الحِكاية والرِّواية

إعداد: سعيد سهمي

في إطار أنشطته الثقافية والعلمية العادية، المندرجة تحت سلسلة تجارب إبداعية، نظم مختبر السرديات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك الدار البيضاء ندوة تحت عنوان: الحكاية وصورها: قراءات في نصوص روائية من المغرب والجزائر ومصر، وذلك يوم الجمعة سادس يونيو 2008 بقاعة الندوات بالكلية، حيث استمع الحاضرون إلى ست مقاربات نقدية متنوعة من حيث خلفياتها النظرية، وآفاقها التأويلية.

وتحدث منسق الندوة عبد اللطيف محفوظ عن خصوصيات سلسلة تجارب روائية التي دأب المختبر على تنظيمها، والمتمثلة في تكريس تقليد المتابعة النقدية لأهم النصوص الروائية العربية والمغربية الصادرة حديثا، وخلق فعالية نقدية، تعمل في نفس الآن على مساءلة النصوص وتجديد الرؤية والمنهج النقديين.. مؤكدا على حرص المختبر على استمرارها وتطويرها مستقبلا..

ثم أعطى بعد ذلك الكلمة لعبد الواحد خيري، الذي قدم قراءة في رواية المقامات العنكبوتية لمحمد علي حيدر، ابتدأها بقراءة في العنوان الذي اعتبره اختزالا لجوهر الرواية، مبينا كيف أن المقامات العنكبوتية تحيل إلى حقل علمي ومنطقي أكثر من إحالتها إلى الحقل الفني أو الأدبي، وبوصفها عملية سرد عقلي تعتبر فضاءات لممارسة فعل التفكير.ثم أشار إلى أن الرواية تنقسم إلى مجموعة من المقامات التي يمكن اعتبارها قوالب modules، نظرا لتواليها المنطقي على المستوى السردي. ملاحظا أنها تنطلق من مقام التعارف الذي ركز فيه الروائي على مسألة الهوية، من خلال تعالق الأنا والآخر، الرجل والمرأة... يليه مقام التأسيس الذي يرتبط منطقيا بالمقام الأول. ثم تأتي مقامات الانخراط والاحتقان والتدليس الذي يرتبط بإبليس سبب كل الانحرافات التي يعالجها مقام السالك بين المناهج والمسالك، وهكذا إلى أن يصل إلى مقام العبور كآخر المقامات.

والملاحظة الأساس التي سجلها خيري إضافة إلى التوالي المنطقي للأحداث المسرودة، هي مزج الكاتب بين الزجل والحكمة بوصفهما تعبيرين شعبيين ضد الواقع المشوه.

المداخلة الثانية كانت لعمر العسري، حملت عنوان البوار رواية الأسطورة الشخصية: قراءة في رواية البوار للزهرة المنصوري. وقد عمل على توضيح أن هذه الرواية بوصفها اهتمت في بنائها السردي الشخصية، هي رواية الشخصية، ملاحظا أن هذا الشكل البنائي يحيل القارئ إلى فضاءات الحكي التقليدي الذي ارتبط بالشخصية المركزية أو المولدة للحدث مثل السرود الشفهية والروايات الأولى؛ ضون كيخوتي، شارلوك هولمز، والخيميائي. إنها حسب البحث تقترن بالنصوص السردية التي اعتنت بالشخصية التي تقرأ الواقع وتنتقده على نحو يجعلها تتبنى مشروعا متعاليا كبيرا يروم زرع القيم واجتثاث أشكال الظلم والفساد. موضحا أن ذلك هو ما حصل بالفعل مع بطل الرواية (المعلم أحمد السهلي) الذي تحمل رفع القرية إلى القمة، متصديا لرموز الشر التي حولتها إلى مكان لزراعة الكيف، مستعينا في مشروعه بخبرته ومعارفه التي تحصلها من التاريخ ومن (السي المختار) مستفيدا أيضا من جهل أهل القرية. لقد بدا أحمد السهلي مجسدا لقيم تناقض القيم المفروضة من قبل الواقع وتحقق معنى المقاومة..

