هذه دراسة عن مسار القصيدة المغربية الحديثة منذ ظهورها وحتى الآن، سعى فيها الباحث المغربي إلى مقاربة هذا المسار من زاوية التعدد والخصوصية لإثارة جوانب من ممارسة الكتابة الشعرية الحديثة بالمغرب.

سؤال الخصوصية ومظاهر التعدد

في القصيدة المغربية الحديثة

حسن مخافي

( I )

لعل من الصعوبات التي تعترض الباحث في الشعر المغربي الحديث، أن هذا الشعر لم يؤرخ له بعد، على الرغم من المسافة الزمنية التي يغطيها والتراكم الكمي والنوعي الذي حققه على طول تلك المسافة. ذلك أن المحاولات التي عملت على مقاربة القصيدة المغربية الحديثة مقاربة وافية وشاملة، والتي تحسب على رؤوس الأصابع(1)، لم يكن همها بالدرجة الأولى ينحصر في إقامة بناء خطي لتطور القصيدة المغربية، بغية القبض على محطات التطور في مسارها الذي استغرق الآن أربعين سنة، وإنما كان هم تلك الدراسات ينصب بالأساس على دراسة المتن الشعري المغربي الحديث تحت ضغط الهاجس المنهجي، الذي يمنح الأسبقية لسبل المقاربة، ويضع وجهة النظر في المقام الثاني. وهكذا فإن ما يلاحظ على دراستي الأستاذين الشاعرين محمد بنيس وعبد الله راجع(2) الذين لهما فضل الريادة في هذا الباب هو غياب الحس التاريخي بالمعنى الكرونولوجي للكلمة(3). الشيء الذي يجعل القارئ يخرج من قراءة دراستيهما دون أن يتاح له الوقوف على ملامح اللحظات الحاسمة في تطور القصيدة المغربية الحديثة ولا على علاقات التأثر والتأثير بين الشعراء المغاربة وأقرانهم في أقطار العالم العربي، أو حتى بين الشعراء المغاربة أنفسهم، عدا ما تركته قراءاتهم للشعر الغربي وللشعر الفرنسي تحديدا من ظلال على من كان منهم يتقن اللغة الفرنسية.

إن غياب دراسات تنحو هذا المنحى يجعل الحديث عن اتجاهات القصيدة المغربية الحديثة أمرا في غاية الصعوبة. وهو ما أدى بكثير من الدارسين إلى اعتماد مقاييس عامة، تأخذ بعين الاعتبار الحساسية الشعرية المهيمنة على مرحلة ما وإقصاء الحساسيات الأخرى، على أهميتها. وهذا ما يفسر أن الدراسات التي انكبت على مقاربة القصيدة المغربية الحديثة، تقفز على أسماء لعبت دورا في صياغة مفهوم حداثة القصيدة المغربية، ولكن إحجامها لسبب أو آخر، عن مسايرة الاتجاه المهيمن، غيبها عن النشر، مما جعلها تعتزل كتابة الشعر منذ وقت مبكر. فهل يمكن الادعاء والحالة هذه بأننا نمتلك معرفة دقيقة وشاملة بالشعر المغربي الحديث؟ إن الإجابة عن هذا السؤال يترتب عنها، دون شك، تحرز كبير أثناء كل حديث عن الحساسيات الشعرية التي وجهت القصيدة المغربية الحديثة منذ أربعين سنة، وهو العمر المفترض للقصيدة المغربية الحديثة. وفي غياب دراسات شافية لما يمكن أن نعبر عنه بعملية المحو والكتابة التي تبادلها الشعراء المغاربة، الذين أخذوا على عاتقهم تحديث القصيدة العربية بالمغرب، فإن مثل ذلك الاحتراز يقتضي الكلام عن حساسيات، وليس عن اتجاهات بالمفهوم الذي تحدده نظريات الأدب.

