يتوقف الباحث السوداني المقيم في برلين عند أشعار أحد أعلام الشعر السوداني الحديث الذي اختطفه الموت وهو في شرخ الشباب، ولكنه خلف لنا شعرا جديرا بالتأمل والدرس، نتعرف هنا على بعض رؤاه وقضاياه.

الحيرة الصوفيه

أمير حمد

تكاد تمثل أشعار التيجاني قاطبة نصاً مغلقاً تتجه أفكاره ومشاعره إلى مستويات إبداعية (ذهنية وروحية) عدة يصعب تمييز التناص فيها عن اللحظة (المغلقة) حيث لا وجود لفضاء خارجي سوى فطرة تؤلمها أولى انبثاقات الضياء. المكان يفضي إلى الزمان والزمان ضياع يستنجد بدوره بجدوى الوجود بالشك فيه:

             بين اثنتين اشك ام ابكي
قبس اليقين وجذوة الشك
             في النفس حاجات وإن خفيت
فلعلها ضرب من النوك
             والعقل ينصب من حبائله
نصباً معاقدها من الشوك

مافتئ التيجاني يشرع نافذته لأشجار الليل ليلج حفيفها وليشهد حيرة تنقذ هداية قلبه بهذه الحيرة المريبة بانعزال فكري نوعي اختتم التيجاني حياته، شعره ورؤاه وحيداً هزيلاً يتناهبه المرض إلى أن أطبق الموت على عقده الثالث كشاعر الخضراء أبي القاسم الشابي الذي كثيراً ما قورن به، رغم اختلاف منهج التيجاني الشعري عنه بنزعته العقلية الواقعية، وبتفاديه الرومانسية المفرطة والكآبة ونحوه، لاكتشاف الحياة كأديب متفلسف أو كفيلسوف يافع اختمر عقله قبل تجربته فنادى كمصلح ببوق أشعار رمزية:

في الليل عمق وفي الدجي نفق
             لو صب فيه الزمان لابتلعه
لو مزق الرعد مسمع أحد
             في عمق زال الدجى لما سمعه
مرت عليه الحياة تعذره
             في زورق أعرف الذي صنعه

بتتبع سيرة حياة الشاعر تلتف الخاتمة خيوطها بميلاده ونشأته، وبالعوز الذي اعتراه وقتامة حياة بؤس لم يغيرها رفضه ولا طموحه، أو من التف حوله فأقعده بالإطراء المبالغ أو بالتنكر له حسداً في دواخله، أو علناً مثلما حدث عند فصله من المعهد العلمي بإلباسه تهمة الكفر لتشبيهه أشعار شوقي بالقرآن أو كما روي لإجرائه مقارنة زكى فيها أشعار شوقي على حافظ ابراهيم مشبهاً التفاوت بسمو القرآن على غير من سائر الكتب:

قالوا أحرقوه بل اصلبوه بل
             انسفوا للريح ناجس عظمه وإهابه
ولو أن فوق الموت من متلمس
             للمرء مد إلي من أسبابه

كمثل هذا الألم العميق كانت حياته/ تجربته الروحية ومنفاه الثقافي وبونه. إن من الصعوبة بمكان إدراج التيجاني تحت مدرسة شعرية بعينها لتزاوحه الجم بين التصوف والوجدان والشعر الحديث والتقليدي، وذلك لكونه بندول ذبذبات شفيف ما فتئ يحركه الشك والقلق حيثما انفتح فضاء ثالث. غير أن بعض النقاد كهنري رياض ضم شاعرنا دون اعتبار لهذا العامل إلى مدرسة الوجدان، إلى جانب التني والمحجوب وأقصاه بالتالي عن مدرسة التصوف بريادة أحمد هاشم والمجذوب والأزهري، وعن جيل الشعراء التقليديين كالبنا ومحمد سعيد العباسي وعثمان بدري، وأقصي بالتالي عن مدرسة الشعر الحر ( الواقعية/ الإشتراكية، والرمزية).

