تقدم دراسة الباحث الجزائري هنا مقاربة تحليلية لموضوع العنوان ومكانته في النص الروائي من خلال استقصاءات نظرية للموضوع، ودراسة تطبيقية لتجلياته في رواية الكاتب الجزائري عزالدين جلاوجي.

سؤال العنوان ـ عتبة اللامنظور

قراءة في رواية «الرّماد الذي غسل الماء» لعزالدين جلاوجي

اليامين بن تومي

فاتحة المتعة:
تسعى هذه الدراسة أن تستنطق أسئلة الكتابة في مشروع عز الدين جلاوجي الروائي، من تحصيل فهم دقيق ومركز لرواياته، فالأديب تضافرت في تأسيس خامته الابداعية جملة من العوامل النصية بمعناها الواسع والخارج نصية بتوجهاتها المتنوعة. الرواية عند عز الدين جلاوجي مجزأرة إلى أبعاد دقيقة نتيجة توظيفه للمخزون الشعبي والتراثي؛ عرفته بداية مع روايته (الفراشاة والغيلان) ثم قرأت له رواية (سرادق الحلم والفجيعة) ليستقر بي المطاف عند روايته (رأس المحنة) وأخيرا روايته موضوع الدراسة (الرماد الذي غسل الماء). ووفقا للمبدأ الفلسفي الذي يقول بأن: "الأسد بضعة نعاج مجتمعة" فإن أية تجربة في الحياة إنما تنطلق من تناصات مختلفة مع نصوص أخرى، ولذلك فالرواية عند الأديب عز الدين جلاوجي تنمى إلى هذه السيرورة والحركية التاريخية لموضوع الكتابة الروائية في الجزائر فهي تحمل المعاناة نفسها التي تحملها الرواية الجزائرية في بعدها الوطني والقومي.

فمنذ أن ظهرت الرواية الجزائرية وهي تساير واقعها وتقول أحداثه وتتكلم بمستوياته المتباينة، ولعل النص الروائي الجزائري ـ بوجه عام ـ استطاع إلى حد ما أن يقول واقعه بكل حرية مع ما يفرضه هذا الواقع فنيا، ولعل المسألة في تقديري قد بسطها الكثير من المنظرين، إلا أن تحفظي النظري حول هذه الكتابات هو التهويل الذي نجده في بعض الكتابات لدى هؤلاء الذين أشبعته الفلسفات الإيديولوجية بتوجاهاتها لينصبوا أنفسهم حماة للأدبية وكأن الشكل الروائي لا يستقر إلا على مكانة واحدة، وأسقطوا الحركية التاريخية التي يصنعها الأفق في الشكل الروائي، وأن الثابت في نظرهم إنما نهض أساسا على أرض مرنة لا تجزم وإنما تتوقع.

وعليه؛ يمكننا أن نقول أن الرواية الشبابية اليوم، تطرح أسئلة كثيرة أستطيع من وجهة نظري أن ألخصها في النقاط التالية: سؤال الأدب ـ سؤال اللغة ـ سؤال الشخصية. هي أسئلة تحتاج إلى أن نجيب عنها تجربة وممارسة من خلال النصوص الابداعية، وليست أسئلة للمصادرة كما يحاول بعض النقاد والكتاب أن يفعلوا مع الرواية الشبابية، التي في تصورهم خرجت عن نسق الكتابة الإبداعية، أو في أقل تقدير انحرفت عن موضوع الشعرية الروائية إلى الكتابة الاستعجالية آو الكتابة الصحفية؛ حيث ضاعت اللغة الفنية أو اللغة الأدبية وتحول الأدب إلى ناطق رسمي لحزب سياسي من جهة أو أصبحت الرواية عبارة عن مقال صحفي مبتذل ـ الكتابة السوداء. وتأسيسا على ما تم؛ نلاحظ ان الأدب لا لا يحقق وجوده الفني إلا إذا خرج من رحمه شكل جديد، أما الوضوح الشكلي الذي قد يطالب به البعض فليس له ما يبرره حضاريا ولا منطقيا لأنه ببساطة "لا يمكنني أن أعيش في جلباب أبي" أبد الدهر لأن الحرية تصنع شكلها.

