تتناول الباحثة السورية هنا تيارا متناميا من الكتابات التي تشخص أمراض الفكر العربي، وتتريث بالتحليل عند كتاب جورج طرابيشي، الذي تعرض لمحاورة، وتفكك مصادراته الأساسية، وتدير حوارا جدليا خلاقا معها.

الفكر العربي المعاصر المريض!

رغداء زيدان

تمهيد:
كتب كثير من المفكرين العرب عن الفكر العربي المعاصر، وكانت كتاباتهم ترصد وتحلل وتفكك هذا الفكر في محاولة لفهمه وتحديده ووصفه وتقييمه. ووجدت كثير من هذه الكتابات أن هذا الفكر يعاني من أزمات واشكاليات ومشكلات ومعضلات...إلخ (يجد القارئ ندوات ودراسات وبحوثاً وكتباً تحمل عناوين كـ "أزمة الفكر العربي المعاصر" و "إشكاليات الفكر العربي المعاصر" و"معضلات الفكر العربي المعاصر" و "مشكلات الفكر العربي المعاصر" و"تحرير الفكر العربي المعاصر".... إلخ).

ووجد الباحثون أن مقولات هذا الفكر تدل على سوء فهم، وعدم استيعاب، وخلط، ويعاني الفكر أيضاً من وعي زائف واستلاب. وانتقل بعض المفكرين من وصف مشكلات هذا الفكر وتخبطاته إلى رصد حالة من العجز، والضعف، والشحوب، ذلك الشحوب الذي يدل على المرض واللاصحة فوجدنا مقالات وبحوثاً تحمل عناوين كـ "شحوب الفكر العربي المعاصر" و "عجز الفكر العربي المعاصر" و"ضعف الفكر العربي المعاصر"... إلخ. والملفت أن الباحثين انتقلوا أيضاً لرصد أعراض مرضية نفسية يعاني منها الفكر العربي المعاصر، فنجد المفكر جورج طرابيشي يكتب بصراحة عن مرض هذا الفكر، وهو مرض نفسي وليس جسمانياً، فكتب كتابه (المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي) ليحلل هذا الفكر تحليلاً نفسياً ويشخص حالة من العصاب الجماعي العربي ناتج عن رضة حزيران 1967م، والتي أدت حسب رأيه إلى نكوص هذا الفكر نحو التراث. أما غريغوار مرشو فقد كتب عن (الفصام في الفكر العربي المعاصر) راصداً مظاهر هذا الفصام وأعراضه عند معظم التيارات الفكرية العربية المعاصرة.

والحقيقة أنني لا يمكن بأي حال أن أنفي أن الفكر العربي المعاصر يعاني من مشاكل وأزمات واشكاليات وسوء فهم وعدم استيعاب ووعي زائف، بل ربما أيضاً عصاب وفصام وغير ذلك من العلل والأمراض، ولكنني أجد أنني أقف أمام الأدوات التي اُستخدمت في تشخيص وتحليل هذا الفكر، وأمام التعميمات التي يطلقها الباحثون، والتي تجعل كل مقولات الفكر العربي المعاصر موضع شك وريبة، مطيحة بمقولات على غاية من الأهمية. ولعل كتاب (المرض بالغرب) الذي أشرت إليه سابقاً لمؤلفه جورج طرابيشي، يعتبر من هذه الكتب التي استخدم فيها المؤلف أدوات التحليل النفسي لتشخيص حالة عصاب جماعي يعاني منها الفكر العربي المعاصر!. وكلمة (عصاب جماعي) كلمة خطيرة تدل على حالة مرضية عامة، وربما وباء لم يسلم منه أحد!، (جاء في مقدمة الكتاب قول جورج طرابيشي: "عندما نتحدث عن عصاب جماعي فإننا لا نعممه ليشمل جميع العرب في جميع بلدانهم وبجميع أجيالهم وطبقاتهم، بل نخصصه لنقصد به حصراً الخطاب المعصوب الذي تنتجه وتعيد إنتاجه شريحة واسعة من الأنتلجنتسيا العربية منذ الرضة الحزيرانية" (ص12). أي أنه يحدد زمناً لعصاب الفكر العربي وهو رضة حزيران 1967م حسب تسميته.

وهي تختلف عن (الفصام في الفكر العربي المعاصر) الذي حاول غريغوار مرشو تتبعه في مقولات الفكر العربي المعاصر، والذي يعني أنه لا يشمل كل هذا الفكر بل بعض فئاته وتياراته (رغم أن الكاتب أيضاً توسع كثيراً في تتبع هذا الفصام في مقولات الفكر العربي المعاصر، فوجده عند تيارات كثيرة، نهضوية وقومية وماركسية وإسلامية... إلخ).

في هذا المقال أود تناول كتاب (المرض بالغرب). وهدفي بالدرجة الأولى مراجعة تشخيص الكاتب وقياس مدى انطباقه على مقولات الفكر العربي المعاصر، ولا أدعي أنني سأنجح في الوصول لتشخيص مؤكد لحالة الفكر العربي المعاصر النفسية، ولكنني ربما استطعت تسليط الضوء على بعض النقاط التي هي بحاجة لدراسة وبحث أكثر برأيي.  

المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي!
يحاول المفكر جورج طرابيشي أن يختار لكتبه وأبحاثه عناوين دالة على مضمونها، (حتى لو بدا بعضها للقارئ استفزازياً أو مشتطاً أو بعيداً عن الرصانة العلمية حسب قوله في مقدمة كتابه مذبحة التراث معلقاً على عنوانه) فمن "نقد نقد العقل العربي"(1) و "من النهضة إلى الردة" و "أنثى ضد الأنوثة" و "شرق وغرب رجولة وأنوثة" إلى "الدولة القطرية والنظرية القومية" و "في ثقافة الديمقراطية" و "مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة" و "المرض بالغرب" و "هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية "... إلخ. وجورج طرابيشي الذي انتقل من النقد الأدبي إلى النقد الفكري يستخدم التحليل النفسي في نقده سواء الأدبي أم الفكري، (وهو بالمناسبة من المفكرين المهتمين بالتحليل النفسي، وقد ترجم معظم أعمال سيغموند فرويد إلى العربية). ومن كتبه التي استخدم فيها التحليل النفسي: "عقدة أوديب في الرواية العربية"، وأصدر كتاباً عن الكاتبة والروائية المصرية نوال السعداوي، وهو بعنوان: "أنثى ضد الأنوثة" وغير ذلك من كتبه النقدية. ويأتي كتاب (المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي) والذي صدرت طبعته الأولى بعنوان ألطف وأقل "جارحية"! هو (المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي) ليكون كتاباً نقدياً بامتياز يعتمد التحليل النفسي في نقد الفكر المعاصر، ويطبق مقولاته على مساحة هذا الفكر ليرصد سيروة النكوص وتجلياته في خطاب ما بعد رضة حزيران 1967م.

