رحل عن عالمنا الشهر الماضي هذا الناقد الذي لم يحظ بما يستحق من اهتمام، ومن خلال كتابة الشاعر المصري عنه التي يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي في مزيج بديع نتعرف على بعض مواقفه وإنجازاته.

سامي خشبة المبدع الذي لم يهادن

يجب نفض الغبار عن أعماله

عبدالمنعم رمضان

نمشي وراء الموت كأننا أشجار بلا جذور، كأننا ورق، كأننا صدى، وتمشي أمامنا أفواج من محبوبين ومحبوبات ذهبوا عنا. هل يمكن أن ننساهم؟ هل يمكن أن ننسى بينهم دريني خشبة، الذي أشعل النور في عمره كله، ليضيء طريقنا إلى عالم المسرح؟ ألّف وترجم ودرس وكذا فعل مثله صديقه عبدالحليم البشلاوي، وأشرفا معاً على سلسلة مسرحية كانت تنشرها دار «مكتبة مصر»، وهي الدار ذاتها التي كانت تنشر أعمال نجيب محفوظ قبل أن يضلله عملاء الدار الآخرة، وينقلوه إليها. ولما تزوج كلاهما، دريني وعبدالحليم، وأنجبا، شاء ابن الأول أن يقترن بابنة الثاني، فصنعا ثنائياً عرفناه جميعاً، سامي خشبة وخيرية البشلاوي. أربع مرات فقط، قابلت سامي وتكلمت معه، هذا ما أذكره، غير بعض المهاتفات. قبل ذلك كنت أعرفه بكتاباته، ببعض محاولاته الشعرية القليلة التي نشرتها له مجلة «شعر» المصرية، وهي غير مجلة الشعر اللبنانية، حيث الخلط بينهما معصية، فالأولى أكثر محافظة وأدنى قيمة، والثانية هبّة ثورة أو هبّة تمرد. مجلة «الشعر» المصرية كانت تصدر في الستينات، ويرأس تحريرها عبدالقادر القط. لم تعجبني محاولات سامي الشعرية، وأظنها لم تعجبه، لأنه توقف، مثله فعل كل نقادنا، ومثله أخفقوا، منذ طه حسين والعقاد وصولاً إلى عز الدين إسماعيل وأحمد كمال زكي وأحمد درويش ومحمود الربيعي وآخرين من جيلنا. فالشعراء إما أرض وسماء وإما مطية، والنقاد يألفون المطايا، ويميلون إليها أكثر.

أربع مرات، قبل ذلك كنت أعرفه بترجماته، أيام ازدهار دار «الآداب» البيروتية سقى الله أيامها وأيامنا. كانت الدار بمشروعها القومي والوجودي حريصة على نشر ما يكتبه الفرنسيان جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، ثم أصبحت حريصة على نشر ما يكتبه الانكليزي كولن ويلسون، وكان سامي خشبة أحد أهم من شاركوا في نقله إلى العربية. نذكر «إله المتاهة»، «رحلة نحو البداية»، «الإنسان وقواه الخفية»، «القفص الزجاجي»، «الحالم». وكنا نحن الذين نتكون في رحم غامض، المزحومين بقلقنا، وغرائزنا، وما يحيطنا من أحداث، المزحومين بالمادية الجدلية والمادية التاريخية، بماركس وانغلز، بلينين وتروتسكي، بالأصالة والمعاصرة، بالصوفية والوجودية... كنا توقفنا لنراقب ما يفعله كولن ويلسون، لهثنا بعض الوقت خلف خطواته. عكفنا على كتبه الأخرى التي انشأها في ما قبل وفي ما بعد، «اللا ـ منتمي»، ما بعد «اللا ـ منتمي»، «الشعر والصوفية»، «سقوط الحضارة»، «ضياع في سوهو»، «أصول الدافع الجنسي»، «الشك»، وكلها نشرتها دار الآداب، بترجمات لأنيس زكي حسن، وفاروق محمد يوسف، وعمر الديراوي، وعمر يمق. وقد أنصفت الدار عندما اختصت سامي خشبة بين مترجمي ويلسون، بأن وضعت اسمه على الغلاف الخارجي كعلامة جودة ثقافية، تتقاسم مع اسم المؤلف دلائل القيمة والأهمية. في مقدمته لكتاب «رحلة نحو البداية» يخبر سامي، أن ليس من الضروري أن ننظر إلى الترجمة الذاتية الذهنية التي كتبها كولن ويلسون باعتبارها كتاباً في الفلسفة، يضع فيه مقدمة لمذهبه الفلسفي، ويشرح فيه حياته كنموذج على ضوء هذه الفلسفة. لقد كان هذا نوعاً من الطموح لم ينجح ويلسون في تحقيقه لأسباب كثيرة. ومع هذا تظل للكتاب قيمة كبرى، أنه المادة الواقعية التي قد تساعدنا على فهم فلاسفة آخرين، والأهم من هذا أنها تساعدنا بالفعل على تصور واقع معاصر لنا، نحن في أشد الحاجة إلى فهمه.