لايكون تصنيف شاعر ما تحت مدرسة شعرية مبنياً على الكم وكيفية القصائد وفحواها فحسب، بل يمكن إدراج المؤثرات الخارجية والبيئة التي عاشها كمؤشرين إلى توجهه الفني، فالتيجاني تقليدي ببنيته للقصيدة، ومحدث بتناوله للموضوعه، وصوفي البيئة والسلالة، وبحبه الدفين وبتأمله إلى حد اليقين، وفوق هذا وذاك هو شاعر الإحساس/ الإنفعال لا تخلو قصيدة من مجموعته الشعرية (إشراقة) من ذري الشعر/ الشعور ابتداء بوميض المفتتح (إشراقة) ومروراً بثورة الشك إلى حين وداع (فاحتفظها ذكرى).

قطرات من الندى رقراقة
             يصفق البشر دونها والطلاقة
فهي دفق من عالم كله قلب
             خفوق ولوعة دقاقة
عالم الحسن والجمال ودنيا
             الحب والقلب وجده واشتياقه
يتحدون من مفاجع أياي
             ومهوي مدامع الرقراقة
ويرجعن من مفاتن دنياي
             صدى يزحم الهوى أبواقه
من دمي يستدرها حر أنفاسي
             لهيبا أسميتها إشراقه

لقد كان التيجاني، كشأن كل شاعر حريصاًعلى تراثه حراً من قيود الماضي في آن معاً ومجدداً للفكرة، ومجلياً أدران التكرار عن المفردات، فلا غرابة أن يشرف بريادة تحديث الشعر السوداني لمحاولته إحياء التراث اعتماداً على البيئة السودانية الرافلة في التصوف، ووشائج مجتمع يتمثله الفرد والمجموعة دونما انفصال. إذاً فاعتدال التيجاني بدعوته إلى التحديث لم يكن وليد الصدفه، وما رددها جهاراً عن عبث منه. يقول عز الدين الأمين: «ثم إنا نجده يدعو قبل ذلك للتجديد في الشعر، ويعيب الشعر التقليدي لأنه شعر لا يجاري الحياة ولا يتجدد بتجددها» لقد أسس التيجاني للحداثة في حقبة شيوخ المعاهد رموز الثقافة وورثة بهاء الأزهر الشريف، ولكم كان جريئاً مدركاً بعد دعوته هذه وما يترتب عليها من تسفيه وتشبيهها بالهرطقة مثل رميه من قبل بالعته في المعهد العلمي.

نشر التيجاني عدداً من قصائده في دوريات عدة من ضمنها (مرآة السودان) للأستاذ سليمان كشه ومجلة (الرسالة) القاهرية ومجلة (أبوللو) القاهرية. يقول هنري رياض «حدثني الأستاذ مبارك أبراهيم صديق الشاعر أنه هو الذي حمل ديوان إشراقه مخطوطاً إلى القاهرة بقصد طبعه، واستطاع أن ينشر بعض قصائده في مجلة (الرسالة)، وأنه سلم الشاعر ابراهيم ناجي الكراسة المخطوطة للإطلاع عليها، ولكنه احتفظ بها لفترة طويلة إذ أعجب بأشعارها، ثم أنه كان يقرضها لأصدقائه الشعراء، فلا يردونها إلا بعد لأي» لقد عزم التيجاني السفر إلى مصر بدافع الثقافة والهروب من الرتابة، ولحنين ألم به من خلال التقائه مصر ثقافياً، عبر التاريخ. إلا أن فقره المدقع وملاحقة والده له لم تتركاه يبرح محطة القطار فآب كسير البال يجر آماله الذابلة:

عادني اليوم من حديثك يامصر
             رؤى وطوفت بي ذكرى
كلما أنكروا ثقافة مصر
             كنت من صنعها يراعا وفكرا