يقع الكتاب في 184 صفحة، وهو القسم الأول من رسالة للدكتوراه كان ينوي جورج طرابيشي تقديمها لجامعة السوربون/ باريس الثالثة، تحت إشراف الباحث الدكتور محمد أركون، وقد امتنع طرابيشي عن تقديمها مضحياً بالدرجة العلمية، لأنها كانت بحاجة إلى ترجمة بالفرنسية وإلى تخفيف من لهجتها النقدية الجارحة(2). وقد نشرها على قسمين يحمل الأول منهما عنوان (المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي) والثاني (ازدواجية العقل، دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي). الكتابان صدرا عن دار بترا للنشر بالتعاون مع رابطة العقلانيين العرب، وصدرت الطبعة الأولى منهما عام 2005م(3) . (ستكون اقتباساتي لأقوال طرابيشي من كتابه هذا من هذه الطبعة). ويذكر طرابيشي في مقدمة كتابه أن هناك صعوبة كبرى في تطبيق التحليل النفسي على الخطاب العربي لأنه مستقل ولو ظاهرياً عن ذاتية منتجيه، كما أنه جماعي وليس فردياً، ولكن الكاتب استطاع التغلب على ذلك، فـ "الرضات الكبرى في تاريخ الجماعات والشعوب، ومنها على سبيل المثال رضة حزيران يونيو 1967، من شأنها أن تولد سلاسل متناظرة من ردود الأفعال المتطابقة أو المتماثلة بحيث تبدو الجماعة وكأنها تسلك سلوك الفرد الواحد" (ص9 و10). ومن هنا استطاع الكاتب استخدام التحليل النفسي لخطاب ما بعد رضة حزيران 1967م. مقسماً بحثه إلى فصول:

1 ـ كتب في الفصل الأول مفرّقاً بين صدمة الفكر العربي التي يُجمع الباحثون على أنها حدثت في لحظة احتكاك العالم العربي بالغرب، والتي جعلتهم يرون مقدار تخلفهم في مرآة التقدم الغربي، وبين الرضة التي حدثت بسبب هزيمة حزيران 1967. فإذا كانت تلك الصدمة ذات مفعول منبه وتحفيزي، فإن الرضة أطلقت "الآليات اللاشعورية للدفاع المرضي من خلال العزوف عن تعرف الواقع وعن مواجهته" (ص18). وإذا رحنا نتساءل لماذا كانت هزيمة حزيران دون غيرها هي التي أحدثت هذه الرضة فإن الكاتب يجيب بأن:

أ ـ هذه الهزيمة كانت غير متوقعة.
ب ـ ولم تكن مغطاة ولا قابلة للتغطية.
ج ـ ولأنها كانت هزيمة متجددة وغير قابلة للتصريف.
د ـ ولأن التأويل اللاشعوري لهزيمة حزيران 1967م كان "تأويلاً ذا مفعول رضي، فقد حررت على مستوى اللاشعور الجمعي كمية من الحصر النفسي لا تقل شأناً عن تلك التي حررتها على الصعيد الشعوري"(ص34).

2 ـ في الفصل الثاني يرصد الكاتب مسيرة هذا الفكر من "جرح الهزيمة إلى ضمادة التراث"، فعبد الناصر كما يقول، كان يشكل (أباً) للجماهير، وهزيمة حزيران كانت بمثابة هزيمة قتلت هذا الأب، وإسرائيل التي اقتدرت على أب بقامة عبد الناصر لم تترك أمام الأبناء "في مواجهة عضوها التكنولوجي المزدرع والكلي السمية سوى أن يلوذوا بحمى أب أكثر تجذراً في الاستمرارية التاريخية، وأكثر ثباتاً في ليل العصور، وعلى هذا النحو أخذت بالاشتغال آلية النكوص إلى التراث بوصفه أباً رمزياً حامياً" (ص38).

وقد أورد الكاتب شواهد كثيرة على تحليله هذا، وخصوصاً من "ندوة التراث وتحديات العصر" التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة في أيلول/ سبتمبر 1984م، محاولاً إثبات ما أسماه "التوظيف الفالوسي للتراث" في مداخلات المشاركين في تلك الندوة، على اعتبار التراث هو الأب البديل الحامي، فأورد مقتطفات من مشاركة عفيف البوني، وعبد الوهاب بوحديبه، وجلال أمين، وعادل حسين، وعبد الله فهد النفيسي، كلها تدور حول الوظيفة الأساسية للتراث في الحماية والحفظ والنهضة (وسنجد أن الكاتب يعود إلى مشاركات هذه الندوة كثيراً في كتابه هذا).

3 ـ أما الفصل الثالث من الكتاب فقد بيّن فيه الكاتب الأشكال النوعية التي تتظاهر بها سيرورة النكوص على صعيد الخطاب العربي المعاصر حول التراث فكتب عن:

أ ـ النكوص كإضراب عن النمو: استشهد الكاتب بأقوال مفكرين صرحوا بأنهم يقترحون، يأساً من التقدم، القطيعة مع حضارة العصر، كما في أقوال لطارق البشري ولمحمد عزيز الحبابي وعبد الله النفيسي، وحتى عند برهان غليون الذي لا ينتظم أصلاً في "سلك دعاة الإضراب الحضاري" حسب وصف الكاتب (ص55).

ب ـ النكوص كإلغاء للذاتية واستقالة من الفعل التاريخي: فكما أن الطفل يميل ميلاً طبيعياً ليرى في الراشد قوى سحرية بحكم عجزه، تريحه من المواجهة فكذلك الخطاب العربي يعيد صناعة التاريخ إلى قوة مجردة سحرية "بحيث يتحول الخطاب من خطاب مبني للمعلوم إلى خطاب مبني للمجهول،... والواقعة الأساسية التي يحيلنا إليها هي استقالة الذاتية الإنسانية وغياب الفَعَلة التاريخيين الذين هم بالضرورة البشر" (ص57). وقد استشهد الكاتب لإثبات تصوره هذا بكتابات لمنير شفيق ولحسن حنفي.

