(1)
السجن غير بعيد عن البيت، أراه بسوره المتعرج عندما أكون فوق السطح أطعم الحمام، والحركة في ساحته الواسعة. المساجين بملابسهم الزرقاء هنا وهناك بحثاً عن دفء الشمس. ثلاثة أو أربعة بالملابس الحمراء، المحكوم عليهم بالإعدام، يتحركون بين الآخرين أشبه برايات الخطر. يسحبون خلفهم مقاطف يجمعون بها ما تقذفه زوابع الهواء من أوراق أشجار وجرايد وكراسات مدارس. يتوقف صاحب البدلة الحمراء والمقطف بين قدميه يرقبها تحلق في الفضاء، تبعد وتقترب، تعبر السور، وتسقط أخيراً. حين تكون قطعة من جريدة يفردها، يتأملها من الوجه والظهر ثم يكورها ويرمى بها إلى المقطف، أحياناً تكون ورقة من مجلة بها صور ملونة يمسحها في ملابسه، يلقى عليها نظرة، ويضعها في جيبه، يكتشفها بعد قليل أثناء توقفه ويرمى بها إلى المقطف.
لم يتجاوز عددهم يوماً أربعة. ينقص فجأة. كنت أطعم الحمام وأعدهم بنظراتي. حين أجد العدد الذي أعلمه ينقص واحداً أبحث عنه في أنحاء الساحة. أعرف أنهم لا يتحملون البقاء في العنابر، ويستمر بحثي، وأقول أنهم لا بد أخذوه ليلة أمس، ولآن عملي في المعتقل فلا تصلني أخبار السجن في حينها، ويأتي وقت لا يكون هناك غير واحد منهم، كفي مفرودة بالحب للحمام الذي تجمع حولها في هديل خافت، أرقب اللون الأحمر وقد توقف مستنداً لجذع شجرة صفصاف يدخن سيجارة. كانوا يصرفون له تعييناً مميزاً. قطعتي لحم بدلاً من واحدة، وحلوى، وعلبة سجائر، يأخذ تعيينه بعيداً عن النظرات التي تتطلع إليه في فضول، وعادة ما يكون جلوسه في ظل نفس الشجرة.
لا أحد يصِدر إليه أوامر بعمل ما. هو من نفسه يبحث عن المقطف ويمضى به في الساحة. عادة قبل اختفائه بيومين يظهر واحد أو اثنان آخران يقفان متجاورين في الطرف بعيداً عن زحمة المساجين.
* * *
البيت ميري. في بلوك من أربعة متجاورين. كان لأبي من قبل. هو أيضاً من بنى برج الحمام وعشه فراخ فوق السطح. أترك إطعام الدواجن لامرأتي، وأطعم الحمام بنفسي. يسمح لي ذلك بالنظر لمبنى السجن، يبدو مختلفاً عما أراه حين أكون بداخله، وكأنني ألمح شيئاً عابراً من نافذة قطار.
الحمام يعرف موعد صعودي إليه. أجده في انتظاري، سرعان ما يتجمع حول كفي الممتلئة بالحبوب، يقولون أن الواحد عندما يطعمه من يده فإنه يألف المكان ويعود إليه دائماً، أحياناً يصطحب في عودته واحدة أو اثنتين من مكان ما. حين زاد العدد وازدحم البرج أقمت واحداً آخر. وأكون في فناء المعتقل وأرى سرباً منه يحجب للحظة أشعة الشمس حيث أقف، أتبعه بنظراتي وأراه يحط فوق البرجين. وأجدني منتشياً أرهف سمعي لعلي أسمع صفق أجنحتها قبل أن تستقر بالبرج.
(2)
المرة الأولى التي أدخل فيها السجن كنت في العاشرة. اصطحبني أبي وكان حارساً هناك. أحواض الزهور على شكل مربعات تمتد على جانبي المدخل. صفراء. بنفسجية. حمراء، يتوسطها حوض على شكل مثلث من الزهور البيضاء، يشرف عليها مسجون يضع دائماً سيجارة خلف أذنه وأخرى مشتعلة في فمه. يعطيهما له كل صباح كما سمعت رائد السجن، وحين أشرفت مدته على النهاية بدأ يتبعه مسجون آخر تميزه السيجارة التي يضعها خلف أذنه.
سرت مع أبي حتى الحاجز الذي يفصل السجن عن المعتقل. أعمدة حديد طويلة مغطاة بشبكة من السلك. ألمح من ثقوبها المعتقلين يرتدون ملابس بيضاء وشباشب في أقدامهم. كانوا نظيفين حليقي الذقن بخلاف المساجين، وكان أبي استأذن ضابط المعتقل بأن يسمح لأي من المعتقلين بشرح دروسي. قال له الضابط:
ـ عندك. اختار.
زميل لأبي قام بالاختيار. قال:
ـ هو أصلاً مدرس في الجامعة.
وضحك في وجهي:
ـ مدرس خصوصي. عشنا وشفنا!.
كان يوم جمعة. فرش زميل أبي جوالاً في ظل شجرة. ووقفا غير بعيد.
جاء المعتقل. كان في عمر أبي، له ذقن صغيرة مدببة ويلبس نظارة. ألقى نظرة عابرة على كتاب المطالعة وسألني كثيراً من الأسئلة عن مقرراتي الدراسية الأخرى، وما أفعله طول اليوم في المدرسة والألعاب التي أحبها. حتى أصحابي سألني عنهم. وعاتبني لأنني لا أستحم إلا مرة واحدة في نهاية الأسبوع. الاستحمام لابد أن يكون كل يوم بعد العودة من المدرسة، وأشار إلى قدمي وكعبيها السوداويين. كان صبوراً على أخطائي الكثيرة في القراءة، أعطاني واجباً، قال أنه سيراه المرة القادمة.
كل يوم جمعة أمضي مع أبي إلى السجن، نشق طريقنا وسط زحام الزائرين المتجمعين أمام البوابة. للمعتقل بوابة خاصة من الجهة الأخرى. خالية دائماً. غير أن أبي كان يفضل البوابة التي اعتاد عليها، وحراس الباب الذين عاشرهم طويلاً، كانوا يوقفونه ويتبادلون بعض النكات ثم نواصل طريقنا.
ويوماً نسيت أمي أن تدمس الفول ليلة الجمعة. أيقظني أبي باكراً لأشتري الفول. المحل هناك أسفل مبنى المحطة. بجواره بقالة ومقهى.
كنت أقترب من بائع الفول حين لمحت من يشير إلىَ. كان على ما يبدو واحداً من زوار السجن الذين يأتون باكراً في القطار وينتظرون بالمقهى لحين موعد الزيارة. اقتربت منه. نهض وأخذني من ذراعي. أشار إلى كرسي بجواره:
ـ اقعد اشرب كوكاكولا.
ـ لا أشربها.
ـ طيب عصير؟
ـ ولا عصير.
ـ أنت ابن الأنباشي؟
ـ آه. ابنه.
ـ شفتك بتدخل معاه. إيه رأيك لو تكسب جنيه ويفضل السر بينا؟
ـ ازاي؟
ـ تأخذ جواب لواحد جوه.
ـ مسجون؟
ـ آه مسجون.
ـ المساجين كتير. أعرفه ازاى؟
ـ أي واحد منهم وهو يوصله له.
ـ كده صح. وآخذ الجنيه؟
ـ ولو جبت رد منه تاخد جنيه تاني.
ـ وأجيب الرد ازاي؟
ـ اللي تديه الجواب. قل له يجيب الرد.
ـ ماشي. وأجيب الرد هنا؟
ـ حاتلاقيني قاعد في نفس المكان ده.
ترددت قليلاً. سألني:
ـ إيه؟
ـ أنت حاتزوره. إديه الجواب.
ـ شوية بس اللي بيدخلوا زيارة. والباقي يمشوا. كذا أسبوع موش عارف أشوفه.
كنت أعرف ما قاله. سألته خشية أن يكون في الأمر ما يريب. وارتاح بالي. وارتاح أكثر حين رأيت البعض من زبائن المقهى جذبوا مقاعدهم إلينا، وهمسوا للزبون أنهم أيضاً يريدون أن يرسلوا، والزبون رمقني متسائلاً. نظرت إليهم واحداً واحداً، وقلت:
ـ ماشي. الجواب بجنيه والرد بجنيه.
واتفقنا أن أذهب لشراء الفول وأمر عليهم في عودتي وآخذ الجوابات.
في البيت أخرجت سبعة جنيهات. وضعتها أمام أبي وأنا أكتم زهوي. حين عرف الحكاية قال:
ـ أقعد.
قعدت بجواره. أمسك بالجوابات وقلبها في يده. كانت مغلقة. تحسس ما بداخلها. وأرشدني إلى ما أفعل. ما أن دخلنا السجن حتى أفلت يدي ومشى إلى مربعات الزهور. كان يكلم المسجون الجنايني ويشير بيده إلى الزهور البيضاء، ثم عاد. وقف يكلم حارساً قرب البوابة، ومضيت إلى مربعات الزهور. المسجون الجنايني كان منحنياً وظهره لي. سحبت الجوابات من الفانلة الداخلية وأسقطتها في الفوطة المفرودة بجوار يده. لفها ودسها في جيبه. قطف زهرة صغيرة بنفسجية ومدها لي. قال في صوت خافت وهو يشير إلى الزهور:
ـ حا يقابلك وأنت راجع ومعاه الرد.
أومأ خفيفاً نحو المسجون الذي يدربه.
وقد كان.
مضيت بالردود إلى الزوار. كانوا ينتظرون في المقهى.
يوقظني أبي باكراً كل يوم جمعة. أمضي لشراء الفول. كثر عدد الزبائن. وصل إلى خمسة عشر. الجوابات يدسها أبي تحت فانلتي الداخلية قبل خروجنا.
تناولت أخيراً وجبة البيض بالبسطرمة التي كنت أتشوق لها. وجيلاتي أيضاً. أُحضر علبة منه عند رجوعي بالفول. اشترت أمي قماشاً لجلبابين لها. وزاد نصيبي من اللحم والفراخ أثناء العشاء. وبدأ أبي يتنازل لي من وقت لآخر عن الكبدة والقونصة حين تضعهما أمي أمامه أثناء الأكل. قبل ذلك كان يتغافل عن رغبتي فيهما. أحياناً تكون الطيور في غداء الجمعة وأجد أبي يزفر من حين لآخر. تمتد قدمه تحت الطبلية باحثة عن قدم أمي. أسحب قدمي بعيداً عن مسارها. كنت كبيراً بما يكفي لأعرف ما يجرى. وأري أمي ترتشف ملعقة الشوربة مسبلة عينيها وتجفف جانبي فمها بلقمة عيش. يتنهد أبي بعمق بعد الأكل مسترخياً بظهره، يسلك أسنانه بنتفة من الحصيرة. وتقول أمي بصوت كالغناء:
ـ خلصت على الحصيرة.
يرد لاعقاً شفتيه:
ـ نجيب غيرها.
وقبل أن يأمرني بالخروج لشراء حاجة أقول أنني ذاهب لشراء عود قصب من عند المحطة. ويقول:
ـ مصه هناك. المصاصة بتوسخ البيت.
يدخل حجرته أخيراً وأنا مازلت بحجرة القعاد. وتمضي أمي إلى الحمام. أسمعه بعد قليل يناديها من الحجرة. ترد عليه:
ـ أيوة يا حاج جاية.
هو لم يحج. تطربه الكلمة. وأتخيله راقداً في السرير يهز قدميه المتعانقتين.
باب حجرتهما لا يغلق من الداخل. ترباسه مكسور. سنتان وأكثر وهو يقول أنه سيصلحه. أسمع صوت أمي الهامس:
ـ إيه يا حاج. الواد لسه ما خرجش.
ـ البسي القميص الأحمر.
ـ كل مرة الأحمر. أشتري واحد تانى يساعد معاه.
ويسكتان. هما ينتظران أن يسمعا صوت خروجي. أفتح الباب الخارجي وأغلقه ورائي.
ويوماً سمعته يقول لها:
ـ الشيخ النهاردة بيقول..
ـ شيخ مين؟
ـ شيخ الجامع اللي في السجن. بيعمل درس للمساجين كل أسبوع. قال لهم لا تنكحوا على امتلاء.
كنت في حجرتي. سمعت الكلمة وكتمت الضحك. أمي سألت:
ـ وبيقول الكلام ده ليه؟
ـ مسجون سأله عن أنسب وقت للعملية.
ـ ويتكلم في الحاجات دي؟
ـ من أول درس له يكلمهم عن جهنم وعذاب النار، واللي بيشوفه أهلها. الواحد منهم بعد ما يتحرق ويبقى فحم ربنا سبحانه يحييه تاني عشان يعذبه. والمساجين يسمعوا الكلام ويروحوا في النوم. هو متربع على دكة وهم مقرفصين على الأرض يعلو شخيرهم. نمشي بينهم ننخسهم، يصحوا شوية وبعدين يناموا. قلت للشيخ ما تشوف موضوع تاني للدرس. فكلمهم عن النسوان.
ـ النسوان. يا خبر. بيقول إيه؟
ـ ياما قال. عايزة تعرفي ليه؟
ـ آهو. أعرف.
ـ ما أنت عارفة كل حاجة.
ـ إيه يا حاج. ومين يعني اللي عرفني؟
ـ الشيخ قال الكلام ده وأنا بعد الدرس سألته: إيه العيب في أنه يكون على امتلاء؟ قال لي مكروه. وأنا قلت بأمارة إيه مكروه؟ أنا بحب أعمله على امتلاء. قال أن كل ما هو ضار مكروه.
ـ والنبي شيخك ده ما فاهم حاجة في الدين. أنا كمان بحب على امتلاء.
أمشي في السجن غير خائف رغم الحكاوي التي سمعتها عن المساجين من أبي وأولاد الحراس الآخرين. أحس زهواً حين أرى هؤلاء الخطرين يلتفتون لينظروا نحوي وأنا أسير خلف أبي، لا تبدر منهم تحية ما ـ بعدها بسنوات فهمت أنه قد يساء تأويلها ـ تخيم عليهم لحظات سكون وانفراجة خاطفة تلين معها وجوههم الجامدة وكأن في مشيتي بالبيجامة ما يذكرهم بالشوارع.
ويوماً كنت مع أبي في نفس المشية، كان يتقدمني، مال مع نهاية العنبر ليسير إلي الجانب الآخر في اتجاه الحاجز الذي يفصلنا عن المعتقل. كدت أتجاوز باب العنبر المفتوح عندما كتمت يد فمي وأحاطت ذراع بوسطي وجذبتني إلى داخل العنبر. أطبق فم على فمي يلعقه في عنف. كنت أزوم وأعافر، ثم أطلقتني اليدان، ولمحته يعدو مبتعداً داخل العنبر. اندفعت خارجاً أمسح فمي بكم البيجامة لأزيل الرائحة الكريهة. جريت إلى أبي، ثم أبطأت متلفتاً حولي. لا أدري ما جعلني أخفي عن أبي، وكنت حريصاً بعدها أن أجاوره أثناء مشينا في السجن.
(3)
خلفت أبي في السجن بعد إحالته للتقاعد. حين أيقن من فشلي في التعليم أخرجني من المدرسة. وحتى بدون فشلي ما كان راتبه يتحمل نفقات التعليم في الجامعة. سعى في مصلحة السجون لتعييني في نفس السجن مثل آخرين من أبناء الحراس القدامى، وظل عاماً بعد التقاعد يتردد على السجن، يلبس البالطو الذي تزوج به فوق جلباب ويقعد مع زملائه السابقين خارج البوابة. يحدق في وجوه الزائرين، ربما ليرى إن كانوا يتذكرونه.
وجاء يوم أصابه الخبل. لم يأت المرض فجأة. كنت في مشاغلي لا أنتبه إليه. أمي قالت باكية:
ـ والنبي كنت حاسة من وقت أنه موش هو اللى أعرفه.
لحق باثنين آخرين من الحراس المتقاعدين كانا من جيراننا وفي نفس الحالة.
يمشي الثلاثة بملابسهم الميري متجاورين وسط البلوكات كما اعتادوا وقت أن كانوا في الخدمة، يقصدون الخلاء حيث تتجمع أشجار فوق ثلاثة تلال متجاورة. لا أحد يدري ما يفعلونه هناك. البعض كان يلمحهم وهم يعدون بين الأشجار وصياحهم يترامى إلى البلوكات. والبعض قال أنهم كانوا يلعبون ما يشبه لعبة الاستخفاء. ثم ينفرد كل منهم بتل فلا يراهم أحد، ويتنادون مقلدين أصوات الحيوانات.
كان خبلهم ودوداً. غير خطر، نوبات من المرح الصاخب، مندفعين لا ينتبهون لما حولهم. ساروا يوماً وراء امرأة زميل لهم كان أصغر منهم سناً ولا يزال في الخدمة، كانت في طريقها لبيت جارة في نفس البلوك، تلبس جلباب بيت ضيق يبرز مؤخرتها الثقيلة، راحوا خلفها يحاكون مشيتها. مد واحد منهم يديه يوقف رجرجة المؤخرة وتبعه الآخران. المرأة صرخت وهم صرخوا. خلعت فردة الشبشب وسعت لضربهم، وقفوا ساكتين ينظرون إليها. أمسك زوجها يدها المرفوعة وقد جاء جرياً على صراخها، وزعق:
ـ حا تضربي مين يا بنت الكلب.
سحبها في عنف من ذراعها وسط دهشة الواقفين، وكانوا على ما يبدو يتوقعون منه غير ذلك.
تحرك الثلاثة وراءهما. وجوههم غير حليقة، علق بشعرها نتف من أوراق الشجر الجافة، وملابسهم الميري ملطخة بالوسخ، التفت زميلهم ويده لا تزال ممسكة بامرأته، هز رأسه وابتسم خفيفاً. وقفوا يبادلونه النظرات، حاولوا أن يتكلموا، مرة وأخرى، أفواههم مفتوحة، ووجوههم محتقنة، ثم خرجت أصوات أشبه بالمأمأة. سكتوا. استداروا مبتعدين. من يومها أصابهم الخرس.
يقفون ساعة العصر كل على تل في مقدمة الأشجار. يلقون بنظراتهم تجاه البلوكات والسجن، يقذفون بقطع الحجارة، يرقبونها تتدحرج قليلاً ثم توقفها الرمال. تعجبهم اللعبة فيقعدون ويبحثون عن الحجارة حولهم، ينزلقون من فوق التلال ليجمعوا ما قذفوه من حجارة ويصعدون بها.
يغادرون التلال مع الغروب بعد أن يطلقوا ما سماها البعض صيحة الحرب، وقد تسلح كل منهم بفرع شجرة وخلع حذاءه الميري وعلقه على كتفه. يمشون متجهمين مشدودي القامة وكأنهم في طابور التمام. يأخذون دورة حول سور السجن بصياحهم المتقطع الشبيه بالمأمأة، ربما كانوا ينادون زملاء لهم بالخدمة، بعدها يتجهون إلى مبنى المحطة.
كان هناك من يصيح بأسمائهم بعد أن يمروا ولا يلتفتون، وعربات تمضي بين مباني البلوك اختصاراً للطريق، تطلق التنبيه ولا يلتفتون، هم في مشيتهم يتهامسون وقد اقتربت رؤوسهم، ويضطر السائق للنزول ويوقفهم بجوار الحائط حتى يمر. ويظلون في وقفتهم حتى بعد أن ابتعد. ويلمحهم واحد صدفة ويقف ليكلمهم. ينصتون له قليلاً ثم يواصلون طريقهم.
* * *
يوماً هبطوا من التلال، واتخذوا طريقهم المعتاد إلى المحطة. كانوا يمشون بجانب السجن وفوجئوا بالمأمور أمامهم. كان خارجاً في طريقه إلى السيارة التي تنظر والسائق بجوار بابها. رآهم وتمهلت خطوته، ربما لم يعرفهم، غير أن ملابسهم الميري لفتت نظره. وجهه جامد لا يفصح، استقرت عيناه على الأحذية المدلاة من فوق أكتافهم. اندفع السائق نحوهم ملوحاً بيديه ليبعدهم. نظروا إليه وعادوا بنظرتهم إلى المأمور. وقفوا متجاورين وقفة انتباه ورفعوا أيديهم بالتحية العسكرية.
اقترب المأمور منهم وسأل الأول عن أسمه.
كان أبي. مأمأ وسكت.
تقدم السائق وقال أنهم لا يتكلمون.
بحث المأمور في جيوبه، بدا أنه لم يجد ما يبحث عنه، كانت علبة السجائر في يده، مدها إليهم. تراجعوا، مدها أكثر، تراجعوا مرة أخرى، ثم استداروا مبتعدين.
