وسط الخراب والجنون العربي في فلسطين يلجأ الشاعر الفلسطيني لنص شاعر مصري كي يرد له شيئا من التماسك والأمل، فيجد حقا أن الشعر خلاص من هذا الواقع الموبوء.

مسامرة الأولاد كي لا يناموا

نصر جميل شعث

في قراءة متواصلة، في قصائد شعراء الأحلام العربية الكبري، أتوقف عند ديوان خاصّ للشاعر محمد عفيفي مطر، قام بيت الشعر الفلسطيني بطباعته في العام 2005، احتفاءً بالشاعر وتكريمًا له. حمل الديوان عنوانًا رئيسيّا: صيد اليمام، وزاده هذا العنوان الإضافي: (مسامرة الأولاد كي لا يناموا). وإذا كانت هناك مِن أسئلةٍ يَحار القارئ في الإجابة عليها، في إثر جانبِ العنوان الإضافي، والذي يبدي حرص الشاعر علي إطالة المسامرة لخلق الجفوة بين الأولاد والنوم؛ فإنّ إحدي الإجابات العميقة أوّل ما سوف تتبدي كسؤالٍ مَركزي عن العلاقة بين صيد اليمام، في سهرات القارئ، وبين أوّل قصائد المجموعة بعنوان حجر الأجيال. ليسَ هذا وحسب، فلربما كانت الإجابة الأعمق هي العلاقة ذاتها التي تربطني الآن بـ صيد اليمام وحجر الأجيال، بوصفي قارئًا فلسطينيّاً أنتمي للجيل الذي دَرَج الدّارجون علي تسميته بجيل انتفاضة الحجارة الأولي 1987! وكان دعاني أحد الأصدقاء، من رام الله، قبل عامين، لأكتب مقالة عن الشاعر عفيفي مطر للعدد الخاصّ به في مجلة الشعراء الفلسطينية. لم أستطع أن أكتبَ، حينها، لأنّ الرغبة جاءت من خارجي. كما وألحّ عليّ صديق آخر أن أكتب، قائلاً لي: إذا نويتَ كتبتَ.. إسْهرْ ليلةً واحدةً وفي الصباح ستجد نفسَك انْجزتَ المقالة. حاولت أن أكتبَ، كتبتُ قرابةَ نصفِ صفحة بالقلم، بعد أنْ زوّدني الصديق بمجاميع الشاعر التي كنتُ قرأتها في سُبل وفترات متباعدة، في السابق. ولكني أعدمْتُ النصفَ صبيحة اليوم التالي، لأنّ محتوي النصف لم يكن صلبًا، فلا يمكن اتّخاذه حجرًا لبناء مقالة عن شاعر كمحمد عفيفي مطر، أو استعماله في صيد اليمام من تجربته.

وها أنا ذا، الآن، في إحدي سهراتي، في ليلة من ليالي قطاع غزة، أقرأ من باب الحنين للشعر الجميل، ومن باب الوقاية من الموت العبثي علي يد مجانين الشارع الفلسطيني.. أقرأ في صيد اليمام. إذ تمثّل مشاغبة الإهداء بحدّ ذاتها قمة التحدّي، فهي تستفزّ نزق القارئ، وتُحرّضُ علي السفر في اليقظة. حيث يكتب مربّي اليمام: إلي الطلائعِ الجديدةِ من الأبناءِ والأحفادْ: أطلِق أمامكمْ بعضَ اليمامِ الذي عشَّشَ في قلبي،

وأُغْريكم باصطياده..
حياةُ الأمة كلِّها هي آفاقُ طيرانه،
وأَمَلِي أن تُداوِرُوهُ بشباكِ الفهمِ الكادحِ
وسهامِ الذكاءِ اليقظِ المتوقِّد
هذا هو الرِّهانُ بيننا.. فأيُّنا سيخذلُ الآخرَ
ويهربُ من صعوبةِ الرهانْ؟!
أطلقْتُ رهاني وكلِّي ثقةٌ بأنَّكم أذكياءُ
جادّونَ لا يصعبُ عليكمْ صيد.
أمْ سيكونُ الخذْلانُ منكمْ باستسلامِ
الصيادينَ للتسليةِ والسهولة،
والتسليةُ والسهولةُ صيدٌ لا يكلِّفُ جهداً
ولا مشقَّة؟
لعلَّكمْ ستقولون:
ما لنا ولهذا الصيدِ في الآفاقِ العالية،
وما لهذا الشاعرِ لا يَضَعُ ما يريدنا
أن نصيدَ علي أطرافِ أصابعنا وفي
أكفِّ أيدينا؟!
هوَ رهانٌ بيننا إذن. فهيَّا اخْرجوا معي
إلي براحِ السَّهرِ الصعب
وبيننا الأفقُ الوسيعُ ليمامِ القراءةِ
الكادحةِ والذكاءِ النبيل.

وباعتباري قارئاً مُحبّا للقراءة، لا ناقدًا بالمعني العميق، أجتهد بتقديم قراءة أعترف مسبقاً بأنها متواضعة أمام إجمالي تجربة شعرية متعدّدة الاقتراحات الجماليّة تستحق التعمّق فيها. وليس بوارد، علي الأرجح، أن يدلفَ المرء، دفعة واحدة، في سهرة ممتدة حتي الصباح، لمكنونات تجربة شاعر كعفيفي مطر. لذا، أكتفي بالتركيز علي قراءة قصيدة حجر الأجيال والعلاقات والتحولات التي تُشكّلُ إيقاعات جانبٍ من السياق الدلالي في المجموعة.