لقد كان الوداع مرا والأمل خلب، غير أن التيجاني مافتئ يطرق أبواب البؤس باباً بابا ويلج من فقر إلى منفى وحرمان إلى أن أوهم نفسه بالتطبع كي يقاوم وليصنع من أداته قرطاساً ذهبياً وعقلاً لا يساوم:

ياأديبا مضيعاً من بني الدنيا
             بحسب الأديب محض انتجاعه
أنت يا رائد القريض وما أنت 
             بسقط الورى ولا من رعاعه
انت ياقيثارة الجديد بك است
             ظهر من في الوجود سر متاعه
أدب ملؤه الحياة وشعر
             مفعم بالسمو في أوضاعه
ضاع ويح الذي يغار على الـ 
             شعر وويح الأديب يوم ضياه

ثمة تحدي نشب بين الشاعر والفقر أثمر ثقافة ـ إثر فصله من المعهد العلمي وتناهب العمل وقته وإن كانت وظيفته كمحرر/ مصحح، لصيقة بمنهاجه إلا أنه كان كغيره ـ بوقاً لأهداف الصحف تلك. يغلب على الظن أن مرض الشاعر، (السل الرئوي) هو الذي أودي بحياته، إذ لم يهدأ جسده ولا فكره، ولم تشبع حاجته، فاسترسل في الحرمان والسهرمكباً على مصباح زيتي، يكتب ويقرأ ما يتراءى كابياً، فيما تسترق أنفاسه المحترقة دخان الفتيلة الذاوية.

أرأيت الصديق يأكله الداء
             ويشوي عظامه المحراق
مارد هذه السقام ولكن
             صبره الجم للضنى فاق
جف من عودة الندى فتعرى 
             وتنفت من حوله الأوراق
وذوى قلبه النضير وقد كان
             له في زمانه تخفاق
رحم الله عهده فأن عاد
             فعندي لدهرنا ميثاق
وأنا اليوم لا حراك كان قد
             شد في مكمن القوى أوثاق
بت أستنشق الهواء اقتسارا
             نفس ضيق وصدر طاق
وحتايا معروقة وعيون
             غائرات ورجفة ومحاق
فالقريض الذي تقدر لا أعلم
             إن كان في جزي يستاق
فاحتفظها ذكرى فأن مت فاقراً
             بينها الحب ما عليه مذاق
أوحينا فسوف نقرأ فيها
             فترة لا أعادها الخلاق

إلى أن أخلد التيجاني لم تر (إشراقة) النور لكأنه انتقى تسميتها من بين ضباب شكه في عمره القصير ولهاثه سدى طي متاهة الفقر وسوء الطالع. لم تشرق (إشراقته) في حياته غير أنه انتصر مسدداً عتابه لكل أصحاب الفكر.

أدب ملؤه الحياة وشعر
             مفعم بالسمو في أوضاعه
ضاع ويح الذي يغار على الشعر
             وويح الأديب يوم ضياعه

تناول عدد من النقاد أعمال التيجاني وحياته ولكم التقوا في الغموض وصدق احساسه، ولكن سرعان ما تفاوتوا في تقييم حبكة القصائد وعاطفتها والإنتقالات المفاجئة بسبب بتر الوشائج. ما يهمنا في هذا المقام هو ماذكره الدكتور عابدين في كتابه التيجاني شارع الجمال «فلقد رأينا التيجاني في معظم شعره يسلك سبيل الشعراء المجددين فيراعي في قصيدته التناسق:

ـ في الموضوع: فيبني قصيدته على أساس معين بناء متماسك الأجزاء فلا تهافت بين المعنى والمعني.
ـ في الشعور: فلا تري تفاوتاً بين شعور وشعور أو تهافتاً بين إحساس وإحساس.
ـ وفي الموسيقى: يتوخي الشاعر التناسق بين الموسيقى الخارجية والداخلية وبين المشاعر التي يعبر عنها.

