رسالة المغرب الثقافية

الذاكرة والتخييل في الأدب والصحراء في المتخيل الفيلمي

عبدالحق ميفراني

1 ـ الذاكرة والتخييل في الأدب
انعقدت بمدينة تطوان فعاليات الدورة الحادية عشرة لـ "عيد الكتاب" الذي تنظمه وزارة الثقافة بشراكة مع اتحاد كتاب المغرب والحكومة الأندلسية.وذلك ما بين 6 و13 يونيو 2008. وإلى جانب مؤسسات النشر المغربية المشاركة في هذه التظاهرة، حضرت بعض من مؤسسات النشر الأندلسية. ممّا أتاح الفرصة للناشرين المغاربة ونظرائهم الأندلسيين للقاء فيما بينهم بخصوص "قضايا صناعة الكتاب واستكشاف إمكانيات التعاون والنشر المشترك". كما حضر إلى جانب الكتاب والشعراء المغاربة المشاركين في البرنامج الثقافي نخبة من الأسماء الإبداعية في الثقافة الأندلسية.

ويعتبر عيد الكتاب موعدا قارا ينظم كل سنة، ويشكل الى جانب معرض الدارالبيضاء الدولي ومعرض طنجة محطات أساسية لتداول الكتاب. لكن ميزة معرض تطوان أنه يشكل بخصوصيته المتوسطية فضاءا ملائما للحوار المتوسطي. من خلال الذاكرة المتوسطية المشتركة بين ضفتين تجمعهما نقط التقاطع الحضارية والتاريخية والثقافية. والى جانب الكتاب المغاربة، حضر فعاليات الدورة الحادية عشرة نخبة من الأسماء الأدبية في الثقافة الأندلسية. وهكذا كان عيد الكتاب مناسبة للقاء أنطونيو رييس رويس، أنطونيو رودريكس ألمودوبار، برخيليو مارتينيس إنامورادو، والشعراء خيسوس فيرنانديس بلاسيوس، خوانا كاسترو، خوسيفا بارا..وآخرون.

واعتبرت الندوات المحورية التي نظمت على امتداد أيام المعرض محطة معرفية لإعادة مساءلة هذه الذاكرة المشتركة، واستقصاء متخيلها. وهكذا نظمت ندوة "الترجمة باعتبارها اعترافا بالآخر" وندوة "الآفاق الثقافية المغربية والأندلسية وأسئلة الذاكرة". الى جانب توقيع الإصدارات الحديثة والأمسيات الشعرية المشتركة اختتمت فعاليات المعرض بندوة مركزية تحت عنوان "الإبداع المغربي بين حدي التذكر والتخييل" الندوة التي أطرها الناقد والمترجم رشيد برهون، وتدخل فيها كل من الناقد عبداللطيف البازي والكاتب والباحث عثمان أشقرا.

تدخل الناقد عبداللطيف البازي في البداية والذي قارب ثلاثة روايات صدرت في فضاء تطوان ("سرير الأسرار" للروائي البشير الدمون، أطياف البيت القديم للروائي خالد أقلعي، المصري للروائي محمد أنقار) وقد أكد الناقد البازي في مستهل مداخلته أن مساءلته لمقولة الإبداع والذاكرة سيتم من خلال بعض الإبداعات الروائية الجديدة. مستشهدا بمقولة امبرتو إيكو التي تشير الى أن حضور الأنترنيت سهل وجود معلومات وافية، لكن عدم القدرة على التمييز تتسبب في فقدان الذاكرة. إذ أن وفرة المعلومات المتعلقة بالحاضر يدفعنا الى عدم القدرة على التفكير في الماضي. والذاكرة هويتنا... لذلك يؤكد الناقد البازي أمسى للأدب وظيفة جديدة هي "صون الذاكرة".

يستقرأ الناقد عبداللطيف البازي نصوصا تمتكل وعيا بحدي هذه المعادلة، فرواية "سرير الأسرار" التي صدرت أخيرا عن دار الآداب بلبنان للروائي المغربي البشير الدمون، تقدم تصورا للكتابة يتسم بطابع صراعي، فيتم تقديمها كأنها تنظيم لشتات ما، وهذا الأخير يخلف عنفا مضاعفا لدى الساردة، أما سارد "أطياف البيت القديم" فيحكي عن ملاحم يومية لأناس بسطاء، فتتحول الذكريات الى صور يحاول السارد القبض عليها، لذلك يوظف أفعال التذكر.