صدر أمر المأمور بعدها بمنعهم من ارتداء الملابس الميري لما يلحق بها من مهانة. كما أنه لا يجوز لهم استخدامها بعد التقاعد.
أخفت أمي الملابس. بحث عنها أبي في أنحاء البيت. وأكون غادرت إلى السجن، ينتابه الغضب ويقلب المقاعد ويرمي المراتب والمخدات، أحياناً يعثر عليها، وأحياناً تعطيها أمي له وقد خشيت من بعثرة كل شيء. من يجد بدلته يذهب لمساعدة زميليه، مقتحماً البيت الآخر ويشارك رفيقه في البحث، ينحيان المرأة جانباً حين تحاول ايقافهما. في النهاية يمضى الثلاثة بملابسهم الميري في جولتهم.
الأوامر أوامر. جمعت وابنا زميليَ أبي ملابسهم الميري ووضعناها في كومة خارج البلوك ورششنا عليها قليلاً من الجاز وأشعلنا فيها النار بحضور الثلاثة الذين تحلقوا حولها ينظرون في فضول إلى اللهب، ويتابعون موجات الدخان تتصاعد وتحلق. ورأوا الملابس تتحول إلى مزق سوداء. تبعونا في صمت إلى البيوت.
ومن كان يظنهم بهذا الذكاء؟
اختفت بدلة لواحد من جيراننا كانت منشورة على حبل غسيل خارج النافذة الأرضية. ارتفع زعيق امرأة الجار في الشارع. لم تتهم أحداً بالسرقة. ومن يسرق بدلة ميري؟. بعد يومين اختفت بدلة جار آخر من الغسيل أيضاً. لم يرتفع زعيق هذه المرة. وقبل أن ينتبه أحد إلى ما قد يفعله الثلاثة اختفت البدلة الثالثة. ورأيناهم وقد عادوا إلى ارتداء الملابس الميري في تجوالهم. واحدة منها كانت ضيقة على صاحبها، ترك الأزرار مفتوحة. وأين ما كانوا يلبسونه؟ عثر عليها واحد متناثرة بين الأشجار فوق التلال الثلاثة.
حين خلعوها في الليل أخذناها ـ وكانوا يخفونها تحت المرتبة التي يرقدون فوقها ـ وأعدناها إلى أصحابها وأخبرناهم بذلك. استمع أبي لما أقوله وعيناه تنظران إلى النافذة، ثم تركني إلى الفراش.
يومان، ورأيناهم بالملابس الميري مرة أخرى، ولم يعلق أحد من الجيران عن فقد بدلته، بعدها أخبرني واحد من حراس بوابة السجن أنه من أعطاهم البدل بعد أن طلبوها منه. بدل قديمة جاء بها من المرتجع في المخزن، وطلب مني ألا أتكلم حتى لا يبلغ الخبر المأمور فيبطش به، ورجاني أن أترك أبي في حاله فهو لا يؤذي أحداً.
* * *
ماتت أمي في هذا الوقت، ربما من حسرتها. كانت تنتظر عودته في الليل. تحممه وأسمع بكاءها في الحمام، وتطعمه بيدها وهى تغني له، تمسح ما يسيل من فمه. عيناه على وجهها لا تفارقانه، وعندما تتلفت على صوت أو باحثة عن شيء يميل رأسه لينظر معها، وتصحبه إلى الفراش وتحتويه بذراعيها. يستكين في حضنها ويروح في النوم.
حين يتأخر في الخارج أكثر من اللازم. أمضي مع زميليَ للبحث عنهم. عادة يقعدون على دكة من الخشب في نهاية رصيف المحطة بعيداً عن أضوائها، ينظرون إلى القطارات تأتى وتتوقف وتنطبق، ويمر عليهم بائع القصب. ونراهم وقد أمسك كل منهم عوداً يمصه، وعند أقدامهم كوم كبير من المصاصة لابد أنها تخلفت من عدة عيدان. حين يلمحوننا يتوقفون عن المص، يرمي كل منهم ما تبقى من عوده ويقفون كالمذنبين، ثم يتبعوننا، يتهامسون فيما بينهم بأصوات لا نفهمها. وقبل أن نغادر مبنى المحطة نمر على بائع القصب الذي يكون في انتظارنا، يرد لنا الساعات التي أعطوها له مقابل ما أخذوه من عيدان، وندفع له ثمن القصب ونمضى.
ويوماً كانوا يلهون على قضبان السكة الحديد بعد مص القصب. الوقت ليل، والمحطة تكاد تخلو، اثنان على دكة في الطرف الآخر أخذهما النعاس. ابتعد الثلاثة. بلعتهم الظلمة، يتردد صدى ضحكاتهم، واحد منهم يمشى بين القضيبين، الآخران سار كل منهم على قضيب يبدل بقدميه مستنداً على كتف الأوسط الذي راح يطلق صوتاً أشبه بصفير القطار، والقطار قادم من ورائهم وضوؤه يبدد العتمة، كانوا يمرحون وقد ضاعت أصواتهم وسط الضجيج المقبل.
أيام قليلة بعد رحيلهم وظهر الخبل على واحد من المتقاعدين الجدد، لم يكن مضى على تقاعده أكثر من ستة شهور، وتبعه ثلاثة آخرون كانوا يمشون في البداية بين البلوكات مترددين، يتلفتون كثيراً حولهم وكأنهم لم يروا المكان من قبل، وكل يمسك بيد الآخر، ثم عرفوا طريقهم إلى الأشجار فوق التلال، ويقال أنهم عثروا هناك على آثار من سبقوهم. حبل مشدود إلى فرع شجرة في شكل أرجوحة، ثلاث حفر عميقة متجاورة كالخنادق بداخلها بقايا أكل عفن كانوا يأخذونه على ما يبدو من البيوت قبل انطلاقهم في الصباح ويحشون به جيوبهم.
هتف مأمور السجن مشدوهاً حين سمع بخبرهم:
ـ إيه الحكاية؟
وقال: والهدوم الميري؟ اخلعوها المرة دى.
ويوماً كنتا واقفاً بساحة السجن أرقب بعض المساجين يتهامسون فيما بينهم، ورأيت زميلي عبد الستار يمشي على مهل وبيده أوراق إخلاء الطرف حيث كان ينهي إجراءات إحالته إلى التقاعد. تصفح الأوراق مرة أخرى، ودقق النظر في بعضها. بدا كأنما يكلم نفسه. نظر إلى قرص الشمس الساطع. نظر طويلاً رغم حدة الضوء، ثم التفت ورآني. تأملني قليلاً وسار نحوي. وقف لحظة ساكتاً. ثم سألني:
ـ والدك فين؟
ـ والدي؟
انتبهت. رحت أنظر إليه. قال:
ـ زمن طويل ما شفتوش.
وجهه هادىء. ساكن. عيناه فقط تتحركان كثيراً، ينظر لكل ما حوله في وقت واحد. قال:
ـ آه صحيح. ليه لأ؟
أطرق ساكناً. يتأمل حذاءه. قال:
ـ واحدة أكبر من التانية. ربنا خلقني كده. حاقول له إيه؟ خذها وهات واحدة مقاس التانية. مايصحش. يزعل. قلت يا عبد الستار تعال على نفسك. أحط خرقة في الفردة قدمي تستريح. وآهى ماشية. امسك دى.
مد لي الأوراق. ترددت. قال بحدة:
ـ امسك.
ومسكتها. تركني ومضى. ناداه نقيب المعتقل وكان يقف قريباً:
ـ عبد الستار؟
لم يلتفت. ناداه مرة أخرى. ظل في مشيته متجهاً إلى البوابة. الحارس هناك نظر إليه والتفت إلى النقيب، كان حائراً، تراجع خطوه مفسحاً لعبد الستار.
بلغني بعدها أنه لحق بالأربعة.
(4)
قلت لأبي قبل مرضه أني كنت أريد المعتقل.
قال: المعتقل لا يتبع مصلحة السجون وإنما أمن الدولة. ولا علاقة له بهم. وقال:
ـ وماله السجن؟ بعيد عن وجع الدماغ. وفيه رزق موش في المعتقل.
ربما كان يقصد الجوابات التي كنت أقوم بتوصيلها للمساجين، غير أن ذلك كان من زمن وأنا صغير، وهو ما لا أجرؤ على القيام به بعد استلامي العمل. أشياء أخرى عرفتها بالصدفة. كان هناك من الزوار المتجمعين خارج البوابة من يدس ورقة صغيرة مطوية بجيبه في الخفاء ونحن نشق طريقنا وسطهم للدخول أيام كنت أرافقه في أجازتي، وأراه في نصف إلتفاتة ينظر خطفاً للوجوه المتطلعة إليه، ألمح من بينها وجهاً يومئ خفيفاً، ونكون دخلنا وابتعدنا عن البوابة ويخرج الورقة ويفردها. يعيد ما بها من نقد إلى جيبه. ويقرأ ما بالورقة ويمزقها قطعاً صغيرة تظل في يده ليلقيها في برميل القمامة.
ومرات يأتي إلى البيت نسوة مع بداية الليل. تلبس الواحدة منهن طرحة تخفي بها نصف وجهها. عادة كنت أفتح لها الباب. تسألني عن أمي. أدخلها إلى حجرة القعاد حيث تشاهد أمي التلفزيون، ويتسحب أبي إلى غرفة النوم. أسمعها خلال باب حجرتي الموارب. تحكي المرأة عن زوجها الذي سجن ظلماً ولا تشير إلى تهمته. وتطلب منها أن توصي به أبي، فلا يضربه الحراس، وان أمكن بطانية زيادة لأنه يبرد في الليل:
ـ يعني يراعيه شوية.
وتعدها أمي بأن تخبره وهو سيقوم باللازم.
تغادر المرأة وأمي ترافقها إلى الباب وتغلقه. لابد أن أبي سمع أيضاً ما قيل من كلام. كان يظهر في حجرة القعاد وأمي تلتقط المظروف الذي تركته المرأة على الترابيزة، ويقف منتظراً أن تنتهي من إلقاء نظرة على ما به من نقود. وتقول ضاحكة:
ـ خذ. شوف أنت.
ويمضيان إلى غرفتهما.
فيما بعد عرفت من عملي في السجن أنه كان من الصعب على أبي أن يفي بما طلبته النسوة من أمي، كذلك أصحاب الورقات التي تدس في جيبه. أقصى ما كان يستطيعه أن يقول بعض الكلمات العابرة للمسجون وبعد أن ينظر حوله:
ـ إيه. على فين؟ فيه ناس بتوصي عليك. امشي بقى كويس. هانت.
هو لا يخشى الحراس. فالكثير منهم مثله، لكنها العيون من المساجين. كانوا ينقلون إلى الضابط ما يرونه ويسمعونه مقابل أن يسند إليهم الأعمال المريحة في السجن. كنت أفاجأ من وقت لآخر بتوقيع الجزاء على البعض من الحراس. كانوا يتكتمون ما جرى في التحقيق ولا يشكون.
نصحني أبي في بداية عملي أن أظل دائماً على مسافة من المسجون:
ـ لا تهزر معاه ولا يهزر معاك. ولا تعاديه ولا تضربه بدون سبب. سيتقبله منك إن كان مخطئاً. وأن يكون الضرب غير مهين. ولا تستخدم قدميك.
في تاريخ السجن ستة قتلى من الحراس، وتسع إصابات من مطاوي. والفاعل دائماً مجهول. غير الجروح المستمرة من قطع حجارة وزلط تصيب الواحد منا في مؤخرة الرأس.
لم أفاجأ في بداية تعييني بما أراه في السجن. أبي حكى الكثير. العلاقة بين مسجون وآخر. كانت منتشرة، أراهما يمشيان سوياً، ويشربان الشاي متجاورين عند الكانتين، ويدخنان نفس السيجارة. حين أقوم بتوزيع العمل في الصباح كنت أراعي أن يكون الاثنان معاً.
ويوماً كاد عنبران أن يشتبكا. كان مسجون في الثامنة عشر سبق له أن هرب أثناء تجنيده، وحكم عليه بالسجن باقي مدة تجنيده. ألحق في التوزيع بالعنبر (أ). وصل احتجاج العنابر الثلاث الأخرى إلى مأمور السجن، أصدر قراراً بتعديل قرار التوزيع السابق، ومفاده أن يقضي السجين المذكور أسبوعاً في كل عنبر بالتناوب، وأستقر الأمر.
العنابر الأربعة تتبارى في الاهتمام بالفتى. الفرشة النظيفة، والمكان المريح في العنبر. يغسلون هدومه وينشرونها في مكان مشمس بمدخل العنبر بعيداً عن هدوم المساجين التي تنشر على فروع الشجر أو قطع الصخور عند السور. مواد النظافة والتجميل التي تهرب من الخارج. معجون أسنان. صابون. مناديل ورقية معطرة وكريم لترطيب البشرة ـ هم لا يستخدمون هذه المواد، ولا يسعون لامتلاكها، وإن وجدت صدفة بين يدي الواحد منهم ينفر من استعمالها ـ كانوا أيضاً يضيفون إلى تعيينه من تعيينهم ويدفئونه لإذابة الشحم المتجمد على سخان "التوتو" الذي يصنعونه في العنابر. ويقومون بعد إجراء التمام بحصته في العمل.
كنت أراه قاعداً على حجر مسطح بجوار الكانتين ـ أصبح معروفاً أنه الحجر الذي يقعد عليه فلا يقربه أحد في غيابه ـ وعلى حجر آخر مجاور له أصابع شيكولاته وعلب عصير يشتريها المساجين من الكانتين، ويقعون بالقرب منه يضاحكونه. كان يوزع ابتساماته الصغيرة عليهم مسبلاً عينيه، مجففاً فمه عقب كل جرعة عصير بالمنديل المعطر ويده متراخية على فخذه، ثم يضع قطعة اللبان في فمه. يلوكها في بطء، تتوقف حركة فكه لحظة ثم تعود، وأرى وجوه المساجين في سكونها تتطلع إليه.
يدهشني ما بدا على الولد من نضارة في شهور قليلة، وكان يوم مجيئه شاحباً هزيلاً.
ذات صباح باكر ذهب مسجونان من العنبر (ب). لاستلام الفتى من العنبر (أ). كان اليوم بداية الأسبوع الذي سيقضيه عندهم. رفض مساجين العنبر (أ) تسليمه، ولم يسمحوا لهما بالدخول للكلام مع الفتى فهو لا يزال نائماً.
قالا: ننتظر حتى يصحو.
قالوا: حتى بعد أن يصحو لن يذهب معكما.
ـ كده؟
ـ آه كده.
كانوا يتناقشون قاعدين أمام العنبر. ونهض الاثنان دون كلمة أخرى وابتعدا.
لحظات وجاء خمسة من العنبر (ب). كان البعض من عنبر (أ). مازالوا في قعدتهم.
قال واحد من الخمسة وكان أكبرهم سناً:
ـ خير؟
ـ خير.
ـ ده ميعادنا.
ـ وبعدين؟
ـ ناخد الولد.
ـ بعد يومين.
ـ ولا ساعة. فيه اتفاق.
ـ بعد يومين.
ـ ده آخر الكلام؟
ـ آه.
ـ راجع نفسك.
ـ راجعت.
ـ طيب نشوف.
كان ذلك بمثابة اعلان الحرب.
الخطر تفوج رائحته. يشمه القريبون مهما بلغ التكتم. بالعنبران (أ) و (ب) لا حس ولا خبر. لا أحد يخرج أو يدخل، والشرر يتطاير. نحن الحراس أسرعنا نحمل العصي الرسمية، والبعض أخذ مكانه خلف المتاريس حول العنبرين وبيدهم السلاح. الخبر طار إلى مأمور السجن الذى نهض من خلف مكتبه مغمغماً:
ـ عارف أن ده حايحصل.
قوة الحرس لا تكفي لوقف الاشتباك والفصل بين العنبرين، والمأمور أصدر أوامره بعدم حمل العصي أو أي سلاح. أتخيل الولد هناك في الطرف البعيد من العنبر (أ) لا يدري شيئاً عما يجري. هم لن يخبروه حتى لا يزعجوه متربعاً على فرشته يحصي علب العصير والشيكولاته واللبان التي عاد بها من الكانتين الليلة الماضية، يرصها متجاورة ويغطيها بقطعة قماش نظيفة، يشرب ما تبقى في كوب الشاي بالحليب الذي حملوه إليه عند يقظته، فهو يحب أن يغير ريقه قبل الفطور، استبدل سترته بأخرى نظيفة استعداداً للتمام، ومشط شعره مستعيناً بشريحة مرآة معلقة بالجدار جنبه، ثم التفت ينظر حوله. مكانه يتصدر العنبر، فوق رأسه قرب السقف نافذة صغيرة ترسل ما يكفي من الضوء والشمس إلى فرشته، وكانت تبعد خطوتين عن مراقد المساجين.
كانوا في حركتهم العادية مثل كل صباح. لا يشغلهم تربص العنبر (ب). سمعوه يتثاءب، وكان يمط جسده على الفرشة، رأوا الجسد الفتى مفروداً في هالة الضوء. والكتفين النحيلتين تتحركان خفيفاً. أشرقت وجوههم الجهمة وابتسموا في رضى، ثم سمعوا صفارة التمام.
تم توزيعنا نحن الحراس هنا وهناك مع تكتل مجاور للعنبرين (أ) و (ب).
اصطفت طوابير العنابر الأربعة في أرض التمام.
جاء المأمور وخلفه ثلاثة ضباط. وقف صامتاً حتى سكتت الحركة. قال:
ـ يظهر أنني تساهلت معكم زيادة عن اللازم.
صمت، ثم قال:
ـ مفيش أسهل من الرجوع للضرب والجلد.
صمت مرة أخرى وقال:
ـ كل اللي حصل بلغني. واللي انتم ناوين تعملوه بلغني. فين الولد ده؟ تعال هنا.
خرج الولد من طابور العنبر (أ)، سرت همهمة خافتة بين أفراده أسكتها المأمور بنظرة صارمة. مشى الولد في اتجاهه حتى خرج من الطوابير. صاح المأمور:
ـ قف. بصوا له كويس.
الولد استدار. وقف متراخياً فى مواجهتهم. قال المأمور:
ـ هي ساعة زمن وأرحله لأي سجن تانى.
قال بعد صمت.
ـ عنبر (ب). عايز أسمع صوتك.
خرج سجين من طابور العنبر (ب). كان على ما يبدو الأكبر سناً. قال:
ـ يا أفندم فيه اتفاق. رحنا ناخده فى الميعاد. ولا سألوا فينا.
نظر المأمور ناحية طابور العنبر (أ). خرج منه مسجون وقف مثل الآخر. كان هو أيضاً الأكبر سناً. قال:
ـ يا أفندم الاتفاق على العين والراس. بس الولد عيان. قلنا يومين وياخدوه.
قال المأمور: عيان عنده إيه؟
ـ بيكح يا أفندم.
ـ بيكح؟
ـ أيوة يا أفندم.
ـ يروح العيادة.
ـ سألنا عبده التومرجي قال يشرب حاجة سخنة.
ـ وبعدين؟
ـ قلت لهم يومين بس يشد حيله ويروح معاهم.
قال عجوز العنبر (ب):
ـ عيان. كنا حانشوفه ونعمل له اللازم. وبعدين ده موش عدل ياخدوا من حسابنا يومين.
ـ وموش عدل تهملوه كده.
ـ نهمله ازاى؟
ـ آخر مرة أخذناه من عندكم. سبع قملات في رأسه. غير اللي في هدومه. والبراغيث. يا أفندم لا بيحموه ولا يغسلوا هدومه.
ـ شوفوا الكلام بقى؟
رفع المأمور يده منهياً النقاش، وأصدر قراره بأن يبقى الولد في العنبر (أ) يومين على أن يخصما من مدتهم في المرة القادمة.
وأشار بالانصراف.
يخطىء من يظن أن المأمور كان يعبث مسلياً نفسه. ومن أنا لأحكم على تصرفاته؟ غير أنني رأيت كيف نزع الفتيل. لا أحد يعرف ما كان سيحدث غيرنا نحن الحراس، وسنكون أول الضحايا لو جرى الاشتباك، هم سيتبادلون الضرب قليلاً في البداية، ثم ينفجر ما بداخلهم من براكين، يشعلون الحرائق في أنحاء السجن بداية بعنابرهم ويقتلون الولد وكل من يلتقون به وقد تبخر ما بينهم من خلاف.
قال زميلي وكنا في طريقنا لتناول الفطور بعد التمام:
ـ كده كويس.