ج ـ النكوص كإحياء للمخطط العائلي: فالمثقف العربي يعيش قضية التراث وكأنه لا يزال طفلاً في أسرته. فالدور الرئيس للتراث هو أن يكون أباً رمزياً، واللغة القومية تؤدي دور الرابطة الرحمية، والثورة هي فعل بنوي... إلخ. ويجد الكاتب في بعض كتابات زكي الأرسوزي وفائز اسماعيل واسماعيل العرفي وصبحي الصالح ومحمد عمارة وعبد الله القصيمي ما يثبت طرحه هذا.

د ـ النكوص كإعادة تنشيط لآلية الترميز الجنسي: فموقف الخطاب العربي من الحضارة الغربية يتيح المناخ النفسي الملائم لإعادة تشغيل آلية الترميز الجنسي. فـ "الرمزية الجنسية هي بمثابة "النظام المعرفي" ـ الأبيستمي ـ للرؤية العصابية للعالم. فالراشد العصابي يرى في كل شيء قضيباً أو مهبلاً، هذا إن لم يرَ فيه أيضاً ثدياً وشرجاً"(ص73). وعلى هذا نجد كتابات يبرز منها تصوير الجانب الاغتصابي، وعقدة الخصاء، والعملقة الفالوسية... إلخ، في تصوير العلاقة مع الغرب. كما في قصة ناصر رجب "زمن الهجرة والتمرد" أو رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال".

هـ ـ النكوص كإحياء للمركزية الأنوية: من المعروف في علم النفس أن الطفل يرى كل شيء حوله على أنه استطالة لجسده، "فكل طفل هو بالضرورة مؤسس لنظام شمسي، وهو في آن معاً مَلِك هذا النظام وشمسه"(ص81)، فهو يمارس ما يسمى "المركزية الأنوية". في الخطاب العربي مارس المثقفون العرب "المركزية الأنوية" هذه على نحو مكثف منذ رضة حزيران، واعتبروا المنطقة العربية هي قلب العالم، ومقامها هو مقام الآمر الناهي، وهي قائدة العالم، والمتبوعة وليست التابعة. تدل على ذلك كتابات محمد عمارة ومنير شفيق وراشد الغنوشي وأنور عبد الملك واسماعيل العرفي وأنور الجندي وغيرهم.

و ـ النكوص كعودة للمكبوتات الطفلية: "فالخطاب العربي يقدم لنا عينات من موقف طفلي يعتبر الآخرين هم فعلاً الجحيم، وأن محض وجودهم، وكم بالأولى الاعتراف بهذا الوجود وبضرورته، هو بحد ذاته جرح نرجسي أشد إيلاماً من أن يحتمل" (ص91). فمحمد عابد الجابري وعادل حسين وجلال أمين وعلي عيسى عثمان وراجح الكردي وعبد الحميد سليمان وأنور الجندي... كلهم يكتبون ما يؤكد وجود نزعة أنوية كلية في خطاب الفكر العربي المعاصر بعد الرضة، "هذه النزعة الأنوية الكلية التي لا تعترف بوجود الآخر أو بملكه إلا لتصادره لحسابها أو لتدرجه في خانة ملكها" ولكنها "باعترافها بوجود الموجود تظل تضمن لنفسها حداً أدنى من الموضوعية يقيها من الغرق النهائي في عالم الهذاء. ولكن الخطاب العربي المعاصر لا يخلو مع ذلك من عينات تنم عن إلغاء هذائي لملك الآخر ولوجوده معاً" (ص97).

ز ـ النكوص كتقهقر من تلقائية الفعل إلى آلية رد الفعل: كما يفعل الطفل من أجل إثبات شخصيته إلى معاكسة من حوله من الراشدين قولاً وسلوكاً، فإن المثقفين العرب ينطلقون من موقف هذائي لا يتعقل الآخر ويدفعهم إلى رد فعل سلبي يعاكس موقفه. ويضرب الكاتب مثلاً عن ذلك بالموقف من الاستشراق، (كما فعل ادوارد سعيد، في كتابه الاستشراق حسب رأي الكاتب) فالموقف الهذائي من المستشرق، لا ينظر له إلا على أنه عدو، متآمر، يمارس الهيمنة على الذات، وهنا " يجري تحويل هذا الآخر ـ العدو إلى معيار مطلق للتفكير الضدي، وللحكم العكسي، أياً ما تكن الخسائر التي يمكن أن تترتب على هذا الموقف بالنسبة إلى "الذات" نفسها، وإلى تراثها، الذي يقال لنا مع ذلك، إنه موضع أطماع ذلك المستشرق المبيت النيات" (ص100). وعلى هذا نجد الدعوة إلى تجريم وتبخيس كل فكر تراثي أشاد به المستشرقون سواء كان أدبياً أم فلسفياً أم اجتماعياً أم دينياً حتى، ككتابات ابن رشد وابن خلدون وابن عربي والسهروردي والأصفهاني... إلخ. نجد هذا عند أنور الجندي وجلال أمين وغيرهم.

ح ـ النكوص كارتداد فعلي عن عصر النهضة: إن ما نحن بصدد مواجهته اليوم حسب رأي الكاتب على صعيد الخطاب العربي "ليس حالة ارتداد إلى عصر النهضة، بل بتعبير أدق حالة ارتداد عن عصر النهضة" (ص102). ولهذا يجري تأثيم عصر النهضة على اعتباره، كما يقول عامر غديره: "عصر الاستعمار والتشويه الذاتي والغزو الثقافي" (ص102). ويتخذ هذا التأثيم مظهراً طائفياً أحياناً وتشكيكاً في وطنية رموز عصر النهضة كمحمد عبدو والأفغاني كما فعل منير شفيق وعلي زيعور وأنور الجندي... إلخ.