العلاقة مع الذاكرة هي علاقة صراع. عموما تمثل رواية الروائي والناقد خالد أقلعي، بشهادة الناقد البازي، نص استعادة طويلة، عبر محكيات تكاد تكون مستقلة عن ذاتها. أما رواية "المصري" للكاتب محمد أنقار، فقد استعانت بطيف نجيب محفوظ. لكن الذاكرة في رواية "المصري" ينجدبها رهينة بإعادة إنتاج نصوص محفوظ. يشير الناقد البازي، أن الذاكرة تحضر في رواية "المصري" كتنظيم للشتات، والرواية تحتفي بذاكرة المكان. يتساءل الناقد عبداللطيف البازي في النهاية ما مدى اقتراب هذه الروايات من السيرة الذاتية أو بالأحرى من جنس التخييل الذاتي؟ ماهو ميثاق القراءة؟ لماذا الاشتغال بالماضي في النصوص الروائي الجديدة؟ ولماذا تتسيد الفاجعة داخل معالم هذه النصوص؟

الناقد عثمان أشقرا أشار في بداية مداخلته الى أن محور الندوة يعتبر موضوعا إشكاليا يتدخل فيه الفلسفي بالسوسيولوجي بنظرية التلقي، واقترح المقاربة السوسيولوجية كإطار نظري ومنهجي لمقاربة موضوع الندوة. لذلك اعتبر الباحث عثمان أشقرا منذ البداية، أن أي إبداع هو اساسا منتوج ثقافي محدد من طرف فاعل اجتماعي أو مجتمعي. وقد استحضر المداخل مفهوم لوكاتش الذي تحدث عن الوسائط عوض العلاقات الجدلية، ومفهوم الكلية. وقد تطورت هذه المفاهيم مع بورديو في سوسيولوجية الثقافة، ومفهوم الحقول (التمييز بين الأدبي والثقافي والسياسي)، وتعني أساسا المقاربة السوسيولوجية بالبحث عن الديناميات التي تعمل في هذا التوجه. ويعتبر التذكر والتخييل وسيطين ضمن وسائط أخرى، وقد تناوله الفلاسفة قديما منذ الجمهورية التي طردت الشعراء، ومرورا باجتهادات الفلاسفة المسلمون في ربطهم المقولة بالنبوة (الفرابي)، مع كانط وتنظيراته في نقد ملكات الحكم. وصولا الى سيكولوجية الفن مع بياجي، واجتهادات الأنتروبولوجيين والكتابات الحديثة مع بورديو وجون بورديار. لقد أسهم المنظور السوسيولوجي في إسقاط تلك الهالة التي أحيط بها الإبداع، إذ يتحول الى واقعة ثقافية من داخل تشكيلة ثقافية معينة. وهكذا يؤكد الباحث عثمان أشقرا في تحليله للمغرب الثقافي، أن المغرب كمجتمع لم يعرف حقل ثقافي مستقل إلا انطلاقا من ثلاثينات القرن الماضي,

لقد كان هناك تداخل بين الثقافي والسياسي والمخزني بما هو ديني سلفي، لذلك لا يمكن الحديث عن المثقف في ق18 و 19. في الثلاثينات برز مفهوم المثقف الوطني (سعيد حجي والتهامي الوزاني)، الذي تطور الى مفهوم المثقف العضوي الذي عبر من الحزبي الى العضوي خلال مرحلتي الخمسينات والستينات، في الستينات يؤكد الباحث أشقرا ستنغلق الدائرة ليظهر مفهوم المثقف النقدي مع (العروي، الخطيبي، والجابري). ليستقل عن السياسي والديني ليؤسس مشروعه الخاص. من مفهوم المثقف ينتقل الباحث أشقرا الى تناول تطور النص الروائي، أو الإبداعي عموما عبر استدعاء مقولتي التذكر والتخييل. فيشير الى أن 30 و40 عرفت ظهور متنا روائيا بسمة التذكر (غلاب، الشرايبي)، ومنذ 30 يخرج "المغربي الى المواطنة من الرعية" أي يمسي كاتبا كفرد وهو شرط الحداثة والتحديث. أما 60 و70 و80 فقد عرفت تطور ملحوظ وهيمنة للتخييل، النصوص الأولى التي قامت بتفجير التذكر وبناء النص الروائي انطلاقا من التخييل. وتمثل مرحلة الثمانينات والتسعينات مرحلة التخييل بامتياز (شغموم).

في نهاية مداخلته، يتحدث الباحث عثمان أشقرا، عن طبيعة التحول الثقافي في المغرب من خلال حديثه عن تراجع مرحلة المثقف النقدي، لصالح مرحلة جديدة وهي دقيقة، حيث القديم يموت، أما الجديد فلم يولد بعد.

عموما شكلت ندوة الأدب بين التذكر والتخييل محطة أخرى للنقد المغربي كي يعيد بناء أسئلة جديدة تقارب المثن الإبداعي المغربي، الذي عرف حراكا ملحوظا السنوات الأخيرة بشكل متنامي وهو ما يدفع الدرس النقدي الى محاولة استقصاء ملامح وسمات عامة لتمظهرات خطابية من داخل هذا المنجز. لكن، يبدو أن المنجز النصي حفر مساراته بعيدا عن تيه ومسارات المقاربات النقدية، التي لا زالت تعيد إنتاج بعض المقولات، التي لا تمثل في النهاية، إلا آليات، غير مقدسة وليست نهائية، مداخل لاستقراءات لانهائية.  

