اللازم على الباحث استثمارها كفرضيات.. لا مسلمات ثابتة أو خلفيات مسبقة. والحال أن تلكم الإشكالات قد كانت قوية في صياغتها وطرحها لدرجة أنها ترسم خريطة الفكر العربي الإسلامي القديم والحديث والمعاصر، بيد ان الاشتغال عليها كان اقرب الى الاختزال منه الى التريث والحذر النظري والمنهجي. وهكذا جاءت تلك الإجابات يسيرة ومعلومة. لأنها انطلقت من مدار النص الديني وتحولاته وتأويلاته، دون استشكال كثير من القضايا والأطروحات، والتي لم تكن في تاريخنا العربي والإسلامي إلا منبع الصراعات والفرق ونشوء المذاهب.. ومنها: " التأويل البياني وعلاقاته باللفظ والمعني" و"مسالة أصل اللغة التي هي أساس التفكير الكلامي والاجتهاد الفقهي" و"كذا مسالةالاعجاز القرآني" و "تأويل العرفان للرموز والإشارات في القران"... وغيرها من الأفكار والمشكلات النظرية والفكرية. وبهذا اكتفى الكاتب بالإشارة إلى أن مدار النص هو:"المرتكز الثقافي هو الذي يتحكم في الموقف من النص، وما إن تعددت الفرق والمذاهب حتى كثرت الاختلافات الخاصة في علم الفقه والمسائل السياسية"[صفحة 12].

لقد افتتح عبد القادر فيدوح نصه بالتمييز بين التفسير بالرواية والتأويل بالدراية، إن أن هاتين العمليتين إنما يرجعان إلى النص ومداره أي النص الشرعي... لذا سارع بعض المفسرين لترجمة دلالات القران ومعانيه: مجازه وحقيقته... ومن ثمة صار الحديث عن درجات أو مستويات التأويل: التأويل بالنظائر والتأويل بالحديث والتأويل بالمقتضى. ومن هنا فان للمتغيرات السياسية والإيديولوجية الحاصلة عصرئذ الدورالاساس في رسم أفق النص ومسار تأويله وتفسيره. ولعل هذا ما لم يشراليه الكاتب بصورة كافية وجلية كي يدرك إن «مصطلح التأويل في الفكر الديني قد تحول الى مصطلح مكروه لحساب مصطلح التفسير فان وراء مثل هدا التحول محاولة مصادرة كل اتجاهاة الفكر الديني "المعارضة" سواء على مستوى التراث ا م على مستوى الجدل الراهن في الثقافة». (مفهوم النص دراسة في علوم القران، نص حامد أبو زيد، ط2، 1994، صفحة 219). ومن ثم فان التفسير بالرأي قد كان نتيجة«تشعب المذاهب بدءا من اختلاف المسلمين حول مسالة الإمامة وهو ما جعلهم يستوحون من القران كثيرا من الإحكام والمفاهيم التي تلائم التيارات المذهبية مما يشجع على نشوء فرق دينية متفاوتة في الرأي» [صفحة44]. فالتأويل ومجالاته ومداره، هو الهاجس السياسي والإيديولوجي، الذي يحدد المفاهيم والمقولات حتى يتم استغلالها وتوظيفها في المعارك والصراعات.

لقد تمكن الشافعي من تقنين البيان وتحديد دلالته وأصول الفقه ودائرته. فكان من شرط التفسير والتأويل«معرفة قواعد الدين وأسسها المكنية واصول مباني الشريعة الأصلية واعتبروا ما لم يكن مطابقا للقواعد المهمة لاستنباط الأحكام الشرعية من باب وجهات نظر فاسدة». [صفحة45]. إن مقولة د. محمد عابد الجابري إنما تدل على ذلك الصراع المرير بين السلطة العلمية والسلطة السياسية حول المقولات والمرجعيات والنماذج وحول النص المؤسس؟ وذلك لقوله «إن مشكلة الخلافة هي أول قضية طرحت نفسها إن الفكر العربي والإسلامي فإنما كانت أحر قضية حول هدا الفكر تنظيرها مع العلم إن الثقافة في هده القضية قد بدا في وقت مبكر وانه كان المنطق الذي قام عليه علم الكلام اكتر أنواع العلوم العربية الإسلامية ابتدءا في التجريد والتنظير». (تكوين العقل العربي (الجزء الأول)، ط 8، المؤلف محمد عابد الجابري، صفحة 103). ومن ثم فان التنظير للإمامة والسلطة عند أهل السنة لم يبدأ إلا مع الشافعي الذي وضع "قواعد التفكير السني". 