4 ـ وينتقل جورج طرابيشي ليتحدث في الفصل الرابع من كتابه عن ظاهرة أشد خطورة برأيه من ظاهرة تأثيم عصر النهضة، وهي ظاهرة الردة عن مقولات النهضة "من حيث هي مقولات لا تزال لها فاعليتها في الواقع العربي الراهن وفي الأيديولوجيا العربية المعاصرة" (ص111). فإذا كانت استراتيجية خطاب النهضة قائمة "على أساس التماهي الجزئي مع الحضارة الغربية بدافع الضرورة أكثر منه بدافع الإعجاب! (إشارة التعجب مني) ذلك أن الدعوة إلى التماهي مع الغرب لم تكن أبداً نتيجة الضرورة فقط، رغم وجود هذا، بل كانت نتيجة إعجاب وإعجاب شديد حتى، دفع كثيراً من المفكرين إلى الدعوة إلى أخذ كل ما عند الغرب مهما كان، من خير ومن شر. وهذا ما أبرزه جورج طرابيشي نفسه في هامش هذا الاقتباس، عندما أورد مقولة لطه حسين من كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" يدعو فيها إلى أوْرَبة مصر، وهي الاستراتيجية الأساسية التي تمحور عليها عصر النهضة ومنطق النهضة بالذات، وهي التي ستضحي في الخطاب العربي المعاصر من حيث هو خطاب ردة ونكوص موضع تبخيس ومقاطعة ورفض، وهي التي ستدان ليدان معها عصر النهضة برمته" (ص117). وهذا ما جعل مفكرين من أمثال عادل حسين ومنير شفيق (الذي أسماه جورج طرابيشي داعية القطيعة الحضارية، وداعية الانغلاق الحضاري!) يدعون إلى معاداة الغرب لا كاستعمار فقط بل كحضارة وثقافة، كما وجد جورج طرابيشي في كتاباتهم.

أما طارق البشري وعبد الحليم عويس وراشد الغنوشي وأنور الجندي، وحتى "ممثلي التيارات القومية المنفتحة" كبرهان غليون وعبد الله عبد الدائم وعصمت سيف الدولة... فيتحدثون عن "غزو غربي" ذلك أن " الخطاب النكوصي المعاصر يضع على رأس أولويات عدائه ما سماه في البداية بـ "الاستعمار الفكري" و "الاستعمار الثقافي" وما انتهى إلى تسميته، على ما في ذلك من مفارقة، بـ "الاستعمار الحضاري". وعلى معهود عادته في الممارسة الديماغوجية لإستراتيجية التسمية، فإنه يحول أيضاً مفهوم "التبعية" عن منطوقه الاقتصادي ليعطيه معنى شديد الجارحية نرجسياً، ألا وهو معنى التبعية الفكرية والحضارية" (ص127). فصار هناك ارتداد وتخوين للمقولات النهضوية كالقومية العربية والتعليم الحديث ووحدة العقل البشري والانفتاح الحضاري وحتى الديمقراطية.

5 ـ كرس جورج طرابيشي الفصل الخامس من الكتاب ليتحدث فيه عن منهج البحث، وليسأل هل الخطاب العربي المعاصر موضوع مطابق للمنهج التحليلي النفسي؟. وقد رجع إلى رأي محللين لهذا الخطاب هما محمد عابد الجابري وبرهان غليون، فالأول أخضع الخطاب العربي المعاصر لتحليل أبستمولوجي، والثاني أخضعه لتحليل إيديولوجي سوسيولوجي. والنتيجة التي ينتهي إليها الأول هي أن الخطاب العربي المعاصر موضوع مطابق لمنهج التحليل النفسي، بعكس برهان غليون الذي يعلن "عدم مطابقة الموضوع لا لمنهج التحليلي النفسي وحده بل لكل منهج تطبيقي مماثل"(ص156). ويدافع جورج طرابيشي عن منهجه ويقول إن الخطاب العربي المعاصر "يشكو من ضمور انفتاحه على المنهجيات العلمية الجديدة في مضمار الإنسانيات والاجتماعيات" (ص157). ويعود ليثبت أن هزيمة حزيران كانت رضة نفسية تمخض عنها عصاب جماعي تبدى بشكل واضح في الخطاب العربي المعاصر.

6 ـ في الفصل الختامي من الكتاب يقول جورج طرابيشي إن العصاب خطيئة ضد الواقع و" شرط التكفير عن هذه الخطيئة بحق الواقع هو أن تعيد الأنتلجنسيا العربية منتجة الخطاب العربي المعاصر ترتيب علاقتها بهذا الواقع... وأن تعيد الأنتلجنتسيا العربية صياغة إشكالية الأصالة والمعاصرة برمتها وفق الاعتبارات العقلانية والواقعية" (ص173و174). وقد حدد طرابيشي هذه الاعتبارات بما يلي:

أ ـ العالم يتجه اليوم ليكون موحد الحضارات متعدد الثقافات. ولم يعد ثمة وجود ولا إمكانية وجود إلا لحضارة واحدة هي الحضارة العالمية. وصفة التعدد لا يمكن إطلاقها إلا على الثقافات التي هي بالضرورة قومية. " إن أي حديث، وما أكثر رواجه في الأيديولوجيا العربية المعاصرة!، عن حضارة أخرى أو نموذج حضاري مغاير أو مشروع عربي للحضارة لن يكون ضرباً من الوهم ومن خداع الذات فحسب... بل سيكون أيضاً وبالأساس بمثابة تأسيس لعلاقة فصامية مع الحضارة الوحيدة الممكنة اليوم التي هي الحضارة العالمية" (ص174).

ب ـ إن الحضارة العالمية الغربية التي يرفضها العرب و ربما يكرهونها لأسباب كثيرة هي التي استطاعت أن تفرض نموذجها الحضاري على العالم، وعلى هذا فإن "أية محاولة لتحويل العداء للاستعمار الغربي أو للهيمنة الاقتصادية الغربية، أو إجمالاً العداء السياسي للغرب، إلى عداء حضاري للغرب، لن تعني إلا وضع الذات في موضع التضاد مع الحضارة والحكم عليها بواحد من مصيرين: السقوط في البربرية أو في الفصام"(ص176).

ج ـ الحضارة الحديثة قابلة للنقد، وشرط فعالية هذا النقد هو الانخراط في الممارسة الحضارية عينها. والممارسة هنا ليست تغريباً، فإذا كان "التغريب أحادي المرجعية وإلزامي النموذج، فإن التحديث التزام مفتوح على تعدد من النماذج والبدائل والحلول المبدعة... وعلى نقيض التغريب الذي يؤسس العملية الحضارية على أنها قطيعة في الهوية، يؤسسها التحديث على أنها استمرارية واتصالية يكون فيها التماهي مع الآخر ممكناً دون نزع الهوية" (ص177).

د ـ الثقافة القومية التي هي "نقطة التمفصل الوحيدة الممكنة مع الحضارة" عرفت تطوراً ما كانت لتعرفه لو بقيت أسيرة دارتها المغلقة.