هكذا كان سامي يحنو على كتبه ويتفق ويختلف معها، هكذا كان يحنو على قرائه ويرغب في أن ينفرد بهم. كلنا نذكر ترجمته لكتاب هربرت ريد «معنى الفن»، ونذكر كتاب جون جاسنر «المسرح في مفترق الطرق» وهو ما أتمنى لهيئة الكتاب في ظل كسادها المقيم أو مركز الترجمة أو أية جهة أن تنفض عنه التراب وتعيد نشره. وإذا كان سامي في أعوامه الأخيرة، قد دأب على أن يملأ كأسه، ويملأ كؤوسنا، بشراب لا يسكره، ولا يسكرنا، كله عن العولمة وما بعد الحداثة وعصور الانترنت والكومبيوتر والإنسان الآلي، فإنه كما أتصور فعل ذلك بقوة سلطان التجريد والشأن العام والبحث عن حاضر ومستقبل للإنسان على أرض لم تعد خشنة ولم تعد لينة، والبحث عن فعل وليس بقوة سلطان القلب والمحبة. لذا أتذكر أنه أغضبني ذات مرة، عندما قرأت له مقالة في مجلة «الطليعة» أيام لطفي الخولي، لأنه دار حول نفسه ولف حول كتابات يحيى حقي النقدية، ولما تعب، ارتاح ثم عاود الدوران واللف، ليتأكد له أولاً ولنا أخيراً أن يحيى حقي ناقد بلا منهج، انه ناقد انطباعي.

وها نحن بعد أن غلبنا وغلب علينا النقاد المدرسيون نحس أن أيام النقد الانطباعي كانت أيام عز، وكان الكتاب أصحاب أساليب، والكتابة صاحبة ذوق، فيما كتابات المدرسين وهم الكثرة الآن تحمل على ظهرها أكوام الفجاجة وعدم التعاطف. أصابتنا كلمة المنهج، وبدلاً من أن تكون الدواء أصبحت الداء. أكاد أشك في أن سامي خشبة قد امتلأ قبل وفاته بذلك الإحساس، أتخيل أحياناً أن السيدة خيرية البشلاوي، زوجته قبل أيام، وأرملته اليوم، كانت شاهداً على أهمية أن يشيع الذوق الخاص في ما نكتب، فكل مرة كنت اقرأ فيها ما تكتبه من نقد سينمائي في صحيفتي «الجمهورية»، و«المساء»، كنت أحس بالغبطة، هذه واحدة لا تغفل عن المعرفة ولا تغفلها المعرفة، ولا تغفل عن الانطباع والذوق، ولا يغفلها الانطباع والذوق.

أربع مرات قابلت سامي خشبة، وتكلمت معه، هذا ما أذكره، في أول الثمانينات، كانت مصر تخرج من حقبة السادات، وتسعى لأن تستعيد أماكن فقدتها، وبشراً انصرفوا عنها، تسعى أن تعتذر عن بعض ما فعله الرجل، من دون أن تتراجع عنه، كأن ليس في مقدورها أن تتراجع، وكان لا بد من أن تستعين برجال وديعين مقبولين. أيام ذاك رغبت المؤسسة الثقافية الرسمية، في سحب البساط من تحت أقدام مطبوعات الماستر، أو ما سمي بمطبوعات الفقراء، التي أصبحت بمثابة معارضة ثقافية، يسارية في الغالب، فكرت المؤسسة في ما تفعله، وبدأت بأن أنشأت مجلة شهرية سمتها «إبداع»، وجعلت عبدالقادر القط رئيساً لتحريرها، فيما يكون نائباه القاص سليمان فياض، والناقد سامي خشبة. ولما كنا نلتقي مع سليمان الذي كان يكبرنا عمراً وخبرة وطيبة في منزل الصديق المترجم والمذيع والقاص شوقي فهيم، فقط طلب منا ـ الشاعر أحمد طه وأنا ـ قصيدتين للمجلة التي توشك على الصدور، ثم أتانا بعد فترة ليبلغنا بأن عبدالقادر القط يريد أن يتعرف إلينا، ذهبنا إليه بملامحنا السبعينية، كانت أيامها ملامح جديدة: شعر أسود طويل هائش، حقيبة جلدية على الكتف فيها كتب وأوراق، بنطلون جينز، سيور فرعونية في القدمين بدلاً من الأحذية، وبعض الرقة وبعض الوقاحة.

