كان الخيار موفّقًا جدًّا حين اختارت فرقة "سلمى" للفنون الاستعراضيّة الدراما المسرحيّة من قصيدة الشّاعر الألمانيّ برتولد بريخت "أولاد في حملة خلاص" لعرضها في بداية شهر أيّار، كذلك كان تغيير اسم الدراما ناجِحًا حين مُنحَت اسم "صرخة ماريّا" إذ جسّد العرض صراخ الأطفال المعارض للحرب والمحبّ للسّلام والحبّ والعيش الأمين والكريم.. فقد ترجم المسرحيّة إلى العربيّة الشّاعر الكبير سميح القاسم وأخرجها الفنّان القدير نورمان عيسى وكانت المعزوفات المرافقة لها من تأليف الموسيقيّ ريمون حدّاد.
لقد تزامن عرض الدراما مع احتفال العالم التّقدّمي والشّريف وكلّ قوى التّحرّر والتّقدّم بيوم النّصر على ألمانيا النّازيّة يومَ دحر الجيش السّوفييتي العقائدي والبطل شبح القتل والدّمار والظلام والعنصريّة والاحتلال عن خريطة أوروبا، ووضع حدًّا للقتل والإرهاب والفاشيّة، حيث يُصادف التّاسع من أيّار ذكراه السّنويّة الخامسة والسِّتِّين، كما وجاء العرض في تزامُنٍ مع ارتفاع أصوات آلهة الحرب في بلادنا، المسموعة للقاصي والدّاني، من خلال أبواقها النّاعقة والمرئيّة لعيون كلّ من له عيون ترى، بأنّه لا مفرّ من الحرب لأنّها خيارهم الوحيد..
قال الشّاعر بريخت عن الحرب:
فَقَدَتْ فِيهِ الأُخْتُ أَخَاهَا
وَالزَّوْجَةُ فِي مِيدَانِ الحَرْبِ الزَّوْجَ
بَيْنَ النِّيرَانِ هُنَاكَ وَبَيْنَ الأَنْقَاضِ ضَلَّ الأَطْفَالُ..
إنّ صوت مناجاة الأطفال للسّلام وصراخهم يظلّ قيد النّشوء والتّطوّر كما كانت "صرخة ماريّا" صامتةً لا يسمعها أحد، إذا لم يكُن وراء هذه الصّرخة صدىً يهزّ الجبال، فعندما ظهرت الحرب وهي تحصد الأطفال المساكين والخائفين والعزّل والتوّاقين إلى السّلام والطمأنينة والهدوء واللعب كباقي أطفال العالم، رأينا كيف منعتهم من كلّ شيء حتّى من الأكل والشّرب، برقصة أشباح الموت، وقد قتلهم الجوع والعطش وظهر هذا حين فتّشوا جيب جنديّ صريع عن شيءٍ عَسَاهُ يروي ظمأهم ويُخرِس زقزقة "عصافير بطونهم" وقد منعت الحرب، أيضًا، استمراريّة الحبّ بعد أن فقدت ماريّا حبيبها فادي حين استشهد يوم زفافهما..
لقد قدّمت فرقة "سلمى" على خشبة مسرح الأوديتوريوم في مركز الكرمل في مدينة حيفا، عرضًا مسرحيًّا خاصًّا ورائعًا لم نشهده من قبل ولم تُعَوِّدْنَا عليه الفنّانة المُبدعة والقديرة فريال خازن خشيبون، فقد عانق هذا العرض، الاحتفاليّ الأوّل والمُترجَم سماء عروضها الأخرى ليسمو إلى نفس المستوى أو أعلى، فتلك الأكفّ المُصفِّقة طويلاً تقديرًا وإعجابًا بالعمل وتلك الحناجر الألف وبضعة مئات أثنت على هذا العمل المُتميِّز والمُميَّز بعد أنْ خصَّت في ثنائها الفنّانة فريال على هذا الانجاز والإبداع والتي استطاعت بمثابرتها وشخصيّتها الملتزمة ورصيدها العريق أن تعرض هدفَها من العرض وخلاصته بجُملتين وأمنيتين ينشدها المضطَهَدون الرّازحون تحت الاحتلال: لا لِلْحَرْبِ نَعَم لِلسَّلامِ..
وللفنّانة المتألّقة دومًا فريال خازن خشيبون وفرقتها ولكل من ساهم في إنجاح هذا المشروع الثّقافي الرّاقي والهادف أقول:
صَبَاحُكِ خَيْرٌ وَمِسْكٌ وَعَنْبَرٌ..
واسعد الله صباحَكُم بكلّ الخير والسّعادة..
وليكن التّاسع من أيّار، يومَ نصر على الظّلم والطّغيان والاحتلال والعنف ونأمل لجميعنا الخير والحبّ والسّلام والحريّة.
خالد تركي حيفا ـ فلسطين