هـ ـ لا يجوز أن توضع الثقافة القومية في موضع التعارض مع الحضارة الحديثة، ولكن يجب أن تكون قناتها الموصلة وجسر العبور منها وإليها. وكذلك التراث يجب ألا يوضع في موضع المواجهة مع الحضارة الحديثة لأنه سيكون "سلاحاً مفلولاً"، "فشأنه كشأن السيف الذي يراد له أن يغلب الصاروخ" (ص179). وكذلك فإن جعله سلاحاً ضد الحضارة سيحرمه من فرصته في التطوير والتجديد. "الانفتاح على الحداثة هو الذي يمكن أن يطرح على التراث أسئلة جديدة وأن يستنطقه أجوبة جديدة، وأن يصوغه في جزئياته وكلياته في إشكاليات جديدة" (ص179). ويختم طرابيشي كتابه بالتصريح أن تحليله لهذا الخطاب الأيديولوجي مسكون أيضاً بهاجس أيديولوجي، فهو داخل اللعبة لا خارجها، وهاجسه الأيديولوجي هو تجديد الانتماء إلى عصر النهضة، وإعادة صياغة إشكالية النهضة على ضوء الواقع المحلي والإقليمي والعالمي. إن الأنتلجنتسيا العربية مسؤولة عن التيئيس الحضاري، فبعد أن كانت في عصر النهضة تلعب دور مهماز اليقظة وتدعو إلى التقدم، نراها اليوم تحمل لواء الدعوة إلى النكوص وتمارس دور التيئيس الحضاري. ولهذا نجد ضرورة المنهج التحليلي النفسي الذي ينقد العقل الباطن العربي، فهو مشروع لنقد "عقل العقل" المنفعل لعقل فاعل. وهذه هي إضافة جورج طرابيشي التكاملية إلى ما قاله أو ما يمكن أن يقوله دارسون آخرون لخطاب الأنتلجنتسيا العربية المعاصرة. 

وقفة مع تحليلات جورج طرابيشي:
بعد هذا العرض لتحليلات جورج طرابيشي في كتابه "المرض بالغرب" أجد أنني أقف أمام عدة نقاط:

1 ـ رغم أن جورج طرابيشي دافع عن منهجه التحليلي وبيّن أنه من الممكن استخدام منهج التحليل النفسي لدراسة الخطاب العربي فإن هذا المنهج يبقى موضع نظر، وتبقى مقولاته واستنتاجاته غير دقيقة وغير معبرة بشكل نهائي، وهذا ما بيّنه جورج طرابيشي نفسه عندما قال: "أية ظاهرة إنسانية هي بحكم انتمائها إلى ملكوت ما هو إنساني متعددة التعين وقابلة بالتالي للتفسير بأكثر من كيفية واحدة" (ص184). ولكن هناك أمر آخر وهو أن الخطاب العربي المعاصر لا يشكل ظاهرة إنسانية محددة الملامح تماماً، بل هو متعدد ومتنوع ولا يسير في اتجاه واحد فقط، ولذلك فإننا من الممكن أن نتناول جانباً واحداً من هذا الخطاب بطريقة، ولكنها لا تصلح لتناول جانب آخر منه. هذا فضلاً عن أننا لن نستطيع التعامل مع الجماعة كما الأفراد. وأما أن تكون رضة حزيران قد أنتجت سلسلة متناظرة من ردود الأفعال المتطابقة والمتماثلة فهذا غير صحيح بشكل كامل، ذلك أنه رغم وجود ما يبدو أنه صورة لردود أفعال متماثلة يحمل في نفس الوقت تنوعاً كبيراً لا يمكن تناوله بالجملة كما فعل الكاتب(4).

2 ـ إن إطلاق صفة عصاب جماعي عربي أدى إلى نكوص الفكر نحو التراث، تجعل الأمر يبدو وكأنه وباء اجتاح جميع أطياف الفكر العربي المعاصر. وكون جورج طرابيشي قد حدد خطاب ما بعد رضة حزيران، فأستغرب كيف تجاهل تلك البحوث والدراسات التي كتبت في تحليل الهزيمة وبحثت في أسبابها، والتي كانت على النقيض من الخطاب العربي الذي دعا إلى العودة للتراث والجذور تدعو إلى الاندماج بالغرب والأخذ بالحداثة. فبعد انتهاء الحرب بدأت أصوات المفكرين العرب تكتب عن الهزيمة وأسبابها، فمن "معنى النكبة مجدداً" لقسطنطين زريق الذي أرجع الهزيمة إلى تخلفنا العلمي وضعفنا النضالي.. وكذلك ياسين الحافظ الذي كتب عن "الهزيمة والأيديولوجية المهزومة" (بالمناسبة فإن جورج طرابيشي يستشهد بكتابات ياسين الحافظ في كتابه على اعتباره استثناء) وكلنا سمعنا بصادق جلال العظم و "النقد الذاتي بعد الهزيمة" الذي وجد فيه أن العودة للماضي والتمسك بالتقاليد البالية يعيق التقدم وأرجع أسباب الهزيمة إلى أمور لها علاقة بالشخصية العربية نفسها... إلخ. وكما قال أسعد أبو خليل في مقاله "نقد النقد الذاتي بعد الهزيمة" المنشور في الأخبار اللبنانية عدد السبت 3 أيار/ مايو 2008، فإن ما يجمع هذه الأصوات الناقدة عموماً هو "الاتفاق على لوم مبالغة العرب في تحميل المسؤولية للغرب. وعزو الهزيمة إلى عناصر داخلية (ذاتية) في المجتمع العربي. والتقليل من وطأة المؤامرات الخارجية... والإيمان المطلق بفصل معرفي بين الشرق والغرب. طبعاً، أنتجت حركات الإخوان المسلمين أدباً خاصاً بنقد الذات، وخلصت إلى الاستنتاج أن الابتعاد عن الدين الحنيف سبّب الهزيمة".

فكيف تجاهل جورج طرابيشي هذا الفكر العربي المعاصر الذي كان بشكل أو بآخر يعتبر أن من أسباب هزيمتنا رجعيتنا! وهل من الممكن أن نشخص حالة مرضية نفسية أخرى في الفكر العربي المعاصر الذي كان على النقيض من الفكر النكوصي نحو التراث على حد تعبير طرابيشي؟ أم أنه فكر معافى حسب التشخيص النفسي؟.

