في هذه القراءة النقدية لكتاب الشاعر المغربي المهدي أخريف، يضع الباحث يده على شوارد الشاعر النقدية ولمعاته الجمالية الثاوية طي هذه الفقاعات الحبرية، ويكشف عن طبيعة الناقد وحساسيته في وجدان هذا الشاعر المرموق.

لمعات نقدية بنكهة الشعر

في فقاعات المهدي أخريف الحبرية

محمد المسعودي

قد يضيق الشعر على الرغم من رحابته عن استيعاب ما يختلج في أعماق الشاعر فلا يجد له مفرا من العودة إلى دفء السرد أو لمعات النقد الوهاجة ليبوح من خلالهما ببعض دفقاته الوجدانية أو خطراته ورؤاه الشعرية. وفي هذا الأفق يمكن إدراج كتاب "فقاعات حبرية"(1) للشاعر المبدع المهدي أخريف. إن الكتاب يلفت نظر القارئ بما يحتويه من موضوعات تتصل بالشعر وبالشعراء والكتاب والمبدعين من جهة، وبما يحتويه من إشارات نقدية دالة تتصل برؤيا عميقة لشجون الشعر وشؤونه في علاقته بالحياة والوجود، من جهة ثانية. وهذه القراءة تضع اليد على شوارد الشاعر النقدية ولمعاته الجمالية الثاوية طي هذه الفقاعات الحبرية المهدوية.

إن أهم ما يلفت نظر القارئ لهذا الكتاب هو الحس النقدي الجمالي الذي يضبط إيقاعه على شعرية النظرة إلى الحياة والوجود وإلى الفن والأدب شعرا ونثرا. لا يقتصر الكتاب على حديث الشعر بل يمتد إلى حديث النثر، ولا يقف عند رصد علاقة المبدع بالأمكنة والأشياء، بل يمتد إلى رصد علاقة الذات بالغناء وبالمغنين وبغيره من الشعراء والمبدعين. وكل هذه الموضوعات والجوانب التي تشغل الكاتب/ الشاعر يلج إليها برؤى شعرية نافذة. حقا يجد القارئ نفسه يخوض غمار النقد والحكي في هذا الكتاب وهو يستحضر أن الكاتب شاعر متميز من شعراء المغرب، ولكن هذا لا يعد شرطا من شروط جنوح الكتابة النقدية إلى التوسل بلمعات الشعر وبروقه الخاطفة الفاتنة، فكم من شاعر يتحول إلى ناقد أكاديمي قُح حينما يتناول أعمال الآخرين أو يتناول قضايا تتصل بإبداعه وبنظرته إلى الوجود والحياة؛ ولكن المهدي أخريف يحافظ على حضور نكهة الشعر أثناء تعرضه للكتابة عن الآخرين وعن القضايا التي تشغله إبداعيا وإنسانيا.

يتحدث الكاتب عن "شعرية النافذة" و"نثرية الباب" مبرزا شعرية النافذة وبعدها الأنطولوجي، فإذا كانت الباب للاستعمال، فإن النافذة للحب. والنافذة ـ التي كتب الشاعر عنها مبكرا ـ يقول مبينا علاقتها الشعرية والوجودية به:

               هي مرقاة في آخرة الصيف 
               إذا السرو تعرى والخطاف تأبط أنثاه. (ص.15)