ثانيا: في العرفانية.. والبيانية.. صراع أم تحالف؟؟
إن من بين بواعث "تعسف الباطنية ـ كما يقول عبد القادر فيدوح ـ في تأويل القران [ صفحة 49 ]هو باعث الإمامة أو الخلافة حيث شدد غلاة الشيعة بان الإمامة من حق علي بن أبي طالب نصا لا اختيارا. يقول محمد عابد الجابري في هذا السياق«فلكي يثبت متكلمو أهل السنة أن الإمامة بالاختيار لا بالنص لن يكتفوا بسرد الأحداث التاريخية كما فعل صاحب كتاب "الإمامة والسياسة" بل سيلجأون أيضا إلى الاستشهاد بـ "الإجماع " إجماع الصحابة[ ] كما سيلجأون إلى قياس قضايا الخلافة على مسائل الشريعة وبالتالي قياس الحاضر على الماضي بل سيصبح "الاجتهاد" المفتاح الذي تحل به الأبواب ومنها سلوك الصحابة ومواقفهم السياسية». [تكوين العقل العربي سبق ذكره صفحة 107].

إننا لم نسق هذا النص للدكتور محمد عابد الجابري إلا للإشارة لذلك الصدام المشهود بين العرفانية كحقل معرفي والبيانية كفعل معرفي في ثقافتنا العربية الإسلامية، والذي لا يمكن تجاهله أو التغافل عنه بأي شكل من الإشكال.. هذا الوضع الايبستيمولوجي للنظاميين اللذين أضحيا غفلا من قبل عبد القادر فيدوح حيث قام بتقريب التأويل في الفكر الشيعي من خلال تجلياته ومظاهره الأساسية من قبل الباطنية والتأويل بالدراية وألوهية الإمام... لكن دون النظر في بنية النظاميين المعرفيين (العرفان والبيان) وعلاقاتهما الحاصلة في التاريخ والايديولوجيا. إن الحقل المعرفي المتمثل في الكشف والسرالالهي... والرؤية السحرية للعالم لم يكرس إلا بناء المماثلة والأسطورة والبحث عن القرائن وتعقب منعرجات الرموز والإشارات.. وأخيرا وليس أخرا فان عنوان الفصل المعنون بـ "التأويل في الفكر الشيعي" انما يوحي للقارئ بان الباحث سيعمل على التاريخ للتيارات والمذاهب الشيعية باختلاف مشاربها ومنطقاتها المعرفية والدينية. وذلك بغية الإمساك بمفهوم التأويل في المسار الفكري الشيعي؛ من النص إلى تحولات التاريخ. والحال لم يكن كذلك. 

التأويل الكلامي إشكالاته
يعتبر الخطاب الكلامي من بين أنماط الخطابات التراثية العربية الاسلامية الأساسية؛ بل إن علم الكلام هو من صميم العقل العربي الإسلامي عامة من التعبيرات القوية ـ باختلاف العلوم والقطاعات ـ عن النظام البياني، بل لقد صاغ أهل الكلام ـ معتزلة واشاعرة "نظريات" في المعني والمواضعة وقصد المتكلم، والكلام النفسي وعلاقته وكلام الله ومسالة أن القران مخلوق... هذا من جهة أولى. أما من جهة ثانية فقد كان الخطاب الكلامي موضع وذلك دفاع كثير من المهتمين والمفكرين عن أصالته الفكرية والمنهجية والنظرية.. وكذا دوره في تأسيس آداب المناظرة أو الإخلال بها، وهذا موضوع آخر. لانه يخرج عن مقاصدنا من هذا المقال. وهكذا فقد اكتفي عبد القادر فيدوح على مقاربة التأويل من وجهة نظر المرجعية السلفية والمرجعية الكلامية برصد السلف كمنظومة التأويل الممدوح والتأويل المذموم؛وذلك لرسم الحدود بينهما.. وفق منطق الشرع والعقيدة. وعلى هذا فالخطاب السلفي والخطاب الكلامي ـ كما اشرنا ـ انما يشتركان أولا في النص المؤسس (الشريعة)، وثانيا انهما ينتميان إلى نفس النظام المعرفي وهو نظام البيان. هذا الأخير الذي كما حدده محمد عابد الجابري في الحقل المعرفي الوحيد وهو الإظهار والظهور والفهم والإفهام، بعبارة أخرى ان المرجعيتين (السلفية والكلامية) إنما يندرجان ضمن "الرؤية" والمنهج للعالم. أنهم بكلمة واحدة علماء البيان من «لغويين ونحاة وبلاغيين وعلماء أصول الفقه وعلماء الكلام سواء كانوا معتزلة أو أشاعرة أو حنابلة أو من "الظاهرية" أو من "السلفيين" قدماء ومحدثين.» (بنية العقل العربي؛ ط1 1986. محمد عابد الجابري، صفحة 9).