على أن مفهوم الحساسية نفسه، الذي رمى به إدوار الخراط في حمأة النقد العربي الحديث عندما تحدث عما أسماه "الحساسية الجديدة" في الكتابة الروائية يفتقر إلى التدقيق اللازم لكي يكتسب إجرائيته المنهجية في مجال نقد الشعر خاصة. إذ بغض النظر عن غموض الحساسية وقابليتها للتمطيط والتوسيع، فإن صفة الجديدة لا تصلح لمقاربة العمل الإبداعي لارتباطها بالآني، بالمعنى الزمني للكلمة. تجنبا لهذه الإشكالات المنهجية فإن المداخلة الحالية تفضل الحديث عن أنماط الكتابة الشعرية في القصيدة المغربية الحديثة لأسباب تتعلق بالتدقيق المنهجي نفسه. ولا بد من الاعتراف مرة أخرى بأن غياب الدراسات التأريخية لتلك القصيدة هو الذي يدفع إلى استبعاد مفهوم "الاتجاه" على الرغم من اطراده وانسيابه في مجال النقد الأدبي. أما ما نقصده بأنماط الكتابة في هذا السياق، فيتمثل بالدرجة الأولى في محاولة القبض على الخصائص الكتابية العامة، وتصنيفها وفق تلك الخصائص. ولا ريب في أن هذه العملية المزدوجة، تخفي وراءها هدفا استراتيجيا، يرمي إلى الإجابة عن سؤالين، تزعم هذه المداخلة أنهما لم يطرحا بما يستحقانه من جدية وأهمية في الدراسات التي عملت على مقاربة المتن الشعري المغربي الحديث، وهما:

أولا: هل تمثل القصيدة المغربية الحديثة طيلة السنوات التي قطعتها امتدادا مغربيا، بما يعني ذلك من تفاعل بين النصوص الشعرية المغربية عبر الأجيال والأسماء؟ وبعبارة أخرى هل نعثر على ظلال رواد القصيدة المغربية الحديثة من الأسماء المعروفة، عند الشعراء الذين بدأوا النشر في الثمانينيات أو التسعينيات؟

ثانيا: هل يعتبر تطور القصيدة المغربية الحديثة خطيا، بالمعنى الذي يجعل إنجازات كل جيل تؤدي بشكل طبيعي إلى إنجازات الجيل الذي يلي؟ أم إن القصيدة المغربية تفاعلت مع التجارب العربية والعالمية أكثر مما نظرت إلى نفسها؟ وبكلمات أخرى، هل شكلت النماذج السابقة للقصيدة المغربية الحديثة إطارا مرجعيا للنماذج اللاحقة، أم إن مرجعيات عربية وعالمية هي التي وجهت عمل الشعراء المغاربة؟

لا شك في أن محاولة التعاطي لمثل التساؤلات السابقة تفرض دراسة أدق وأوفى من الدراسة الحالية، ولذلك فإنه من باب الادعاء الزعم بأن إجابات وافية عن تلك التساؤلات يمكن أن تتضمن في هذه الصفحات القليلة. ومع هذا كله فإن العمل على إثارة بعض أطراف تلك التساؤلات، من شأنه أن يثير شهية المناقشة والجدال في مسألة ما زالت تتميز بحساسية مفرطة، لأنها لا تنتمي إلى الماضي بقدر انتمائها إلى الحاضر والمستقبل. 

( II )