وتدخل بوشعيب الساوري، بورقة نقدية بعنوان أعذب السرد أكذبه قراءة في رواية السماء الثامنة لأمين الزاوي. استهلها بتقديم مدخل عن تجربة أمين الزاوي مؤكدا فيها أن رواياته تنهل من تجاربه الخاصة المتجدرة في طفولته الغنية ورحلاته وأسفاره الكثيرة وتعدد ثقافته (الأمازيغية، العربية الإسلامية، والفرنسية) التي أغنت متخيله. مشيرا إلى أن رواياته تجنح إلى عوالم السحر السردي والتواءاته ومغامرة المعرفة ودهشتها، بهدف استغوار تعقدات الواقع وتحولاته الكارثية وسعيا وراء الجمال.

أما بخصوص الرواية المدروسة السماء الثامنة فقد بين الباحث أنها تنهض على مقولة نقدية قديمة وهي أعذب الشعر أكذبه، يتخذها سارد الرواية مسوغا لانطلاق سرده وتحرره، ومنطلقا لبنائه الحكائي. ويمكننا كمتلقين أن نتخذها مدخلا لقراءة الرواية، لكن مع تحوير بسيط يتناسب وخصوصية الكتابة الروائية، فتصير: أعذب السرد أكذبه. وتبعا لذلك المنطلق لا تقدم لنا الرواية حكاية واضحة ومنتظمة منطقيا، لها بداية ونهاية، أو عقدة، كما أنها تسمح بظهور عدة نتوءات سردية. تتحقق هذه المقولة بداية من العنوان الذي يقوم على خرق يسمح به الكذب وهو إضافة سماء ثامنة إلى السماوات السبع وهي سماء الكذب.

تمنح هذه المقولة للسرد حرية أكبر، حتى يعانق الهذيان، مكسرا كل المقولات المنطقية، فيصير الخلط بين الأزمنة والأمكنة متاحا. تسمح هذه المقولة للسرد بأن يتميز بالتواءات وتقاطعات وتداخلات مبررة أحيانا وغير مبررة في كثير من الأحيان.

تصير هذه المقولة فعالة من خلال أدوار الحكاية خصوصا مع المرأة، ومن أهمها دور الغواية؛ كما تكون الحكاية، في كثير من المواقف، مخرجا لسارديها من ورطات أو تمكنهم من تجاوز ضغط وإكراه لحظة أو موقف.

وأكد الساوري أنه بإمكاننا تصنيف سرود الرواية إلى ثلاث سمات سردية تضفي على سرده تنويعا وتعددا: سرد المغامرة، سرد البوح والاعتراف، وهناك أيضا الحكايات المسترجعة التي تتخلل السرد، كذلك عدة جمل اعتراضية، تؤدي عدة أدوار داخل السرد، منها: نقد الذات، التعليق على السرد، التشكيك فيما يسرده السارد من حكاية انسجاما مع مقولة أعذب السرد أكذبه.

تنتظم كل هذه التشعبات والالتواءات السردية داخل بنية ناظمة تحكم الرواية، تتمثل في كون كل شخصيات عالم الرواية هي ضحايا خيانة، فمصائرها هي نتيجة مدبرة، لذلك تفكر في الانتقام. وهي نواة تتخلل كل الحكايات والسرود التي تتضمنها الرواية. فتصير حكايات الشخصيات حكاية واحدة متماهية جوهريا مختلفة تجليا وتمظهرا.

المداخلة الرابعة كانت لعثماني الميلود تحت عنوان: الذات والحكاية والرؤية الطللية: قراءة في رفيف الفصول لمحمد المعزوز.

أشار المتدخل في البداية إلى أن رواية (رفيف الفصول) هي أول نص روائي في سجل محمد المعزوز الباحث والكاتب المسرحي والأنثروبولوجي، كما أشار إلى أنها حازت على جائزة المغرب للكتاب (2007).

