يحتاج حوار هذه القصيدة الجميلة الخلاق، مع قصيدة مالارميه إلى أكثر من وقفه، حيث تتراكب فيها الرؤى والدلالات، وتنفتح الذات على العالم وعلى الهم الفلسطيني معا، فيزداد زخمها الفلسفي ثراءا دون أن تتخلى عن عذوبة الشعر وسلاسته الآسرة.

لاعب النرد

محمود درويش

منِْ أَََََنا لأقول لكمْ
ما أقول لكمٌ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَََصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً...

أَنا لاعب الَنَرْدِ،
أَََََربح حيناً واَخسر حينَاً
أَنا مثلكمْ
أَََو أقلْ قليلاً...
وُلدتُ إلي جانب البئرِِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيداتَ
كالراهباتْ.
وُلدتُ بلا زَفّهٍ وبلا قابلةْ
وسُمّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
واِنتميتُ إلي عائلةْ
مصادفَةّ،
ووَرثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمَراضها:

أَولاً ـ خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ

ثانياً ـ خجلاً في مخاطبة الأمَّ
والأَبِ
والجدَّة ـ الشجرة

ثالثاً ـ أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونجٍ ساخنٍ

رابعاً ـ كسلاً في الحديث عن الظبي
والقُبَّرة

خامساً ـ مللاً في ليالي الشتاءْ

سادساً ـ فشلاً فادحاً في الغناءْ...

ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً...
ومصادقةً أَن أَري قمراً
شاحباً مثل ليمونة يتحرَّشُ
بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدَّ مواضع جسميَ
سِرَّيةً!

كان يمكن أن لا أكونْ
كان يكمن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفة
أو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلي أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدةْ...
أو: كبَيْض حَمَام تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمامً من الكِلسِ

كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيَّ في حادث الباص
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسَّيةْ
لأني نسيِتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أقرأُ في الليل قصَّةَ حُبًّ
تَقمَّصُّتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب الصحيَّةْ
فكنتُ شهيد الهوي في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ

لا دور لي فيِ المزاح مع البحرِ
لكنني وَلدُ طائشَُ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي: تعال إليْ!
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسُ آدميُّ
رأي الموج يصطادني ويشلَّ يديْ

كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجِنَّ المعَلَّقة الجاهليَّة
لو أن بوَّابة الدار كانت شماليةً
لا تطلُّ علي البحرَ
لو أَن دوريَّةَ الجيش لم تر نار القريِ
تخِبز الليل
لو أن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلَّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدي!

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنسيةْ
ولستُ سوي رمية النرد
ما بين مُفْتَرٍسٍ وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ

نجوتُ مصادفةً: كُنْتُ أّصغرَ من
هدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور
السياجْ
وخفتُ علي قطتي وعلي أَرنبي
وعلي قمر ساحر فوق مئذنة
المسجد العاليةْ
وخفت علي عنَبِ الداليةْ
يتدلّي كأثداء كَلبتنا...
ومشي الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً، ناسياً ذكرياتي الصغيرة
عما أُريدُ
من الغد ـ لا وقت للغد ـ

أَمشي/ أهرولُ/ أرِكضُ/ أصعدُ/
أنزلُ/ أصرخُ/ أَنبحُ/ أعوي/
أنادي/ أولولُ/ أسرعُ/ أبطئ/
أهوي/ أخفُّ/ أجفُّ/ أسيِرُ/
أطيرُ/ أري/ لا أري/ أتعثُّرُ/
أَصفرُّ/ أخضرَّ / أزرقُّ/ أنشقَّ/
أجهشُ/ أعطشُ/ أتعبُ/ أسغَبُ/
أسقطُ/ أنهضُ/ أركضُ/ أنسي/
أري/ لا أري/ أتذكرُ/ أسمعُ/
أبصرُ/ أهذي/ أهَلوسِ/ أهمسُ/
أصرخُ/ لا أستطيعَ/ أَئنُّ/ أُجنَّ/
أَضلَّ/ أقلُّ/ وأكثرُ/ أسقط/
أعلو/ وأهبط/ أُدْمَي/ ويغمي
عليَّ

ومن حسن حظَّيَ أن الذئاب اختفت
من هناك
مُصَادفةً، أو هروباً من الجيشِ/

لا دور ليِ في حياتي
سوي أنني،
عندما عَلَّمتني تراتيلها،
قلتُ: هل من مزيد؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها...

كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت ليَ الريحُ ذلك،
والريح حظُّ المسافرِ...
شمألتُ، شرَّقتُ، غرَّبتُ
أما الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلَّق فوق
حطامي
ربيعاً خريفاً...
أُعمَّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
علي الناصريَّ الذي لا يموتُ
لأن به نفَسَ الله
والله حظُّ النبيَّ...

ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهِة

ومن سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلي غدنا!

مَنْ أنا لأقولُ لكم
ما أقولُ لكم،
مَنْ أنا؟

كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
علي رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش علي الرملِ/

لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها:
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدَّل
حساً
وحَدْساً يُنَزَّلُ معني
وغيبوبة في صدي الكلمات
وصوِرة نفسي التي انتقلت
من أنايَ إليِ غيرها
واعتمادي علي نَفَسِي
وحنيني إلي النبعِ/

لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انتقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ

كان يمكن ألا أحب الفتاة التي
سألتني كم الساعة الآن؟
لو لم أكن في طريقي إلى السينما

كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيَّةً مثلما
هي، أو خاطراً غامقاً مبهما...