«إن النوافذ فَتَحت قصائد، وأثارت الوساوس والأحلام، وأرخت شهادات وكانت شهودا على مآسي» يقول الكاتب (ص.16)، ويقول أيضا: «إن النوافذ دائما موجودة حيث إمكانيات أن تَرى بدون أن تُرى... الأشياء ليست كما تراها تقول لك النوافذ، إن كنت ممن يحسنون النظر الصاغي». (ص.17) بهذه الشاكلة يمضي الكاتب مبينا علاقته بالنافذة وجوديا وإبداعيا، وبهذه الشاكلة يجعل من هذا الموضوع الأدبي النقدي ـ الذي يمكن مقاربته بلغة دقيقة صارمة تخضع إلى بلاغة التبويب والتفريع، أو تميل إلى الكشف عن الأبعاد الاجتماعية والنفسية والدلالية الأخرى الكامنة وراء النافذة ـ موضوعا شعريا بامتياز يتناوله في لغة شعرية صرفة تجعل القارئ يحس بأهمية النافذة في حياة الإنسان وفي الإبداع وتدفعه إلى التأمل في هذا الموضوع الأنطولوجي الجمالي الذي لم ينل حظه الكافي من العناية في الكتابة النقدية. وبهذه الطريقة التي تجعل لغة النقد تحفل ببلاغة الشعر، بل وعبر المزج بين النثر الشاعري والشعر ذاتِه عن طريق الاستشهاد بنصوص شعراء مختلفين يبين الناقد/ الشاعر جمالية الحديث عن النافذة والتفاعل مع أبعادها المختلفة في الشعر خاصة وفي الثقافة الإنسانية عامة.

وفي حديث المهدي أخريف عن محمد عبد الوهاب ونزار قباني ومحمد شكري وبدر شاكر السياب ومحمد الأشعري وعبد الله راجع وغيرهم من المبدعين والكتاب تجنح اللغة ويجنح النقد الأدبي معها إلى التوسل بنكهة الشعر ومذاقه في تواشج مع لغة السرد مما يمنح الحديث عن الموضوعات التي يثيرها الكاتب آفاق رؤيا شعرية واضحة. إن لغة الحنين والحلم والارتباط الوجداني، وإن التحليق في عوالم التخييل وأبهاء التأويل والتذوق الجمالي هي السمات الهامة التي تدمغ الكتابة النقدية/ النثرية في "فقاعات حبرية". يقول المهدي أخريف مصورا بداية شغفه بغناء محمد عبد الوهاب، مركزا على العلاقة الوجدانية التي ربطته بفن موسيقار الأجيال:

«في طفولتي الأولى، في أعالي زاوية مرنانس، حيث ولدت وأمضيت بضع سنوات، وحيث الطبيعة الجبلية الفاتنة: أشجار الزيتون والبرتقال، الكروم والدوالي، الأحراش والأجمات الكثيفة فوق الوادي الرقراق، وادي الناعورة، ثم منزلنا المقام على ربوة مظللة بخروبة هائلة جنب عين "سيدي مداح"، هناك تم لقائي الأول بمحمد عبد الوهاب من خلال إنصاتي لثلاث أسطوانات لا رابع لها، كانت تدار يوميا في باحة البيت الجبلي على "آلة غناء" مستعملة اقتناها الوالد من مدينة العرائش... كان صوت عبد الوهاب يرفرف بأدائه الذي لا يضاهى في أرجاء الخلاء ويطن صداه الحاني في جنبات "خندق الأجنة" بأغنيات: "يا شراعا وراء دجلة يجري" "أحب عيشة الحرية" "يا جارة الوادي" "من قد إيه كنا هنا"... أغنيات رافقتني إلى طفولتي الثانية في العرائش ثم إلى أصيلة». (ص.60).

يوقع النص على أوتار الحنين واسترجاع الذكرى في لغة شعرية سردية جلية. إن اللقاء بمحمد عبد الوهاب تم في حضن الصفاء والبهاء في قرية الشاعر الساحرة بأشجارها ودواليها وأحراشها، وإن صوت عبد الوهاب وهو يردد أغنياته الأربع المشار إليها كان يتداخل، ولا شك، بأصوات الطبيعة، حفيف الشجر وصوت ماء الوادي الرقراق. أليست كتابة النقد تقتضي بدورها بلاغة السرد وبهاء الشعر ليتمكن القارئ من الاقتراب من أحاسيس الشاعر/ الكاتب، ومن ثم إدراك مراميه النقدية التي يسوقها في لمعات خاطفة توحي بظلال معان خفية؟! بهذه الطريقة يتداخل ماء الشعر بماء النثر ليمنح الحديث عن المبدعين من مغنين وشعراء وروائيين نفسا شاعريا بينا في كتابة المهدي أخريف النقدية.