ـ كويس قوي. الواحد أخذ نفسه. شفت الولد؟
ضحك: ـ آه شفته.
ـ ولا باين عليه تعب.
ضحك مرة أخرى:
ـ تكون فاكر أنهم بيناموا معاه كل ليلة؟ واحد وراء الثاني. كنت زيك. سألت الولد على جنب، وسألت مساجين. ممكن يمر الأسبوع في العنبر ولا واحد يقرب منه. هو اللي يطلب. ومن ينام معه مرة لا ينام الأخرى. وكل أسبوع واحد حتى لا يتعبوه.
ـ زينة يعني؟
ـ حاجة شبه كده. زجاجة ملونة شافوها في الحوش. غسلوها وحطوها في العنبر. وتبقى بتاعتهم.
ثمة سجين يسميه المساجين "عجينة " فيما بينهم. يقولونها بلا ازدراء. وينادونه باسمه "صلاح". كان يغار من الولد، ويطلق عليه الكثير من الأوصاف التي لا تسر، وكانت تبلغنا. راح يتحرش بالولد. يعترض طريقه ويهمس له بكلام لا يسمعه غيره. يتوقف الولد ويرمقه بقرف ويقول:
ـ عايز أمشي.
ـ على فكرة يا حلوة. يا خيارة مخللة. تمشي معايا؟
ـ عايز أمشي.
ومد يده يوماً وجذب الولد من سترته، فوجىء بأيدٍ كثيرة ترفعه وترمي به جنباً.
ومشى الولد.
عجينة لم يسكت. كان يقذف الولد كلما رآه بطوبة، وفلت عياره، راح يدهن شعره بالزيت ويفرقه من النص، ويهز مؤخرته أثناء المشي، ويلوك اللبانة مثل تحية كاريوكا في فيلم رأيناه من أسبوع، وينفخها على شكل بالونة صغيرة ثم يسحبها بلسانه. وفلت عياره أكثر فراح ينتف شعر ساقيه بالحلاوة، ويسير مشمراً إحدى رجلي البنطلون كاشفاً عن ساق بضة ممتلئة. صاحبه "فارس" وكان غليظاً برقبة ثور مبهور بما استجد على صاحبه من تغيرات، يسحبه في شدة من بين المساجين ويختفيان في العنبر. المساجين يخشون التودد إلى عجينة. فارس أعلن من قبل أن عجينة صاحبه، وكان سريعاً في الضرب بالمطواة، لا ينتظر انتهاء الكلام. وسبق أن أصيب ثلاثة من المساجين حاولوا الالتصاق بمؤخرة عجينة في دورة المياه. وخيطت جراحهم في العيادة، ورفضوا في التحقيق أن يتهموا أحداً.
أصيب الولد أخيراً بحجر في رأسه، انحنى في ألم يتحسس الإصابة بإصبعه. وعجينة وقف غير بعيد متحدياً يرمي بحجر ويلتقطه. وضع المساجين قليل من البن على جرح الولد. ووقفوا ينظرون إلى عجينة، وكان هناك من اقترح الكلام مع فارس. وذهبوا إليه.
كان قاعداً في الظل أمام باب العنبر يشرب الشاي. وجلسوا. ظهر عجينة. وقف غير بعيد يلعب بالحجر، وفارس رآه وانفرجت شفتاه فيما يشبه الابتسام، ثم التفت إلى المساجين:
ـ عايزين إيه؟
حكوا له ما حدث للولد. بدت على وجهه مسحة من غضب. وقال:
ـ ولدكم لا يملأ عيني.
لم يردوا.
رمى تفل الشاي من الكوب بجواره، وغطاه بالتراب. قال:
ـ اللي حصل لا يرضيني. ولا يرضي أحداً. حاشوف.
طمأنهم بأن صاحبه لن يلمس الولد بعد ذلك.
نادى عجينة الذي اقترب متمايلاً. نالته لكمة قوية على ظهره. زمجر فارس.
ـ ادخل.
دفعه إلى داخل العنبر وهو في أثره.
عجينة نال العلقة وفلت عياره أكثر وأكثر. لم يعجبه أن يضرب ويهان بسبب ولد لا طعم له ولا لون، كان يختفي من الساحة بالساعات، وفارس يبحث هنا وهناك، بمشيته العجيبة، منفوخ الصدر، لا يتحرك فيه غير ساقيه، وعجينة سعى إلى علاقات أخرى خاطفة. كان يطمئن المسجون بأن الجن نفسه لن يعرف، يصحب صيده إلى مكان ضيق خلف حجرة الإعدام لا يقترب منه مسجون. الحارس الواقف بسلاحه وخوذته في كشك فوق ركن السور يطل على حجرة الإعدام كان وحده الذي يستطيع أن يرى ما يجرى في المكان الضيق، ينحني مزيحاً الخوذة للوراء ويمد رأسه وماسورة البندقية تلمع في ضوء الشمس.
ورغب عجينة يوماً في واحد من أصحاب البدل الحمراء. أفصح عن ذلك لبعض المساجين، ربما لينقلوا كلامه إلى فارس:
ـ أشوف طعمهم إيه.
ـ طعمهم مر.
وقتها كان في السجن اثنان من البدل الحمراء. واحد منهما رفض مصاحبته وطوح بالمقطف الذي يحمله نحوه. الآخر استمع إليه محدقاً في وجهه، نقل المقطف إلى يده الأخرى وغمغم:
ـ ماشي. فين؟
أخذه عجينة ناحية غرفة الإعدام. انتبه صاحب البدلة الحمراء إلى الغرفة وكان أمامها. تقهقر خطوة والثانية ثم استدار مبتعداً. لحق به عجينة قائلاً:
ـ فيه إيه؟
ـ ولا حاجة.
ظل في مشيته. عجينة لم يلح. سار بجواره. قال:
ـ طيب ندخل العنبر.
دخلا العنبر (أ) القريب منهما.
فارس في تجواله لا يهدأ. عيناه عكرتان ونظرته شاردة. أربع ليال وعجينة لا يبيت في فرشته ولا يراه في أي مكان. أبصرهما خارجين من العنبر وصاحب البدلة الحمراء يرفع سرواله ويربطه. وقف فارس ساكتاً يحدق إليهما. عافت نفسه فجأة عجينة. ومن يقربه بعد أن أعطى نفسه لبدلة حمراء؟. نظر إلى عجينة دون غضب. عجينة حين رآه أبطأ من خطوته. تبادلا النظرات. ربما في هذه اللحظة عرف عجينة من النظرة الباردة أنه سيقتل، وكأنما أفاق من غفوة، نظر حوله ثم عاد للعينين اللتين ترمقانه وتراخى في وقفته. صاحب البدلة الحمراء التقط مقطفه وكان على وشك أن يمضى ثم توقف ينظر من واحد إلى الآخر.
استدار فارس مبتعداً.
بعدها رأينا عجينة يمشي منطفئاً معتدل الخطوة وعيناه تبحثان حوله عن فارس حتى يراه فيقعد غير بعيد عنه، وفارس لا يلتفت نحوه. ربما أحس المساجين بما سيأتي فابتعدوا عن الاثنين. أصبح حولهما دائماً مساحة خالية، وفى العنبر كانت فرشة عجينة مجاورة لفرشة فارس يحتلان ركناً بعيداً عن المدخل. وبعد ما جرى وجد عجينة فرشته وهدومه وقد طوح بها إلى الجانب الآخر. عاد بها إلى مكان غير بعيد عن فرشة فارس، والمساجين القريبون منهما نقلوا أشياءهم مفسحين المكان. يرقد عجينة على جنبه وعيناه على فارس الذي يعطي وجهه للحائط.
هي أيام وعثروا على جثة عجينة ملقاة بالحمام، وحبل قصير مفتول من الخرق حول رقبته.
بعدها كان فارس يتحرك في أنحاء السجن متهدل الكتفين، لا يكلم أحداً، ولا أحد يكلمه، وأحياناً ينزوي طول النهار في ركنه بالعنبر، وكان هناك من يحمل إليه تعيينه.
وجاء يوم وعاد إلى زحمة المساجين، وراح يسأل عن الأحوال، واستطاع أن يلتقط عجينة آخر دفع فيه كما علمنا ست علب سجائر وربع قرش حشيش.
(5)
تزوجت بعد أن استقرت أموري في السجن. ابنة حارس من جيراننا. صبية مليحة. بدأت تتواجد في بيتنا عندما استلمت العمل. تساعد أمي في أعمال البيت. ترتب حجرتي، وأجد في عودتي البطانية في شكل مثلث على الفراش. وكانت أمي تطويها عدة طيات عند مؤخرة السرير. وبيجامتي التي أرمي بها في أي مكان معلقة بالمسمار خلف باب الحجرة. وفردتها الشبشب متجاورتان أمام السرير حيث أجلس لأخلع حذائي. كانت هي من يفتح الباب عند رجوعي. ترمقني ببسمة خفيفة وتهرول نحو أمي في حجرة القعاد.
امتدحت أمي طبيخها ونظافتها، وسكتت. في قعدة أخرى قالت أنه لا يعجبها الحال المائل. وعيب تجرى البنت وراء الولد. وتقول لأبي أنها ـ البنت ـ حطت يدها في كل حاجة بالبيت قبل ما نقرأ فاتحتها. ويقول أبي:
ـ الزمن بيتغير يا أم سالم. وآهي بتساعدك.
ـ حاتساعدني في إيه؟ أنا كنت اشتكيت.
ـ بنت حلال.
عادة تلبس بلوزة ضيقة تبرز صدرها الممتلىء. كانت أمي عندما تنحني البنت وترى عن قرب رجرجة ثدييها تلوي فمها جانباً وتتنهد بصوت:
ـ طيب. زمن.
وقالتها للبنت أخيراً:
ـ ما تلبسي بلوزة واسعة شوية. تعرفي تاخدي نفسك.
استقامت البنت من انحناءتها:
ـ ماهي واسعة يا خالة. بصي. اشتريتها من بورسعيد. قماشها بيمط.
ـ بيمط؟
ـ آه.
ـ طيب. مادام بيمط.
سمحت لي بعد قراءة الفاتحة أن ألمس صدرها.
تقاسمت وأبوها ثمن غرفة نوم بالقسط، وكان فرش أمي بالبيت كافياً. لم نشتر شيئاً آخر. حتى المواعين تركتها أمي بحالة جيدة، وجاءت معها بصندوق به قطع قماش لفساتين وجلابيب لها تكفيها عشر سنوات، كانت تشتريها مما توفره من مصروفها والعيدية، وبالصندوق بلوفر رجالي من الصوف بلفته. قالت أنه جاء هدية لأبيها وكان ضيقاً، وأراد بيعه، وهي احتفظت به في الصندوق للزمن:
ـ وآهو جه الزمن.
وأخفت وجهها الضاحك في إبطها.
(6)
أقف على السطح في البكور بعد أن أطعم الحمام وقد احتواني هدوء المكان. كثبان الرمال تمتد على مدى البصر، وصخور قاتمة تبرز كالعلامات، وخطوط متعرجة من أشجار الشوك القصير، وكرات كبيرة منها تدفعها الريح هنا وهناك. عندما يشتد هبوبها أرى الرمال زاحفة فيما يشبه السحابة تلفحنا في طريقنا وتخلف أثراً خشناً في حلقي، وأكون نائماً في الليل ويوقظني هسيسها وهي تمرق فوق البلوكات، ورغم إغلاقي النوافذ أحس الحجرة عابقة بها.
التلال الثلاثة تبدو من فوق السطح غير بعيدة، خضرتها الزاهية وسط الرمال، والأشجار العملاقة ترمي بظلالها على الجوانب، تتلامس قممها فيما يشبه السقف يحجب أشعة الشمس الساخنة. وددت أن أرى المكان الذي أمضى فيه أبي شهوره الأخيرة يمرح في صخب. تخايلني التلال أحياناً قبل أن أستغرق في النعاس، أراها تتقدم على مهل مقتربة من البلوكات، تلقي أشجارها النظر من خلال النوافذ، أكاد أسمع حفيفها، تتوقف قليلاً عند نافذتي. أحس بفروعها تلمس وجهي، وألمح أعشاش الغربان فوقها.
ينطلق سرب الحمام بعد الطعام. لا يذهب بعيداً. أقرب بلدة تبعد سبعة كيلو. المحطة أخذت اسمها من المكان. "محطة المعتقل". لافتة كبيرة سوداء تتصدرها والكتابة بلون أزرق. مبنى المحطة صغير، ألحق به ثلاثة دكاكين لخدمة زوار السجن. أحدها أغلق من زمن ودخل صاحبه السجن، كان يعرض علب أطعمة محفوظة ويبيع في الخفاء صوراً فاضحة. يرسل من السجن بالمفتاح لينظف أحدهم الدكان، وربما ليطمئن على مخبوءاته من الصور التي حفر لها كما يقال تحت الأرض، ويسحب بعضها للبيع داخل الأسوار. كلمني يوماً هناك:
ـ عندي لك هدية. انما إيه. تخليك نار.
ورغم تشوقي لرؤية صورة منها بعد أن سمعت عنها ما سمعته إلا أنني رفضت، وكان بلغني أنه يبحث عن واحد يطمئن إليه ليرسله إلى العاصمة ليأتي بصور جديدة.
* * *
تذهب امرأتي أول الشهر إلى البلدة المجاورة لتشتري.
ـ نشتري إيه؟ عندك كل حاجة.
ـ أشوف.
ما تريده توصي به الدكان على المحطة الذي يرسل في طلبه، ومن حين لآخر يأتي بائع يحمل بقجة ضخمة على ظهره. يتنقل من بلوك لآخر. يحط في منتصف مساكن البلوك حيث تتجمع حوله النسوة والبنات، يقدمن له ما يبل ريقه من طعام وماء، وأحياناً كوب شاي إذا طلبه، ويترك لهن البقجة، يفتحن عقدتها، ينكشن ما فيها من أقمشة وملابس داخلية وأطباق، حتى الخيط والإبرة، يوصينه هو الآخر بما يردنه خاصة الكريمات والملابس الداخلية:
ـ اللى تمسك على الجسم.
يقول والطعام في فمه:
ـ فاهم. فاهم. زي اللى في التلفزيون.
وتقول جارة سمينة لا تستطيع القعاد، تنحني مستندة على أكتافهن:
ـ ويكون فيها مقاسات كبيرة وبرضه بتمسك. إيه يابت؟
وتزغد بيدها البنت التي تضحك. والبائع مشغول بالطعام أمامه، يقول:
ـ حاضر. يومين وأكون هنا.
ـ موش تكتب الحاجات.
ـ كتبت.
ويشير إلى رأسه.
تأخذ امرأتي إلى البلدة عربة كارو أضيف إلى سطحها ما يشبه صندوقاً ضخماً مغلق الجوانب بنافذتين ومقعدين مستطيلين. تقول عند الباب:
ـ وأشوف ناس غير الناس.
ألقي بنظري وراءها. العربة واقفة. نسوة من الجيران ينتظرنها.
وتنطلق بهن العربة.
(7)
أمشي متمهلاً حين أكون بجوار السياج الذي يفصلنا عن المعتقل. وأراهم من خلال السلك بملابسهم البيضاء يذهبون ويأتون. يتوقف البعض منهم عند جريدة الحائط، وكانت معلقة داخل إطار من الخشب، ربما يقرأونها كما أخبرني زميلي هناك للمرة العاشرة لمجرد مشاهدة السطور والكلمات ويبتسمون في كل مرة من الرسوم المضحكة. سمح لهم عقيد المعتقل بإعدادها. وكانت تعرض عليه قبل تعليقها.
قال لي "شلبي" زميلي الحارس هناك أنهم ـ الحراس ـ يقرأونها. بها كلام شديد عن الحكومة. غلاء الأسعار. والفلوس التي تهرب إلى الخارج وفساد نواب في مجلس الشعب:
ـ كل الكلام اللي بنقوله في قعدتنا تقرأه فيها. فاكر حادث العبارة؟ أكثر من ألف غرقوا يا سالم. وفيهم عيال. موتة صعبة. وصاحبها. الحسب والنسب. هرب. مكتوب في الجريدة أنه مسنود من فوق. وأنه دفع عشان يهربوه. أخذ تأشيرة السفر ازاى؟ وركب الطيارة ازاى؟. والعقيد قرأ الكلام وعايز يعرف التفاصيل. طلب المحبوس اللى بيشرف على الجريدة، وأنا أخذته لمكتبه. كان نفسي أسمع. إنما وقفت بره جنب الباب.
وقال شلبي وكان عبر الحاجز إلى السجن خلال الباب في الطرف والمغلق بسلسلة:
ـ حتة عقيد. دماغه غويطة. يسمح لهم بالجريدة من هنا ويعطيهم على قفاهم من هنا. ممنوع الزيارات. ممنوع الجوابات. ممنوع أي اتصال بالمساجين. الممنوع كتير. وممنوع الورق والأقلام، هو فرخ الورق كل أسبوع للجريدة مفيش غيره. وكانوا عايزين يكتبوها كل يوم. وكان نفسي، والعقيد قال هي مرة في الأسبوع.
وقال أيضاً أنه حين يأتي مفتش أو زائر يأخذونه إلى الجريدة. يقرأ ما بها ويهز رأسه متعجباً ويقول:
ـ ولا صحافة المعارضة.
والعقيد فخور بما يتمتع به المعتقلون من معاملة حسنة في فترة رئاسته، يقول ويقول، والزائر يصغي مبتسماً، ثم يسأل عن المعتقلين؟
يشير إليهم العقيد قائلاً:
ـ كما ترى.
كانوا في الطرف الآخر من المعتقل داخل ملعب كرة السلة حيث تجرى مباراة فيما بينهم. هم هناك لا يدرون أن زائراً قادم ليرى أحوالهم. سارعوا من الصباح الباكر إلى تنظيف الملعب بعد أن بلغهم في الليل مبادرة العقيد بالسماح لهم بلعب الكرة، وقضوا ساعات من الليل كعادتهم في مناقشة ما سيجد من أمور، وكان أكثرهم يرى أن المبادرة مريبة، فليست من طباعه ولا أسلوبه. وطرحوا السؤال: لماذا يريدنا أن نلعب؟ وعجزوا عن الإجابة. في النهاية قالوا ننام ونلعب باكر، ونرى بعدها.
والزائر قال: أريد أن أراهم وأسمع طلباتهم.
والعقيد قال: دعهم يلعبون. أما عن طلباتهم فهي عندي فوق المكتب.
وتقدم الزائر إلى مكتبه. الطلبات أعدها رائد المعتقل قبلها بليلة مع الباشكاتب. كانت داخل دوسيه على المكتب. والعقيد قال:
ـ لم أنظر فيها بعد.
وكان يتصفحها وقال:
ـ الطلبات العادية. تأخير التمام نصف ساعة لتوفير الوقت للاستحمام. السماح بعقد الدروس في الفناء بدلاً من العنبر.
ويسأل الزائر: أي دروس؟
ـ المتعلمون منهم يعطون دروس قراءة وكتابة للأميين.
ـ جميل. جميل.
ـ ويريدون زيادة نصيب الواحد من اللحم إلى ثلاث قطع. وطبخ الكرنب والسبانخ مرتين في الأسبوع لما فيها من عناصر مفيدة. أول مرة أسمع أن الكرنب فيه عناصر مفيدة. يعني. تفضل اقرأها بنفسك.
ـ يكفيني ما قلته.
ـ بمناسبة الدروس. أقول لك حكاية ظريفة. معهم أستاذ جامعي، شايف نفسه، وكلامه كبير، اسمه موريس.
ـ الدكتور موريس؟
ـ تعرفه؟
ـ كنت فاكر أنه في معتقل طره.
ـ عندنا. له سنة ونصف.
ـ كان أستاذي. لو رآني سيعرفني. كنت أناقشه كثيراً في المحاضرة.
ـ في حلقة الدرس بالعنبر يرفض تماماً أن يسمعه غير الجامعيين والباقي يخرج من العنبر.
ـ معقول؟
ـ اللى حصل. يرجونه. يحايلونه. من الشمال لليمين. وهو أبداً. يعطيهم كتفه ويبص ناحية تانية.
ـ والسبب؟
ـ سألوه نفس السؤال. قال لهم لن يفهموا كلمة مما سأقوله، ولا أتحمل الأسئلة التافهة في محاضراتي. واحد لا يعرف كتابة اسمه ماذا سيفهم من موضوع مثل "غباء الاستبداد".
ـ له بحث بهذا الاسم. أظنه نشره في كتاب.
