(1) أفرك عيني
أفرك عيني، اذن جسر آللنبي حقيقة ماثلة، انما لا أرى جسرا،
أفرك عيني، الاحتلال الاسرائيلي حقيقة، انما الجنديات والجنود يبدون لي وكأنهم كشافة.
ترتاح عيني. وأنا أرى الجندية تمنح أستر فرويد ابتسامة واسعة معلقة: كم هو اسمك جميل.
ترتاح عيني، وأنا أمام الجندية التي سألتني بكل أدب عن أسمي ومكان ولادتي،
أحملق بعيني، والجندية تضيف، هل تحملين سلاحا؟ هل أحد منكم يحمل سلاحا؟
ترتاح عيني، وهي تعيد لي جواز سفري البريطاني.
نفرك أعيننا جميعا، نحن كتاب العالم، وننتظر لمدة أربع ساعات اطلالة الشاعرتين الفلسطينتين: سهير حماد وناتالي حنضل ريثما يسمح لهما بالدخول، حتى يكتمل جمعنا ونشترك معا في أول مهرجان للأدب في القدس، رام الله، بيت لحم.
* * *
نسأل: هل معقول أن جواز السفر الامريكي يشكل علامة استفهام هنا؟
نسمع: فقط عندما يكون حامله من أصل فلسطيني!
او من مواليد فلسطين كما هي حال سهير وناتالي.
عند الحاجز باب دوار يطبق قضبان حديده على أضلعنا وصدور امتعتنا، يدور وندور معه وكأننا قطعة من اللبان في فك عزرائيل، يعلكنا، يعلكنا ثم يلفظنا فننحني له شاكرين.
أم ترى أنه يبقينا بين أسنانه وسقف حلقه.
(2) القدس
نصل الى مدينة القدس،
القدس لا "جيروساليم" كما تشير علامات الطريق باللغة العربية.
"جيروساليم ... جيروساليم" ونحن على بعد عشرات الكيلومترات منها الى أن نصلها.
الحرم الشريف، المسجد الآقصى، قبة الصخرة، كنيسة القيامة، حائط المبكى، مؤمنون، متدينون، اصوليون، متطرفون من كافة انحاء العالم باستثناء البلدان العربية، من جميع الاديان والمذاهب والاله واحد، مؤمنون، متدينون، اصوليون متطرفون يصلون، يتضرعون كل على نهج دينه والاله واحد، تهدجات، ابتهالات، تشنجات المرأة الافريقية التي ترفض فض عناقها للبلاطة التي ازاحها المسيح عن صدره وصعد الى السماء، العين التي تشهق وهي وجها لوجه أمام صخرة النبي محمد، والروؤس تتقدم وتبتعد وتهتز بحركات آلية عند حائط المبكى.
مؤمنون، متدينون، اصوليون، متطرفون،
يتفقون جميعهم رغم اختلاف أديانهم وصلواتهم
على حياة أفضل في العالم الآخر.
والجنود الاسرائيليون هنا وهناك
بين المؤمنين، أمامهم خلفهم.
* * *
عند سور القدس القديم نقف،
أمامنا جبل الزيتون، والكاتدرائية الروسية،
قبور المسلمين، و المسيحين واليهود،
مستوطنات تمتد وتعلو
وكأنها تواليل تنمو على وجه جميل.
أنفاق تربط المستوطنين بالجامعة العبرية،
حفريات تنقب عن أثار هيكل هيرودس
ممولوها من الاميركيين،
يلعبون لعبة المونوبولي،
ينثرون اموالهم كمن يرمي قلبه ويعدو خلفه
من أجل بناء الهيكل الثالث
الحفر والنخر لا يتوقفان باتجاه الاقصى، حتى عندما تناهى الى اسماعهم صوت التاريخ مستاءا، محذرا، ألا يعبثوا به بل ليدعوه وشأنه. مذكرا، بأن القرون توالت على القدس وولت، وولى معها الداخلون اليها والخارجون منها: الكنعانيون، بنو اسرائيل، البابليون، الرومان، البيزنطيون، العرب، الصليبيون، المغول والتتر، العثمانيون و.....
(3) الجدار الفاصل
قال الجدار الفاصل: ضجرت من كرهكم لي،
رد الفلسطينيون: أنت تمنع، تفصل، تظلم، تشل حركتنا، اقتصادنا، من غير أن تنطق بكلمة!