أما أسلوبه فيكثر فيه تجسيم المعني إلى حد الإسراف أحياناً والتعقيد أحياناً وإن يميل إلى الربط في الصور والمدركات الحسية».

رغم الملاحظات الدقيقة أعلاه إلا أن ثمة ثغرات تخل بالهيكل العام لبنية بعض القصائد. تمثل بالفعل معظم قصائد التيجاني أساساً معينا ًبالأخص رائعته (توتي في الصباح) و(النيل) و(احتفظها ذكرى) و(إشراقة) وغيرها غير أن تلاقح أفكار الشاعر ومحاولة نزوحه إلى العقلية (فرض الذهنية على القصيدة) صاغتا من الموضوعة الواحدة جبة مرقعة تفتقر إلى الإنسجام. وكما ذكرنا بأن الإنتقالات الفجائية والغموض لم يأتيا اعتباطاً إنما أملتهما رغبة الشاعر الملحة في تحقيق ذبذبات متضادة في اللاوعي اكتسحته بالإحتجاب والإنفجار وبصدق الشعور. إذن فالأساس المعين مختل لامحال بسبب الذهنية المحضة فيما تضطرب ذبذبة الشعور بسبب (اللانضباط)، بمعنى آخر إن سرد الشاعر لعالم وهمي وعكسه (كمعاش) يفرضه ويقربه بشمولية الوصف (تعدد الأساس وانفراط الأجزاء) ومن ثم تأكيده له بتأثره وإحساسه نحوه جعل قراءة النص أقرب إلى الإنفتاح منه إلى الوحدة العضوية.

إن إطلاع التيجاني على كتب المتصوفة كالـ(رسالة القشيرية) و(الحكم) لابن عطاء الله و(الملل والنحل) ونزوحه نحو التأمل والتصوف، ووصف الطبيعة وخلجاته جعلت من التفاوت/ الإضطراب في شعوره. ووضع أسس عدة للقصيدة الواحدة أمر بديهي لا سيما في قصائده الأولى آخذين الإعتبار حدث سنه. لقد صور الشاعر أن يعبر عن وجدان المجتمع (شاعر القبيلة) غير أنه كثيراً ماكان يعكس مجتمع (أناه) ربما بسبب سموه وبونه الثقافي عن العامة/ البسطاء الذين مثلوا آنذاك شريحة الشعب العظمى، وبسبب انطلاقة من الذاتية (اللانرجسية) كقاعدة لشعره الإجتماعي، غير أن الشاعر كثيراً ماكان يحلق فوق عرشه الشعري ويغوص في الثقافة كبديل، مما ولد حالات رفض تتضح في تعدد الأسس سيعيد المعنى في القصيدة الواحدة. نعم لقد كان التيجاني لا منتمياً ومثقفاً منفياً لذا بادر المتحلقين حوله بالتحفظ والإكتفاء بمشاهتهم عن كثب. مهد هذان العاملان: الذاتية الناشبة عن الحاجز الإجتماعي وتهميش الشاعر لرغبة إيجاد حلقة تواؤم وفضاء يأهله الشاعر/ المجموعة والآخر.

أنا والنجم ساهران نعد الصبـ
             ح خيطاً من الشعاع لخيط
كم صباح نسجته أنا والنجم
             وأرسلت شمسه من محطي
قلت سيري أسرة قومي
             واستحسري على مضاجع رهطي
أنا جراءهم سهرت ليستغثو
             ومن أجلهم أصيب وأخطئ

أما ما يخص تفاوت الشعور في القصيدة الواحدة فإن نصوص التيجاني تتفق وتنسجم في موجة انفعالاتها ولكن سرعان ما تنداح بعمق أكثر من قبل أن تنبسط بمستوى أقل إذ قلما نقرأ قصيدة لشاعرنا بمستوى واحد. قد يكون هذا شأن معظم القصائد غير أن الحالة هنا تحدث عن انفتاح روحي تتهده اللحظة الذهنية بالإنضباط، بين الفينة والأخرى.