ـ وخرج غير الجامعيين من العنبر. قعدوا جنب الباب وواربوه وسمعوا المحاضرة. ومرة وقعت نظارته وانكسر ذراعها. ومن يصلحها؟ واحد غير جامعي على ما أذكر عامل نسيج، ظن أن الأستاذ بعدها سيسمح له بدخول المحاضرة. إنما. أبداً.
ـ كانت له معنا في المحاضرة حكايات. واللغة العربية.
ـ فكرتني. لا يتكلم إلا الفصحى. ينادى:
"يا حارس. تمهل".
الحارس يعطيه ظهره ويمشي. الأستاذ ينادي:
"أنت أيها الحارس. إني أناديك. ألا تسمعني؟ أصابك الصمم؟"
والحارس ماشي يخفي ضحكته.
ويضحكان.
ما لم يقله العقيد لضيفه أن الحارس هو من كسر النظارة. حين ناداه الأستاذ لم يضحك ولم يواصل مشيه. رجع غاضباً ورقعه بالكف على وجهه فطارت النظارة. كنت ممن شاهدوا الواقعة. الأستاذ من غير النظارة لا يبصر أحداً. يلوح بيديه كأنما يدفع هجوماً عليه. الحارس يستدير ليذهب، غير رأيه ورجع، أعطى الأستاذ كفاً آخر.
العقيد طلب القهوة لضيفه، بعدها أخذ يكلمه عن الهجوم الذي يتعرض له من قبل منظمات حقوق الإنسان وغيرها.
ـ اتهامات ظالمة. ولو جاءوا ورأوا بعيونهم مثلك. أوقات أقول لنفسي أنني وزملائي في المعتقلات الأخرى لسنا المقصودين بكلامهم وإنما النظام.
ويقول الزائر الذي لم أعرف صفته:
ـ معك حق. لابد من رد رسمي شديد اللهجة على افتراءتهم.
كنت أقف خارج الباب، والباب مغلق بالسلك يسمح بالتهوية ويمنع الحشرات. أحمل صينية القهوة حين تأتي وأدخل بها. أصب لهما القهوة في الفناجين، وألمح في انحناءتي الخاتم الذهبي الكبير بفصه الأسود المائل على جنب في الإصبع الوسطى ليد الضيف. أتقهقر بظهري للباب والخاتم لا يخرج من دماغي.
ـ كده والله يا سالم. ده موش خاتم أبداً. لولا الفص. لم أر في حياتي خاتماً بهذا الحجم.
ويأتي نوع آخر من الزوار. دائماً اثنان. واحد يلبس الميري برتبة عميد، وآخر مدني. المدني يتقدم العميد وهو من يسأل. العقيد يقف أمامهما وقفة انتباه، المعتقلون قبلها بيوم نالوا طريحة شديدة من الضرب بالخيزران. ظلوا في العنبر لا يخرجون وقد عرَوا ظهورهم بما عليها من خطوط دامية وراحوا ينشون عنها الذباب. العميد والمدني وقفا ينظران إلى الجريدة المعلقة، تبادلا نظرة ثم التفتا إلى العقيد. العقيد واقف لا يتكلم. نحن الحراس نقف على بعد خطوات في صف صغير استعداداً لتلبية الأوامر. العميد سأل:
ـ أين هم؟
العقيد قال:
ـ في الداخل يا أفندم.
ـ هاتهم.
التفت العقيد. أسرعنا إلى العنبر. أعطينا الأوامر بالخروج. المعتقلون وظهورهم عارية، ولا واحد تحرك من قعدته. نظرنا إلى العقيد. أعطى الأوامر بهزة من رأسه. اندفعنا داخل العنبر، سقناهم أمامنا بالعصي. خرجوا ووقفوا أمام العنبر. كل يمسك سترته بيده، لا يريدون لبسها حتى لا تلتصق بالجروح. جاء الرائد وخلفه الملازم في خطوة سريعة. تولى الرائد الأمر تبعاً لإشارات العقيد. أمر المعتقلين أن يستديروا. بانت ظهورهم وعليها خطوط بدأت دماؤها تجف، أمرهم أن يلبسوا ستراتهم. لبسوها. المدني همس في أذن العميد الذي همس للعقيد. العقيد أعطى أمره للرائد فصاح:
ـ نشأت الدوغري.
خرج نشأت من بين المعتقلين، تقدم نحوهم. أستاذ جامعي عمره أكثر من خمسين. شعره شاب. وابن نكتة. ما من مرة يا سالم رآني إلا وقال:
ـ يا شلبي. خذ دي.
ويرمي النكتة ويمشي.
وقف أمامهم. وأنا زعلت عشانه. سأله المدني:
ـ أنت اللى كتبت في الجرنال عن العائلة الملكية اللى بتحكم البلد؟
ـ آه. أنا.
ـ اسمك عليه.
ـ ممكن. لم أره.
ـ لم تصلك نسخة؟
ـ ممنوع.
ـ عارف أنه ممنوع. لم تصلك نسخة؟
ـ لم تصل.
ـ وأرسلت المقال للجرنال ازاى؟
ـ لم أرسل.
ـ وصلهم ازاي ونشروه؟
ـ اسألهم.
ـ إنما مقالك وأنت كتبته؟
ـ أيوه.
انفجر الرائد غاضباً:
ـ قل أيوه يا أفندم يا ابن الكلب.
ـ أيوه يا أفندم يا ابن الكلب.
واللى حصل يا سالم. كله ساكت. العقيد أول من تحرك. هوت يده على وجه الأستاذ. والأستاذ صاح:
ـ هو اللى أمرني أقول كده.
والرائد صاح:
ـ بتستعبط يا كلب.
المدني أشار بيده موقفاً الكلام. استدار وتبعه الآخرون.
تقدمهم العقيد إلى مكتبه. وأنا وراءهم. وقفت بالباب. قدمت لهم القهوة وعدت مكاني. تكلموا في السياسة. والعناصر التي تعمل لحساب جهات أجنبية. ثم خرجوا. وقبل أن يخرجوا سحبوا نشأت الدوغري خارج العنبر وهات يا ضرب، وأنا كنت خائفاً من أن يأمرني الرائد بضربه.
ـ ماكنتش حاعرف أضربه.
رقد في العلقة خمسة أيام. والتومرجي يزوره في اليوم مرتين.
(8)
شلبي زميلي في المعتقل. يغيب أيام ثم يظهر. أراه واقفاً خلف السلك وعيناه تبحثان عني. أشير إليه. يدخل من الباب الصغير بطرف الحاجز. نأخذ قعدتنا على دكة خلف مكاتب إدارة السجن. نشرب الشاي ويدردش على راحته كما يقول. سألني:
ـ وإيه عاجبك في المعتقل عشان عايز تروحه؟
ـ السجن صعب.
ـ والمعتقل أصعب. الميري فيه شديد. أنت في السجن تطنش. تريح. إنما المعتقل ماتقدرش. الضباط عندكم بيراعوا شوية. عندنا لأ. مايعرفش أبوه. وكلهم ـ والكلام ده بينا ـ من العقيد للملازم بعتوهم للخدمة هنا لأنهم غير مرضي عنهم. يعني عقاب. سوء سلوك. منفى، ده اللى سمعته في الإدارة. لما كانوا يبعتوني بأوراق. لي أصحاب هناك زيك كده. حكوا لي.
ـ عندنا في السجن كده برضه.
ـ السجن كمان؟ وأنا كنت فاكر..
ـ أبداً. لولا خوفهم من المساجين كانوا عملوا أكتر من اللى عندك.
ـ عندنا المعتقلون غلابة. آخر اللى يقدروا عليه يبعتوا كلام للجرائد عن سوء المعاملة. الرائد يقرأ الكلام ويضحك:
ـ "براحتهم. يقولوا اللى عايزينه. بس نفسي أفهم يا أولاد الأفاعي ـ والشتمة لنا ـ الكلام ده خرج من هنا ازاي؟"
ـ آهو. سجن. معتقل. الحال من بعضه. ولو عايز تتنقل بعد كلامي شوف الرائد. هو شرس ولسانه طويل إنما لو رضي عنك حايساعدك في النقل.
حكى في يوم آخر، وكان شرب كوب الشاي الثاني:
ـ العدد اللى فات من الجريدة كان حكاية. كتبوا عن الرائد. قالوا أنه محتاج لدورة تدريبية عشان يفهم إيه هي حقوق الإنسان. لأنه تجاوز كل الحدود وآخرها ضربه لمعتقل بالشلوت، ولو كان فى البلد قانون كان الحال تغير. ورسموا له صورة. أسنانه خارجة زي الأنياب، مخالب في أصابع يديه. سكين كبيرة على جنبه والعنوان "فتوة المدبح". لا قالوا اسمه ولا رتبته. كل اللى قالوه ضابط في المعتقل يعمل كذا وكذا. تقرأ الكلام تقول هو. أنا أخذت المسودة إلى العقيد. في الطريق قرأت المكتوب وعرفت أنه الرائد. أقول لك الحق انبسطت. العقيد شاف المسودة وضحك. بعدين غضب وزعق:
ـ "قل لهم يشيلوا الكلام الفارغ اللى على الرائد".
ورجعت لهم بالمسودة، وسمعوا ما قلته من أوامر العقيد. دخلوا العنبر. هي ساعة زمن وعلقوا الجريدة فى البرواز وعادوا للعنبر. إحنا الحراس أول من بص على الجريدة. شفناها بيضاء. وفي وسطها مكتوب بالخط الكبير:
«العدد مصادر بأمر عقيد المعتقل»
فوجئنا بالرائد يزيحنا بعصاه، وعيناه طقت شرار. صاح:
"هات لي المشرف على البتاعة دي"
كنت القريب منه. يعني الأمر صدر لي. ناديت عليه وأنا بمدخل العنبر. خرج. عجوز أهتم. اقترب من الرائد اللى رفع كفه وطاخ على وجهه، العجوز داخ، كنت حامسكه ويدي تحركت، شفت عين الرائد بتبص لي، وقفت ساكت، العجوز وقع والرائد زعق:
ـ "شوف يا روح أمك. الورقة الوسخة دي تشيلها وتجيب غيرها. تملأها كتابة. هي ساعة وأشوف الكتابة شكلها ازاي. مصادرة قال".
ومشى.
المعتقلون أضربوا عن الطعام. عيبهم أن أول حاجة يعملوها يضربوا عن الأكل. طيب وبعدين؟ ولا حد سأل فيهم. يومين والخبر نشر في الجرائد. وسمعت أن جرائد المعارضة كتبت جامد. كل الجرائد بتيجي للعقيد بدري. يكون كذا حارس شافوها وقرأوها قبل وصوله. الرائد هاج. ازاى الخبر خرج من المعتقل، حتى ضربه للعجوز مكتوب، وأسم الرائد كمان، قالوا انه سفاح وأنهم سيكتبون عن سوابقه، موش كده وبس، نشروا صورته اللى كانت في جريدة المعتقل، وطلع يا سالم أن العجوز حاجة كبيرة في الصحافة. حارس منا كان في مكتب العقيد سمعه بيقول في التليفون أنه حايلم الموضوع. ولغاية دلوقتي ما عملش حاجة.
كان يشرب كوب الشاي الثالث. وقال:
ـ الشاي عندكم أحسن من عندنا.
ـ تعال وقت ما يعجبك.
ـ آه. عايز أسألك عن حاجة. أنت سمعت عن مساجين عندكم أكلوا علقة جامدة؟
ـ آه. أربعة.
ـ يبقى صحيح اللى أنا سمعته.
ـ إيه الحكاية.
ـ حاقول لك. والكلام ده ماتقولوش لحد لأنه خطر.
وحكى.
قال أن الرائد له في السجن شله مساجين يعملون لحسابه. حوالي عشرة. لا يعرف كيف جمعهم ولا كيف يعطيهم أوامره. لابد أن حراساً في السجن يساعدونه. قاموا حتى الآن بعمليتين. الأولى من شهرين. ما أن غادر العقيد في الليل وبعده الحراس ولم يبق غير النوبتجية. وكنت منها حتى فك الرائد سلسلة باب الحاجز بين السجن والمعتقل وتركه موارباً، هذا ما عرفته بعد العملية، ومن يفكها غيره أو حارسه. كان سحب واحداً من بيننا وجعله حارسه الخاص. ينظف له مكتبه ويقف ببابه، يحمل أشياءه في مجيئه وعودته وأحياناً يرافقه للبيت. وغير ملتزم بالتمام بتاعنا. وسمعت أن عقيد المعتقل وافق على ذلك لضرورات أمنية. النوبتجية في الحجرة وبابها مقفول عليهم يشربون الشاي ويدخنون حجرين معسل. المساجين دخلوا المعتقل، كل واحد منهم في يده فرع شجرة. اقتحموا العنبر وقفلوا بابه. وهات يا ضرب في كل من يقع في أيديهم. المعتقلون أخذتهم المفاجأة، فزعوا شمال ويمين، وجروا إلى نهاية العنبر صائحين، لم تصلنا صيحاتهم لأنهم كانوا مكومين فى آخر العنبر. العملية كانت خطفاً. دقيقتان. القصد منها والله أعلم ليس الضرب. والمساجين رجعوا. حين بلغنا صياح المعتقلين خرجنا. كانوا هناك وهنا خارج العنبر. والرائد جاء. يكتم ضحكته:
ـ فيه إيه؟ خارج العنبر ليه؟
يتهادى في مشيته نحونا. قال حارس منا:
ـ بيقولوا ضربوهم.
ـ مين ضربهم؟
ـ مساجين.
ـ مساجين؟ نكتة بايخة. شوفوا غيرها.
يبدوا أنه أو حارسه أغلق سلسلة باب الحاجز قبل أن يأتي:
ـ برضه بيقولوا مساجين. يظهر أن ثقافتكم زادت حبتين وقلبت بهبل. خش أنت هو العنبر.
وصاح بأحد الحراس:
ـ خذ أقوالهم المسخرة دي وهاتها لي المكتب أحقق في الموضوع.
العملية الثانية من أيام. نفس الطريقة. المعتقلون مضربون عن الطعام. متربعين طول النهار أمام العنبر، نروح ونرجع وهم في قعدتهم. كانوا في الصباح أرسلوا البعض للمطبخ ليأتي بالفطور. ويظهر وصلوا بدري. وقفوا بالباب ينتظرون. وبخار شديد يخرج عليهم. مسجون صدره عاري واقف على المصطبة ويرفع جوالاً ممتلئاً بالعدس يفرغه في وعاء الطبخ إياه. الفئران نطت من الجوال نزلت في الوعاء. رجعت في قفزة بعد ما لسعها غليان الماء، رفرفت ثانية وسط البخار وذيولها واقفة ووقعت في الوعاء.
ـ زى ما أنت عارف. المنظر لا يسر. شفناه كذا مرة وبرضه نأكل.
المسجون على المصطبة شاف المعتقلين واقفين في حالة كرب، ومنهم اللى تقيأ على جنب، زاد فيها. مد يده والتقط فأراً من الوعاء وصاح ضاحكاً:
" الدسم"
وراح ينقله من يد إلى يد، ثم أمسك به من ذيله وهزه قليلاً أمامهم ورماه في الوعاء. والمعتقلون رجعوا بالأوعية فارغة وأضربوا عن الطعام.
ـ طيب. ادينى عقلك يا سالم. إحنا بناكل العسل والمش وبنشيل منه دود وصراصير ونمل، وعلى ما أسمع فيه بلاد بتأكل الضفادع والفيران والثعابين. يعني موش هو السبب اللى يخليهم يضربوا. المهم.
نقلوا قعدتهم إلى داخل العنبر في الليل. عدم الأكل أضعفهم. لم يتحملوا طويلاً ضربات المساجين الذين كبسوا عليهم. وكانت ضرباتهم هذه المرة شديدة. صياحهم خرج من العنبر واختفى قبل أن يصل إلينا. وجدناهم مبعثرين في العنبر. إصابات ودماء. بعضهم التصق بالحائط ورفض مرتعشاً أيدينا الممدودة. وجاء الرائد كما في المرة السابقة:
"حاتقولوا لي مساجين تاني؟"
المعتقلون لم يقولوا كلمة. الكثير منهم راقد يجفف دمه بخرق.
"ناد الممرضين هنا. موش حايقدروا يمشوا للعيادة. وده نتيجة الإضراب عن الأكل".
واستدار عائداً.
وبلغني أن مساجين عندكم لم يعجبهم ما حصل بعد أن عرفوا الحكاية. مجموعة منهم راحت لشلة الرائد، وكانوا بعد أن عملوا معه يتحركون دائماً معاً، ربطة معلم، فاهمين أنهم مساجين درجة أولى، وتقابلوا، مجموعة المساجين وشلة الرائد. وكلام من هنا وكلام من هنا. فارس بتاع عجينة كان من المجموعة وغضبان قوي. يقول لهم:
"إحنا هنا مساجين بنقضي فترة. وهم هناك في المعتقل مساجين بيقضوا فترة. نضرب بعض ازاى؟"
وهو من بدأ بضربهم. والشلة خافت وهربت. المجموعة مسكت أربعة منهم وهات يا ضرب. ضرب شديد واصابات.
ـ دا صحيح. ماكنتش اعرف السبب. كان فكري أنها خناقة.
ـ ماحدش عارف الحكاية حاتنتهي ازاى. وفي المعتقل لسه مضربين.
ـ دول موش واخدين حكم بمدة؟
ـ لا حكم ولا قضية. قالوا لنا خذوا دول. أخذناهم.
ـ فهمت. عناصر مشاغبة.
ـ المهم. عشان يكون عندك فكرة قبل ما تسعى للنقل. والدك الله يرحمه كان لا يحب المعتقل ولا حتى يشرب فيه شاي.
(9)
ذكرتني حكاية شلبي عن شلة الرائد من المساجين بحكاية أخرى سمعتها في السجن من شهر، لم أفلح في جمع كل خيوطها، فما زالت أشياء صغيرة تنقصها. الحكاية أن رائد المعتقل أراد على ما يبدو أن يخدم. وربما لم تعرف إدارته الرئيسية ما ينوي عمله، هو البعيد، في المنفى كما يقول، سمع شذرات من العاملين هناك ورأى أن يخدم، واستعان بمسجون لتنفيذ ما رآه. لابد أن حارسه الخاص من قام بالاختيار فهو يعرف أغلب المساجين، ويتبادل معهم الكلام. كان المسجون معروفاً بقوته البدنية، وكان يستطيع بكفه أن يكسر قالب طوب، يسمونه "أبو كف"، وكان المساجين يودون لو رأوا عراكاً بينه وفارس، غير أن الاثنين لم يسعيا لذلك، وكانا يعالجان مشاكلهما بسهولة. لم تكن لفارس قوة ذراع أبو كف غير أنه كان ماهراً في استخدام المطواة يخرجها في لمح البصر من ملابسه. لا يدري أحد أين يخفيها، وحتى في التفتيش ورغم قيام الحارس بتحسس كل ملابسه لا يعثر عليها، وربما كان يلمسها ويسكت.
والرائد قابل مأمور السجن في مكتبه. قال لي حارس المكتب أن كل ما سمعه كان كلام المأمور فصوته مرتفع:
ـ ما أقدرش أقول لك لأ. إنما أنا معرفش حاجة. ولا أنت قلت لي حاجة. عندك المسجون خذه لمكتبك. ليلة ليلتان موافق. أكثر من كده أعلن عن غيابه. أنتم بتوع الأمن فيه اللى يحميكم. إنما إحنا..
عبر أبو كف الحاجز إلى مكتب رائد المعتقل الذي طلب له كوكاكولا. ولابد أن أبو كف خاف وارتعش، ومن ذعره اكتفى برشفتين، واعتذر بمعدته. سأله الرائد متلطفاً:
ـ مالها معدتك؟
ـ شوية كده. بتروح شمال ويمين.
ـ تلاقيها نسيت الكوكاكولا.
ـ الكاكولا وغيرها يا أفندم.
ـ أنا عايزك في حكاية بسيطة وسهلة. حاتقضي لك ساعتين تتفسح وتشوف الدنيا وترجع. مين عارف يمكن أحتاجك في عمليات تانية. المهم اللى بينا يفضل بينا. لأنه عيب يخرج.
ـ تحت أمرك يا أفندم.
ـ المطلوب تضرب واحد علقة بدون كسور أو عاهات.
ـ يبقى حزام جلد.
ـ كويس أن دماغك بتشتغل. علقة إنما سخنة. شوف.
لم يسمع الحارس الخاص بعد ذلك شيئاً. فالرائد خفض صوته كثيراً. واقترب برأسه من "أبو كف" وراح يرسم على ورقة بيده. وربما كان يشرح له العنوان.