فنتساءل بدئيًا: هل نحن أمام دعوة بدائية من الشاعر لـ صيد اليمام بـ الحجر؟ الإجابة علي سؤال كهذا، نجدها في العلاقة بين صيد اليمام في سهرات قارئ، وبين أولي القصائد حجر الأجيال.

وهي علاقة تبعث إلي إدراك وظيفة الحجر كأداة في أيادي الأولاد للرماية علي الطرائد والثوابت من الطير والحيوانات والشجر. لوهلة أولي، نَظنّ باحتمال النزعة العدوانية بحقّ الطبيعة. ولكنّ المفاجأة التي ستنجلي عن التحولاتٍ في الحجر واستعمالاته؛ ستتمثل في حركة الارتداد الخفيّة والعميقة للإجراءات، أي أننا نشهد ارتدادًا عكسيًا لاتجاه مسار العلاقة بين الحجر واليمام ـ علي صعيد الاستعمال والبناء البنيوي والمعنوي ـ من حجر صائد إلي حجر مُصطَاد! وعندما ندرك أو نتذكّر الحجرَ بوصفه جسدا مهزوما، فإنّ هذا الإدراك أو التذكر يطالبنا باسترجاع قصة ارتداد ذخائر البنادق العربية إلي صدور مستعمليها في أحد أعراس النكبة العربية! إذًا، في ظلّ فلسفة نكبة الاستعمال هذه، تنطلق دعوة شاعر للأجيال؛ لأجل صيد المعاني الكامنة في تحوّلات الحجر، وتحرير يَمام الذكاء للنجاة. فالقصيدة هي تحدّ ومسؤولية ثقيلة، لا ترِد في شكل إجراءات عمل مطلوبة، ولكنها أسئلة في العمق، يربطها الشاعر بمسيرة الحجر عبر رصده للتحولات الجوهرية والشكلية التي جرت وتجري عليه الآن.

يبدأ الشاعر القصيدة بمناداة حجر بعيد، في الذاكرة يعرفه، مَعرفة آمنة، حجرًا مأمونَ الجانب يبسط وجهَه علي عتبة العمر (الطفولة) والبيت. إنها معرفة شيء لذاته في مكانه. قبل أنْ تجري عليه ـ وعلي الأولاد الذين يخاطبهم الشاعر بالأجيال ـ التحولاتُ التي انطوَتْ علي سؤال الشاعر المتكرر لا للحجر هذه المرة، ولكن لصمت الحجر. ففي آخر مقطع من القصيدة يتساءل الشاعر:

هل صرختك الملساء الحبلي
تحملها عربات خراب مندفعة
ينقلها بناؤون لصوص من أعتاب البيت
لبناء السجن وتعلية الأسوار؟!
أم هذي الصرخة فجر فضاح مكتومْ
سيشعشع حين يدق الولد الآتي
ـ من ظلمات الغيب ـ
نواة المشمش والخروب؟!.

بينما في بداية القصيدة ساد الأمنُ العلاقةَ بين الحجر ولهْو الأولاد فوق العتبة؛ فكانوا في شمس طفولتهم وصباهم يصطادون فَراش الأحلام:

يا حجرًا أعرفه مذ كنت صغيرا ألهو
فوق العتبة.
وأدقّ عليك نواة المشمش والخروبْ
في المدخل../ كنت تنام عميقاً..
لا توقظك الشمس ولا
هرولة الأقدام.
كنا في شمس طفولتنا وصبانا
نصطاد فراش الأحلام.

ومن طريق ذلك، ينفتح مَعني دَقّ الولد ـ علي الحجر ـ نواةَ المشمش والخروب، بواسطة حجر مستعمل بقبضة اليد؛ ينفتح علي فِطرة النزوع للتعرّف علي الأِشياء وكشف كنهها، حيث سيكرّر الشاعر مساءلة الشيء/ الحجر في ذاته، خارج ثباته علي مكان. وذلك خلافًا لما بدأت به القصيدة من مخاطبة الحجر لذاته، في مكانه الذي رسخ، في وعي وذاكرة الشاعر، كمعرفة شكلية وحنينية. وعلي هذا النحو تأتي القصيدة اللاحقة بعنوان مناجم الجوهر، مباشرةً، بعد قصيدتنا الحالية حجر الأجيال التي نرصد فيها التصاعد المتوازي للفلسفة والثورة في القصيدة:

يا حجرًا أعرفه..
هل كنت الموسيقي المخبوءة في
شعر الشعراء
أم كنت نداء كونيًا يصّاعد من صمت الشهداء؟
أزمنة مرت..
كانت تنثرُ فضّتها ورمادَ
كهولتها في الشعر
ووهن الخطوة
والجسد المهزومْ.

وقد اختتم الشاعر القصيدة بصورة دقّ النواة في إشارة عميقة لا تؤخذ إلا بوصفها نشدانًا لنتيجة، من المستقبل. فالمسؤول عن تحقيق هذه النتيجة البطولية هو جمعُ الولد الآتي من ظلمات الغيب، المستقبل. لأجل ذلك، يُبدِي الشاعر حرصَه علي مسامرة الأولاد كي لا يناموا، وقد ختم قصيدة له بعنوان: سهرات العالم: بدعوة عامة في صيغة خاصة، وتقول: إسهر حتي تنجو. 


شاعر من فلسطين