هكذا تولد الكلماتُ. أُدرَّبُ قلبي
علي الحب كي يَسَعَ الورد والشوك

صوفيَّةُ مفرداتي. وحسَّيَّةُ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلا
إِذا التقِتِ الاثنتانِ:
أَنا، وأَنَا الأنثويَّةُ

يا حُبَّ! ما أَنت؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ. يا حبّ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديَّةً كي نصير إلي ما
تحبّ
لنا من حلول السماويَّ في الجسديَّ.
وذُبْ في مصبّ يفيض الجانبين.

فأنت ـ وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ ـ
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظَّ المساكين/

من سوء حظّي أنيَ نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظَّي أنيَ ما زلت هشاً
لأدخل في التجربةْ!

يقول المحبُّ المجَّربُ في سرَّه:
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول: هو الحبَّ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة

للحياة أقول: علي مهلك، انتظريني
إلي أن تجفُّ الثُمَالََةُ في قَدَحي...
في الحديقة وردُّ مشاع، ولا
يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردة/
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنَّي
فاُخطئ في اللحن/
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتَار
آلاتهمْ
لنشيد الوداع. علي مَهْلِكِ
اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد، فينقطع النبرُ
بين المطالع،
وَهْيَ ثنائيَّةُ والختامِ الأُحاديَّ:
تحيا الحياة!
علي رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني
الريحُ/
حتي علي الريح، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية/

لولا وقوفي علي جَبَلٍ
لفرحتُ بصومعة النسر: لا ضوءً
أَعلي!
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب
الأزرق اللانهائيَّ
صعبُ الزيارة: يبقي الوحيدُ هناك
وحيداً
ولا يستطيع النزول علي قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية!

ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ...
هو الحظُّ. والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمَّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمَّيه ساعي بريد السماء
نُسَمّيه نجارَ تخْتِ الوليد
ونعشِ الفقيد
نُسَمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ علي خشبات المسارحِ

خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال: متي؟
بل: لماذا؟ وكيف؟ وَمَنْ

مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم؟

كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين، وأن تنقص العائلةْ
ولداً،
هو هذا الذي يكتب الآن هذيِ
القصيدة
حرفاً فحرفاً، ونزفاً ونزفاً
علي هذه الكنبةْ
بدم أسود اللون، لا هو حبر الغراب
ولاً صوتُهُ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً، بيد الحظَّ والموهبةْ

كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو، لا غيره، هُدْهُداً
فوق فُوَهَّة الهاويةْ
ربما قال: لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ

هكذا أَتحايل: نرسيس ليس جميلاً
كما ظنَّ. لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته. فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء...
لو كان في وسعه أن يري غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه،
وتنسي الأيائل تركض بين الزنابق
والأقحوان...
ولو كان أَذكي قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأي كم هو الآخرون...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً...

والسرابُ كتابُ المسافر في البيد...
لولاه، لولا السراب، لما واصل
السيرَ
بحثاً عن الماء. هذا سحاب ـ يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَد وبأخري
يشدُّ علي خصره. ويدَقُّ خطاه علي
الرملِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ. والسراب
يناديه
يُغْويه، يخدعه، ثم يرفعه فوق:
إقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ. واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة. يقرأ: ماء،
وماء، وماء.
ويكتب سطراً علي الرمل: لولا
السراب
لما كنت حيّاً إلي الآن/

من حسن حظَّ المسافر أن الأملْ
توأمْ اليأس، أو شعرُهُ المرتجل

حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَري وردة نَتَاَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول: السماء رماديّةُ
بِلِ أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأقول لها: يا له من نهارْ!

ولاثنين من أصدقائي أقول علي
مدخل الليل:
إن كان لا بُدَّ من حُلُم، فلكُنْ
مثلنا... وبسيطاً
كأنْ: نَتَعَشَّي معاً بعد يَوُمَيُنِ
نحن الثلاثةَ،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ!

لا أَقول: الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
با أقول: الحياة، هنا، ممكنةْ

ومصادفةً، صارت الأرض أرضاً
مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّي هناك
وصلَّي علي صخرة فبكتْ
وهوي التلُّ من خشية الله
مُغْميً عليه

ومصادفةً، صار منحدر الحقل في
بَلَدٍ
متحفاً للهباء...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين، دفاعاً عن القائِدَيْنِ
اللذين
يقولان: هياّ. وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلي الآن مَنْ كان منتصراً!

ومصادفةً، عاش بعض الرواة
وقالوا:
لو انتصر الآخرون علي الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ
أُخري

أُحبك خضراءَ. يا أرضُ خضراءَ.
تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء. خضراء.
ليلُكِ أَخضر.
فجرك أَخضر.
فلتزرعيني برفق...
بِرفقِ يَدِ الأم، في حفنة من هواء.
أَنا بذرة من بذورك خضراء.../

تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ...

من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا من أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا...

كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً،
ومن حسن حظّيَ أَني نؤُوم الضحي
فتأخّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أري الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر، والمدن الساحرةْ

كان يمكن، لو كنت أَبطأَ في المشي،
أن تقطع البندقيّة ظلَّي
عن الأرزة الساهرةْ

كان يمكن، لو كنتُ أَسرع في المشي،
أَن أَتشظّي
وأصبح خاطرةً عابرةْ

كان يمكن، لو كُنْتُ أَسرف في
الحلم،
أَن أَفقد الذاكرة.

ومن حسن حظَّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلي جسدي
وأُصدَّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر
دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
واُخيَّب ظنّ العدم

مَنْ أَنا لأخيَّب ظنَّ العدم؟
منْ أَنا؟ منْ أَنا؟