ولعلني أقول دون مجازفة؛ أن عز الدين جلاوجي وجيل الشباب الذين تكونوا في رحم أدب الأزمة هم الذي كسروا تلك القاعدة النمطية التي جعلت الرواية صنما لا يعبد على طريقة واحدة، إنهم ثاروا على القالب التقليدي وتكسيرهم لأسطورة الجمالي والفني ومحاولة تجاوزهم للقالب الواحد ساهمت فيها جملة من الأسباب شكلت في نفسها أهدافا:

ـ تكوين وعي جديد بمسألة الكتابة نتيجة ثورة الأفق ورفق تقاليد القبيلة.
ـ الحديث بلغة جديدة والتحسيس بمبدأ الاختلاف.

إن هذه الأهداف انطلقت في تصوري من حكم قاس نوعا ما يهدف أساسا إلى تجاوز مأزق الرواية الجزائرية وكقارئ يمكنني القول أن الرواية الجزائرية في فترة السبعينيات قد هزمت على مستويين 1ـ مستوى البناء، 2ـ مستوى الموضوع نتيجة التباسها بالعقدة المشرقية. لذلك لم يحن الوقت بعد كي نصادر التجربة الروائية الشبابية، فالتنقيح لا يكون إلا بعد تراكم النصوص. 

لُزوم اللُّزوم:
إذا كانت القبيلة قد قالت نفسها من خلال الشعر، فإن المدينة قلبت هذا النسق أو المنظور إلى الرواية، لأن وعاء الشعر لم يقدر على حمل التعدد الذي صار إليه المجتمع العربي، فالشعر ينطقه لسان واحد بينما الرواية تتفرق بها الملفوظات فتدخل في حالة من الحوار والتأسلب، حيث يجد كل منطلق أيديولوجيته الخاصة. وكل ملفوظ يشكل وعيه الخالص بالعالم الذي ينتمي إليه اتساقا وانسجاما. وهذا أس التفاعل الذي حصل داخل رواية (الرماد الذي غسل الماء)(1) حيث أنها انفتحت على الأصوات الاجتماعية المتعددة. وتعتبر تجربة الكتابة الروائية عند عزالدين جلاوجي(2) لافتة ومهمة حيث أنها تعتمد على قلق مثلث يشكل الدافع الأساس في ثراء الموضوع وهو؛ قلق الأفكار، قلق السؤال، قلق الأشياء وفي هذه الرواية بالذات نجد الروائي قد أحالنا على هذه الفوبيا الاجتماعية المطبوعة بجزائرية خالصة. لذلك لم أجد نفسي غريبا في عوالمها، إذ أن أحداثها وأشخاصها بنية ثابتة في المتخيل الاجتماعي.

ولعل الدافع هنا بالأساس شخصيات الرواية، التي نقلها الروائي من فضائها الاجتماعي إلى فضاء المتخيل بشكل نسج فيه ذاكرتنا الجماعية، فهل الأدب إلا هذه النقلة التي تحدثها الأسلبة إن على مستوى التهجين أو على مستوى تعدد الأصوات الناطق داخل متن الحكاية. فالرواية كما يتصورها باختين من أنها: "بمثابة بيئة خارج ـ أدبية"(3) ولعل الصارخ في هذه الرواية الخاضعة لتحليلنا أنها جاءت على شاكلة المتعدد لسانيا وصوتيا حيث تعددت داخلها الطبقات المعرفية فشكلت لا تجانسا أسلوبيا عبر عن التناقض الاجتماعي أو الاختلاف السوسيوثقافي في منظومة الحوار اللغوي. فوحدها اللغة بمقدورها أن تنقل أشكال الوجود المختلف باعتبارها البيت الذي تسكنه الكينونة فردية كانت أم جماعية.

إن الرواية فتحت المجال واسعا للشخصيات أن تتحدث عن نفسها دون أية سلطة أو رقابة وهذه الميزة خاصية أصبحت تتعلق بالكتابة الروائية الجزائرية عموما، خاصة مع النقلة التي عرفها المجتمع مع الرسملة التي أصبحت تمارس هيمنتها في صناعة الخطاب عموما والخطاب الأدبي على وجه الخصوص فولج الخطاب الروائي في حالة توصيف لهذا الواقع.