تتشكل هذه الرواية من أكثر من حكاية، وأكثر من خيط سردي، وتجعل من الذات والحكاية والرؤية الطللية التعلات السردية والتخييلية لكتابة تتوخى رصد أحوال الذات، وتشخيص الواقع والسخرية من المستجدات ومحاكمة التاريخ وتفسير التحولات. إن رواية رفيف الفصول، حسب الباحث، تنسج من آلام الذات والكشف عن الأوهام، ورصد المسوخات الجديدة التي مست الشخصيات والقيم، ومحاكمة التاريخ المحلي. مشيرا إلى أنها قد اعتمدت على سحر الحكاية، وطاقتها التأويلية، وقدرتها على تفسير ما حصل بالنسبة لشخصية ابن المعز بن نوالي، الذي عاد بعد مدة إلى مدينته الأصلية (وجدة) ليغرق في بحر من الذكريات الحلوة والمرة، لكنه يستفيق على تحولات قاسية وحادة (زواج حبيبته الغالية ( بنت الحكواتي بولعيون المناضل والمحب لرموز النضال والمقاومة) من خيطانو (ابن المومس زازة) الذي صار موظفا ساميا، بالرباط، فيقع بينهما تحالف ضد أهل المدينة الطيبين الذين تحالفت عليهم أسباب القهر والفقر والتشرد. فحاول أن يبعث الحياة فيهم من خلال الاستنجاد بأشكال المقاومة التي جربها الأجداد، لكنه يفاجأ بأن الناس يتفرجون ولا يشاركون، يضحكون ويثرثرون ولا يبكون ولا يثورون.

إن رواية رفيف الفصول لمحمد المعزوز تصنع من التذكر والحنين والخيبة، وتشخيص الواقع ورصد التحولات، أي من تضافر الذاتي والموضوعي سبيلها لمحاكمة تاريخ مطبوع بالانهيار والالتباسات، كاشفة الغطاء عن أوهام التغيير وفشل المناضلين ونهاية الثورات وموت الإنسان، لكن وفق رؤية جدلية، تترك دوما بصيصا للأمل مع كل النهايات المؤلمة.

وقد تم تناول الرواية من خلال ثلاث زوايا متكاملة:

رحلة البحث عن الذات.
تشخيص الواقع المستجد أو مسوخ جديدة: الشخصيات كمنافذ.

أما المداخلة الخامسة فكانت لصدوق نور الدين، وكانت تحت عنوان (الحارس، السلطة، الحلم والفقدان قراءة في رواية الحارس لعزت القمحاوي) وقد قرئت بالنيابة.

انطلق من تحديد الخلفية المتحكمة في القول الروائي المنتج في الحارس والتي تتمثل في الحرية.. ذلك أن شخصية وحيد تمارس وظيفتها المتمثلة في الحراسة، وفي الآن ذاته، تعكس جانبا مما يمارس عليها.. ومما أصبحت تمارسه ذاتيا كي يخدم حقيقة السلطة و وهمها.. ويشير صدوق إلى أن الحقيقة كما تظهر وتتبدى في التمرين اليومي على الممارسة لإحقاق ارتباط، وما تم الاستعداد له منذ كان الأب على قيد الحياة..

وكأن السلطة بالإرث والتوريث، كيما تستمر الأسرة حاضرة وبقوة على مستوى الانتماء لما يمثل القوة والاستبداد.. وأما الوهم فيعكسه الحس الساخر، عما إذا كانت هنالك سلطة يتحقق فعل حمايتها.. فمن يحمي، وما يحمى، لا أثر وجودي وفعلي له.. وليس من حق الكائن الحامي الحارس لسؤال.. إذ أن ما عليه تنفيذه وإقراره، حصيلة الرموز والإشارات المتمرن عليها، والتي تفوق لروائي عزت القمحاوي في الإلمام الموسع بمعجمها.. وهو بالضبط المعجم الذي يؤطره خارج كتابة الذات، أو التخييل الذاتي..

إن الحارس كشخصية:

1/ لا قرابة عائلية له.. من تم فهو معد لخدمة السلطة..
2/ هذا الإعداد يجعله كالبقية، يتخلى عن هويته الشخصية: الإسم
واللقب، ليغدو بالذات، إنسان السلطة وخادمها غير المنازع..
3/ لا حرية له ليمارسها، فالحجم المعطى له: حب/ عطلة، يتخلى
عنه موظفا إياه لمصلحة السلطة..