أبو كف خرج من المكتب مشدوهاً. يتلفت وراءه ويسأل الحارس الذي رافقه إن كان أحد يناديه؟ والحارس يتعجب من حاله ويقول:
ـ ومين حايناديك؟
الحارس يريد أن يعرف ولا يستطيع أن يسأل. فى النهاية قال:
ـ مشوارك بعيد؟
قال أبو كف وقد أصبح حذراً:
ـ أبداً.
ارتدى ملابس مدنية جاء بها الحارس. وكان هناك حزام عريض بالبنطلون تحسسه بأصبعه ليختبر ليونته، وقبعة أيضاً. ضحك حين رآها:
ـ تغطي الصلعة.
قال الحارس: هدوم السجن عندي لما ترجع. حاستناك بره أمام الباب.
ـ وتعرف ميعاد رجوعي ازاي؟
ـ سيادة الرائد قال لي أنك حاتكلمه بالتليفون. صح؟
ـ صح.
ـ تقول له تمام يا أفندم. صح؟
ـ صح؟
ـ واحسب بقى الوقت بعد التليفون. وتلاقيني منتظرك.
ـ كلام سليم.
رمق الحارس بطرف عينيه، ربما بدا على وجهه مدى ما يعرفه. الآخر أحس بنظرته وتصنع اللامبالاة.
خرجا من المعتقل. سارا قليلاً إلى الطريق الممهد. تذكر أبو كف أنه نسى أن يأخذ نفساً عميقاً لحظة خروجه. فال طيب كما سمع. ويغسل رئتيه بالمرة.
تاكسي مغلق كان واقفاً. أعطاه الحارس رخصتى السيارة والقيادة وتحقيق الشخصية، ومفتاح التاكسي. قال حين رآه ينظر إلى البطاقات المغلفة بالبلاستيك:
ـ كلها مضروبة.
ـ واسمي؟
ـ اسمك زى ماهو. خايف عليه.
ـ تغير اسمك. مصايبك تكتر.
ـ منكم نستفيد. سرعتك تبقى معقولة.
ـ صح الكلام.
أبو كف كان يعمل على تاكسي في أيامه القديمة، وصدم امرأة وماتت. أخذ حكم قتل خطأ خمس سنين، أمضى منها ثلاثاً. قال في التحقيق أن سرعته كانت هادئة. والخطأ من المرأة. هي سمينة، مدت قدمها لتصعد الرصيف المجاور. قدمها لم تكن ثابتة. وربما ثقل الجسد أكثر مما تتحمله، حين بدأت في رفع قدمها الثانية اعتبرها صعدت وزاد من سرعة السيارة، في نفس اللحظة هوت المرأة على ظهرها أمام السيارة. لم يكن هناك بين الشهود من رأى صعودها إلى الرصيف ولا حركة قدميها.
كان متزوجاً من عام. وامرأته زارته في السجن. وقالت أنها حامل. عمل لها توكيل لتسحب من حسابه في البنك. تحويشة عمره ليشتري التاكسي. في الزيارة التالية سألها عن الحمل. قالت:
ـ الدكتور كان قال لي حامل. في المرة الثانية قال الحمل كاذب.
هي حلوة. يشتهيها دائماً. كلما مر قريباً من البيت يصعد. يضاجعها ويمضي.
صعد إلى التاكسي وأدار المحرك. الصوت الناعم. هز رأسه للحارس الخاص وانطلق. الآن يستطيع أن يراها من الداخل على راحته. موديل جديد. عمرها ثلاث سنين. فتح الراديو. أم كلثوم، أغنية يحبها "هلت ليالي القمر". فتح التابلوه. علبة سجائر كاملة وولاعة. النوع الذي كان يستخدمه. الزمن القديم يعود. وزجاجتا كوكاكولا. جميل. جميل. واحدة في الذهاب. وواحدة في العودة. حضرة الرائد لا يفوته شىء. ابن أصول بصحيح. وسندوتش. لحم بفتيك بالسلطة. من خارج السجن طبعاً. ربما تم إعداده في بيت الحارس. لابد أنه أكل نصفه وجاء بالنصف الآخر. الماء لا يفوت على عطشان. الحارس واللى زيه لا يأكلون غير اللحم بالعظم. إيه يا أبو كف الحكاية؟ شغل دماغك. كل ده عشان أضرب واحد. وأسأله:
ـ والضرب يا أفندم؟
ـ ما تسألش.
ـ حاضر.
متسألش. ماشي. إنما بفتيك وكوكاكولا وسجائر؟ الحكاية المستخبي فيها كثير. كله يبان في وقته، افتح زجاج الشباك. وتسند عليه بذراعك. وفي يدك زجاجة الكوكاكولا. تشرب وتشرب. ترمي الفارغة. من الشباك زى أولاد الناس.
شوارع القاهرة. يعرفها ويحفظها. يسير في الشوارع الجانبية بعيداً عن الزحام. لمح امرأة تغادر مدخل عمارة يرافقها رجل. أول امرأة يراها من سنين. عودها الراقص. تهبط الدرجات الخارجية. واحدة. واحدة. رجرجة صدرها. الجيبة الضيقة قماشها خفيف يبرز ثنايا ردفيها. ساقها الطويلة. تمدها. تتحسس درجة السلم. الرغبة تسري في جسده. يده على الدركسيون ابتلت بالعرق. جففها بالبنطلون. قلل من سرعته ليملأ عينيه منها.
صلت للرصيف الذي تجمعت مياه أمامه. خطوة وأخرى، تبحث عن أرض جافة لتنزل إلى الشارع. شعرها الطويل مبعثر على كتفيها. فجأة أطلق سرعته. ورأى الرذاذ يغرقها والرجل يقفز بعيداً. تمهل في سيره. شرب زجاجة الكوكاكولا الثانية. نسي حضرة الرائد المصروف. ربما لا يريده أن يتوقف ويشتري. بحث في درج التابلوه. فكة صغيرة للبقشيش. ليكن. تكفي. اشترى من كشك على جانب الشارع زجاجتي كوكاكولا وثلاث أصابع عسلية، حلواه المفضلة في صغره. هو يعرف عنوان الفندق الذي يسهر فيه الزبون، وقال ذلك للرائد. وكأنه لم يقل شيئاً. استمر في شرحه، وأعاد الشرح، ورسم على الورق موقع الفندق والمكان الذي ينتظر فيه.
وقف أخيراً، ظل داخل التاكسي. البعض كان يطلبه. يعتذر بأنه ينتظر زبوناً في الفندق. المشكلة التي قد تواجهه لا يعرف لها حلاً. ربما ركب الزبون مع واحد من أصحابه. ويكون عليه في هذه الحالة أن يتبعهما أو يذهب لينتظره أمام بيته. الرائد أعطاه العنوان:
ـ ده احتياطي.
احتياطي. ماشي. يصعد إلى الشقة ويعطيه العلقة هناك. ولو رآه أحد؟ والبواب؟ وقد يعلو صراخه فلا تكتمل العلقة. الأفضل أن يخرج وحده من الفندق ويركب معه. لا توجد تاكسيات أخرى واقفة.
رآه خارجاً من بوابة الفندق. يهبط درجات السلم. نفس الأوصاف التي أعطاها له الرائد. قصير، نحيل. ونفس موعد الخروج. الثامنة مساءً. تقدم بالتاكسي حتى حاذاه. قال:
ـ تاكسي.
ركب في المقعد الخلفي. الأمر تم بسهولة. قال الزبون:
ـ المعادي.
أغلق الأبواب وزجاج النوافذ بواسطة الأزرار بجواره وانطلق. لمحه في المرآة ينظر من النافذة ساهماً، ورأى أن يكون بينهما كلام. قال:
ـ حضرتك ساكن في المعادي من زمان؟
ـ ليه؟
ـ أنا هناك من عشر سنين.
ـ فين؟
وصف له حياً شعبياً رآه مرة ونسي اسمه. قال الزبون:
ـ كل ده تغير دلوقتي.
ـ أصل شكلك موش غريب.
ضحك الزبون: يعني شفتني في المعادي؟
بادله الضحك: ليه لأ. أو ركبت معاي قبل كده.
ـ يمكن شفتني في الجرائد. أنا صحفي.
ـ أهلاً وسهلاً. أحسن ناس. أنا ركب معاي مرة الأستاذ مصطفى أمين. عربته تأخرت وكان خارج من سهرة. شافني. وجاي يدخل من باب التاكسي انحشر.
ضحك الزبون: وعملت إيه؟
ـ حاعمل إيه. نزلت ودخلته حتة حتة.
الزبون استغرق في الضحك: ازاي؟
ـ الأول رأسه وكتفه.
وضحك. والزبون انفجر في ضحك مرتفع. قال أبو كف:
ـ زي ما بقول لحضرتك. بركت ورفعت رجل. دخَلتها. والرجل ما شاء الله تقيلة قوي. وبعدها الرجل الثانية.
ـ تعبت كتير.
ـ نفسي انقطع. وصلته أخبار اليوم.
ـ في الليل؟
وسكتا. قال أبو كف بعد لحظة:
ـ العيشة بقت صعبة قوي يا أستاذ.
ـ سيبنا من السيرة دي.
وانتبه إلى الطريق. سأل:
ـ على فين كده؟
ـ حاخد بنزين من محطة قريبة. أتعامل معاها دايماً.
ـ بنزين إيه؟ إحنا فين؟
ـ حانكون فين؟ على الطريق.
الخلاء يضيئه القمر. أشجار على الجانب. حقول ممتدة يتمايل زرعها. الطريق خال. لا سيارات خلفهم ولا أمامهم. قال أبو كف:
ـ ومين في الزمن ده بيقرأ جرايد؟
ـ إيه الحكاية؟
ـ كل ده من الكلام الفارغ اللى بتكتبوه.
ـ إيه الحكاية؟
ـ حكاية إيه يا راجل. أنت خليت فيها حكاية.
أوقف السيارة على جانب الطريق. فتح الباب الخلفي، طرح الزبون على وجهه فوق المقعد. قيد يديه برباط سحبه من جنبه. قال الزبون:
ـ لو حكاية فلوس؟
دس منديلاً في فمه:
ـ لسه بتتكلم عن الحكاية؟
دحرجه إلى أرض السيارة:
ـ موش عايز صوت.
وانطلق.
على بعد قليل بدا كشك شرطة عسكرية وضوء خافت داخله. خفف من سرعته وتخطاه، عند مفرق طرق دخل طريقاً جانبياً ممهداً. سار فيه قليلاً ثم أوقف السيارة بين شجرتين أمامهما مساحة خالية متربة، على جانبها سور مهدم داخله خرابة، ولافتة عريضة سوداء كتب في وسطها باللون الأبيض اسم المالك.
ما جرى للصحفي قرأناه نحن الحراس دون تفاصيل في الجرائد، وقلنا وقتها أنها حكاية عجيبة. ولم يخطر لأي منا أن يكون أبو كف مشاركاً.
سحب الصحفي من داخل السيارة. كان خفيفاً مثل غلام. أنزله بالراحة على الأرض مغمغماً:
ـ من غير كسور ولا عاهات. حاضر يا أفندم.
فك قيد يديه وأخرج المنديل من فمه. زحف الصحفي مبتعداً قليلاً. فتح أبو كف السيارة، قعد على طرف المقعد وساقاه للخارج والصحفي مكوم عند قدميه. أخذ رشفة من زجاجة الكوكاكولا، وسأله:
ـ بتحب أم كلثوم؟
أخذ رشفة أخرى وتجشأ في صوت. قال:
ـ باين عليك لئيم. بتحبها وموش عايز تقول.
بعد الرشفة الثالثة نظر إلى الزجاجة ليرى ما تبقى. سأله:
ـ بتكتب إيه في الجرايد؟
ـ......
ـ برضه ساكت. مع أنني أفهم والله. طيب اسألني أي سؤال.
أخذ الرشفة الأخيرة. نظر إلى الزجاجة الفارغة. طوحها نحو اللافتة.
ـ إيه رأيك تكتب قصة حياتي؟
سكت. ينظر حوله. أشعل سيجارة وظل ساكتاً. قال:
ـ الوقت بيجري وعايز أعرف بتكتب إيه؟
ـ أكتب في السياسة.
ـ مجلس الشعب والحكومة والحاجات دي؟
ـ آه.
ـ الله يكسفك. دي موضوعات. العياذ بالله. ومين يقرأها؟
ـ آهو.
ـ وكله؟
ـ آه.
ـ قلت لي. اخلع هدومك. وطول السكة أفكر إيه اللى انت عملته. مادام فيها كله. اخلع هدومك.
زحف الصحفي للوراء. قال أبو كف:
ـ اخلعها بدل ما أقطعها. البدلة جديدة خسارة.
خلع الصحفي السترة وتوقف. قال أبو كف:
ـ والباقي. من غير صوت.
خلع باقي ملابسه قطعة وراء الأخرى، رتبها فوق الحذاء. قال:
ـ بتشتغل لمين؟
ـ ليه؟ موش مالي عينك؟ يا قوة الله.
كان لمح عضو الصحفي وهو يحاول إخفاءه بين فخذيه:
ـ كل ده. سبحانه يعطي من يشاء.
ضحك:
ـ لو أعطاني نصفه ماكنتش مراتي راحت في النوم وهي تحتي.
دس المنديل في فمه، وأعاد قيد يديه. سحب الحزام. تأمل لحظة الجسد الملقى. كان ضئيلاً شاحباً في ضوء القمر، وعندما ثنى ساقيه برزت عظامه. هوى بالحزام. تقوس الجسد وانقلب على وجهه، تدحرج والحزام يلاحقه، يزم ويئن، ثم ضرط.
توقف عن الضرب. الجسد رقد ساكناً وعيناه صاحيتان تنظران إليه. أنفه الدامي وشفتاه، لابد أن الحزام نالهم. نزع المنديل من فمه. انطلقت بصقة إلى وجهه، مسحها بالمنديل الذي كان لا يزال في يده ورمي به، انحنى يفك قيد يديه. ماذا جرى له؟. لا يدري. العلقة لم تكتمل، نصفه السفلي كله كما هو. أخرج منديلاً آخر مسح به أنف الصحفي وفمه، كان يظنها مجرد لعبة مسلية تخرجه ساعات من خلف الأسوار. حاول أن يتذكر ما طلب منه الرائد أن يقوله بعد ضربه. بقيت كلمات واختفت أخرى، وكان ينظر إلى قمة الشجرة ورأى عشاً يرقد فيه طير يصفق خفيفاً بجناحيه منتشياً ربما بضوء القمر. تذكر الكلمات ورددها:
ـ ده عشان تحترم أسيادك بعد كده.
أشار له أن ينهض، وقف مترنحاً. أثار الحزام قاتمة على جسده الأبيض.
ـ عارف الطريق. أمشي.
نظر الصحفي إلى ملابسه. قال أبو كف:
ـ سيب الهدوم. امشي.
ـ الأوراق في المحفظة. ومفتاح البيت.
ـ آه. فين المحفظة؟
كاد ينسى ما قاله الرائد:
ـ خذ فلوسه.
ـ وأعمل بها إيه؟
ـ خذها وخلاص.
أخذها. ورمى إليه المحفظة.
سار الصحفي متعثراً. وفي الطريق قابل من أعطاه ملاءة أو عباءة لف بها جسده.
انطلق أبو كف إلى الجهة العكسية. لمح بعد قليل مقهى ريفي صغير على جانب السكة. وبيوت قليلة مبعثرة خلفه. في أيامه القديمة كان شغوفاً بهذه المقاهي، يتوقف عندها حين تكون في طريقه بعد توصيلة. أوقف التاكسي على جانب المقهى، وأختار كما في الماضي مقعداً خارجها، نفس ما كان يراه سابقاً، الترعة وجسر نحيل من الخشب يصل الضفتين، يرتفع صريره كلما مرت بهيمة فوقه، ونسوة يحملن مواعين وهدوم يهبطن الشاطىء، ويرى الواحدة صاعدة تتوقف على حافة الإسفلت، تجمع ذيل جلبابها المبتل وتعصره، وتمضي.
دخن حجرين من المعسل. رائحته التي افتقدها ثلاث سنين، ويكون في فناء السجن ويشمها. يتلفت حوله. لابد أن الهواء حملها من مكان قريب.
شرب الشاي، كان لا يزال عكر المزاج، دخن حجرين آخرين، بحث في جيوبه عن باقي الفكة. نادى صاحب المقهى، جاء يجفف يديه في حِجر الجلباب. وقف منتظراً. الفكة على ما يبدو تركها في التابلوه، أشار بيده نحو التاكسي، وقام متجهاً إليه. صاحب المقهى ربما لم يفهم معنى الإشارة، مالت رأسه قليلاً ليتابعه بنظراته، ورآه يركب التاكسي وينطلق، الرجل مسح الترابيزة بذيل جلبابه، واستدار ليدخل، ورأى التاكسي راجعاً بمؤخرته. نزل أبو كف يهز رأسه أسفاً ويقول أنه نسى. مد يده بما تبقى من الفكة، والرجل تراجع خطوة ورفض أن يأخذها. وأصر أبو كف، والرجل حلف الطلاق:
ـ أنت ضيفنا يا أسطى.
أبو كف رمقه لحظة ساكناً. كان يشخشخ بالفكة في يده، ثم استدار عائداً إلى التاكسي.
* * *
توقف عند محطة بنزين وتحدث بالتليفون:
ـ كله تمام يا أفندم.
حتى هذه اللحظة كان في طريقه إلى المعتقل. كلمة "المعادي" التى قالها الصحفي ـ وكان يسوق مستعيداً حوارهما ـ برقت فجأة. هو أيضاً يسكن هناك. لن يتأخر كثيراً. ساعة زمن. يرى امرأته ويلمسها.
ـ ولا من شاف ولا من دري.
حارس الرائد يقول أنهم يحسبون الوقت بعد التليفون. لو كان يعرف لآخر اتصاله بالرائد.
الفكرة تروح وتيجي. يتأملها متردداً. ثم أخذت تلح وملأت دماغه. وامرأته تخايله كما اعتاد أن يراها في عنبر السجن قبل النوم، قادمة من الحجرة إلى الصالة تلبس جلباباً على اللحم، وضوء النافذة وراءها يعري جسدها واستدارته، ترفع ذراعيها تعقد شعرها من الخلف ويلتصق الجلباب بصدرها الممتلىء ويشف عن الحلمتين المنتصبتين. يستعيد المشهد مرة وأخرى. يحس وهو في رقدته أن المساجين المجاورين له يرونها معه. يتكىء على كوعيه، ينظر إليهم واحداً. واحداً. يبادلونه النظرات، يعود إلى رقدته ويسحب البطانية على وجهه.
يستدير بالسيارة راجعاً، ويأخذ الطريق إلى المعادي.
أوقف السيارة غير بعيد عن البيت. لمح السندوتش. تمهل قليلاً حتى تناوله، ثم غادر السيارة.
لا أحد يسأل مسجوناً كيف فتح باب شقة. أشياء صغيرة يتعلمونها سريعاً في أيامهم الأولى. ودائماً في التفتيش نعثر في جيوب الكثيرين منهم على سلك رفيع ثنى طرفه. قد لا يستخدمونه شهوراً. غير أنه من الأفضل أن يكون في متناول أيديهم. وأمين المخزن أدرى بذلك من غيره، من يوم لآخر يجد قفل المخزن مفتوحاً. وعيب أن يكسروه. هو أيضاً لا يحاول تغييره، فمهما كان نوعه وارتفاع ثمنه سينالون منه. يأخذون القليل الذي يكفيهم. شاي وسكر لبراد ممتلىء. أرز يشبع اثنين أو ثلاثة، يطبخونه على "التوتو" في العنبر، متحلقين، منتشين برؤية فقاقيع ماء الأرز تظهر وتختفي، يذكرهم طعمه بما كانوا يأكلونه في الخارج.
دخل أبو كف الشقة. توقف لحظة في الصالة. روائحها القديمة وكان نسيها. كل شيء كما تركه. مقاعد الأنتريه الثلاثة. فوطة اليد التي ترمي بها امرأته على مسند الكنبة عندما تسرع إلى التلفزيون لرؤية المسلسل. ترابيزة الأنتريه، سطحها الزجاجي المشروخ عالجه بورق لاصق. أزيز الثلاجة. فتح بابها. زبادي. جبن قريش تحبه امرأته، أربع حبات برتقال. حلة. رفع غطاءها. محشي كرنب. ياه. مازال المحشي موجوداً في الدنيا. أصابعه الرفيعة، لا يعملها غيرها. وكيف تتلقاه؟ تصرخ؟ هو لا يريد الصراخ. باب الحجرة موارب. ضوء الوناسة الخافت. كان اقترح عليها أن تغلق الشقة وتذهب عند أهلها في البلد. في الزيارة التالية أخبرته أنها جاءت بأختها الصغيرة تقيم معها:
ـ علشان أعرف أزورك من وقت للتاني.