هناك ظاهرة تسترعي الانتباه، صاحبت البدايات الأولى للقصيدة المغربية، تتمثل في أن "الجدل العروضي" الذي رافق اكتشاف القصيدة الحديثة بالمشرق العربي، خاصة في العراق ومصر، لم يفرض نفسه بالحدة نفسها على الشعراء والنقاد المغاربة. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى التأخر النسبي لظهور القصيدة المغربية الحديثة. فإذا افترضنا أن الطلائع الأولى لتلك القصيدة بدأت تكشف عن نفسها بالمغرب في أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، فإن هذه الفترة عرفت حسما لما يمكن أن نسميه انتصارا للحداثة الشعرية في شرق العالم العربي. ولم يؤد هذا الانتصار فحسب، إلى رسوخ قدم قصيدة التفعيلة، بل إن تلك الفترة بالذات كانت فترة "تجريب" لنوع جديد من الكتابة الشعرية آنذاك، هو قصيدة النثر(4). ومعنى هذا أن الفترة عرفت تجاوزا للنقاش الأولي الذي هيمن على الساحة النقدية إلى حدود منتصف الخمسينيات، والذي قسم النقاد العرب كما هو معروف، إلى معسكرين: واحد يدافع عن القصيدة العمودية، والآخر ينتصر للقصيدة الحديثة. من هنا فإن مثل هذا النقاش كان ذا حدود معروفة عند المغاربة، بفضل المجلات المشرقية التي كانت تصل بانتظام إلى المغرب. ولهذا فإن أي سجال حول مشروعية القصيدة الحديثة في المغرب إبان تلك الفترة، لم يكن ليزيد عما كان متداولا في معركة المفاضلة بين القصيدة العمودية والقصيدة الحديثة. ومع هذا فإن المتتبع لما كتب في تلك الفترة لا يعدم أصواتا مغربية كانت تدور في فلك النقاش المذكور.

وهكذا فإن تجربة القصيدة العربية الحديثة في المشرق العربي، قد وفرت على الشعراء المغاربة تعب الدخول في التعريف الأولي بإنتاجهم الشعري الجديد، خاصة وأن من رواد القصيدة المغربية الحديثة من أتيح له الاحتكاك المباشر بالتجربة الشعرية الحديثة، بحكم مقامه في المشرق طلبا للعلم(5). وإذا أضفنا إلى هذا أن كل الشعراء المغاربة الذين أرسوا دعائم القصيدة العربية الحديثة بالمغرب، كانوا يكتبون القصيدة العمودية(6)، أدركنا أن الانحياز إلى الحداثة الشعرية كان اختيارا، بكل ما تعنيه الكلمة. وهذا ما يفسر عدم وقوف النقد المغربي في تلك الحقبة عند التفصيلات العروضية الدقيقة. والذهاب مباشرة إلى إثارة القضايا الكبرى من منظور ذلك الاختيار. وانطلاقا من فكرة الاختيار تلك فإن هناك ظاهرة ثانية تلفت انتباه المتتبع، صاحبت الخطوات الأولى للقصيدة المغربية الحديثة، وتتمثل في أن تلك القصيدة بما أنها نتيجة اختيار فكري وإيديولوجي، ووعي عميق بضرورة تقدم الشعر المغربي، لم تنطلق من اتجاه شعري واحد، بل إنها عبرت عن نفسها بأساليب ورؤى متعددة(7). ولا شك أن الشعراء المغاربة قد تأثروا قليلا أو كثيرا، عند انحيازهم لهذا الاختيار أو ذاك، بالتجارب الشعرية بالمشرق، ولكن هذا التأثر كان محدودا في الزمان من جهة، ولم يكن من جهة ثانية، ينسي الشاعر المغربي خصوصيته التي يعمل من خلالها على إبراز شخصيته الإبداعية، التي تستفيد من الآخرين دون الذوبان في تجاربهم وتكرارها.