3 ـ قدم جورج طرابيشي نقداً مميزاً لكيفية تناول المفكرين للتراث في كتابه "مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة" الصادر عن دار الساقي، ط1/1993م، ط2/2006م. وفيه يبين أن التيارات الفكرية العربية، والتي قسمها إلى أربعة تيارات: التيار الماركسي، التيار القومي، التيار الفلسفي أو ما يسميه بالتيار الابستملوجي والتيار السلفي "لا تأخذ التراث كما هو من حيث هو تراث له وحدة وشخصية وبنية واحدة، بل دوماً تمارس فيه نوعاً من التقطيع والتشطيب" (من لقاء لجورج طرابيشي مع جريدة الديار) وهو محق في هذا، بينما نجده في تشخيصه لهذا العصاب الجماعي لم يميز بين هذه التيارات العربية، ولم يتحدث عن اختلاف طريقة كل منها في نكوصها نحو التراث، ذلك أنه يقول في كتابه السابق: "أن الرغبة في تضميد هذا الجرح النرجسي (يقصد الجرح الناجم عن السبق الحضاري الغربي) بعد أن أدت في الحالة العربية، في طور أول، إلى تضخم في أيديولوجيات الثورة الحارقة للمراحل التي اجتاحت الساحة العربية غداة الاستقلالات تحت ألوية القومية والماركسية والناصرية، أدت في طور ثان، ولا سيما منذ أن كشفت هزيمة 1967 عن مأزق الأيديولوجيات الثورية وفشلها، إلى نقل الصراع الأيديولوجي إلى ساحة التراث، وكذلك إلى تبلور أيديولوجيا تراثية خالصة، أي أيديولوجيا تريد الاستغناء عن كل أيديولوجيا "مستوردة" لتنزل التراث نفسه منزلة الأيديولوجيا" (مذبحة التراث، ص6، 7 ).

فهذه التيارات إذاً استخدمت التراث لإثبات إيديولوجيتها هي، ويمكن أن نقول إن رجوع هذه التيارات للتراث ليس نكوصاً لا واعياً سببته الرضة، ولكنه من وجهة نظر أخرى كان بمثابة استخدام للأيديولوجيا الخاصة تحول مع الوقت إلى أيديولوجيا تراثية خالصة. فالسلفي يريد من التراث ما يتوافق مع أيديولوجيته، وهو يتعامل مع التراث من خلال هذه الأيديولوجيا فنراه "يقول: التراث هو فقط ما قال به السلفيون الحقيقيون من أمثال الأشعري، أو من أمثال ابن حنبل، وفيما عدا هؤلاء فهم غرباء عن التراث، فابن سينا عندهم ليس من التراث لأنه تأثر بالفلسفة اليونانية، وكذلك المتكلمون لأنهم سواء تأثروا بالفكر اليوناني أو بالفكر الهندي أو المسيحي أو البيزنطي، وعندهم أن كثيرين من الشعراء لا يمثلون التراث من أمثال أبو نواس وبشار بن برد" (من لقاء جورج طرابيشي مع الديار). ومثله الماركسي والقومي والفلسفي... إلخ.

4 ـ وحتى لو قلنا إن جميع التيارات تتعامل مع التراث وفق هذه الطريقة أو تلك، وكل ذلك ينطلق متأثراً بـ "الجرح النرجسي" كما أسماه طرابيشي، والذي سببه تأخرهم عن الغرب، فإننا سنجد باحثاً آخر وهو غريغوار مرشو كتب بحثاً حلل فيه الخطاب العربي وشخّص عنده حالة "فصام" بدأت في "فترة ابتداء تمفصل الاتصال الثقافي ما بين الجماعات والمجتمعات، على آليات مؤدية إلى انمحاء الثقافة المحلية لحساب الثقافة المسيطرة، وانتهاء هذه الخبرة إلى نفي الاختلاف، ورفض الاستقلال للثقافة الأولى المسيطر عليها، بل إدانتها من أجل احتوائها وإلحاقها بعلاقة سيد/ عبد. وخاصة لما ارتبط هذا الانمساخ، تحت تأثير عمليات الاستبطان، بدونية العبد أمام غلبة السيد. وذلك عن طريق تبخيس الذات ونكرانها"(5) . فالتشخيص عند غريغوار مرشو مختلف تماماً. وربما نجد باحثاً آخر سوف ينظر للأمر من وجهة نظر ثالثة ورابعة. وبرأيي إن تشخيص حالة الفكر العربي لا يمكن أن تجري دون تحيزات سابقة ناشئة عن أيديولوجيا الباحث نفسه، وهذا ما لم ينكره جورج طرابيشي، فهو قال إنه "داخل اللعبة لا خارجها، وأن الذات التي تحلل هي في نهاية المطاف جزء من الموضوع الذي تحلله" (ص180). كما أن الظروف العامة الداخلية والخارجية لا يمكن نكرانها، وبالتأكيد فإن التغيرات العالمية التي حصلت بعد 11 أيلول/ سبتمبر قد أظهرت كثيراً من الحقائق غيرت نظرة كثير من الباحثين لأمور كثيرة سابقة ولاحقة.

وأكثر ما استغربته حقيقة كيف أن جورج طرابيشي أعاد نشر كتابه هذا ثانية دون أي تعديل أو اعتبار لما أحدثته أحداث 11 أيلول من تغيرات عالمية غيرت وجه العالم كله وليس فقط النظرة إلى الفكر العربي المعاصر. وإذا كان جورج طرابيشي يعلن أنه من الخصوم الألداء لمقولة الغزو الثقافي وأن هذه المقولة متناقضة بحد ذاتها إلى درجة الانفجار حسب رأيه، والحديث عن الغزو الثقافي إنما يعكس في الواقع رفض الانضواء تحت لواء الحضارة، والارتداد نحو وضعية قروسطية يطيب لبعضنا أن يخلع عليها هالة من مثالية كاذبة. (من لقاء جورج طرابيشي مع الزمان الجديد 1/1/ 2002م). فإن ما جرى بعد أحداث 11 أيلول أكد مقولات كثيرة كانت ومازالت موضع سخرية من قبل الداعين إلى "الاندماج الحضاري" الذي هو في الحقيقة اليوم ليس أكثر من تمكين الهيمنة الأمريكية على العالم، والتي أثبتت وتثبت كل يوم أنها هيمنة تسلطية متعالية لا تهمها سوى مصلحتها ولو كان الثمن تدمير البلاد وإهلاك العباد.