ورأى الشوق في عينيها.
ماذا يفعل الآن بأختها؟ يرسلها تشتري شيئاً؟ لا يكفي الوقت. الأفضل أن يأخذ امرأته إلى الحجرة الأخرى ويترك البنت نائمة. لو رأته ستحكي عن خروجه ويكثر الكلام.
وجهها النائم. شعرها المبعثر. ومن يكون؟. وقف بمدخل الحجرة ساكناً. من؟ يلبس جلبابه المشمور حتى أعلى فخذيه. شعر ساقيه الكثيف. ذراعيه مثنية فوق وجهه. هي بالقميص الداخلي. ترقد على جنبها، وجهها للرجل. حمالة القميص انزلقت لمنتصف ذراعها، وخرج ثديها مسترخياً فخذها العاري فوق ساقيه. "الكيلوت" الأسود ملقي بجوار الفراش فوق شبشبها الأخضر القطيفة. وكان من لحظات يضرب رجلاً صغيراً بالحزام. والرجل يتلوى ويئن. وهي؟ كانت من أسبوعين تزوره. ورأى الكحل كثيراً في عينيها. كان واقفاً بجوار الفراش من ناحية الرجل. أراد أن يطفيء الوناسة ونسى. الرجل أنزل ذراعه عن وجهه. فتح عينيه، نظر إليه ثم أغمضهما. استرخى على ظهره. هي تتململ بعد أن سقطت فخذها عنه. تغمغم وتغير من رقدتها. وجهه غير غريب. وأين رآه؟ كان قاعداً على حافة الفراش ينظر إلى الوجه. من الجيران. في مسجد؟ سوبر ماركت؟ أطبقت يده على رقبة الرجل، واليد الأخرى فوق فمه. ارتفع جسده ثم سقط، عيناه جاحظتان مرعوبتان، ويداه تلوحان، دفع بهما إلى صدر أبو كف، يستطيع أن يبعد عنهما. رآهما تنهشان صدره، يدان نحيلتان بأصابع طويلة، وأظافر نظيفة. كان هادئاً يضغط بشدة، تراخت اليدان وظلتا على صدره. سمع الشهقة ورآها تجثو على ركبتيها وتنزلق خفيفاً بظهرها. كانت ترتعش كأنها قشعريرة. نظر إلى فخذيها العاريتين المضمومتين وثدييها الظاهرين وقد انحسر القميص إلى وسطها. جاءت عيناه في عينيها. توميء له، هزه رأسها الخفيفة وكأنها تريده، وانفرجت فخذاها قليلاً. ربما غفل لحظة عن الرجل، جسده يحاول أن ينقلب على جنبه. شدد من قبضته. الفم مفتوح على آخره، ثم سكنت حركته. التفت. لم يرها. مسح في الجلباب ما سال على يده من لعاب الرجل. كان لا يزال هادئاً، ثم بدأ يغضب. نظر حوله. أين؟. "الكيلوت" في مكانه والشبشب. خرج إلى الصالة. وما يمنعها عن الصراخ؟ باب الشقة مفتوح. خرجت؟ ربما مختبئة على السلم. صعد ثلاث أو أربع درجات ولمح باب الشقة يغلق. ارتفع صراخها. اندفع يهبط السلم. وانطلق بالتاكسي.
* * *
الحارس ومعه رجل يلبس مدني يقعدان على دكة صغيرة جنب باب المعتقل. أعطى مفتاح التاكسي للحارس الذي مدها إلى الرجل. ورأى الرجل بعد ذلك ينحني ويفك نمرة السيارة من الأمام والخلف، وظهرت نمرة أخرى تحتها. وانطلق التاكسي.
دخل المعتقل والحارس وراءه. أعطاه هدوم السجن. كان يغير ملابسه حين قال الحارس أن سيادة الرائد في غفوة على الكنبة في مكتبه:
ـ يظهر حايبيت هنا. لو طلبك أقول لك.
(10)
نتبادل نحن الحراس ما نقرأه في الجرائد. حكاية الصحفي جاء ذكرها أكثر من مرة. هو نفسه كتب مهاجماً السلطة وأسلوبها الخسيس. كان دليله ما قاله الرجل بعد العلقة. وردت جرائد السلطة:
"واحد سرقه لص وضربه ويريد أن يجعل منها قضية أمن دولة"
أبو كف لم يكن حكى بعد شيئاً لأصحابه في السجن. ثم جاءت حادثة قتيل المعادي فرحنا نتابعها.
حارس منا كان يستأجر من بائع الصحف جريدة الحوادث ومجلة عن نجوم السينما لأمرأته. ويعيدهما إليه بعد يومين. كان يأتي ومعه الجريدة وينبه علينا أن نحافظ عليها. وقبل أن يتصفحها أي منا يكون حكى لنا ما قرأه عن قتيل المعادي وامرأة أبو كف. ورأينا صورتها. كانت مليحة. تضم شفتيها وتشير بإصبعها. اتهمت في التحقيق زوجها بقتل الرجل في بيتها.
ـ وفين زوجك؟
ـ في السجن.
وأنكرت معرفتها بالقتيل، ثم عادت في عدد الجريدة التالي بعد إجراء الفحوص على الجثة إلى الاعتراف بعلاقتها به.
ـ بس زوجي هو اللى خنقه.
ـ شفتيه بيخنقه؟
ـ شفته.
ـ يمكن واحد يشبهه!
ـ هو. زوجي وعارفاه. فيه واحدة تتوه عن زوجها.
ـ كان يعرف علاقتك به؟
ـ حايعرف منين؟
ـ وقتله ليه؟
ـ وأعرف ازاي؟ اسألوه.
ـ وأخر مرة رأيت زوجك؟
ـ يوم الحادث.
وذكرت الجريدة أنه وجهت إليها تهمة الدعارة، وجاري التحقيق معها في حادث القتل.
في العدد التالي رأينا صورة مأمور السجن. كان أصغر سناً بملابس رياضية يرافقه كلب ضخم بطوق حول رقبته، تساءل والحارس يصب له القهوة. من أين جاءوا بها؟ ثم قال للحارس:
ـ كنت أيامها برتبة نقيب في سجن القناطر.
نفى المأمور بشدة أن يكون أبو كف القاتل. فهو لم يغادر السجن لحظة. ولا رأى أسفلت الشارع منذ دخله. واسمه موجود في كل كشوف التمام.
وحين سأله المحرر عن سلوكه؟
قال أنه مسجون هادىء. لم تصدر في حقه مخالفة حتى الآن. يعني ملفه نظيف.
في عدد آخر من الجريدة عاد المأمور ينفي التهمة عن أبو كف. وقال:
ـ استحالة يخرج. ده سجن. أسواره عالية وفوقها حراسة مسلحة. وبوابة عليها ثمانية حراس. ازاي يخرج؟ وهدوم مدني كمان؟ مش معقول.
وأكد مرة أخرى على حسن سلوكه.
ويسأله المحرر عن رأيه في اتهام امرأته له بالقتل؟
ـ تقول اللى تقوله. ولا تسألني عن رأيي.
* * *
أرى أبو كف خلال هذه الأيام يذهب ويأتي في أنحاء السجن، أو قاعداً أمام العنبر يشرب كوب شاي ويدخن سيجارة. يلم ساقيه أثناء مروري.
وعرفت أن شذرات مما تنشره الجرائد كانت تصله. وربما في هذا الوقت حكى لأصحابه ما جرى. وتسرب الكلام إلينا.
ويوماً طلبه مأمور السجن، رأيته يسير خلف الحارس إلى مكتبه. كنت أعرف أن رائد المعتقل عنده. خرج بعد قليل ومضى إلى أصحابه. كانوا ينتظرونه بمدخل العنبر. وبلغني أنه تلقى تهديداً من المأمور إن فتح فمه بكلمة. وكان رائد المعتقل ينظر إليه طول الوقت ساكتاً. ثم قال مؤمناً على كلام المأمور:
ـ أنت عارف أعمل فيك إيه.
وربما شم أصحابه من المساجين رائحة خطر قادم فأحاطوا به. كان هناك دائماً اثنان يرافقانه عند دخوله دورة المياه، أو ذهابه إلى الكانتين، وحتى أثناء مشيه في السجن. هو نفسه لم يعد يبتعد عن أماكن تجمعهم. ونقلوا فرشته لتكون في وسطهم ورأسه للحائط، وأكثر من فرشة يرقد عليها مساجين عند قدميه، وأصبح من الصعب أن يصل إليه أحد وهو نائم.
(11)
جاء شلبي من المعتقل ليشرب الشاي. سألني بعد الكوب الأول إن كنت كلمت الرائد عن نقلي؟
ـ موش عارف أكلمه ازاي.
ـ استنه شويه. الأيام دي حالته موش ولابد.
ـ خير.
ـ حكاية الصحفي اللى كنت حكيتها لي طلعت صح.
ـ مكتوبة في الجرايد.
ـ عارف. موش كلها مكتوب.
رمقني أصب له الكوب الثاني من البراد. قال:
ـ شوية شاي. إنما.
أخذ رشفة وقال:
ـ هايج في المعتقل. ربنا يستر على المعتقلين. دخلناهم العنبر. قلنا لهم الشمس النهاردة شديدة تجيب مرض. وطبعاً ماصدقوش إنما دخلوا. نبعدهم عن طريقه. وبرضه مافيش فايدة. كل شوية زعيق:
"فين المعتقلين. موش شايفهم ليه؟"
"في العنبر يا أفندم"
"يعملوا إيه ولاد الجزمة في العنبر؟"
على هذا الحال طول اليوم. وشتيمة أجارك الله.
ـ إيه الحكاية؟
ـ حا أقول لك. إنما ماتكلموش في موضوعك اليومين دول.
كنت أضع براد الشاي على "التوتو" الذي استعرته من مسجون حتى يظل الشاي ساخناً. قال:
ـ صوته في مكتب العقيد كلنا سمعناه:
"ياخدوا اللقمة من بين أسناني."
ده كلام رائد يقوله يا سالم. والعقيد يقول:
"اهدأ. اهدأ. حاسب من الغلط"
"بعد إيه يا أفندم. ده شغلي. عمليتي."
"الحكاية انتهت. اسكت. ولا تقدر تعمل حاجة. واللى على رأسه بطحة يحسس عليها. زى ما بيقولوا"
"صحيح. وبطحة كبيرة يا أفندم"
شرب كوب الشاي الثالث. وتنهد فارداً ساقيه:
ـ خلي الشاي على النار. وهو بارد مالوش طعم. شوف.
وحكى.
ـ أخبار وصلت الصبح من الإدارة. يظهر أنهم هناك أخذوا لنفسهم عملية الصحفي اللي حكيت لي عنها، وجاءهم كلام شكر كبير من فوق، وترقية لثلاثة منهم. حايعملوا حفلة بالمناسبة دي. يحضرها الرتب الكبيرة بس. ومنهم عقيد المعتقل.
ألمح من مكاني المتواري خلف الشجرة ظهر مقعد العقيد الهزاز. كان يخرجه من مكتبه في مثل هذا الوقت حيث يمتد الظل ويغطي الطرقة.
المقعد خال. والجريدة التي كان يقرأها مطوية فوقه.
* * *
بدأت محاولاتي للتقرب منه. حين أراه عند الحاجز من الناحية الأخرى أقترب وألقي التحية بحماس. يلتفت ويومىء برأسه. أظل في وقفتي المشدودة حتى يبتعد.
ومرة كلمني بعد التحية:
ـ عارفك. وكنت أعرف والدك. وكتير كان يراعيني. وأنت..
ـ يا أفندم أنا في الخدمة.
ـ خدمة إيه يا راجل. اسأل لو أنا عايز حاجة.
ـ يا أفندم أنا في الخدمة.
ـ فكرتني. ادخل.
فك سلسلة الباب وتبعته إلى داخل المعتقل. وقف في ظل شجرة. ووقفت غير بعيد:
ـ والدك كان من وقت للتاني يجيب لي حتة تعدل المزاج. تخليني أستحمل المنفى الزفت اللى إحنا فيه. أدخنها في الزفت التاني اللى إسمه سكن. وأنام. وما سألتش والدك بيجيبها من فين لأن دي أسرار. وهو لا كان بيروح هنا ولا هناك. فهمت؟
ـ فهمت يا أفندم.
ـ حاتقدر؟
ـ أقدر يا أفندم.
ـ أشوف.
أعرف تاجر المخدرات في السجن. أخذ مؤبد. وعرض علىَ مرتين أن أجربه محبة. وأن امرأتي ستدعو له بطول العمر. وأقول له ضاحكاً:
ـ الصحة تمام من غيره.
ـ زيادة يا سيدي. ولما تكون دماغك أخر تمام دي حدوته تانية.
لا أعرف كيف كانت البضاعة تصله. لابد أنهم الحراس. كان يعطيهم حين يطلبون، ومنها ما يذهب إلى بعض الضباط، ولا يحاول معرفتهم. ولأنها بدون مقابل كان يعطيهم مما في جيبه الأيسر. فيما بعد عندما توطدت العلاقة بيننا حكى أن الصنف في هذا الجيب دون المستوى، وأحياناً يكون مغشوشاً.
ـ وفيه اللى يطلب منه تاني. تقول إيه؟. غشم. الواحد يحترم اللى يحب الحاجة الحلوة.
ما في جيبه الأيسر من ليبيا. ربما يخرج منها نظيفاً. فالليبيون أولاد حلال. غير أنه في مسيرته عبر الصحراء تعبث فيه الأيدي. وهو عمل في ليبيا خمس سنين. الحكومة صعبة. إنما الصنف متوفر. تعلمت تدخينه هناك. الجوزة عندهم شبه الشيشة وبطول عيل سنه عشر سنين. خرطومها طويل يخرج من الشباك، الحرمة في الداخل ترص الحجر بعد الحجر ومعها ضيوفها. يتكلمن في قلة الأدب ويشاهدن التلفزيون مع قزقزة اللب. وأنت متربع على مصطبتك تدخن ومعك أصحاب. تأخذ نفسين وتتف وتشتم الحكومة.
الجيب الأيسر أعطي منه للحراس اللى يعطونه للضباط. وما يهمني من الضباط. لا تسمع منهم غير طول اللسان، وإن تلفت رأس واحد منهم بسبب رداءة الصنف خير وبركة. الجيب الأيمن فيه الصنف الأصيل، باكستاني. أصحاب الذقون والمزاج، وبتوع عيال. عندهم النسوان حلوة. إنما تقول إيه.
ـ والمصري؟
ـ العياذ بالله. غلبان زي صاحبه. حشيش أخضر يزرعوه في الغيطان مع برسيم البهائم. بانجو. وعلى السطوح وفي البلكونات. يتلف الدماغ. يخربها. كل حاجة لها أصولها. جيبي اليمين أعطي منه المساجين. عشرة عمر. ويدفعون. أوقات بالدين. الغني منهم يدفع في الخارج. يرسل لأم العيال واحدة من طرفه بالثمن وزيادة.
ضحك. كان منحنياً ينظف حذائي. استطاع بقطعة من جيبه الأيمن أن يحصل على عمل يجري وراءه الكثيرون، تنظيف أحذية الضباط والحراس والكتبة. يتجول بين المكاتب والصندوق معلق بكتفه.
ـ واحد هنا حالته ميسورة. ويدفع في الخارج. سحب كتير. مراته صغيرة وحلوة كما بلغني. صعب عليها أن تدفع لأم العيال الفلوس. مرة ومرة وكبر الدين. فقلت له. تفتكر عمل إيه؟ طلقها. آه والله طلقها. وأمه اللى بدأت تدفع.
طلباته مني قليلة. بلوفر صوف ميري زائد عندي. شراب. أشياء أستطيع أن ألبسها تحت هدومي عند دخول السجن. ودواء للبواسير التي يشكو منها. الأشياء غالية الثمن يكلف امرأته بها وترسلها مع غلام إلى بيتي.
في شهر الصوم يتوقف عن استخدام الصنف أو بيعه. ويخرج الزكاة. يختار واحداً من المساجين ليقوم بالتوزيع بينهم. ويختارني للتوزيع بين الحراس. يدس لفة النقود في جيبي ويذكرني:
ـ اللى عنده عيال أكثر.
بعد شهور من كلامه معي وجد مقتولاً بدورة المياه. والفاعل مجهول. المساجين كانوا على ما يبدو يعرفونه والتزموا الصمت. نحن الحراس عرفناه بعد قليل والتزمنا الصمت أيضاً. هو يكاد يفصح عن نفسه. يسير متوتراً يلتفت لأقل صوت. يفسح له المساجين حين يكون قادماً، ويتردد في السير من بينهم، يأخذ دورة واسعة حولهم ليتفاداهم. لم نعرف ما دفعه لقتل الرجل، ربما كان القتيل ينفر منه، ورفض التعامل معه بسبب جريمته التي دخل عنها السجن. قتل أمه. ورغم أنه في التحقيق ثبت وجود علاقة لها مع واحد من الجيران مما أنقذه من الإعدام. إلا أن ذلك لم يغفر له عند التاجر.
تفادى النوم في العنابر وتحت الأشجار، واستعمال دورة المياه، واكتشفنا نحن الحراس أنه كان ينام في حجرة الإعدام، حيث عثرنا على بطانيته وداخلها غيار بعد مقتله. يفتحها كالعادة بقطعة السلك، يخرج منها باكراً قبل أن يصحو أحد في السجن، ويستخدم دورة مياه الحراس، ثم يقبع ساكناً على حجر غير بعيد عن حراس البوابة. لابد أن المساجين تعبوا من محاولة الاختلاء به، ما فعلوه كان يتسم بالتهور. هو يقف جانباً مثل كل يوم ينتظر أن يخف الزحام على التعيين. وحين خلا المكان تقدم. استدار ومشى أربع خطوات وعيناه على وعائه حتى لا يندلق منه "اليمك". التف حوله فجأة مجموعة من المساجين، فتح فمه ليصرخ. دست ورقة في حلقه. لحظات وانفضت المجموعة من حوله. سقط على وجهه. زحف قليلاً وانطوى ثم سكن جسده وقطعة الحديد المدببة مغروزة في صدره. وذابت مجموعة المساجين بين الآخرين.
(12)
قال الرائد:
ـ تمام التمام.
ضحكت في داخلي، فالحتة جاءت من الجيب الأيسر.
كنا واقفين تحت نفس الشجرة. قال:
ـ أحسن من اللى كان والدك بيجيبها. يمكن بتتعامل مع واحد تاني.
وضحك رافعاً يده:
ـ خلاص. موش حا أسأل. ولا عايز أعرف مين.
في هذه الوقفة أخبرته عن رغبتي في العمل بالمعتقل. تأملني لحظة وسألني:
ـ وإيه عاجبك فيه؟
ـ الشغل أنظف.
ـ صحيح. إنما السجن سايب. وهنا انضباط.
ـ وده أريح يا أفندم.
عاد يتأملني. أحسست أنني تحت الفحص. قال:
ـ بتقول فيها؟ أنا رايح الادارة قريب. حا أشوف. فعلاً محتاج واحد زيك.
* * *
يومان وطلبني الرائد.
كان واقفاً بالطرقة أمام مكتبه. قال:
ـ ساعدهم. حا أستأذن لك من حضرة المأمور.
أشار إلى ستة حراس منهم شلبي. كانوا واقفين غير بعيد بالفناء وبيد كل منهم خيزرانة رفيعة، أعطاني شلبي واحدة. قال أن باقي الحراس خرجوا للمحطة، عائلة سيادة العقيد قادمة في الديزل المكيف لقضاء الأجازة، معهم أكل يملأ حجرة. لحمة وزفر وحتى العيش، والرائد يعسكر عندهم طول الزيارة. حانستريح شوية. عينه على بنت العقيد. والبنت موش عايزة. والعقيد عايز. آهو.
خفض صوته: موش صابر على توقيع الجزاء. كان بيكلمهم في أمان الله. دقيقة وتعكر مزاجه. سب وشتيمة. أمك وأبوك. ثلاثة منهم كانوا بيكلموه، سحب أربعة غيرهم وزعق:
"خذوا السبعة"
ـ عملوا إيه؟
ـ الجريدة.
ـ يادي الجريدة.