بمقارنة القصائد ببعضها يتضح توهج الشاعر وصدق إحساسه/ التجربة الروحية في موضوعتي التصوف والطفولة، فالأولى هي الخلاص والشك معاً والرحلة اللاانتهاء ونوع من الملاذ أو التكيف على الاكتئاب الاجتماعي، فيما تطل الطفولة بالحرمان والذكرى والبراءة التي ليست سوى اللحظة الشعرية والخروج بالفطرة/ الرؤيا على الحرف/ القيد:

قل لهذا الصبي: ماذا يكفيـ
             ك إذا لم تكن ألاعيب جن؟
هذه يا أبي تصاوير ما تـ
             برح دنياي أو تزايل كوني
يصنع الغاب مزهري ويشيد الر
             مل عرشي ويبعث اللهو أمني
تلك عرسي وإنها صنع نفسي
             بيدي صغتها.. وذيالك ابني!

لقد تمثل التيجاني الحياة بكل ضروبها ثقافة، ألماً و(انتحاراً في الخيال) لملاحقته الاحتراف وحياة أفضل تليق به كأديب:

أدب ملؤه الحياة وشعر
             مفعم بالسمو في أوضاعه

نعم هو الحرمان بعينه وما من سواه مضرم لجذوة القلق فيه ودافع السقوط تارة في عبث الوجود، ومن ثم شكه الديني وانتصاره لفلسفة الحياة اعتماداً على الطهروالزهد/ الهروب:

مابي ثراؤك من زخر ولا مال
             فاستبق دنياك حسبي كنز آمالي
ما بي شقيت وما بي إن نعمت وما
             بالقلب زهو الغنى أو رقة المال
دنياي وهي من الدنيا على نفسي
             من التبر أو أسمى من المال
فليتركوا لي أحلامي وما نسجت حو
             لي من الضنك إن لم يرضهم حالي
وعشت أنعم في عدمي ويسعدني
             أني تخفف من أصري وأثقالي

يقترب التيجاني في رؤيته للشعر كبلسم وحل لأزمة حياته من شاعر الخضراء أبي القاسم الشابي كما يذكرنا كلا الشاعرين بما قاله الشاعر إبراهيم ناجي «الشعر عندي هو الهواء الذي أتنفسه وهو بلسم داويت به جراح نفسي عندما عز الأساة، هذا هو شعري» تفاقم الحرمان لدى شاعرنا، ولم يكن فقر عائلته هو وحده المحرك لذلك، بل إن فصله من المعهد العلمي أي عزله عن الحياة العلمية، وما تلاه من فصله عن وظيفته كمحرر في مجلة (أم درمان) التي أصدرها المؤرخ محمد عبد الرحيم كما ذكره هنري رياض كانا دون شك بمثابة انطفاء الوميض الأخير، وبسبب تصعيد هذا الحرمان إلى يأس مرير،

أمل ميت على النفس ألحد
             ت له من كلاءة الله قبرا
زهقت روحه ----- شعاعا
             قبل ما ينفذ الطفولة عمرا
كنت أحيا على -- منه يسا
             قط بردا على يدي وعطرا
في ظلال مطلولة أفرغ الشـ 
             عر عليها من الهناءة فجرا
ثم أودي يا ويحه ضاقت الدنيـ 
             ا به جمدها احتمالا وصبرا

لقد حاول الشاعر رسم البعد الإجتماعي (تصوير المجتمع) في نصوصه متخذا الإنطلاقة الذاتية عكس ظروفه على الآخرين قاعدة لا التصوير العام لحالة العامة المتفاوت في تقييمها وإدراكها. قد تكون هذه القاعدة صادقة لانفعال الشاعر وتألمه للآخرين لمعايشته واختباره بنفسه لبعض هذه الظروف القاسية. غير أن صورة المجتمع لن تكون مكتملة ولو اضطر لعكسها من خلال التجربة الذهنية. هاهو الشاعر يرثي ابن أخته الذي وجد في رثائه رثاء لنفسه لتشابه ظرفيهما. إن هذا منفذ محبب أثير لدى التيجاني استطاع عبره الولوج إلى الآخر.