فهذه الرؤية النقدية لبنية العقل العربي لم يشر إليها الكاتب فيدوح، والحال أنها ضرورية ضرورة منهجية ومعرفية بغض النظر على الاختلاف أو الاتفاق معها.. فضرورتها نابعة من إنها فرضت نفسها وأضحت جزءا من الكتابة الفكرية العربية المعاصرة. لهذا اصدر صاحبنا حكما فقهيا مؤدلج.. دون أن يعقد العزم وينبث القصد في خوض مغامرة البحث والنظر، بل أعلن بيانا هم كما يلي: «فلا حاجة إلى النظر المتعمق في معرفة العقائد في الإسلام لأنه مثار للشبهات والشكوك ولان أكثرا قيسته وطرقه لا تفيد اليقين الذي هو ركن أساسي في الاعتقاد». (صفحة 90) بل إن العكس هو الصحيح، أي إن النظر في الفرق والمذاهب الكلامية... إنما يكسبنا رؤية للتراث الملي والعقدي. بل اكثر من ذلك يسعفنا هذا النظر في الامساك باليات السفسطة ومسالك الجدل ومواطن غلوها ومغالطتها. بل قد نعتبر ذلك منع اصالة المناظرة وفقه المحاورة كما يقول المنطقي طه عبد الرحمان في كتابه (في أصول الحوار وتجديد علم الكلام). كما عرج عبد القادر فيدوح على فكر المعتزلة والاشاعرة أو ما بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي وفق المبحث الثاني:"التأويل بين النقل والعقل" رغم وجود مشاكل تاريخية ونظرية خطيرة في هذا الشان، أعني أن معرفتنا بالفكر الاعتزالي لم يكن إلا من خلال خصومهم أو من خلال تأليفات القاضي عبد الجبار. فإلى أية حدود يكون الخصم بريئا وموضوعيا في سرد افكار الاعتزال؟

وهكذا فان السؤال المطروح من قبل الكاتب "ماذا أضاف المعتزلة إلى التفكير الديني الفلسفي؟ هو في حقيقة الأمر سؤال ملغوم واعلان على أن الاشاعرة مذهب أصيل؟ في الوقت الذي يبقى الإشكال العام للتراث العربي الإسلامي. كما يقول محمد عابد الجابري هو التحول من "قوانين تفسير الخطاب" إلى "شروط إنتاج الخطاب". 

ثالثا:من المعقول العقلي إلى اللامعقول العقلي
يخطو عبد القادر فيدوح في الفصل الرابع "التأويل وتحصيل البرهان" خطوة متقدمة في تحديد التأويل وفق الخطاب الفلسفي (الممارسة الفلسفية) والذي لم يتردد فيه الباحث من الاقرار بان «النظرية التأويلية لم تكمل إلا على يد الفلاسفة بوضع أسس وقوانين كما وقع مع الغزالي الذي مثل فكر علماء الكلام بوصفه أشعريا وتيار الفكر الفلسفي بوصفه فيلسوفا» [صفحة 152]. بيد أن الكاتب لم يتوقف عند التحول الابستيمو لوجي (المعرفي) من قارة مفهومية إلى أخرى. والتي تفضي إلى تحولات في الدلالات والمقولات والأسماء. بل اختزال الوضع في أن إسهام فكر الغزالي«يتحول من الاعتقاد على العقل إلى الاعتماد على القلب، فأناط وظيفة التأويل بنور اليقين الروحي» [صفحة153]. ولعل هذا التحول الفكري لدى حجة الإسلام إنما يرتد إلى الهواجس الإيديولوجية والسياسية. اذ اضحى الموقف لدى صاحب كتاب "فضائح الباطنية" هو الذي يتحكم في المذهب وليس العكس. لقد كانت آلية القياس«قد تحولت كما يقول محمد عابد الجابري مع الغزالي إلى آلية تشكيلية منحرفة عن وظيفتها "الأصلية" التي أرادها له أرسطو وظيفته "التحليل" و"البرهان" [تكوين العقل العربي (سبق ذكره) صفحة 491].