2 ـ الفيلم في زاكورة يعبر الصحراء
احتفى ملتقى زاكورة السينمائي في دورته الخامسة بالمخرج الفرنسي جان لويس بيرتوسلي، الذي حظي بتكريم خاص في الدورة الخامسة للملتقى الدولي للفيلم عبر الصحراء، والذي نظم أيام من 12 ـ 13 ـ 14 يونيو الماضي. واختيار هذا المخرج للتكريم، "يأتي تقديرا إلى الاهتمام الكبير الذي يوليه للفضاء وللطبيعة الصحراوية في العديد من أشرطته الطويلة، منها على الخصوص «أسوار الطين» ( 1970) و"صحراء التتار" (1975) ومكافأة لمسار غني يعود تاريخه إلى1965 وكان بيرتوسلي المولود سنة 1942 بباريس مفتونا بالموسيقى في بداية مشواره الفني، قبل أن يتحول في سن العشرين إلى مجال آخر بولوجه معهد السينما (فوجيرارد) في باريس، تخصص هندسة الصوت. وكانت سنة 1970 أول محطة لبيرتوسلي كمخرج سينمائي بعد إنجازه للعديد من الربورطاجات في جميع أنحاء العالم وفي مختلف المواضيع.

الاحتفاء مثل اعترافا رمزيا من مهرجان زاكورة السينمائي لمخرج سينمائي ظلت الصحراء لديه تحضر بكل حمولاتها الرمزية والجمالية. الملتقى الدولي للفيلم عبر الصحراء الذي تنظمه (جمعية زاكورة للفيلم عبر الصحراء)، كان قد كرم في الدورات السابقة ممثلين ومخرجين مغاربة، من أمثال محمد بسطاوي وحسن الصقلي وسعد الشرايبي.

ويطمح الملتقى إلى تكريم وتمثل الأفلام السينمائية التي تجعل من الصحراء تيمة أساسية لها، وقد عرضت خلال هذه الدورة عدة أعمال منها على الخصوص «قافلة المخطوطات الأندلسية» لليديا بيرالتا غارسيا (إسبانيا)، و"إلى اللقاء ياأمهات" (المغرب)، و"لا بيست" لإيريك فالي (فرنسا)، و"أغاني الحب لتوربان" لجين ليني كزيرزاتي ياهوفو من الصين. كما قدمت خلال الدورة أفلام أخرى تمثل بلدان بوركينا فاسو وإسبانيا والولايات المتحدة والجزائر والصين وكندا وبلجيكا وهنغاريا وفرنسا.

كما أتاح المهرجان للمشاركين في دورته الخامسة، الفرصة لمناقشة تيمة الصحراء وتوظيفها سينمائيا من خلال ندوتين، وقد افتتحت الدورة الخامسة ببعرض الشريط الطويل «في انتظار بازوليني» لمخرجه داوود أولاد السيد. الفيلم الذي توج هذه السنة في أكثر من مهرجان سواء في مصر أو في المغرب. ومعلوم أن الفيلم صور في كل من زاكورة وورزازات. وذلك بمساعدة الكومبارس والتقنيين المحليين. الفيلم الذي وظف فضاءات الصحراء كي يعمق من مجازات الصورة السينمائية، وغير غريب على مخرج (داوود أولاد السيد) الذي انشغل في بداياته بالصورة الفوتوغرافية (أسود وأبيض)، لذلك نراه حتى في فلمه "باي باي سويرتي" مولعا بهذا الفضاء وبمجازاته، وهو ما مكن المخرج من ترسيخ صورة خاصة في المشهد السينمائي.

وقد شكل مهرجان زاكورة السينمائي بإمكاناته المتواضعة محطة سنوية للسينمائيين من مختلف أرجاء العالم كي يحضروا للمغرب العميق، حيث البنيات التحتية الأساسية لقيام فرجة سينمائية منعدمة، ليناقشوا دلالات حضور الصحراء في السينما. في فضاء يرتبط معيشيا بهذا الفضاء الذي شكل متخيلا إبداعيا وجماليا للعديدين، كي يعبروا من خلاله عن رؤاهم. وكي تتحول الكاميرا الى عين نافذة تستقصي اللانهائي، عبر امتداد هذا الفضاء المتقل بفسحة التخييل. وقد شكل انعقاد المهرجان محطة أساسية للدرس النقدي وللخطاب السينمائي المغربي الى إعادة تحيين التساؤل المشروع: لما لا تحضر الصحراء في الأفلام المغربية، بالقدر الذي تحضر كامتداد شاسع يشكل جنوب المغرب امتداده المطلق؟