وبدا لي السارد مندفعا في نقد الرسملة التي تخطت وحطمت مع قدومها كل القيم الاجتماعية والأخلاقية للأسرة الجزائرية. إن الرسملة في التصور المبدئي لنقادها ومنهم جوريس: يعتبرها أنها تحمل الحرب كما يحمل السحاب المطر.هذا يشفع للسارد تفاعله وفاعليته في تشريح الإيديولوجيا الجديدة ومدى ضخها للخطاب الروائي الجديد. وبالتالي جاءت شخصياته محملة برؤية عميقة لعالمها ودالة عليه من خلال المتلفظ أو المشار إليه. وتتأسس الكتابة عند عزالدين جلاوجي على المختلف، الذي يبني نظامه الخاص داخل النص المكتوب، فهي تفاوت بين النص والحاشية: وفيه تغلب النصوص الثواني النص الأصلي، فيبرز الهامش وينسحب المتن، إن الكتابة عند الروائي عزالدين جلاوجي توهم القارئ بحالة تعطل المعني، ذلك أن الحاشية على نقيض المتن، أي أن الحاشية على خلاف النص.

فالحاشية هي التي تستقر خارج النص، أو على الأقل تكون عادة في حالة مفاعلة نصية أو هي على الأقل نص شارح هذا على مستوى النص النقدي أو الفلسفي أما النص الروائي فهذا أمر إضافي إلى تقنيات السرد في الرواية الجزائرية. الحاشية هنا ليست ممارسة معجمية لغوية بل هي تعبير ذهني عن حالة الخواء التي يعيشها المتكلم اجتماعيا، هي ممارسة واحدة على هامش الألاعيب اللغوية الكثيرة للنص الأصل. هي في العرف الاجتماعي تلفظ مكرور يشرح نصا مغيبا يعيش حالة من الموات الأخلاقي والاقصاء التلفظي. إنه تعبير عن قلق الأصول أو تجاوزها لأننا نعيش عالما مليئا بالتناقض والتصادم. التمس عزالدين جلاوجي هذا النوع من الممارسة في مادة الكتابة كلعبة يختزل فيها التحول الملفوظي الجديد، ليمرر موقفه من القضايا الاجتماعية المختلفة. 

مساءلة نظرية:
لو انطلقنا من الفرضية التي تزعم أن العنوان بنية سابقة، لمتضمن في فعل الحكي، لجاز لنا القول أن الحكاية مبنية في الكينونة ـ العنوان ـ الصفر. مع العلم أن العنوان هو لاحق معرفي وسابق بنيوي، فاللاحق منه يحدد سبق القول الذي يتحدد حكاية، قبل أن يوجد عنوانا لأن الحكاية قد مضت في حالة تسمية حتى تشكل الوسم المتقدم الذي أطلقناه في شكل عنونة والسابق البنيوي هو عبارة بصرية:"عازمة على القول"(4) متضمنة لأفعالها ومحفزة للدلالة أن تقول مقولا؛ يعني أن العنوان سيؤول إلى القول أو هو متضمن معنى القول؛ لعل هذا المنطلق الذي ينزع فيه القول منزع التلميح تارة والتصريح تارة أخرى. هو الذي حددته دلالات العنوان في اللسان العربي والذي مدار الإبانة فيه على جانبين:(5)

1ـ الظهور يقال "عنا النبت يعنو إذا ظهر"
2ـ الأثر قال ابن بري، والعنوان الأثر، قال سوّار بن المضرّب: وحاجة دون أخرى قد سنحت بها جعلتها للتي أخفيت عنوانا.