قال الجدار الفاصل: وظيفتي كفزاعة الحقول، لا أكثر ولا أقل، التي تبعد العصافير عن الثمار والزرع،
رد الفلسطينيون: فزاعة تأكل أراضينا وتبلعها، لا نعرف لماذا لم ترتفع فوق أراضيهم؟
قال الجدار الفاصل: لكن .. لأنه .. لـ ..
رد الفلسطينيون: طبعا سينعقد لسانك .. يعني اذا اشتهى المرء تفاحة سرقها وأكلها؟
قال الجدار الفاصل: لكنكم تلتقطون الصور الى جانبي.
رد الفلسطينيون: حتى نستعظم نسبة ارتفاعك أنت، وكم نبدو نحن اقزاما امامك ..
قال الجدار الفاصل: وهو يشير اليّ: لكن هذه المرأة تعانقني،
رد الفلسطينيون: أنها تعانق رسم ليلى خالد، تشتاق اليها
كانتا معا في مدرسة داخلية في لبنان.
قال الجدار الفاصل: لماذا لا تعترفون بأني أصبحت نصبا تاريخيا
رد الفلسطينيون: بل كسيف المقصلة!
(4) رام اللــه
طار الببغاء من الشباك المفتوح حط على صخرة قريبة ونادى:
ليـّانه، صديقتي ليـّانه،
لا أصدق انه رفع حظر التجول،
لا أصدق انك فتحت النوافذ،
تعالي نلعب في الهواء الطلق، كما كنا نلعب بين جدران البيت، تلاحقينني والحق بك،
طار الببغاء محلقا من جديد، حام حول نفسه غير مصدق،
النور ... ، العصافير والحياة ..
رأى ليانه ما تزال واقفة،
ماذا حدث؟ لم لا تلحقين بي
وتمدين لي يدك، فأحط عليها كعادتي ..؟
هل اعتدت على العتمة؟ على السجن؟
رجته ليانه أن يعود:
مسمار كبير غرز في قدمي، وثبتني في الارض،
قلبي حفظ غيبا موقع الجنود والابراج وبنادق القنص
اذا خطوت خطوة واحدة اليك، رشتني الرصاصات ..
لكن الببغاء مضى يرفرف بجناحيه يطير ويحط ..
صاحت ليانه وهي تلف حول نفسها ..
يا آلهي ماذا أفعل؟
يا آلهي ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟
أعرف اني لن أتحمل رؤية القفص فارغا منك
ولا العيش في البيت من دون صوتك، ومن غير حركتك ...
آلهي، لماذا ليس بوسعي أن أفعل شيئا،
كأن الببغاء فهم سر تخاذل صديقته
فطار وابتعد، حلق عاليا واختفى.
(5) الخليــل
(فقرة بيضـــــــــــــــاء )
لقد تركت فقرة بيضاء كالكفن على هذه الصفحة.
فقرة بيضاء لا حياة لها،
توازي الصمت المميت في الخليل القديمة،
فقط، يد طفلة محيية خلف الشرفة المسيجة
أكدت لنا أننا لسنا في استديوهات " برامونت " و " ام.جي.ام "
نعاين بلدة أقيمت من أجل فيلم يدور حول كاوبوي ولصوص،
مكانا هجره الممثلون والتقنيون وعلى رأسهم المخرج،
بل نحن في الخليل القديمة، حيث كانت فيما مضى،
تعج بالمغادرين والقادمين،
وبالحياة، بالحدائق، بالدكاكين
بالاسواق، بالمشترين والبائعين،
والشاهد هذه المحمصة المهجورة،
وشركة التميمي التجارية الزراعية المقفلة.
كانت الخليل القديمة فيما مضى تسمع الزغاريد والاغاني في الاعراس
والدليل تلك اليافطة المتدلية، المتأرجحة تحمل اسم دكانها زلوم لعلب الافراح
نسمعها تخبط ببابه المهجور مستنجدة
أريحوني، فقد تم شنقي منذ ساعة الاحتلال.
نكمل سيرنا في مدينة الاشباح ولا نتوقف
الا عندما نرى فوق روؤسنا شباكا
لم تمتد عليها اغصان شجرة ياسمين
بل قاذورات ونفايات رمى بها المستوطنون تحية ود لأهالي الخليل.
(فقرة بيضـــــــــــاء)
فقرة بيضاء أتركها عمدا
لتوازي الصمت المميت في الخليل حيث يدخل البعض بيوتهم من نوافذها
تماما كما حدث في تلك البلدة اليونانية التي حظر على أهاليها المصابين بداء البرص
الرجوع الى منازلهم وامكنتهم.