قرأ الزمان عليك معنى ساميا
             ورأى سرائر منك مثل سرائري
فرماك في العهد البرئ بما رمى
             حظي به ودهى جسيم خواطري
لوددت أني في الطفولة مائت
             لو كنت أسمع بالشباب العاثر

باعتبار أن الأمنية في البيت الأخير هي أمنية الفقيد لا الشاعر، إذ أن الرثاء يخصه، أو أنها أمنية الشاعر بتركه ضمير المخاطب وتقمصه بالتالي لحاله. قد يكون خروج الشاعر هنا من وصف حال الآخر إلى حالته الشبيهة به غير مقصود لكونه يود عكس حال الآخر من خلال تجربته هو، دون أن يشير إلى ذلك. لقد ارتأى الشاعر السوداني صلاح أحمد ابراهيم في شعر التيجاني شعر وجدان اجتماعي، كما يمثل الواقع لديه وحدة لا تقبل التجزئة فيقول معقباً/ فيما يخص دنيا الفقير/ في بحثه الجرح والقوس، دراسات في شعر التيجاني «وهل هذه إلا صورة الفقير السوداني، أو قل صورة السوداني أنا وأنت وجاري وجارك». ومهما كان الإختلاف حدته فمؤداه واحد: لقد عني التيجاني بمجتمعه. بالانتقال إلى وصف الطبيعة إحدى موضوعات الشاعر المهمة والمتفردة في صورها وترابط وحدتها، تجدنا نتردد بين الوصف/ الواقعية، والرؤيا/ الحلم. يقول التيجاني في قصيدته النيل:

أنت يانيل ياسليل الفراديس
             نبيل موفق في انسيابك
ملءُ أوفاضك الجلال فمرحى
             بالجلال المفيض من أنسابك
حضنتك الأملاك في جنة الخلد
             ورّفت على وضئ سحابك

إن تهويم الشاعر ومداعبته للرؤى وأحلام اليقظة خلقت من إزاحة الألفاظ قصيدة معنوية وجدانية، يخف عبء الوصف طيها بتجاوز عكس الطبيعة إلى الإتحاد بها، على العكس من رائعته الوصفية الواقعية الوجدانية (توتي في الصباح):

يادرة حفها الني
             ل واحتواها البر
صحا الدجى وتغشا
             ك في الأسرة فجر
وصاح بين الربى الغـ 
             ر عبقري أغر
وراح ينفض عينيه
             من بني الأيك حر
فماج بالأيك عش
             وقام في العش دير
كماذا تمازج فن
             على يديك وسحر

هكذا تزدحم القصيدة بالصور يثور يثور، وتشغو شاه، يتنهق حمر، والبهم تمرح، والزرع مورق، واللحن متجاوب والطحن، والثغاء المسر، وصوت النواعير الشبيه بالشدو و...... إلى أن يسهب الشاعر في وصف الجرار:

إن الجرار وقد ض
             ق بالقليب الممر
تكسرت وهي تهوي
             فما تلاءم كسر
فتلك معصومة الرأ
             س كم تنئ وتخر
وتلك مرضى وهاتيـ
             ك للخواطر قبر

يتضح جلياً من الإزاحة والإسناد المجازي إلى الموصوف (تلك ـ أي الجرة) والتدرج الموسيقي/ الإيقاع من أجل تصعيد النثر إلى أطر شعرية ومحاولة الإنعطاف عن المباشرة واللاإزاحة كما في قوله (يثور ثور، وتثغو شاة) مقدرة الشاعر على تلوين الصور بموازنته الإسهاب بالاقتضاب، كما في وصف الجرار، فلا يحس قارئ إلا بضرورة أكثر فأكثر إلى أن يعود الشاعر مرة أخرى للعبارات الوصفية الموجزة:

ذياك يغرق في
             العشب جاهداً ما يقر
وذاك يعنيه حرث
             وذاك يعنيه بذر
وماج في الغيط نشء
             ملء النواظر خرز
هناك فول وهذاك
             في السنابل بر
وما تعثر شيء
             ولا تعثر أمر

قديماً قيل إن الوصف يتطلب البلاغة والإنتقال، وهما ما مهر الشاعر ههنا من خلال عسكه لحصيلته اللغوية، وحصية متنقلاً لعناصر لوحة الطبيعة تتعرى شيئاً فشيئاً، فيما يظل الإنفعال رهيناً بالقارئ لا الشاعر. أما ما يخص موضوعة الحب في شعره فهي مداخلة دون شك بين ما هو عذري وعادي، كما يرى هنري رياض، غير أن العذري يظل نسبياً، فكثيراً ما فند كحب جنسي مكبوت. نعم إلى ذلك مهد ما عناه التيجاني من حرمان، كما أن تشبيهه وتغنيه بالجمال عموماً دون تمييز بين الحسناء والقبطية، وذات الفصد، وغيرها يدل على بحثه عن المرأة كضرب من الجمال، لا علي التقيد والوقوع في حبائل فاتنة ما. يقول جماع في قصيدته (الشاعر):

حاسر الرأس عند كل جمال
             مستشفاً كل شيئ جمالاً

فحب التيجاني، في أقصى درجات تفاوته، لا يعدو كونه مراوحة بين المصنوع والمطبوع كأشعاره نفسها التي تمثلت الغزل/ الحب العادي واستحضار عفة المتصوفة وحبهم الأفلاطوني سواء بسواء. ففي شريعة الحب مثلاً انتهج ابن عربي نمطاً فطرياً متجاوزاً السائد والمبتدع حيث الوجود والعقيدة مشرب واحد. يقول في قصيدته أدين بدين الحب:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة
             فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
             وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أني توجهت
             ركائبه، فالحب ديني وإيماني

ذات عينه ما أتبعه التيجاني في قصيدته (كنائس ومساجد) ورائعته (أنشودة الجن) التي يترنم بها المطرب (سيد خليفه) إلا أن (جمال وقلوب) ستظل الأنموذج الخلاق لذراه الشعرية ونفثاته الحارة:

الحرف احتراق والحيرة سدى تحاول الخلاص:

من ترى وزع المفاتن ياحس
             ن وقال اعبدي من السحر ربا
من ترى علم القلوب هوى الحـ
             سن وقال اعبدي من السحر ربا
من ترى الهم الجمال وقد عطـ
             ه من جبرة الحوادث غضبا
 أن يبث مفاتنا في جفـ
             ن بليغ وأن يجود ويأبى
من ترى وهد العرى بين مسحو
             رين أسماهما جمالا وقلبا
إنه صانع القلوب التي تـ
             صب في قالب المحاسن صبا

كما ورد، لقد شغف لب التيجاني بالتصوف لا سيما وهو سليل عائلة الكتيابي الصوفيه، فتدرج في تعليمه ابتداء بالخلوة التي ملأت فضاء روحه وصباه مروراً بالمعهد العلمي ومن ثم رحلة الإطلاع المضني على كتب المتصوفه. يقول التيجاني مصوراً الخلوة بتفاصيلها قاطبة وما تمليه الرتاب على روحه الشغفة الضجرة، كأننا نقرأ طه حسين في (أيامه):

هب من نومه يدغدغ عينيه
             مشيحا بوجهه في الصباح
ومشى بارما يدفع رج
             ليه ويبكي بثقله الملتاح
ضمخت ثوبه الدواة وروت
             رأسه من عبيرها الفياح