ومع أن دلالة "عنا" في المعجم العربي قصد بها أكثر من دلالة إلا أن أقربها إلى ما نريد تصوره هي دلاله الظهور والأثر، لكون العنوان يشتغل على الإبانة البصرية التي تحيل نفسها على الإغراء الدلالي. والظهور والبروز يعني الإبانة عن الجسد، وهي حركة بصرية تحيل على الرؤية لأن البارز يبين عن نفسه فهو يتجسد نصا، يكشف عن مفاتنه وهل النص غير الوضوح والبروز؟ ولعله القاسم الذي يجعل العنوان نصا، فالعنوان يدفع نصيّتة تجري إلى القول من خلال المتبقي من القول داخله، لأن آثار الحكي تبدو سيميائيا في شكل طاقة كامنة داخله، فإذا كان اللفظ هو الواضح عنوانا، فإن القول هو الخفي معنى. وهذه لعبة الحضور والغياب لذلك قال هيدجر:"الوضوح هو أكثر الأشياء غموضا". والظهور في خاصية العنونة لا يكون إلا سمة أو علامة على معنى يحيل أو يفضى إليه، فهولا يدل بنفسه وإنما بالحكاية التي سيرويها هذا العنوان. بالحكاية يتحدد معنى هذا النص، لذلك فالعلاقة التي تحكم المرسل بالمرسل إليه هي علاقة تفاعل نصي، والبنية المتقدمة العنوان جزء من هذا البناء العام لعالم النص ويلج العالم في مفاعلة ناتجة عن نشاط التعاضد التأويلي Activité impérative يقدمه القارئ، منطلقه البدئي هو العلامة العنوانية.

وعليه يشتغل العنوان على الإنابة فهو ينوب عن النص/ الحكاية، يقول مالا تقوله إنه مصادرة على المطلوب.

العنوان إذا من أهم العلامات التي تحقق نصيّة النص لأن النص لا يتكامل إلا إذا شكل عنونته، فهو تكامل قائم على أساس الإحالة البينية بين العنوان والحكاية، هو نوع من التناص والرابط أساسا نحوي لأن العنوان نص؛ مبتدأ في نصيّته والحكاية ككل هي الخبر، العنوان مسند والحكاية/ المتن مسند إليه، هنا يرى أندريه مارتنيه: "أن العنوان يشكل مرتكزا دلاليا يجب أن ينتبه عليه فعل التلقي، بوصفه أعلى سلطة تلق ممكنة ولتمييزه بأعلى اقتصاد لغوي ممكن" ولاكتنازه بعلاقات إحالة (مقصدية) حرة إلى العالم وإلى النص وإلى المرسل"(6) لذلك علينا أن نفكّك الشيفرة التي يختزنها العنوان.

وانطلاقا؛ من النظام البلاغي الذي يحيل عليه العنوان:"ّدون أن ننسى أن التحليل اللغوي لدلالة الإيحاء ينبغي أن لا يختلط بـ "أسلوبية الأزمنة لأن الأسلوبية تعني بدراسة الشيفرات التي تعمل على مستوى اللغة(7) Langue" تتحقق شعرية العنوان وجماليته من خلال الخاصية الأسلوبية التي يختزنها، فهو مركب أسلوبي تعدل به الشيفرة إلى الإحالة الناتجة عن التأويل وهنا يحقق التأويل شعريته. فبين المركب الأسلوبي والتلقي التأويلي مسافة جمالية ينتقل فيها العنوان من كونه نصّا مغلقا على بنيته إلى انفتاح على شعرية التأويل. ويندرج العنوان كمؤشر واحد على جملة من العلامات السيميائية تتعاضد فيما بينها لتبني لنا موضوع الحكاية وتدخل كلها في دور واحد نطلق عليه شبكة القراءة.

وحده القارئ النموذجي الذي يستطيع أن يفل أو يفك هذه العتبات Seuil، هذه الشبكة التي تدخل مع النسق السوسيوثقافي للقراء في تفاعل نصي مشترك، من خلال هذا التفاعل يتم بناء العوامل المرجعية للنص. إن القارئ النموذجي هو الذي يملك أدوات الربط بين هذه العوالم؛ العنوان باعتباره مرجعا للنص والنص باعتباره مركبا مرجعيا للعنوان.