في مكتب عبدالقادر القط، اجتمع عدد كبير: سامي خشبة، وسليمان فياض، وكتاب عرب خليجيون، رحب بنا القط، وفتش بين أوراقه، كنا نسمع صوت تفتيشه، ثم سحب بعض هذه الأوراق، تأملها ببطء ملموس، واتجه بوجهه وجسده ناحية أحمد طه وسأله: أستاذ أحمد، هل يمكن أن تقرأ لنا قصيدتك؟ أجابه أحمد: في الحقيقة أنا لا اقرأ البتة، فاستأذن القط. أتسمح لي أن اقرأها عنك؟ هز أحمد رأسه بالموافقة، فشرع في القراءة، بعد كل جملة يتوقف ويتساءل ويستغرب، ماذا تعني، وقبل أن يتم ثلاثة أسطر، اكتفى، وأزاح القصيدة جانباً. كنت أراقبه، فتش ثانية بين أوراقه، وسحب بعضها، واتجه نحوي: أستاذ عبدالمنعم، هل يمكن أن تقرأ لنا قصيدتك أم أنك مثل صاحبك؟ فأجبته: لست مثل صاحبي، ولكنني لن اقرأ، لأنك هنا لست أستاذاً في الجامعة، ولسنا تلاميذك، أنت رئيس تحرير، ونحن شعراء. ثم طلبت أوراقي وأردفت: لولا أن الأستاذ سليمان أبلغنا برغبتك في لقائنا لما أتينا. سمعت سليمان فياض ينفجر ويتبرأ منا ويقول: أنا لم أبلغكما شيئاً. أردفت ثانية: الأفضل لنا يا دكتور أن نعود إلى مقهانا (زهرة البستان) وإلى مجلاتنا الفقيرة.

في هذه اللحظة امتدت يد سامي خشبة وخطفت القصيدة مني، وتكلم كأنه يعرفني منذ زمن. كنت أراه للمرة الأولى، قال للقط: هذا شاعر جيد يا دكتور، وان كان عنيفاً. ثم انصرفنا أحمد طه وأنا. وفي العدد الأول من مجلة إبداع، كانت قصيدتي منشورة في شكل يدل على إصرار من سامي، وامتناع من القط. فهي آخر قصائد العدد، ومكافأتها كانت الأقل. أذكر أنني في تلك الفترة تقريباً أو بعدها بقليل، التقيت جابر عصفور في مجلة «فصول»، وعندما تعرف على اسمي، قال لي: خيّبك الله، أنت عبدالمنعم رمضان، يشكو منك القط، مع أنك وديع. وابتدأنا منذ ذلك الحين صداقة تعرضت على مدى عمرها لارتجاجات. المهم أنه في هذا اللقاء الأول مع سامي خشبة تسربت إلى قلبي صورته، وظلت مقيمة.

صحيح أن سامي خشبة ابتعد كثيراً، صحيح أن نقده التطبيقي غاب، إلا أنني لم أضبطه مره واحدة يستخف بالأدب ويتنازل ليكتب عما يشيع منه بسبب طابعه التجاري أو السوقي. أذكر أن أنور المعداوي في رسالة منه إلى سهيل إدريس أيام إعداده لأطروحته، كتب يلومه: أتريد أن تتحدث عن أناس أمثال يوسف جوهر وإبراهيم الورداني، لا نقيم لهم وزناً في مصر، لأنهم من قصاصي الشوارع. رحم الله أنور المعداوي وسهيل ادريس وسامي خشبة، وعوضنا برنا إدريس وخيرية البشلاوي. فإذا عزمت إحدى الجهات الثقافية على نشر كتب سامي، وعلى رأسها ترجمته للكتاب جون جاسنر (المسرح في مفترق الطرق) فإنني سأتمنى منها أن تجمع أيضاً ما كتبته السيدة خيرية البشلاوي من مقالات في السينما، وأن تنظمها في كتب نستمتع ونستفيد من قراءتها، لأننا لا بد من أن نقهر الموت مرتين، مرة بتمجيد من أخذهم منا، ومرة بتمجيد من نتمنى لهم أن يعيشوا طويلاً بيننا.

أيتها الحياة، هذه خيرية البشلاوي، أيها الموت، هذا سامي خشبة.


نقلا عن جريدة (الحياة) البيروتية.