لم يحد الإكتئاب الإجتماعي الذي عاناه الشاعر متنفساً له ألبق من التصوف، كما مهدت البيئة الصوفية المتحلقة به واطلاعه على الرسالة القشيرية وغيرها، أن يتمعن في التصوف (الخلاص)، فقصائده المعنونة بـ (الصوفي المعذب)، و(نفسي وحيرة)، غورت وحورت مسعاه من تصوف منهجي إلى فلسفي لا سيما قصيدة (حيرة) التي ورد ذكرها وقصيدة (يؤلمني شكي):

أشك يؤلمني شكي وأبحث عن
             برد اليقين فيفنى فيه مجهودي
أشك لا عن رضى مني ويقتلني
             شكي ويذبل من وسواسه عودي

إن التيجاني شاعر في المقام الأول وليس صوفياً لذا قد لا نفاجأ بتنقلاته المفاجئة في فهمه واستشرافه للعالم، فتارة يقتله الشك وتارة يتوارى مفسحاً للتأمل والإيمان طريقا، وأيما طريق:

ربي سبحانك إن الكون لا يقدر نفسه
             صغت من نارك جنيه ومن نورك أنسه

بيد أن دلالة الشك تتفاوت لدى الشاعر فحيناً تعنى بعبث الوجود لينتصر العقل، وحيناً آخر ينتفي الهاجس هذا فيثلج برد اليقيق قلبه. لقد قرأ التيجاني دون شك نظريات التصوف فكم من مرة تتراءى (وحدة الوجود) في شعره الوجداني والصوفي معاً، يقول في قصيدته (الأدب الضائع) مخاطباً الأديب:

أنت ياقيثارة الجديد بك است
             ظهر من في الوجود متاعه

فيذكرنا الشاعر بـ «كنت كنزا مخفيا ولما أعرف خلقت الكون». ثم ها هو يكرر من جديد نظرية (الحلول):

كل ما في الكون يمشي
             في حناياه الإله
هذه النملة في رقـ
             تها رجع صداه
هو يحيا في حواشيها
             وهي تحيا في ثراه

لم يكن التيجاني كغيره من أتباع التصوف السني، فقد كان البحث دأبه محاولاً من خلاله تجديد الأفكار وعكس روح العصر. إذا فالتصوف الفلسفي كان امتداداً طبيعياً لنشاطه واستحضاره لعالم القصيدة في الخيال. ويصعب البت في مدى انشغاله في رحلة البحث هذه، رغم ظهورها عياناً في شعره، وذلك لأن التيجاني كان كثير الخوض في مواضيع لم يعشها، شأنه شأن شاعر القصر شوقي الأثير المحبب لديه، والذي أدى دفاعه عنه إلى فصله من المعهد العلمي. يقول الأستاذ عبد الله البشير «تارة نجده متوتراً يشكو ظلام الروح وغائله الشك وحرمان المشاهدة... وهذه التأملات وإن لم تفرغ من قلبه بذور الشك تماماً إلا أنها كانت نقطة انطلاق هامة لروحه هو الإيمان الكامل الذي نجده في قصيدته (الله) لقد جمعت أشعاره (إشراقة) وما من مصدر وثيق يتحرى منه عن تواريخ تدوين القصائد، مما قد يكشف عن مرحلية التصوف هذه، التي تبدو أغلب الظن وليدة الإطلاع لا المعاناة الحقيقية. هل يؤدي الحرمان والفقر إلى إنكار الوجود والشك المطلق؟ هل ينسحب الفقر على نفس المعدم زهداً وتأملاً؟ إن فك طلاسم قصائد التيجاني التي اعتمدت كسجل اجتماعي من أجل الولوج إلى حياته المضببة. سيظل نسبياً في نتائجه، إذ أن الشعر وجدان وخيال، أو إن شئت فهو واقع مموه».