وتأسيسا على ما تم تحديده؛ للعنونة استراتيجية خاصة وجب معها أن نعيد بناء الموضوع الجمالي انطلاقا من قيمة الاقتصاد اللغوي. ونقصد هنا طبيعة العلاقات الإيحائية للعنوان لأنها كما يقول دوسوسير؛ ذات منشأ لغوي حيث تنفذ لغة العنوان إلى جوانية النّص فتحدث فيه انتشارا لمعانيه ومقاصده، فإذا كان العنوان/ دال، فالنص/ مدلول،حيث تنتشر الدلالة وتتشتت في ربوع النص،وعن هذا التشتت الدلالي تتخلق شعرية النص نتيجة الإرجاء والتأجيل الدلالي. "إن دال 1 لا يملك مدلول 1 فيما يعبر عنه حظ العلاقة المؤجلة الرأسي إلا بالتفاعل السيميوطيقي المتجه من العنوان إلى العمل" وكذلك الحال مع دال 2 ومدلول 2 فعلاقتهما هي الأخيرة مؤجلة لحين التفاعل السيميوطيقي المتجه من العمل إلى عنوانه(8) . "حاصلهُ إذا أن اللعبة علامية بالدرجة الأولى"، ولقد اهتم عديد الباحثين بالعنونة وجعلوها عتبة مهمة في الولوج للنص وعلى هذا التحصيل وجب أن نحدد ملامح المطارحة النقدية للرواية بشكل خاص حيث أن الدراسة النقديةتهتم بجانبين مهمين هما:

ـ جانب شكلي محض
ـ جانب العلامات السيميائية من خلال تتبع مسار المعنى داخل النص.

وهذا الموضوع من اختصاص السيميوطيقيا التي تعنى: "بدراسة شكلانية للمضمون، تمر عبر الشكل لمساءلة الدوال من أجل تحقيق معرفة دقيقة بالمعنى(9). والعناوين رسائل مشفرة لها نظامها الخاص، لذلك استفادت التحليلات التطبيقية من المدونة النظرية التي تركها ياكبسون في كتابه" قضايا الشعرية "فيتبين أن للعنوان وظيفة انفعالية ومرجعية وانتباهية وجمالية وميتا لغوية.تتسع هذه الوظائف لتشمل مثلا عند هنري ميتران (Henri Mitterrand) الوظيفة التعيينية، التحريضية... وقد يكون للعنوان وظيفة بصرية وأيقونية"(10). ولما كان العنوان يناصص نفسه على سبيل الإغراء والتحريض فإن شعريته تتلخص في بروز القيمة المهيمنة منه، ويعد العنوان من أكثر العناصر التي يرتكز عليها مفهوم النص الموازي Paratexe عند جيرار جينت، في كتابه "Seuil عتبات" يدرس هذه الظاهرة وقسم النص الموازي إلى قسمين:(11)

ـ مستوى "محيط النص وحوله" Péri texte
ـ وما يقع خارجه وعنه Epitexte

أو ما يمكن ترجمته بالنص المحيطي والنص الخارجي، حيث يتضمن المستوى الأول: "كل ما يتعلق بالنص وينتشر معه (حتى في زواياه مثل الفصول) وما يوجد في الكتاب مثل تقديم الناشر" Présentation éditoriale واسم المؤلف والعنوان والعنوانات الفرعية inter titre والتمهيد dédicace والعبارة التوجيهية épigraphe والتمهيد préface والملاحظات (12) "notes.." "أما النص الخارجي فيحيل إلى عناصر تتعلق بالنص ولكنها منشورة خارج الكتاب مثل المقابلات والمراسلات والمذكرات الخاصة...."(13) والنص المحيطي هو: "الذي ينجز تحت المسؤولية المباشرة والرئيسية للمنتج (......) هذه الخاصية للمناص هي الأساس الفضائي والمادي"(14).  