ـ كتبوا حاجة عن الدولة البوليسية وأجهزتها القمعية، أنا موش فاهم يعني إيه قمعية. يمكن قصدهم اللي بتضرب. قالوا الأجهزة بس مصاريفها تشفط نصف ميزانية البلد، وشغلتها تحمي السلطة. حضرة الرائد شاف الكلام. زعق:
ـ "شيلوا الكلام الفارغ ده"
واحد منهم قال:
ـ "نستنى سيادة العقيد"
هو قال كده وحضرة الرائد هات يا ضرب، بيده ورجله، كانوا بيجروا أمامه، وقطَع الجريدة، وزي ما أنت شايف.
ـ ما يفضوها حكاية الجريدة دي. ويستريحوا من الأذى.
ـ فضوها يا سيدي. أسبوع والثاني وسيادة العقيد أمر ترجع.
ـ إيه ده؟
ـ آه والله زي ما بقول لك. طلع إنها سبوبة عشان يضربوهم من وقت للتاني.
ـ وإحنا محتاجين سبوبة.
ـ تفرق يا سالم. الضرب من غير سبوبة مالوش طعم. زى رفس الحمير. أسألني أنا. سنين في المعتقلات. يخلي المضروب عايز يخربش. إنما بسبوبة يبقى رايق موش عبيط، وطعمه مقبول، الواحد ينضرب صحيح. ويغضب. ويزعق. إنما مستريح. فاهمني؟
ـ ولا فاهم حاجة.
كنا أخذنا جانباً عن الباقي اقتراباً من الظل، الخمسة الآخرون بعد أن لسعتهم الشمس غيروا أماكنهم.
ـ لما تيجي المعتقل يمكن يعطوك دورة تدريبية. أنا أخذتها. أسـبوع. كان الأسـتاذ يقول لنا " قبل ما تضرب شوف سبب. أي سبب. ولو عقب سيجارة والع."
سكت. هز رأسه خفيفاً وقال:
ـ يا سلام لو شوية شاي. الكلام بدأ يحلى. وحاجة تانية يا سالم، الجريدة بتشغلهم. اسمهم بيعملوا حاجة وبيشتموا. من غيرها حايفكروا في مشاكل إحنا في غنى عنها. وظهر أن فيه حاجة ثالثة كمان. الادارة نفسها عايزة الجريدة تستمر. يعني موش مزاج سيادة العقيد، عجبتهم هناك فكرة الجريدة، وسمعت أنهم حايعمموها في كل المعتقلات. باشكاتب المعتقل بيلخص بنفسه كل عدد ويرسله لهم. أسألني ليه؟ شباك مفتوح بيبصوا منه. يشوفوا اللى بيفكر فيه المعتقلون، هم وأصحابهم اللى برة المعتقل. آه. ده سايب على ده، وأنا وأنت بنتفرج ونقول حاضر.
ـ وأسبوع التدريب. كنت مقيم في القاهرة؟
ـ إقامة كاملة. بدل أكل. بدل لوكاندة. بدل انتقالات. نايم قايم على حسابهم. حتى الشاي بين المحاضرات. أيام حلوة. اثنان من كل معتقل. كل واحد فينا وجد له قريب حتى لو من بعيد وراح قعد عنده. وتركب الأتوبيس بالبدلة الميري وتبص للكمساري يسكت.
ظهر الرائد على باب المكتب. أشار لنا أن نبدأ. جلس على مقعده الهزاز في مواجهتنا، ورفع يديه فارداً أصابعه العشر بعدد الضربات، ثم يداً واحدة فرد منها إصبعين. لمحت المعتقلين السبعة ينظرون إليه أيضاً، والتفتوا إلينا. الآخرون وقفوا غير بعيد وكأنهم بوقفتهم المسترخية يهونون مما يجرى.
تقدم السبعة نحونا. هم على ما يبدو من يسعون إلينا، ويختار كل حارسه ويقف أمامه، وكنت سمعت من شلبي أنهم يعايرون من يتخاذل أو يئن كثيراً.
كان من نصيبي أصغرهم سناً. الخامسة والثلاثون تقريباً. وجهه هزيل. ورعشة خفيفة تكاد لا ترى بطرف عينيه اليسرى. خلع نظارته ووضعها في جيب السترة. رمقني بنظرة ثابتة. لم يعجبني الحال. دفعته بيدي نحو المكان المشمس.
انكفؤوا فيما يشبه القوس مفسحين أماكن بينهم للحراس وقد خلع كل سترته ووضعها بين فخذيه. هم لن يلبسوها عقب الضرب حتى لا تلمس جروحهم.
الظهر العاري. أبيض شاحب. انتبهت من خواطري. يشف عن فقراته، شعيرات زرقاء على الجانبين. زغب خفيف يقترب من الإليتين حيث يتجعد الجلد في ثنايا صغيرة خلفها رباط البنطلون الذي انزلق قليلاً. سبحانه يعطي الرجل ولا يعطي المرأة. ظهر امرأتي العاري وقد انحسرت عنه البلوزة منكفئة تبحث عن فردة شبشب تحت السرير. عمودها الفقري يغطس في مجرى عمقه بوصة، ضفتاه من اللحم المكتنز المبتل بالعرق تتفرع منها أخاديد تتلاشى عند الجنب، وحسنات سوداء تتناثر قرب الكتفين.
ضربتي الأولى جاءت عنيفة. تقوس الظهر واختلج. انتظرت حتى هدأت رعشته وهويت بضربتي الثانية، كانت أشد عنفاً. تلقاها الظهر ساكناً، الخط الأحمر الذي خلفته تلاقى مع الخط الأول وافترقا. أجدني مندفعاً، صوت كأنني أزوم. انتهت الضربات. أكتم لهاثي. العرق فوق عيني يكاد يحجب الرؤية. تراجعت خطوة، ثم خطوتين.
نهضوا من رقدتهم، يمسك كل منهم سترته في يده. مشوا نحو الآخرين الذين أفسحوا لهم. ودخلوا العنبر.
* * *
قال إن اسمه رجب.
كنت انتقلت للعمل بالمعتقل من شهور. ضربته خلالها مرتين، التقيته وأنا في طريقي للمطبخ بحثاً عن كوب شاي. سألته إن كان له مده طويلة بالمعتقل؟
ـ سنة وشوية.
التقط غطاء زجاجة من الأرض وراح ينفض ما علق بها من رمل.
ـ أول مرة؟
ـ ثاني.
ـ وكانت برضه هنا؟
ـ لأ. في ليمان طرة.
ـ والتهمة.
ـ من غير. أنت جديد؟
ـ آه. أول عمل لي في المعتقل. وشغلك؟
ـ كنت أستاذ جامعة. اقتصاد.
ـ كنت؟
ـ آه. تركتها. الأمن هناك يقرف. تقارير أمنية وخلافه.
ـ تسيب الجامعة عشان تقارير أمنية.
ـ موش التقارير الأمنية وحدها. ولو أنها تخليك تطفش من البلد. فيه حاجات تانية.
ـ حاجات إيه؟
ـ بتسأل ليه؟
ـ أفهم.
ـ ولما تفهم حاتعمل إيه؟
ـ ولا حاجة. بس أبقى فاهم.
عرضت عليه سيجارة. اعتذر شاكراً.
ـ طيب كوب شاي؟
اعتذر أيضاً، ضحك وتركني.
في لقاء آخر جاء أيضاً صدفة بالفناء كلمته عن بيتي وبرج الحمام، وابني الذي رأي الدنيا من عامين. قال متعجباً:
ـ بتربي حمام؟
ـ من سنين.
ـ تأكله؟
ـ أبداً. لو ربيته ما تحبش تأكله. تيجي ازاى؟
ـ صحيح.
ـ كانت أمي تشتريه أيام والدي. وكنت أكله. لما ربيته نفسي انسدت عنه.
ـ وبتعمل به إيه؟ بتبيعه؟
ـ ولا أبيعه. كفاية تشوفه يطير ويرجع، ويلقط الحب من يدك.
أول مرة أتكلم فيها عن الحمام مع أحد. أحسست زهواً وأنا أراه يسمع ويومىء برأسه.
ـ ويعرفني. أول ما أظهر على السطح يحط على كتفي وذراعي. آهو. حاجة تسلي.
ـ ويخليك تفرح.
ـ بتقول فيها. أنزل من عنده زي المغسول. وأنسى كل وجع الدماغ. حتى مراتي تقول لي هو الحمام بيعمل فيك إيه؟
يضحك بكل وجهه كالطفل. قال:
ـ وتلاقيها من يوم للتاني تقول لك اطلع شوف الحمام.
ضحكت:
ـ آه والله بيحصل. قم يا سالم بص على الحمام. وأقوم.
أخذنا الكلام هنا وهنا، وقلت فيما قلت أن امرأتي تطبخ أحسن بصارة. قال:
ـ آخر مرة أكلتها كان أيام أمي. من عشر سنين.
ـ لولا الظروف كنت..
ضحك كثيراً. قال:
ـ عارف.
وتركني.
حدثني عنه شلبي. قال:
ـ صاحبك اللى ضربته أكثر من غيره. عرفت أنه حاجة كبيرة في الأقتصاد. له أربعة مؤلفات، وينشر أبحاثاً في المجلات. واحد صاحبنا في الأدارة بيقول أنه كتب أكثر من مرة عن الأنهيار الأقتصادي في البلد، والكبار المسعورين اللى وراه، وبيقول الكلام ده بالأدلة. يعني ما يقدروش يحاكموه بتهمة السب والقذف. ويظهر عشان كده جابوه هنا. وآدي إحنا بنتفرج.
ـ يا أخي حاجة تحير. ناس كبيرة. وتتكلم مع الواحد منهم ولا كبير ولا حاجة. زينا. وتأخذ وتدي معاه في الكلام.
ـ عشان لسه في الأول. بكرة تتعود.
(13)
قال الرائد لي يوماً وكان جالساً في مقعده الهزاز:
ـ إيه الأخبار. مبسوط؟
ـ البركة فيك يا أفندم.
ـ الحقيقة مكانك في السجن موش هنا. عارفهم هناك أكثر. والأهم اللى بيفكروا فيه. يعني بتاخد عليهم بسرعة وياخدوا عليك. إنما هنا صعب.
وضحك:
ـ صعب علينا كلنا. شايف زمايلك هنا. بقى فيهم شبه كبير من المعتقلين. ويتكلموا زيهم. حتى الكلمة اللى بيقولوها موش بتاعتهم. والواحد منهم يخفي نص الكلام ويقول النص اللى ما يضرش.
أشار لي بالانصراف، ثم عاد وسألني:
ـ مالقتش واحد غير اللى أتقتل في السجن؟
ـ بشوف يا أفندم.
ـ الحتة بتاعته كانت حلوة.
يكلفني بأعمال لا يكلف بها حارسه الخاص. أحمل ما يصله من أشياء. ملابس مغسولة ومكوية وأحذية ومأكولات وأتبعه إلى السيارة. أحياناً أرافقه لأصعد بها إلى البيت، سكنه في بلوك الضباط فوق هضبة تطل على بلوكاتنا، حوله سور ببوابة، ولمبات صغيرة بامتداده تضيء طول الليل.
ومرات أذهب بالأشياء مع السائق إلى البيت، فغير مسموح للسائق بالصعود. لا أدري لم يخصني بهذه الثقة. وأجد امرأة عجوزاً تنظف البيت، أعطيها ما أحمله وأمضي.
حتى كانت مرة فتحت لي فتاة في العشرينات. ما رأيته جعلني أتراجع خطوة وأقف خارجاً. كانت ترتدي سترة بيجامة رجالي كبيرة عليها، ولا شيء آخر، والسيجارة مشتعلة في يدها. خفضت بصري، وتوقفت عيناي على فخذيها البضتين. قالت:
ـ ادخل.
دخلت. أغلقت الباب بقدمها الحافية. أخذت الملابس من فوق يدي، وظلت المأكولات على اليد الأخرى، سارت إلى الداخل ثم عادت.
ـ تعال.
مشيت وراءها إلى المطبخ. أخرجت السيجارة من فمها ووضعتها بين إصبعي يدي الخالية:
ـ امسك دى.
راحت تنقل المعلبات من فوق يدي الأخرى إلى دولاب المطبخ:
ـ كده تمام.
أخذت السيجارة من يدي:
ـ وأنت بقى مين؟ برضه حارس؟
ـ أيوة يا أفندم.
ـ حلوة أفندم دي. والبيه فين؟
للحظة لم أعرف من تقصد ثم انتبهت:
ـ جاى بعد ساعتين.
كانت تنحني بلا حرج، تلتقط فتافيت من على السجادة، وبانت مؤخرتها و"كيلوت" صغير بلون أزرق يستر ما بين إليتيها.
ـ وبتشتغل إيه هناك؟
ـ حارس يا أفندم.
ـ سيبك من أفندم وقل يا مدام. حارس إيه؟
ـ حارس.
ـ طيب أقعد يا حارس ـ ضحكت ـ أعمل لك شاي؟
ـ سيادة الرائد منتظرني.
ـ هو رائد؟ أفتكرته حاجة أكبر من كده. دقيقة أعمل لك الشاي. وموش حا أقول له انك شربت شاي.
ـ السواق تحت يا أفندم مستني.
ـ هو فيه سواق كمان. لأ. مقدرش على اثنين.
وأنفجرت ضاحكة ورمت برأسها للوراء. سترة البيجامة بدون ياقة، كشفت عن جانب من كتفها وصدرها الذي بدت فوقه خدوش رفيعة تمتد نحو رقبتها.
تقدمتني إلى الباب.
وخرجت.
(14)
كبر ابني. صار له شارب. لم يستمر في المدارس. تعلم القراءة والكتابة واكتفى. حاولت أن أصحبه للمعتقل يعلمونه هناك. كان حاسماً:
ـ لن أدخله إلا سجيناً.
عمل نجاراً في البلدة المجاورة. يصنع دواليب ومقاعد ومكاتب. هو من صنع لي مقعدي الهزاز. كنت أكلمه على سبيل الهزار:
ـ اعمل لي كرسي يروح وييجي.
أخذ كلامي بجدية.
اشترى موتوسيكلاً يثير ضجة في الشارع، يذهب به لعمله ويعود محملاً بقطع مصقولة من الخشب، يعكف عليها في حجرته يصنع منها البراويز وأشكالاً يبيعها للمحلات.
سرعان ما ظهرت بنت من الجيران في البيت تساعد امرأتي. حاولت أن تدخل حجرته لترتيبها، غير أنه أخذ يغلقها بالمفتاح ويحتفظ به خوفاً على الأشكال الخشبية التي يرصها على الأرض.
الولد غير مشغول بالزواج. يعد نفسه للانتقال إلى البلدة عندما يجد سكناً مناسباً. لم يبد اهتماماً بالبنت، أكون في حجرتي وألمحها تظهر فجأة في طريقه، صدرها بارز في تأهب، يحاول أن يتفاداها، تقرصه في جنبه وأحياناً في إليته والضحكة ساكتة على وجهها. يمضي دون كلمة.
كنت في وضع حرج. والدها حارس في السجن، يسكن في بلوك آخر قريب. لم يكن بيننا غير السلام، والآن أراه كل صباح قادماً، نمشي معاً إلى السجن، مازالت أدخل المعتقل عن طريقه بدلاً من السير طويلاً بجوار الأسوار حتى باب المعتقل.
في طريقي يكلمني بمودة عن كل ما يخطر له. مأمور السجن الجديد. ما قاله وما عمله. المساجين وحوادثهم، الفئران التي كثرت في البيوت:
ـ تفتح أي درج تنط منه.
أحس به يرمقني. ينتظر على ما يبدو أن أكلمه بشأن البنت. في النهاية يسألني:
ـ عاملة إيه البنت معاكم؟
ـ لا أراها.
ـ ليه؟
ـ طول الوقت قاعدة مع الحاجة وأنا في مطرحي.
ـ هي تعز الحاجة قوي.
ـ صحيح.
ـ ابقى خد وهات معاها في الكلام. دى حافظة كل أفلام ومسلسلات التلفزيون. تقول لها اسم الفيلم تحكي لك حكايته.
ونفترق في السجن.
تأتي البنت في الصباح الباكر قبل خروجي وتغادر مع صلاة العشاء، أحياناً تأخذ قيلولتها ممددة على الحصير بجوار امرأتي المستريحة أمام التلفزيون. وترى البنت تغط في النوم، تفرد فوقها ما يغطي ساقيها اللتين تعرتا.
قالت امرأتي أن البنت حكت لها عن الحاجات التي اشترتها وتحفظها في صندوقين. ثلاث ملايات سرير بأكياس مخداتها. بطانيتان غير قماش الهدوم وستارة. حا تعمل بها إيه؟ ما أعرفش. وطقم ملاعق. أطباق صيني. أكواب. وخلاط. آه والله خلاط. وأنا ماصبرتش. سألتها:
ـ ومنين الخلاط؟
ـ كان لأمي من يوم جوازها. فضل في علبته. وأنا أخذته.
أسأل امرأتي:
ـ وأمها جابته من منين؟
ـ بتقول هدية. مين اللى يهدي خلاط؟ آهو. خلينا في حالنا.
ـ والحل؟
ـ والله ما عارفة. الواحدة ما كانتش بتعمل كده. دى نتفت حواجبها. والذراعين. والرجلين، باقي إيه؟ زمن غير زمنا. ياما حانشوف.
ـ كنت بتعملي أكتر منها.
ـ أنا؟ اخرس. ساعتين اللى كنت أقعدهم. موش طول اليوم. الواحدة لا عارفة تروح ولا تيجي. ولا إيه اللى في البيت، وأكون قاعدة معاها بنطبق الغسيل وألاقي دى بتفرد لباس الواد وتقول: "لباسه صغير يا خالة".
أنا كنت بأعمل كده؟
ـ أكثر.
ـ إيه بقى.
ـ أكون بمر من حلق الباب وأنت واقفة فيه. تمدي بتاعتك تسد نص فتحة الباب وتقولي:
" ماتعدي ".
ـ دي خامس مرة تحكيها. عجباك قوي؟
ـ الحق يتقال.
ـ يا راجل عيب. واحد في سنك ويقول الكلام ده.
ـ أقول كمان؟
ـ خلاص. روح أخطبها له.
ـ دى حكاية تانية. يوسف موش عايز.
ـ قل لأبوها كده.
ـ قولي أنت لأمها.
ـ هو أنا باشوفها. بتقول أزورها الأول. قالت ده لواحدة صاحبتنا. قالته زى رسالة. وأفهم بقى.
جاء زميلي أبو البنت مثل كل صباح. مشينا معاً إلى السجن. هو على غير العادة ساكت. يميل بوجهه ينظر إلى السماء. كان على ما يبدو يرى أنني تأخرت في الكلام. وتكلمت.
قلت أن يوسف سينتقل إلى البلدة.
ـ يعيش هناك؟
ـ آه.
ـ وعنده سكن؟
ـ حايلاقي. مشغول للآخر.
ـ ربنا معاه.
ـ الأولاد الأيام دى غيرنا.
ـ صحيح.
ـ كنا نبص على الوظيفة الميري. وبنت الحلال. والحمد لله على كده.
ـ صحيح.
ـ وده كل همه شغله. لا يفكر في وظيفة ولا بيت ولا أولاد. عايز يبقى صاحب ورشة.
ـ ربنا يساعده.
ـ كان نفسي أفرح به في حياتي. ماحدش ضامن عمره.
تمهلت خطوته. سأل في صوت مبحوح:
ـ هو حصل إيه؟
ـ بيقول ولا عشر سنين. ليه؟ ماعرفش.
توقف عن المشي. شاربه يرتعش:
ـ وبنتي؟
ـ مالها بنتك؟
ـ لها أكثر من شهر قاعدة عندكم؟
ـ بتزور الحاجة.
ـ حاتعمل إيه بالحاجة. أخفي وشي فين من الناس اللى بيباركوا. واللى شافوا البنت داخلة خارجة عندكم؟
ـ وإحنا عملنا إيه؟
ـ عملت إيه؟ بتستهبل؟
وجهه محتقن بالغضب. قال كلاماً كثيراً فيه شتائم تصل إلى قلة الأصل، ثم تركني وعاد إلى بيته.
بلغنا ما قالوه عنا. كان يصلنا أولاً بأول، ونالت امرأتي النصيب الأكبر. فهي لا تعرف الطبخ. حتى شوية الرز، ابنتهم علمتها، وأنها ـ امرأتي ـ تشخر وهي قاعدة صاحية. وتهرش ظهرها دائماً بعصا. وأنها ستأخذ ابنها للدكتور في القاهرة لأنه يشكو من حاجة لا تريد امرأتي الإفصاح عنها، وحين عرفت أن البنت عندها خلاط مالت عليها وباستها. وهم بعد كل ما شافوه رأوا أن يصرفوا النظر.