غير أن نقد المهدي أخريف لا يحلق دوما في الأعالي، ولا يظل حبيس الخيالي والشعري دائما، بل إنه يتفوق على النقاد المتمرسين والدارسين أثناء تناوله أعمال شعراء آخرين بلغته النقدية النافذة الصريحة والشفافة. إن حديثه عن شعر عبد الله راجع وبدر شاكر السياب أو عن حضور لوركا في الشعر العربي يبين عن مقدرة نقدية وكفاءة هائلة في تحليل النص الشعري والكشف عن أبعاده الفنية ورؤاه الشعرية الإنسانية. وفي هذه الحالة تميل الكتابة النقدية إلى توظيف لغة المباشرة والتقرير والإقناع إلى جانب النكهة الشعرية التي لمسنا ملامحها سابقا، بحيث يتحول النص النقدي عند المهدي أخريف إلى توليفة تجمع بين بلاغة الحجاج في دقتها وجنوحها إلى مخاطبة ذهن القارئ، وبين بلاغة التخييل التي ترمي إلى تحريك مشاعره وأحاسيسه. يقول المهدي أخريف محللا قصيدة "أياد كانت تسرق القمر" لعبد الله راجع:

«في النفس الثاني: "للزنابق أيضا أنيابها" نجد ما يشبه الومضات المتلاحقة بإيقاعها المدور على الخبب فالوافر فالخبب أخيرا... ومضات مشبعة برمزية مغلقة على غنائها تبدأ بالماء والزنبق لتحتوي رموز العشق والوطن ونكهة الذات عبر تداخل الضمائر وبروز السخرية التي تفضي إلى توليدات لغزية رامزة في نهاية المقطع الذي يتم التلاعب فيه بشخصية سلطانة. سلطانة العشق ذات الملمح الخرافي الشعبي وبشخصية الشكدالي الذي بعد أن أكد حضوره في النفس الأول يستمر في تعزيز مواقعه داخل بقية أنفاس القصيدة باعتباره رمزا قناعيا متنوع الدلالات نحته راجع من مرجعية محلية بدوية تذكر بالأقنعة المبتكرة في شعرنا العربي المعاصر». (ص.104)

هكذا يجنح هذا النص إلى لغة النقد الصريحة المنطقية التحليلية، إلى لغة الكشف عن دلالات المقطع الشعري وأبعاده الرمزية وطبيعة أقنعته، ويربط الناقد/ الشاعر المهدي أخريف كل هذه الأشياء بالمرجعية البدوية عند راجع، ويقارن بين أقنعة الشاعر المغربي عبد الله راجع وأقنعة شعراء عرب آخرين مثل سعدي يوسف والسياب وغيرهما. وهذا النص النقدي المستشهد به يأتي حلقة وسط دوائر نقدية تجمع بين بلاغة النقد المباشرة، وتحليق الشعر وتهويماته. وهذا الجمع بين الأمرين يجعل القارئ يُقبل على الكتاب في اندفاع نظرا إلى مخاطبته العقل والروح معا.

وقد تميزت لغة النقد في "فقاعات حبرية" عموما بخلوها من كثرة المصطلحات والمفاهيم النقدية، بحيث ركزت على الجوهري في تحليل النصوص، وعلى الموضوع المحوري إذا ما كان الأمر يتعلق بمقاربة موضوع من موضوعات الإبداع في علاقته بالوجود والحياة، كما جمعت بين الشعري والسردي إذا تعلق الأمر بالحديث عن المبدعين. وكتاب "فقاعات حبرية" يعكس قدرة الكاتب على السفر الدائم بين الشعر والنثر، والتخييل والإقناع في تواشج ووئام، وهذه سمة أساس لدى المبدعين الكبار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ المهدي أخريف، فقاعات حبرية، منشورات ليكسوس، 2003، والإحالة إلى صفحات الكتاب تتم داخل المتن بين قوسين.