5ـ عندما تحدث جورج طرابيشي عن وجوب الاندماج بالحضارة الغربية التي استطاعت أن تفرض نفسها كحضارة عالمية وحيدة، وأن أي حديث عن تعدد حضاري ما هو إلا ضرب من الخيال بل هو ارتداد عن الحضارة، وأن المقبول فقط هو التعدد الثقافي القومي، فإنني أعتقد أن هذا الكلام يحمل في طياته كثيراً من التقرير، فكون الحضارة الغربية فرضت نفسها كحضارة عالمية فإن هذا لا يمكن أن يجعلنا نتجاهل الكيفية التي فرضت فيها هذه الحضارة نفسها، ولا يمكن أن نتجاهل الآلة الإعلامية وأساليبها في ترسيخ مفاهيم معينة عن طريق تعريف المشاهد بما تريده هذه الآلة حتى لو خالفت الأخلاق المهنية والدولية التي تنادي بها هي نفسها(6) . وأيضاً تجعلنا نتساءل هل الحضارة الغربية هي شكل واحد، وليست متعددة؟ هل يمكن لنا أن نقول إن الحضارة الأوروبية هي نفسها الحضارة الأمريكية؟ إن ما يسيطر الآن على العالم هو النموذج الحضاري الأمريكي، ولا ينفصل هذا عن سيطرة الثقافة الأمريكية، ( وأود بالفعل أن أعرف كيف يميز جورج طرابيشي بين النموذج الحضاري الغربي والثقافة الغربية) تلك الثقافة التي تعني المعرفة والعقيدة والفن والأدب والأخلاق والقوانين والأعراف والتقاليد والعادات.... إلخ. والتي تستخدم أساليب غير أخلاقية لتهيمن على العالم، هيمنة لست بالتأكيد همها نقل الحضارة للأمم الأخرى!

6 ـ هناك كتاب جميل للدكتور عبد الوهاب المسيري بعنوان العالم من منظور غربي، القاهرة، دار الهلال، 2001م. يتحدث فيه عن فرض النموذج الحضاري الغربي على العالم، ويقول إن هذا النموذج أثبت نفعه في العالم الغربي سياسياً واقتصادياً إلا أنه كان مظلماً ومدمراً في جوانب أخرى، وأن هذا النموذج الحضاري الغربي ليس له علاقة قوية بواقع الشعوب الأخرى وهو غير قادر على التفاعل مع هذا الواقع ويؤدي تبنيه أحياناً إلى تدميره. ويصف لنا كيف أننا "تبنينا نموذجهم الحضاري الحديث والتهمنا منتجاتهم الحضارية التي وضعناها في بيئتنا التي تتصارع معها، فكنا كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى" ويبين سبب ذلك قائلاً: "من الحقائق الأساسية التي تجابه الإنسان في القرن العشرين أن النموذج الحضاري الغربي الحديث أصبح يشغل مكاناً مركزياً في فكر ووجدان معظم المفكرين والشعوب بسبب انتصاراته المعرفية والعسكرية الواضحة في مجالات عديدة، والتي ترجمت نفسها إلى إحساس متزايد بالثقة بالنفس من جانب الإنسان الغربي، وإلى إيمانه بأن رؤيته للعالم هي أرقى ما وصل إليه الإنسان، وأن كل التاريخ البشري يصل إلى أعلى مراحله في التاريخ الغربي الحديث، وأن العلوم الغربية علوم عالمية، وأن النموذج الحضاري الغربي يصلح لكل زمان ومكان، أو على الأقل يصلح لكل زمان ومكان في العصر الحديث" (العالم من منظور غربي، ص 88).

وفي كتاب آخر للدكتور عبد الوهاب المسيري، الإنسان والحضارة، القاهرة، دار الهلال، 2002م، يستخدم فيه النماذج المركبة التي تأخذ في الاعتبار عناصر عديدة منها السياسي والاقتصادي والمعرفي... إلخ لتفسير الظواهر الإنسانية التي لا يمكن الحكم عليها باستخدام عنصر واحد. وهذا ما يجب أن نعرفه، فعندما نقول إن التعدد هو ضرب من الخيال ونكوص وارتداد عن خوض غمار الحضارة فهذا يعني أننا تجاهلنا عناصر حضارية عديدة موجودة في العالم وحكمنا حكماً قاصراً يستند إلى عنصر أو مجموعة عناصر ويتجاهل عناصر أخرى لا تكتمل الصورة بدونها. وأحب أن أختم بقول ليفي شتراوس: " ربما لا نزال نحلم بأن يسود الإخاء والمساواة في يوم من الأيام بين البشر دون أن يقضيا على تنوعهم... إن العصور الخلاقة الكبرى كانت تلك التي صار فيها التواصل كافياً إلى حد توليد الحوافز بين أطراف متباعدة ولم يصبح بعد شائعاً وسريعاً بحيث يلغي الحواجز التي لا غنى عنها بين الأفراد كما بين الجماعات ويمكّن التبادلات اليسيرة الهينة من القضاء على تنوعهم"(7).  

أخيراً:
يقول جورج طرابيشي: " لو أردت التعريف بنفسي، الآن، بعد كل مراحل التطور الفكري التي مررت بها، لقلت عن نفسي أنني «داعية تجديد للنهضة»، وبمزيد من التحديد أتمنى أن أُعرَّف بأنني «نهضوي جديد»، لأنني أعتقد أن المشكلة في العالم العربي ليست محصورة بجانب دون آخر. ليست القضية، قضية ديمقراطية فقط، ولا ليبرالية فقط، ولا اشتراكية فقط كما كنا نتوهم في يوم من الأيام، كل هذه الأيديولوجيات، التي أسميها «أيديوجيات خلاصية»، ليست حلاً. في الفترة القومية تصورنا أن الوحدة العربية هي طريق الخلاص، وفي الفترة الماركسية تصورنا أن الاشتراكية هي طريق الخلاص، واليوم يتصور كثيرون أن الديمقراطية هي طريق الخلاص، وآخرون أكثر تطرفاً يتصورون أن الديمقراطية الليبرالية فقط هي طريق الخلاص، أما أنا فأعتقد أن هذه الأيديولوجيات الخلاصية توحي بأمل كاذب.