إن رواية الحارس تجسيد فعلي لنمط تحول تعرفه الرواية العربية الحديثة، وتساهم فيه بالتنويع معنى وأسلوبا، كتابات مختلفة.

أما الورقة الأخيرة كانت لمحمود عبد الغني(قرئت بالنيابة عنه بعد تعذر حضوره لظروف عملية طارئة) وهي بعنوان شكل الأيام قراءة في رواية إبراهيم صنع الله العمامة والقبعة مؤكدا أن الأمر بتجربة أو بتجريب، مادام الروائي قد خرج عن كل رواياته التجريبية الأولى التي قدم فيها شهادة عن تاريخ أو عن حدث تاريخي، لأنه هنا يكتب التاريخ من جديد بنزعة كاتب اليوميات، لكن بعيدا عن ذلك التركيز النرجسي الذي يميز معظم دفاتر اليوميات والمذكرات الخاصة. وقد طرح الباحث عددا من التساؤلات حول قضية عادت من جديد للجدل وهي الخطية التاريخية. حيث أن الوقائع تحكى وتقدم تبعا لترتيب زمني معين. وعلى عكس ما نتصور. وصنع الله في عمله الجديد العمامة والقبعة يعتمد تقنية كاتب اليوميات لسرد التاريخ، ورغم ذلك فالكتاب يعلن انتماءه لجنس الرواية.

كما تناول محمود عبد الغني محاور أخرى لمقاربة الرواية، منها أن الرواية هي بلا شكل مرحلة تاريخية صعبة في تاريخ مصر تتجلى في دخول نابليون دخول المستعمر، وما تلا ذلك من غزو وانقلابات أطاحت بأقوام ورؤوس، وما جلبه الاستعمار الفرنسي من مظاهر التمدن، وما طرأ على السكان من تغير في الملبس والسلوك.كما تناول الجسد والجنس: مسألة المقصية من الخطاب الاجتماعي. إنها المسألة الأكثر خصوصية بالنسبة للذات. وهناك بعض مدوني اليوميات الذين اعتبروا أن يومياتهم تبقى مجردة من أية أهمية إذا لم ترصد مسألة الجنس.

المحور الأخير الذي عالجه الباحث هو تعدد الثيمات:فالعمامة والقبعة، عمل متعدد الثيمات. وهذا التعدد جعله شديد القرب من بنية اليوميات، وطبعه بغياب الاستمرارية السردية.فغالبا ما يقطع الكاتب خطابه لتظهر مثل النتوء خطابات أخرى، قبل أن يعود إلى ثيمته الأصلية. وهذا التنوع يمكن تأويله بعلاقة الكتابة عند كاتب اليوميات بحركات ذهنه. فالمدونات اليومية تحضر مثل الصدى عن معيشه.

وقبل فتح باب المناقشة أعطى عبد اللطيف محفوظ الكلمة لمحمد علي حيدر كاتب رواية مقامات عنكبوتية، فقدم الخلفيات الجمالية والدلالية والإيديولوجية التي تحكمت في كتابته لروايته.

وانتهى اللقاء بنقاشات عميقة وصريحة بين الأساتذة المحاضرين والطلبة الباحثين بماستر الدراسات الأدبية والثقافية بالمغرب، فضلا عن تدخل الأستاذ محمد برونة (من جامعة وهران) الذي تحدث عن التجربة الثقافية والروائية لمحمد الزاوي، معتبرا إياه مثقفا أكثر منه أديبا أو ناقدا. وفي الختام أعطيت الكلمة لرئيس المختبر شعيب حليفي الذي أشار إلى أهمية الروايات المدروسة في هذا اليوم وإلى أهمية التنوع المرجعي للمقاربات النقدية قبل أن يشير إلى أن المكتب المسير للمختبر قد سطر البرنامج العام للموسم الجامعي والثقافي المقبل وأنه سيتم الإعلان عنه بداية شهر أكتوبر.