عتبة المتعة/ مساءلة الإغراء:
من محصول الذي سبق؛ أنه الذي تأسست عليه رواية (الرماد الذي غسل الماء) للروائي عزالدين جلاوجي، حيث أننا نلمح فيها إغراءا فنيا أسس لنفسه بنية جمالية متميزة على المستوى الأسلوبي بشكل خاص والفني بشكل عام. شكل عنوان الرواية "الرماد الذي غسل الماء" نصا منفتحا معنى ومبنى، وهي عبارة تحمل في طياتها مضمون القول بمعنى أنها ستقول مقولا،" لذلك فالعنوان شكل رسالة تمتد هذه الرسالة في لحظة ظهور "الرماد" حكاية وجودية ناتجة عن ظاهرة طبيعية، لذلك فالبداية الإخبارية كانت حسية فالاستلزام أن تكون النتيجة جوابا للمقدمة فكانت حسية كذلك "الذي غسل الماء" والحاصل أن العنوان أطره مدلول حسي بقيت فيه الدائرة مفرغة حيث أن الحسّي يكون ناتجا ولا يكون ابتداءا، بمعنى أن العنوان في ذاته خبر عن مبتدأ لنص محذوف، وهذا ما نطلق عليه "بما قبل العنونة "Apriorititre" وفيه تتحدد هذه القبليات" نتيجة الإسناد الاجتماعي الذي وضح الإطار الحسي، لأن الرواية مسكونة في المجتمع والعنوان اجتماعيا هو حاصل دلالي عن هذا الارتباط الحسي بشكل عام.

بمعنى أن العنوان تحدد مسندا إليه والحكي مسندا لأن الرواية قد تحركت خيوطها اجتماعيا قبل أن تصاغ جماليا. والعنوان هنا هو الصيغة التأويلية للحكاية. وهذا العنوان (الرماد الذي غسل الماء) فيه عدول عن نسق الدلالة فهو انزياح لغوي قلب الملفوظ حيث أن العنوان أراد أن يرسم صورة غير التي نقلها المعنى الحافي للدلالة ونكشف هذه المراوغة من خلال خاصيتين:"

ـ التضمين.
ـ الاستبدال.

من سياق الدلالة نكشف أن الغسل من وظائف الماء، وفي العنوان نسب مجازا للرماد فأصبح الرّماد هم المادة التي تغسل الماء، ولكن خاصية الاستبدال تعطينا المواضعة الحقيقية للمرجع وهو (الماء الذي غسل الرماد) ذلك لأن الرماد ليس أصلا بل هو فرع عن التصور والصورة" تكتمل بإعادة الألفاظ إلى معانيها، وهنا نعيد تركيب الصورة من خلال ما أحالت عليه العبارة. الناتجة عن مقدمة لمحذوف حيث أن الرماد ناتج عن سابق وهو البركان، لأنه لولا الحمم لما كان الرماد هذه هي بؤرة شعرية العنونة حيث أنها تحيلنا على المتخيل بمعنى الأنساق القبلية التي هيكلت العبارة فأبقت في بطنها الدلالة التي تحمل وجوه المعاني. فالرماد ليس المقصود به ذلك المعنى الحسي، بل يحيل هنا معنى داخل المعنى، فالمراد به معنى حسي يحيل على البركان كبنية ثابتة تستدعي المشار إليه كتحصيل حاصل.

ومعنى المعنى كبنية متحولة تستدعي المتخيل والافتراض للدلالة على حالة أنطلوجية من الفوضى واللامعنى.فالرماد المقصود هو الناتج الملفوظ عن حالة التلفظ، فمعنى المعني هنا فلت لأن المحذوف منه يقتضي إدماجه في الدلالة لتركيب صورة ذات بعد مشهدي أهّل نفسه لأن يكون في حالة انفتاح. نتيجة له تولدت المراوغة الأسلوبية اللامقصودة إذا هو انزياح على مستوى صورة المشهد الذي يحمله العنوان.التي أحالت على صورتين:

صورة اللاتلاؤم.
صورة التلاؤم الجديد

وهنا يقول كمال أبو ديب: "من أجل أ، تقول الاستعارة" ينبغي على المرء أن يستمر في تمييز اللاتلاؤم السابق من خلال التلاؤم الجديد(15).

وهنا نشأت علاقة توتر شديدة نتجت بين المعنى الأولى أو بين المعطى التأويلي القبلي وبين المعنى الطارئ الجديد، وبين هذين المعنيين تشكلت الفجوة الفاصلة للمعنى الدلالي الذي أدى إلى انزياح المعنى الرماد إلا اللامعنى؛ الفوضى.