لماذا أقول أنا نهضوي أو داعية تجديد للنهضة؟ لأنني أعتقد أن كل هذه الإشكالات هي نتيجة وليست هي السبب لتغيير واقع العالم العربي، نحن نحتاج إلى تجديد النهضة لأننا نحتاج إلى أن نزرع البذور من جديد لا أن نقطف الثمار. إذا تصورنا أن الديمقراطية أو الليبرالية هي ثمرة جاهزة للقطف ما علينا إلا أن نقطفها حتى ننتقل، بمعجزة، نقلة عجائبية من واقع التخلف إلى مثال التقدم فأعتقد أننا سنكون واهمين مع الديمقراطية والليبرالية كما كنا واهمين بالأمس مع الوحدة العربية والاشتراكية" (من حديث لجورج طرابيشي لثقافة اليوم، 8/ 6/ 2006م). هذا القول المهم لجورج طرابيشي يجعلني أستغرب كيف أنه أدى به إلى تبني "أيديولوجيا خلاصية" تتلخص بتبني النموذج الحضاري الغربي، فالذي يقول إننا بحاجة إلى "أن نزرع البذور من جديد لا أن نقطف الثمار" لا يجوز له أن يدعو إلى قطف ثمار الحضارة الغربية بتبنيها وممارستها حتى رغم معرفتنا بسيئاتها والتي يقول طرابيشي إنها قابلة للنقد شريطة ممارستها قبلاً، فما الذي يدفعني لحرق يدي بالنار حتى أستطيع القول إن النار تحرق اليد؟! ألا يمكن لنا أن نرى سيئات هذه الحضارة على المجتمعات الغربية نفسها؟

الحضارة التي يجب أن نسعى لزرع بذورها في مجتمعاتنا هي تلك الحضارة التي تحترم الإنسان ولا تجعله شيئاً مادياً متمركزاً حول ذاته، حضارة تغير السلوكيات الانحطاطية، وتحافظ على قيمنا وأخلاقنا وهويتنا، والتي تنطلق من مرتكزاتنا الأخلاقية وفضائلنا الدينية لتصنع نموذجنا الحضاري الخاص، الذي لا يُستلب لأي نموذج آخر وبنفس الوقت لا ينعزل عن العالم بل يشارك في إعمار الكون بعدل ورحمة ورقي أخلاقي ومعرفي لخلق المجتمع التراحمي "المجتمع باعتباره تركيباً مركباً تتسم عناصره بالتجانس والتنوع، والعلاقات بين الأفراد فيه علاقات مركبة متشابكة لا يمكن التعبير عنها من خلال عقد قانوني واضح، ورؤية الإنسان هنا أنه كائن إجتماعي مركب متعدد الأبعاد، إنسان إنسان، ومن ثم فالإنسان يسبق الطبيعة" (الإنسان والحضارة، ص 392). 


باحثة من سوريا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ كتاب طرابيشي هذا هو كتاب ناقد لكتاب محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي", وقد صار نقده لهذا الكتاب موسوعة صدر منها حتى الآن أربعة أجزاء:1ـ نظرية العقل, 2ـ إشكاليات العقل العربي, 3ـ وحدة العقل العربي, 4 ـ العقل المستقيل في الإسلام. ولا أدري إن كان الجزء الخامس من الكتاب الذي كان طرابيشي يعكف على كتابته قد صدر أم لا.
(2) ـ بالمناسبة فإن الدكتور محمد عابد الجابري تساءل كيف يجرؤ كاتب لا يحمل الدكتوراه على النقد؟!!!, وبدوري أسأل كيف يصدر مثل السؤال عن أكاديمي يعرف تماماً أن الشهادة العلمية عندنا لا تدل على أن حاملها يتمتع بالقدرة على التحليل والتفكيك والنقد, ولكنها تدل على أن هذا الشخص امتلك مهارة اجتياز الإمتحانات, تلك الإمتحانات التي لا يمكن أن توصف بأحسن من كلمة قاصرة وخائبة!, وبالتالي فإنني أوافق جورج طرابيشي على رده على هذا التساؤل عندما قال "كأن عباس العقاد وأحمد أمين ومحمود أمين العالم لا يحق لهم أن يكتبوا أو أن ينقدوا غيرهم لمجرد أنهم لا يحملون لقب دكتور. وبالمناسبة فانني أتعجب من الوضعية الثقافية العربية التي ترتفع فيها مئات الأصوات من المثقفين المعارضين للغزو الثقافي الغربي وهم مع ذلك يوقعون مقالتهم باسم (دكتور فلان) مع أن هذه الكلمة نفسها هي أظهر دليل علي وقوعهم في مرجعيات الثقافة الغربية الذي يدعون أنهم براء منها" (من لقاء معه أجرته إيمان زمزم في الزمان الجديد 1/1/ 2002م).
بل إن محمد عابد الجابري تساءل تساؤلاً أخطر برأيي ويدل على نظرة إقصائية عندما قال: "هذا مسيحي، فكيف له أن يدخل إلى التراث الإسلامي، فأنا كإسلامي أتعامل مع التراث الإسلامي من الداخل أما هو، فلأنه مسيحي, فلن يتعامل معه إلا من الخارج»، وكما رد جورج طرابيشي عليه فإنه لم يدر في خلده "أن التراث الإسلامي هو تراث أي مشرقي مسيحياً كان أو مسلماً أو حتى يهودياً. ليس لدينا تراث آخر غيره". (من لقاء من جورج أجراه ابراهيم حاج عبدي لثقافة اليوم 8/ 6/ 2006م).
(3) ـ أشرت سابقاً إلى أن الرسالة صدرت في طبعة سابقة كاملة عام 1991م بعنوان "المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي", لندن, دار الريس, 1991م.
(4) ـ في أحد مسرحيات دريد لحام جاء الطبيب لفحص أهل القرية, فعمل لهم تشخيصاً جماعياً, وفحصهم فحصاً واحداً إجمالياً, فكانت النتيجة مرض واحد للجميع. فالطبيب لم ينظر للمرضى إلا ككتلة واحدة, ولم يجد ضرورة لمراعاة اختلاف طبيعة أجسادهم أو أعمارهم أو تاريخهم المرضي!. وهذا لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال في عالم التشخيص الطبي.
(5) ـ الفصام في الفكر العربي, دار الفكر, دمشق, ط1, 2007م, ص7. وانظر في هذا المجال أيضاً, محمد شاويش, بين الحب والاستلاب, دار الكنوز, دمشق, ط1, 1995م.
(6) ـ انظر مثلاً: هيمنة الإعلام الإنجازات المذهلة للدعاية, نعوم تشومسكي, ترجمة إبراهيم يحيى الشهابي, دمشق, دار الفكر, ط1, 2005م.
(7) ـ نشر في كتابه "مقالات في الأناسة" ترجمة د. حسن قبيسي, بيروت, دار التنوير, ط1, 1983م