والخليل القديمة موبوءة حتما
لا بداء البرص،
بل بداء الاحتلال،
الذي أوصد ابواب منازلها
كي يعيش مئتا مستوطن
بالامن والرغد وسط اهالي الخليل
حتى اذا ما مارسوا رياضة "الجوكنغ" المفضلة،
أسرعوا في الركض من غير أن ترمش أجفانهم ولو مرة
كما هو في حال المستوطنون الثلاثة الذين نراهم
يركضون في الطرق والازقة القديمة
في الشورت والتي ـ شيرت والتنس شوز،
تماما كما لو أنهم ما زالوا في نيويورك أو فلوريدا
بفرق واحد بسيط .. أحدهم يركض والسلاح بيده بدل قنينة الماء ..
(6) المستوطنات
بين الطرق والمدى
بين الفكر والصمت
نرى أبنية بيضاء كثيرة
نبتت فوق التلال والربى
كنبات الفطر،
نبتت، لا بمحض صدفة
ولا من جراء سر يحدث بين المطر والتربة
بل لان الارض اختطفت وهي في مكانها
واقتلعت اشجارها من جذورها
ونبشت صخورها من بطون امهاتها.
بنايات بيضاء تدعى بالمستوطنات
تطل على القرى الفلسطينية القابعة عند اقدامها
متداعية من جراء اهمال الاحتلال لها
وتهالك سكانها من الغضب والآسى والظلم
تحت أعين المستوطنات التي تطل وتراقب،
تحت مياه مجاريرها التي تحرق الزرع والشجر،
نرى هذه المستوطنات
من نافذة الفندق، ومن شباك الباص
بين رام الله والقدس
بين بيت جالا وبيت لحم
في هذه الجهة، من تلك الجهة، في جميع الجهات
هنا وهناك، هناك وهنا
حتى التصقت بأعيننا كيفما استدرنا، كيفما اطرقنا،
حتى لم نعد نرى سواها،
لذلك عندما دخلت علينا الشمس الحارقة في الباص
ووزعت علينا قناني الماء الباردة
شربنا ولم يرو عطشنا،
شربنا ولم يسر في مريء كل منا سوى الحامض والاسيد
صحت عندئذ بزميلتنا ساقية الماء ..
يا أهداف، اعطنا حبة منعا لارتفاع الضغط
وواحدة منعا لانقباض الصدر
حبة اخيرة، لربما خدرت شرايين العين.
(7) لم يصدق السلك الشائك
لم يُصدّق السلك الشائك أني اخطو فوقه
فتكمش بملابسي يحذرني
لم تصدق الكلاب أننا فعلا أصبحنا خلفه
فنبحت وهاجت وماجت ونادت الجندي،
لم يصدق الجندي أننا صعدنا الربوة
حيث الجند والدبابة والمدفعية والكاميرات والقناصون
ماذا تفعلان هنا؟ ماذا؟ تقصدان الفندق؟
من أنتما؟ دعوني ارى جواز سفر كل منكما ..
يعيد الى استر فرويد جواز سفرها،
لماذا ورقة دخولك لا تحوي الدمغة؟
أجيبه بلا مبالاة مقصودة،
نسيت الجندية أن تدمغ لي استمارة الدخول !
من أين أتيتما؟ كيف تخطيتما السلك الشائك؟
لقد ارتكزت بيدي على أستر وعبرته بكل خفة،
ثم ساعدتها بدوري فتخطته وكأنها راقصة باليه.
ماذا؟ عبرتما الاسلاك الشائكة قاصدتين الفندق؟
قيل لنا أن نصعد ونأخذ عدة درجات من عن يميننا،
لم نر الدرجات بل هذه الربوة الوديعة
سرنا اليها، فوقنا ازرقاق السماء، وحنان الشمس
تحت قدمي انا بالذات، زهر البابونج كما في لبنان،
يذكرني بجدتي وهي تشتمه قبل أن تقتلعه
ثم رأينا طريقا واسعة، رحبت بطمأنيتنا، ولهفتنا ونحن نتسامر عن الكتب، عن رواية أستر الاخيرة، عن احلامها، عن تربية الاولاد، عن الصديقتين دونا والكسندرا.