الرماد هو الذي شكل القلق الشعري الذي أحال الدلالة لأن المفهوم لا تقتصر فاعليته على الشعرية بل إنه الأساس في التجربة الإنسانية بأكملها، بيد أنه خصيصة مميزة أو شرط ضروري للتجربة الفنية(16) . إن شعرية العنوان وجماليته شكلها مفهوم الرماد الذي غيب وظائفه واكتسب قيمة جمالية من اللحظة التي سلب فيها الماء عنصر "الغسل". فالغسل وظيفة أدبية التمسها أرسطو حيث يسارع الجمهور إلى تنقية حسه من الانفعالات، لأن الغسل من أهم خصائصه ومميزاته التطهير، تطهير النفس من أدرانها وانفعالاتها الشريرة، فسلب الغسل هذه الدلالة المعجمية قامت على أنقاضه دلالة جديدة أضيفت إلى الرماد.

فإذا كان الغسل مضافا إلى الماء يفيد التعرية والنبش والتطهير والتنقية والتزكية. فإن الغسل مضاف إلى الرماد يعني الردم، القهر، التغطية، الحجب. إن هذه التجربة الإنسانية أحالت إليها هذه العلائقية الغامضة التي شكلت تدلالا على فيض المعنى. وانصهاره في لحظة اقتران المفاهيم ـ الماء ـ الغسل ـ الرماد.

ـ الدلالة الأولى هي الدرجة الصفر للمعنى اللغوي المعجمي، وهي ذات معطى اجتماعي حددته الجماعة سلفا لأنها مدركة للوظيفة التي يقوم بها الماء وهي بالضرورة الغسل.

ـ أما الدلالة الثانية وهي الدرجة التأويلية للمعنى، وهي ذات معطى متعالي فرداني حددته البنية السياقية لأنها مدركة للوظيفة الجمالية التي يقوم بها الرماد في اقترانه بالغسل.

وهكذا تحددت البنية الكبرى للإحالة التي تفرعت إلى موضوعين:

الماء/ موضوع
الرماد/ موضوع

فاكتسب الماء شخصية التي أهلته لأن يخوض مشروعه السردي وتمكن الرماد بفضل تقنية المراوغة الأسلوبية من اكتساب خاصية دلالية حولت كلا من الماء والرماد إلى ذاتين، أساسا نفسيهما عاملين في المشروع الروائي.

أستاذ بجامعة فرحات عباس سطيف ـ الجزائر

مراجع الدراسة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ عز الدين جلاوجي، الرماد الذي غسل الماء، الطبعة الأولى 2005.
(2) ـ عز الدين جلاوجي، روائي وكاتب جزائري.
(3) ـ ميخائيل باخيتن: الخطاب الروائي، ترجمة؛ محمد برادة، الرباط 1987. ص: 31.
(4) ـ جاك دريدا، الصوت والظاهرة، ترجمة فتحى انقزو، المركز الثقافي العربي الطبعة الأولى 2005 ص: 67.
(5) ـ ابن منظور، لسان العرب، مادة عنا، ج 15، دط، ص، ص: 101.107.
(6) ـ بسام قطوس: سيمياء العنوان، وزارة الثقافة عمان الأدرن 2001. ص: 34.
(7) ـ سعيد الغانمي، اللغة والخطاب الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط 1.1993. ص:53.
(8) ـ محمد فكري الجزار: العنوان وسيميوطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998. ص: 70.
(9) ـ جميل حمداوي: السيميوطيقا والعنونة، مجلة عالم الفكر.المجلس الوطني للثقافة والفنون. ص: 79.
(10) ـ المرجع نفسه. ص: 100.
(11) ـ كرسيتين مونتالبيني، جيرار جنيت؛ نحو شعرية منفتحة، دار الرحاب للنشر والتوزيع. ط1. 2001. ص: 107.
(12) ـ المرجع نفسه. ص: 108.
(13) ـ المرجع نفسه. ص: 108.
(14) ـ martinez laurence. Le role de paratexe. p ;5.
(15) ـ كمال أبو ديب: في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، الطبعة الأولى.1987. ص: 90.
(16) ـ المرجع نفسه. ص: 20.