توقفت عند كلامهم عن الخلاط، وخطر لي أن امرأتي ممكن أن تفعلها. ليس بمعنى أن تبوسها، ولكن شيئاً قريباً من ذلك. فهي من بداية زواجنا تلح على شراء واحد. ورغم شكوى امرأتي من البنت كنت ألمح في عينيها زهواً بمجيئها يومياً إلى البيت.
حين رأى ابني الجو مشحوناً أخذ هدومه وأشياءه في ربطة خلفه على الموتوسيكل ورحل إلى البلدة. البنت سافرت بعده بأسبوع إلى بيت خالتها. وأبوها حين يلمحني يغير من اتجاهه.
الجيران أيضاً، بعضهم خاصمنا. لا كلمة ولا سلام.
وكان علينا أنا وامرأتي أن نتحمل في سكوت.
(15)
أحمل المقعد الهزاز إلى السطح. أسترخي فوقه. الوقت باكر. الأفق بلون رمادي. وضباب خفيف يتصاعد.
التلال الثلاثة على مرمى البصر. أتعجب من خضرتها الزاهية تحوطها كثبان الرمال. تبدو الأشجار بكثافة أغصانها غريبة عن المكان. تقصدها الطيور الشاردة، والعابرون عندما تلفحهم الشمس، وحراس السجن الذين أصابهم الخبل.
يحط الحمام على كتفيَ وظهر الكرسي، ويتجمع حول يديَ الممتلئتين بالحب. بينها حمامة صغيرة لونها أبيض مع قليل من اللون الرمادي، تحلق لمسافات قصيرة وتعود. هديلها مازال ضعيفاً. تتفادى الزحام وتتسلق صدري بساقيها النحيلتين وجناحاها متأهبان للانطلاق. تلتقط الحب من فمي، وأكون أعددته لها بين شفتيَ. حبة بعد الأخرى. منقارها صغير داكن. أطبق عليه أحياناً بشفتيَ. وأجدها ساكنة وقد طوت جناحيها بشدة، ونشبت أظافرها بسترتي، ثم تأخذ في الابتعاد، وتظل على صدري. يخطر لي أن حمامة بجمالها لابد أن يتبعها ذكر. وألمحه يجاهد في الصعود إليها. كان صغيراً مثلها، مازال يحلق لمسافات قصيرة، يقترب منها أخيراً. ينقرها في رأسها. لا تلتفت إليه، وتحلق إلى البرج. وهو على صدري يرمق الحب بين شفتيَ ولا يقترب منه. يهبط ويندس في الزحام حول يدي.
(16)
جرت تغيرات قليلة في المعتقل. جاءت متلاحقة وشملت بعض الضباط. وانشغلنا نحن الحراس بحزم أمتعتهم ومرافقتهم واحداً بعد الآخر إلى المحطة.
العقيد نال رتبة أعلى وأحيل إلى التقاعد. لم نره وقت صدور القرار. أرسل إلى المعتقل لنقوم بشحن أمتعته وألا ننسى الصور التي في مكتبه. الرائد كان لا يزال بيننا، سأل حائراً:
ـ أى صور؟
صورة الرئيس معلقة على الحائط، وصورة الرئيس السابق على الأرض ووجهها للجدار بجانب المكتبة المصفوف عليها بعض أطباق الزينة.
قال الرائد بعد بحث:
ـ مفيش غير دى.
وأشار إلى صورة الرئيس السابق:
ـ الأخرى من عهدة المكتب.
قال الباشكاتب مشيراً إلى صورة الرئيس السابق أنها أيضاً عهدة مرتجع.
قال الرائد:
ـ المرتجع بيكهنوه. ابعتها للعقيد وعالجها في دفتر المرتجع على أنها تلفت ولو أني أشك في أنها اللى بيقصده.
نقل الرائد إلى معتقل آخر مع ترقيته بعد مجيء العقيد الجديد بأيام. وضع علامة الرتبة الجديدة على كتفه حين وصل القرار. كان مزهواً. يكلمنا وهو ينظر إلى الأفق ليسمح لنا برؤية العلامة وكانت من الذهب.
طالت التغيرات المعتقلين أيضاً. خرج كل من عرفناهم طويلاً. وقبل رحيل الدفعة الأخيرة منهم بيوم جاء آخرون، أفرج عنهم بعد شهر من مجيئهم، وكنا بدأنا نعرف أسماءهم. وجاء آخرون، كان العدد كبيراً هذه المرة، لم يستوعبهم العنبر. نصبنا لهم خياماً بجواره. لم ينتظروا حتى ننتهي. مدوا الفرش في الفناء أمام العنبر واستلقوا. بعضهم كان يكلمنا ولا نرد عليه:
ـ إنما شوية هوا عندكم يرد الروح.
ـ وجاف وخال من الميكروبات. خسارة فيكم.
ـ خسارة ليه؟ ما شاء الله. بقيتم زى. ولا بلاش أحسن تزعلوا.
رأيت وجه من قال الكلام الأخير وحفظته، ونويت أن أجعله يبلع كلامه بعد أن أنتهي.
قيل أنهم المتظاهرون، وأنه مجرد أسبوعين ويفرج عنهم، ومرا الأسبوعان واكتمل العام، وما زالوا معنا. يثيرون الكثير من الضجة.
عددنا نحن الحراس قليل لا يتناسب والدفعة الأخيرة. استعان عقيد المعتقل الجديد بحراس من السجن جاءوا بلا رغبة. كانوا يتسللون من وقت لآخر إلى السجن ليتناولوا طعامهم وشايهم هناك.
وهوى جانب من السور بطول عشرة أمتار، غير التشققات التي سرت فيه لأمتار أخرى. كانت شاحنة تجرف الرمال في الخارج، تقهقرت قليلاً لتبعد عن الحفر. اصطدمت مؤخرتها بالسور. الخبطة خفيفة، لم يصب صندوق السيارة بأي التواء. عجبنا من هشاشة السور وكنا نظنه غير ذلك. قمنا بحراسة الفجوة ليل نهار ومعنا السلاح حتى انتهى الترميم.
قال المقاول وهو يجمع رجاله وأدواته:
ـ السور كله تعبان.
ذكرني ذلك بما جرى من سنوات. أعلن الرئيس أنه لن يبقى معتقل واحد مفتوحاً في عهده، والتقطت له الصور وهو يوجه ضربته إلى سور معتقل عتيق وحوله الحاشية، تقدم واحد منها وسحب منديلاً ملوناً من جيب سترته العلوي مسح به يد شاكوش قبل أن يسلمه للرئيس الذي رفعه وهوى به، سقط حجران كبيران إلى الناحية الأخرى. لم يستطع الرئيس أن يخفي دهشته أمام الكاميرات وصيحته:
ـ إيه ده؟
وقبل أن تبتعد الكاميرا، أطل وجه من الفجوة، حدق بذهول في الرئيس الذي صاح متراجعاً:
ـ أنت مين؟
ـ المعتقل عبد السميع.
بعدها بلغنا أن السور هدم بأكمله، وأعيد بناؤه بالخرسانة.
(17)
سألت الباشكاتب وأنا أمد له أوراق الإفراج عن البعض من الدفعة الجديدة لمراجعتها:
ـ ما جاش يوم كان المعتقل فاضي؟
ـ أما سؤال؟ بس حصل مرة. من سنين.
رجع بظهره للوراء. وجهه العجوز الضاحك:
ـ ولا واحد كان في المعتقل. العنبر قفلناه. القوة كلها. كتبة. حراس. ضباط. كانت زي الفراخ الدايخة. يقعدوا شوية. يمشوا شوية. تبص للمعتقل من أوله لآخره. اسكت هس. لا له طعم ولا لون. إحنا الكتبة غيركم. مفيش شغل نسحب القديم نبض فيه تاني. ونزهق. كل واحد يسحب كرسي ونقعد في الطرقة. ونشوف الضباط عملوا زينا. والحراس فرشوا قعدات الخوص وتربعوا. لا فيه ميري ولا انضباط. ومين يفكر فيه. يوم وراء يوم ومفيش خبر عن معتقلين، فكرني ببلاد الناس فيها نقعد تستنه المطر.
وجهه الشارد وهو يحكي:
ـ كان حالنا حال والحراس اشتغلوا في النظافة على الأقل المكان يبقى نظيف. مشوا في المعتقل يجمعون الزبالة في مقاطف. وجرَوا الزحافات. كل واحد منهم خلع سترته وشمر رجلي البنطلون وغسلوا الحمامات. آه. عشرة أيام بالتمام.
الكتبة الثلاثة تركوا ما بأيديهم وراحوا يسمعون.
ـ وفي يوم بعتوا لنا واحد. معتقل واحد. الخبر كان وصلنا قبلها بساعات. ومحدش صدق. عقيد المعتقل نفسه ضرب كفا بكف وقال:
ـ «دول بيهرجوا».
الزبون الجديد وصل. أول ما دخل الساحة رجع خطوة والثانية. منظرنا كان يخوف. قوة المعتقل كلها خرجت تشوفه، الحراس واقفين في شكل صف يبحلقوا فيه. الضباط في الطرقة واحد وراء الثاني وعيونهم عليه. حتى العقيد وقف بباب مكتبه. واحنا الكتبة ـ أشار إلى الثلاثة ـ كان غيركم هنا ـ خرجنا نشوف قطرة المطر اللي نزلت. الزبون واقف، يبص هنا وهنا وما يتحركش. الحارس اللي جاء به وقف وراءه ساكت. شوية والعقيد دخل مكتبه. واحنا كمان. بصينا عليه من فتحة الباب شفناه قاعد أمام العنبر وبابه مفتوح. بصينا بعد شوية نفس القعدة. والحراس واقفين على بعيد. ولا واحد يقرب منه أو يكلمه. قالوا بعدها أنه فيه حاجة لله. وصحيح. الجدع كان شكله طيب قوي، موش بتاع مشاكل. زي لقمة عيش تشوفها في الشارع تبوسها وتحطها جنب جدار. ساعة والثانية وخبط على باب المكتب، ومفيش حارس منعه:
ـ ادخل:
دخل. بصينا له موش مصدقين. قال:
ـ أقعد معاكم شوية؟
أشرت لكرسي جنب الباب. قعد. حاجة خلتني من غير ما أفكر أعزم عليه بسيجارة أخذها، وواحد في المكتب عمل له شاي. شربه. كل ده وهو ساكت. لا يبص هنا ولا هنا. شوية وسألني:
ـ لو سمحت. أنا هنا ليه؟
أقول له أيه: احنا ما نعرفش. كل اللي قلته:
ـ شدة وتزول.
وخرج. شفناه بعدها ماشي في المعتقل. رايح. جاي.
كل يوم يمر علينا، يصبّح ويمشي. ويقعد مع الحراس، اللي يرضي منهم. أكثرهم كان يخاف منه. ويلعب السيجة مع واحد أو اثنين. ويمر على الضباط في المكاتب يصبح عليهم. وكان هنا حارس امرأته حامل، دخل علينا الصبح يهلل ومعاه حلويات:
ـ مراتي جابت الولد. بعد أربع بنات. الجدع ده بركة.
كان يعمل مهندساً في شركة. من نفسه لم يطلب شيئاً يخالف التعليمات. نقول له:
ـ ادخل.
ويدخل. وبدأ يساعدنا في الشغل.
ـ انسخ الصفحتين دول.
كان خطه حلو. يقعد جنب المكتب وينسخ.
على هذا الحال شهر كامل. وجاء الأمر من الإدارة بالإفراج عنه. وليه؟
اعتقلوه غلط. كان المقصود واحداً غيره. جرى معه التحقيق، وأرسلوه لمعتقل آخر.
(18)
يومي الأخير في العمل.
سلمت عهدتي. وأخلوا طرفي. أعطاني الباشكاتب ورقة بذلك. أعطاني أيضاً شهادة تقدير عليها خاتم الدولة تشيد بحسن سيري وسلوكي أثناء الخدمة. قال:
ـ علقها في البيت.
صافحني بشدة. وخرجت من مكتبه.
وقفت في الطرقة ألقي نظرة أخيرة على المعتقل. أكثر من شجرة مالت سيقانها لم ألحظها من قبل. وأشجار أخرى ظهرت مازالت سيقانها صغيرة. وأعشاش غربان على فروع الأشجار العالية. العنبر مفتوح على سعته، المعتقلون بداخله. في مثل هذا الوقت من النهار يتذكرون أيام صباهم وشبابهم ويحكون. كل واحد له نصف ساعة. يقف ويحكي. الآخرون قاعدون حوله.
شلبي في الخارج ينتظرني. صمم على الحضور:
ـ ده يوم في العمر.
سبقني في التقاعد بشهرين.
هذه المرة خرجت من باب المعتقل. كان واقفاً في ظل السور. مشينا. قال:
ـ تقول إيه في شوية شاي على القهوة. وبعدين تروح بيتك.
المقهى الصغير على المحطة. لم أره من سنوات. هو الآخر يعاني في شيخوخته. اللافتة فوقه بهت لونها، واختفت حروف من الكلمات بها. تؤرجحها الريح في صوت مسموع. قلت وأنا أجلس على مقعد متهالك:
ـ كل حاجة لها عمر.
ـ لا يزيد ولا ينقص.
وقال: فاكر بيومي. كان معاك في السجن؟
ـ عارفه.
ـ مات امبارح. أصغر مني بسنتين.
ـ سمعت صراخ بالليل.
ـ هو.
ـ سبحان الله. ماكانش يقبلني. وليه ما أعرفش.
ـ ولا كان يقبلني. وبرضه ليه ما أعرفش.
ـ ده حال الدنيا.
ـ وعارف سعد الدين. كان معاك برضه في السجن؟
ـ مات؟
ـ لا. مراته. النهاردة الصبح.
ـ صغيرة.
ـ ماتت في الولادة.
شربنا الشاي وقمنا. شلبي لم يتغير. منذ عرفته وهو يحمل الكثير من الحكاوي يجمعها أثناء تجواله. يحس بالواقعة قبل أن تكتمل، ويقف قريباً منها، يراها تأخذ مداها. يهز رأسه راضياً ويمضي.
يوماً كان يمشي في شارع البلوك الرابع. بيت أمامه أولاد يلعبون. صبيان وبنات. سمع واحداً منهم يقترح لعبة عريس وعروسة. كان تجاوزهم بخطوات. توقف ملتفتاً إليهم. ولد وبنت في الخامسة وقفا جانباً والأولاد يعدونهما للزفاف. ظل واقفاً وضحكة ساكتة على وجهه. البنت رقدت على بطنها، والولد فوقها. واحد غير شلبي كان سيرى في ذلك نهاية الواقعة ويمضي. شلبي غاوي الحكاوي توقع أكثر من ذلك وانتظر. الولد فوق البنت يفعل كما الجدي مع العنز، ومأمأ مثله. شلبي في وقفته لمح جدياً مربوطاً في شباك البيت المواجه، وخطر له أنه بيت الولد. مدت امرأة رأسها من باب البيت الذي يلعب الأولاد أمامه. كادت تسحب رأسها للداخل حين لمحت الولد فوق البنت. صرخت:
ـ يا ابن الكلب.
في قفزتين كانت عندهم وشدت الولد من قفاه. الولد من فزعه تشبث بالبنت فتمزق كتف جلبابها. زاد غضب المرأة. زمجرت وقذفت الولد. سقط بشدة، وجرح حاجبه. الولد ساكت ينظر للمرأة وشتائمها تتلاحق، لمس حاجبه ورأى الدم في يده فانفجر صراخه. البنت كانت واقفة في قبضة أمها تختلس النظرات إلى أصحابها، يتبادلون الابتسام ويخفونه بأيديهم، حين ارتفع صراخ الولد صرخت هي الأخرى. الأم الغاضبة ضايقها صراخ البنت فصفعتها. خرجت امرأة من البيت المربوط أمامه الجدي، اندفعت إلى الولد تكتم الجرح بيدها وترد على شتائم المرأة. اشتبكتا.
ـ خناقة يا سالم عجب. مفيش ضرب. كل واحدة راحت تشد شعر الثانية وتصرخ. أنا شفت كده مشيت.
حين تكثر الحكاوي عنده يبحث ـ كما قال لي ـ عن واحد يحكي له. يختاره بمزاج يقدر ويفهم حتى تكون القعدة حلوة. كنت واحداً من أربعة اصطفاهم لحكاويه. لم يفصح عن الثلاثة الآخرين. من ناحيتي لم أسأل عنهم. يكفي أنه اختارني.
(19)
شغلتني أعمال ترميمات في البيت. كنت أؤجلها من يوم للثاني فزادت. بدأت بدورة المياه بعدها درجات السلم ـ سقطت امرأتي من فوقها أربع مرات وقالت مهددة أن في الخامسة نهايتها ـ ثم السطح، وكنت جمعت في ركن البلاطات المخلوعة من أرضه، برج الحمام كان سقط جانب منه، واكتشفت أنه يكاد يكون خالياً، به ثلاثة أزواج حمام تخلفت من عشرين، الأوعية في البرج خالية من الحب والماء، نسيت في الشهر الأخير أن أصعد إليه.
يأتي شلبي، يجلس منطوياً بعيداً عن الهدم. لا يسرد شيئاً من حكاويه، ولا يبدو راغباً في ذلك. بعد قليل يحكي ما رآه أثناء مجيئه. المجاري التي طفحت أمام البلوكات ومياهها تنساب في الشوارع. الكل يسد أنفه ويمشي ملتصقاً بالجدران. هو تعب من السير لصق الجدران، خدوش في يديه ووجهه، وطول الوقت يخشى أن تنزلق قدمه. لا يعرف كيف سيعود. ربما ذهب إلى المقهى.
أنام مبكراً واصحوا مع طلعة الفجر، شيء يوقظني. أستعيد اللحظات الأخيرة وأنا بين النوم واليقظة وما أكون رأيته في أحلامي. أكاد أكتشفه ثم يتوه مني بين رؤى تتزاحم.
أجدني أغادر الفراش، أود لو أعود للنوم، أمشي على طرفي قدمي، وأكون لمحت عيني امرأتي مفتوحتين تنظران نحوي.
أتربع فوق البوفيه الملاصق للنافذة. أفتحها. يأتيني الهواء منعشاً. عتمة رقيقة مازالت تخفي معالم الأشياء. ندى خفيف يلمس ذراعي الممدودة للخارج، بخار يتصاعد. يحلق فوق البيوت. سحابة صغيرة منه تتجه ناحيتي. تنساب في ليونة وتدخل من النافذة. تذكرني بالحمامة الصغيرة تلتقط الحب من فمي. لا أدرى السحابة في الحجرة، أحس بها تحيطني. ملمسها يضحكني. أرى شلبي وقد انشقت عنه العتمة. رافعاً رأسه نحوي. ربما كان حلماً. أكلمه في صوت خافت ولا يرد. يلبس بدلته الميري، ينظر خلفه، وألمح كلباً يعبر الشارع.
* * *
كتب للمؤلف
(أ) مجموعات قصصية
| 1ـ |
الكبار والصغار |
عام 1967 |
| 2ـ |
حديث من الطابق الثالث |
عام 1970 |
| 3ـ |
أحلام رجال قصار العمر |
عام 1984 |
| 4ـ |
هذا ما كان |
عام 1988 |
| 5ـ |
منحنى النهر |
عام 1992 |
| 6ـ |
ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً |
عام 1993 |
| 7ـ |
ساعة مغرب |
عام 1996 |
| 8ـ |
محابيس |
عام 2002 |
| 9ـ |
الشرطي يلهو قليلاً |
عام 2003 |
(ب) روايات
| 1ـ |
التاجر والنقاش |
عام 1976 |
هيئة الكتاب |
| 2ـ |
المقهى الزجاجي |
عام 1979 |
هيئة الكتاب |
| 3ـ |
الأيام الصعبة |
عام 1979 |
هيئة الكتاب |
| 4ـ |
بيوت وراء الأشجار |
عام 1993 |
الآداب |
| 5ـ |
صخب البحيرة |
عام 1994 |
هيئة قصور الثقافة بالقاهرة |
| 6ـ |
أصوات الليل |
عام 1998 |
دار الهلال |
| 7ـ |
ويأتي القطار |
عام 1999 |
دار الهلال |
| 8ـ |
ليال أخرى |
عام 2000 |
الآداب |
| 9ـ |
فردوس |
عام 2007 |
الآداب |
| 10ـ |
أوراق العائلة |
عام 2003 |
دار الهلال |
| 11ـ |
الخالدية |
عام 2004 |
الآداب |
| 12ـ |
دق الطبول |
عام 2005 |
الآداب |
| 13ـ |
جوع |
عام 2007 |
الآداب |