يدعنا الجندي نمضي بعد أن قال مؤنبا
"كان من الممكن ان ترميا بالرصاص"
نسير نحن الساذجتان في ذهول
نراجع خطورة تهورنا عن غير قصد،
تقول أستر: هل سمعت ما قاله الجندي الفلسطيني
كان من الممكن أن نرمى بالرصاص !
أجيب: قصدك الجندي الاسرائيلي،
زلة لسانك يا عزيزتي أستر
تفسر سر هفوتنا الخطيرة
اذ كيف يصدق المنطق
ان الاحتلال الاسرائيلي يتمركز حتى هنا.
بين البيوت، والمرجوحة في الحديقة،
حيث الفندق، حيث النسيم اللطيف؟
(8) بيت لحـــم
أسير فوق البلاط الذي حبا عليه زوجي فؤاد
أتلمس حديد الدرج الاسود المخرم
لا بد أنه تكمش به وهو يخطو بقدميه الصغيرتين خطواته القلقة،
غير مصدق أنه يوما ما
سيصعد درجتين مرة واحدة
وينزل ربما ثلاثة
أجول في البيت ذاته
وأتنفس حيث تنفس، وأرى صالة الجلوس اياها
ذات البلاط المربع بالاسود والابيض.
حيث جلس والده الطبيب في كانون الاول سنة 1947
يخط رسالة إلى شقيقته ميليا في لبنان،
يسأل خاطرها ويطمئنها انه لا خطر عليهم حتى الان من الصهاينه.
أسأل صاحب البيت الحالي عن البوابة الحديدية الكبيرة السوداء
فأراها تتصدر الرواق في الطابق الارضي بعد أن دهنت باللون الرمادي ..
أرى النافذة المطلة على الشارع
ومع ذلك لا أسمع صوت أسمهان يشدو
"دخلت مرة الجنينة أشم ريحة الزهور"
حتى أستأنس بها، كما أستأنس فوأد كلما سمعها
عند العصر، وبيت لحم تغرق في كسل ناعم،
أرى موقع المقهى الذي تحول الى صالون حلاقة
والطريق التي أخذها فؤاد الى مدرسته،
لكني لا أجد تلك التلة
ذات التراب الابيض كالطبشور
التي كانت تلون ركبتيه بلون الطحين،
أدخل كنيسة المهد، حيث لعب ورفاقة "لعبة الغميضة"
بين الشموع والظلال والمصلين
الى ان علا صوت الخوري: "يللا يا ولد"
أرى فوأد، ابن التاسعة وهو يغادر بيت لحم
هو وأمه وشقيقتاه واللوحة الزيتية اياها
لأم وابنتها، تجلسان على الشاطيء
الام تنظر الى البحر الازرق
والبنت مستلقية تتأمل في السماء،
يهاجر فؤاد من بيت لحم وفي خاطره صور كثيرة
آخرها، صورة والده الطبيب
يلفه بالضماد والقطن كجريح
أمام الممرضات وهن يتلقين دروسا في الاسعاف
حيث كانت تدور معارك بين الفلسطينين والصهاينة.
ولم يدر بخلد فؤاد أن والده الطبيب هو الذي سيخر على الارض بعد أسابيع
مضرجا بدمائه، صريع رصاص الصهاينة
أرى فؤاد وهو يلقي نظرة أخيرة على بيت لحم
حيث اقف الان، حيث أتنهد، حيث أسمع أسمهان.
(9) فلسطيــــن
كنا في رام الله،
نقف معا على أعلى هضبة
نتأمل بفلسطين 48
لم أفكر يوما أن ليّـانة تطير،
لا من الفرح بل من الحنين،
وامتدت فلسطين أمامنا
شرنقة من حرير
فيها الساحل والبحر والمدن والقرى
والغبش لم يكن من انفاس الرطوبة
ولا من دموع البخار
بل من جرح أبدي لا يلتئم
ينز بالدماء والصديد
منذ أن فصل الاحتلال القلب عن الرئة
وبتر الكف عن اليد،
والبؤبؤ عن العين
لم أفكر يوما أن بوسع ليّـانة الطيران
كما هي تفعل بجانبي الان
لا من الفرح بل من التمني.
لأن تعلو وتهبط في فلسطين 48
ها هي تتمشى في شوارعها
تتسكع في مقاهيها،
تسبح في بحرها
تزور الاصدقاء والأقارب
تشتري فستانا وأحمر شفاه
تتمرغ في اسفلتها وتربتها
قبل أن تقلع وتعلو
وتحط على الهضبة قربي من جديد.