إن هذا يعني أن هاجس التميز الفكري والإبداعي للغرب الإسلامي الذي دافع عنه الأستاذ محمد عابد الجابري في "نقد العقل العربي"، سيعبر عن استمرارية في السياق الذي نناقشه، ولكن بشكل لا يصل إلى القول بالقطيعة، بل يحفظ للشاعر المغربي تميزه وشخصيته الإبداعية، دون أن يفقد فائدة التفاعل مع ما يكتب في المشرق العربي. وقد أدى هذا إلى أن القصيدة المغربية الحديثة، بالنظر إلى تلك الاعتبارات جميعها قد ولدت في ظل الاختلاف والتعدد. فمن يقرأ الشعراء أحمد المجاطي ومحمد السرغيني ومحمد الخمار الكنوني على سبيل المثال، إبان الفترة التي نقف عندها سيدرك أن كل واحد من هؤلاء الشعراء الثلاثة كان يمثل موقفا شعريا لوحده، على الرغم من التفافهم جميعا حول تحديث القصيدة الحديثة. وإذا كان النفس الرومانسي عنصرا مشتركا يطبع كتابات هؤلاء الشعراء، فإن في شعرهم اختلافا في اللغة والرؤيا. ذلك أن رومانسية أحمد المجاطي كان يكتنفها الإحساس بمرارة الواقع الاجتماعي والسياسي في المغرب والعالم العربي، ورومانسية محمد السرغيني كانت منذ ذلك الوقت ملفوفة بالغور في الذات بالمعنى الصوفي للعبارة. أما رومانسية محمد الخمار الكنوني فقد كانت تعبر عن معاناة ذاتية، ونزعة غنائية، على الرغم من أنها لا تخلو من التعبير عن هموم جماعية.

إن هذا الاختلاف في التوجه والاختيارات، سيلقي بظلاله على البناء الفني للقصيدة عند كل واحد من الشعراء المذكورين. وسينتج عنه اختلاف في اللغة، والصنعة الشعرية بصفة عامة. لقد كان من الممكن انطلاقا من هذه الإشارات العامة التي ينقصها التدقيق، أن يشكل كل واحد من أولئك الشعراء اتجاها شعريا ينمى ويترسخ، ويجد امتداده عبر السنوات والأجيال. إلا أن ما وقع للقصيدة المغربية الحديثة أنها قصيدة تفتقر إلى التواصل بين مبدعيها، وإلى الاستمرارية، بالمعنى الذي يجعلنا نقول على سبيل المثال إن هذا الشاعر أو ذاك، هو استمرار وتطوير لشاعر سبقه.

( III )

من المفيد أن نسجل أن الأحداث التي عرفها المغرب منذ بداية الستينيات، والتي وصلت أوجها بانتفاضة الدار البيضاء سنة 1965على الصعيد الوطني، وبهزيمة 1967 على الصعيد العربي، قد لعبت دورا بارزا في توجيه الأدب المغربي بصفة عامة، والقصيدة المغربية الحديثة بصفة خاصة. ذلك أن عنف الواقع سيجد طريقه إلى الشعر بما كان يسمى القصيدة الملتزمة، التي ترتبط ارتباطا مباشرا بالمرجعية الواقعية. فالزمان كان زمان صراع من أجل الجود، ومثل ذلك الصراع الذي اتخذ أشكالا مختلفة ومتنوعة من الشراسة والبطش، لا بد أن تستخدم فيه جميع الأسلحة ومنها سلاح الشعر. هكذا انشغل أغلب الشعراء المغاربة عن البحث عن قوالب جمالية تحت غطاء ما كان يسمى شعر القضية. وأدى هذا على مستوى الكتابة إلى هيمنة نمط واحد من القصائد، لا يقل عمودية عن القصيدة العمودية. فأصبحنا أمام قصيدة واحدة تكتب بصياغات متعددة، تتميز أساسا بلغتها المباشرة، وبنائها المترهل، ونزعتها الخطابية.