ومن هنا فالتأويل في فكر الغزالي هو تأويل عرفاني اشراقي المازج بين إشكاليات علم الكلام والفلسفة الاشراقية وتوظيف المنطق توظيفا إيديولوجيا لا توظيفا معرفيا نظريا. لا شك أن استحضارنا لرؤية الجابري لبنية العقل العربي هو استحضار لتأويل ذو معقولية نظرية وفكرية في الفكر العربي المعاصر. إنها الرؤية النظرية التي دافعت عن القطيعة الابستيمولوجية بين عقلانية ابن باجة وابن رشد ومابين لاعقلانية الغزالي وقبله ابن سينا. إذ أن الحديث عن مسالة التأويل بين فكي الفلسفة والشريعة، أو الحكمة والدين، لا يستوي إلا بالبحت في بنية التفافة العربية الإسلامية لرصد تحولات التاريخ وانتقالات الأسماء والمفاهيم. وهذا لا يتم إلا بآليات ومفاهيم التو ظيف الإيديولوجي والمعرفي، الانفصال والاتصال في الفكر العربي، الموضوعية والاستمرارية، المنهج البنيوي والمنهج التاريخي... الخ. إذ بهذا الجهاز المفاهيمي نتمكن من إثبات أن هناك مصالحة عقلانية بين المعقول الديني والمعقول العقلي على الطريقة الرشدية حسب كلام الجابري. بل واستثمارهذه الصيغة في التجديد الديني بين علاقة الفرد بتدينه وعقلانيته وغيره من الملل والنحل في اطار المشاركة في اصابة الحق. 

فخ العرفانية.. أو الاستلاب المفهومي
هل يمكن أن نعتبر أن تخصيص الكاتب عبد القادر فيدوح فصله الخامس "المعراج الصوفي والتأويل الذوقي"، هو إعلان لارتداد العقل العربي وتقهقره؟ ثم متى نعتبر أن بداية الفكر الإنساني يتأسس على الشعر ثم العقلانية ثم يندحر في التقوقع والارتداد؟ يسعى الكاتب في هذا الفصل الأخير نحو رسم التأويل الذوقي من خلال المنظومة الصوفية المبنية على مقولات الذوق والمشاهدة والحلول والحق والخلق. فالذوق "هو مصدر طاقة المتصوف" [صفحة 183] إنها معرفة قلبية ذو تأويل عرفاني اشراقي هرمسي إنه دعوة إلى الاتصال لا بالتاريخ والواقع، بل بالميتافيزيقا الوحدوية. وهكذا فان تحديد التأويل الذوقي ـ عند الباحث ـ لم يكن واضحا في الخطاب الصوفي. ذلك لأن هذا الأخير فيه مستويات مختلفة من حيث القراءة أو المنطق المستحم فيه. وعدم الوضوح نابع من الخلط بين التصوف السني (القشيري) والتصوف الفلسفي (الحلاج والبسطامي) وهذا لا ندركه إلا حينما ننظر في السياق الإيديولوجي والاجتماعي والسياسي لهذين المسارين،بحيث يشتد الاختلاف بين أهل التصوف وأصحاب العرفان. وهذا ابن سيعين في نصه "بدا العارف" ينتقد جلب الإسلام الغزالي بقوله «وأما الغزالي فلسان بدون بيان، وصوت بدون كلام، وتخليص يجمع الأضداد، وحيرة تقطع الأكباد. مرة صوفي وأخرى فيلسوف وثالثة أشعري ورابعة فقيه وخامسة محير. وإدراكه في العلوم القديمة أضعف من خيط العنكبوت، وفي التصوف كذلك لأنه دخل الطريق بالاضطرار الذي دعاه لذلك من عدم الإدراك.» وبهذا يظل الخطاب الصوفي فيه من الصعوبة في المقاربة والمشقة في التقريب ما يتخطى الصفحات المعدودة التي دونها عبدالقادر فيدوح. 

عود على بدء
إن نص: "نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية 2005 للكاتب عبد القادر فيدوح بفصوله الخمسة، إنما يدل على قوة النظر والتفكير وحماسة البحث والتأمل في قضايا الفكر العربي الإسلامي القديم ذات الصيغة الإشكالية والمنهجية والمعرفية العويصة. ومن ثم فان من مرتكزات الكتاب وخريطة بنائه النصي والنظري مفهوم التأويل interprétation وهي قيمة مضافة للفكر والثقافة العربية المعاصرة. وهكذا فقد استطاع الكاتب رسم الطريق ووصف رحلة سفر ممتعة غير أننا في هذا السفر الفكري لم نشاهد ما ينبغي مشاهدته.. ولم نظفر بمسالك الرحلة الروحية والعقلية. وقبل وبعد، تأتي بعض من ملاحظاتنا النقدية الاولية، وذات طبيعة تأملية وليس اسقاطية مفاهمية، انها تنكب على طبيعة الرؤية وصياغة المنهج وتحديد الإشكالات وهي كما يلي:

(1) إن المتأمل لعنوان الكتاب "نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية" 2005 يبعث فيه طائفة من التساؤلات المشروعة. فمن بينها أن صاحب الكتاب انما يوهمنا انه سيعمل على تأسيس نظرية في التأويل مستحضرا بعض المكتسبات النظرية والفلسفية الحداثية الأوربية، ومنها: ما دلالة الهيومينيوطيقا الفلسفية؟ هل هناك معنى في النص؟ هل هو معنى موضوعي أو ذاتي؟ ماهو الفهم؟ ماهو المعنى؟... الخ. من الإشكالات التي ساهمت في بناء النظرية التأويلية منذ شلاير ماخر ودلتاي مرورا ب غادامير وهايدغر وانتهاءا بريكور وأمبرتو ايكو. بيد ان افق الانتظارلدينا ـ المتلقي ـ ما فتئ ينهار حينما يقدم الكاتب عنوة، وفي بدء افتتاح كتابه، ومسكوتا عن تحولات التأويل في الفكر الفلسفي الأوروبي المعاصر، بإعلان، توا، التمييز بين التفسير بالرواية والتأويل بالدراية. وهذه مفارقة معرفية ونظرية واضحة المعالم. 

(2) أما الملاحظة النقدية الثانية إنما تتجلى لنا في مفهوم الفلسفة العربية الإسلامية: لا غرو ان هذا المصطلح على مسار الثقافة العربية ـ الاسلامية، لا يعبر على التمييز بين قطاعات معرفية والعلمية المختلفة فيه: علم الكلام وهوعلم أصول الدين.. وأصول الفقه وعلم التفسير والحديث والفلسفة الإسلامية. وهكذا فالفلسفة الإسلامية ليست إلا فلسفات: الفارابي والسينوية والرشدية. أي التي كانت صناعة الفيلسوف وشغله الشاغل وسلطته المعرفية الاساس، دون تبخيس نظر الفيلسوف في الفقه والكلام. (راجع كتاب:"إحصاء العلوم" للفارابي،على سبيل المثال لا الحصر). في حين ان علم الكلام هو الكلام في العقيدة والسياسة على قدم وساق. وهو أيضا مجال البحث في الصفات والذات والأصول الخمسة، وأن المتكلم كان له مقالات في البلاغة والنحو والتفسير. فهذا امر لامندوحة عنه. بعبارة مقتضبة أن الكاتب قد وقع في الخلط بين المباحث المعرفية (الفلسفية الإسلامية والالهيات مما أدى الى مفارقة أخرى تظهر، كما أشرنا أعلاه، في عنوان الكتاب. 

(3) أا الملاحظة الأخيرة نما تظهر في أن المطلع على الكتاب "ظرية التأويل" إنما يستشعرعن تعقل. ن فصول الكتاب، بدو متماسكة، بيد انها متباعدة بعضها عن بعض، أي نها دراسات مستقلة تم لم شتاتها بتوطئة من دون خلاصات. ولعل هدا التباعد بين الفصول إنما، هو في اعتقادنا، صادر من غياب الرؤية المنهجية والبنيوية لبنية العقل العربي؛ والتي تكاد تطفو على سطح هذا النص أو ذاك؛ غير أن الكاتب مافتئ يجهز عليها ويقطع أنفاسها: إنها مقاربة النظم المعرفية في الثقافة العربية من حيث هي تقريب للصدام والصراع او للتحالف والاحتواء.. إنها رؤية معرفية وإيديولوجية لتراثنا العربي الاسلامي. والشاهد على ذلك التاريخ ومساراته وتحولاته التي تكشف لنا عبر مجهودات المفكر المغربي محمد عابد الجابري؛ صدام النظام البياني والنظام العرفاني؛ وتحالف النظام البر هاني والنظام البياني.. وغيرها من العلاقات المتداخلة في الحاضر العربي اليوم. 

كاتب ومؤلف في الفلسفة، أكاديمية مراكش، المغرب.

* قراءة في كتاب "نظرية التأويل في الفلسفة العربية الإسلامية"، للكاتب عبد القادر فيدوح، الطبعة الاولى،2005.