وإذا كانت القصيدة في المشرق قد بلغت أقصى حدود تجريبيتها إبان هذه الفترة، لا سيما في لبنان(8)، فإن القصيدة المغربية اكتفت بمواكبة الأحداث تحت ذريعة القول بقصيدة جماهيرية، تستجيب لإحساس الإنسان المغربي، وتدغدغ عواطفه وتلهب همته. من هنا باتت القصيدة المغربية الحديثة طيلة سنوات مشدودة إلى الواقع بالمعنى المبتذل للكلمة، وأصبحت الحداثة الشعرية في مفهومها تختزل في الثورة على نظام الشطرين، أي على مكون واحد من مكونات القصيدة الذي هو المكون الوزني. إن هذه الموجة العارمة من "الشعر الثوري" التي كانت تجتاح العالم العربي برمته، كانت مهمازا للشعراء العرب من أجل إعادة النظر في تجربة القصيدة الملتزمة، خاصة وأن كوكبة من رواد الحداثة الشعرية العربية، قد خرجت عن السرب بتبرئها من الالتزام في الشعر، باعتباره قيدا يحد من تدفق تجربة الشاعر ورؤاه(9). وهذا بالذات ما دفع الشاعر المغربي إلى البحث عن توازنات شعرية، تكرس البعد الثوري للقصيدة، وفي نفس الوقت تحفظ لها حدا أدنى من الشعرية، ففطن إلى خطورة ضياع الشعر في خضم الأحداث السياسية. ولقد تمظهر هذا الإحساس المرير في صورته الأولى في ثلاثة مظاهر:

ـ الأول تجلى في أن بعض الشعراء انقطعوا عن الكتابة، أو على الأقل، لم يعودوا ينشرون إنتاجهم الشعري(10). وأدى هذا إلى انسحاب أسماء شعرية كثيرة، بعضها ساهم في تأسيس حداثة القصيدة المغربية.

ـ المظهر الثاني، يتمثل في أن ذلك الإحساس قد ولد لدى الشاعر المغربي، رغبة جامحة في كتابة القصيدة وفق معايير جديدة. واتضحت صورة تلك الرغبة جلية من خلال التركيز على استغلال الإمكانيات العروضية التي يمنحها نظام التفعيلة من أجل تحقيق البناء العضوي للقصيدة، وكذا توظيف لغة تقوم على الإيحاء والإحالة. الإيحاء الذي تعبر عنه كثافة الصور الشعرية، والإحالة التي تعمد إلى توظيف الرمز عامة والرمز الأسطوري بصفة خاصة. ولعل البحث عن صوت مغربي متميز ضمن هذه الحركة متعددة الأبعاد، قد انعكس من خلال أسطرة بعض الأسماء التاريخية المغربية من أمثال عبد الكريم الخطابي، واستدعاء شخصيات خرافية تنتمي إلى التراث الشعبي المحلي.

ـ أما المظهر الثالث فيكمن في حفاظ بعض الشعراء على مسحة رومانسية في شعرهم، على الرغم من عنف الواقع. وأدى هذا إلى تكريس مساحة، مهما كانت ضيقة وخافتة، إلا أنها تجهر بصوت الذات وتجربتها، تحت طغيان صيغة الجماعة التي كانت القصيدة المغربية تتحدث بها.

ولكن الصورة الناصعة لذلك الإحساس الملح بأن قصيدة الالتزام بدأت تشي بأفق شعري مسدود، وأن الشاعر المغربي ينبغي أن يمتلك صوته الشعري المتميز والخاص، ضمن المشهد الشعري العربي العام، تتجلى في ما أصبح يعرف في تاريخ القصيدة المغربية الحديثة بالتجربة الكاليغرافية، التي تبنتها جماعة من الشعراء واحتضنتها مجلة "الثقافة الجديدة"(11). في النصف الثاني من سنوات السبعينيات. ولا يمكن فهم أبعاد هذه التجربة وخطورتها، إلا بالنظر إلى اعتبارين أساسيين: الاعتبار الأول أنها جاءت رد فعل على الجمود الذي كانت قد استقرت عليه القصيدة المغربية الحديثة في إطار سيادة نمط واحد من الكتابة الشعرية، بالمعنى الذي لا ينفي التغييب المطلق لأنماط أخرى. أما الاعتبار الثاني فإنه مكمل للأول ودال عليه. فإذا كانت القصيدة المغربية الحديثة في أصلها، من وحي التطور الشعري العام الذي عرفه الشعر العربي، فإنه بعد مضي وقت طويل على استكناه تلك التجربة العربية الحديثة وهضمها، أحس الشعراء المغاربة بأن الوقت قد حان لتشب القصيدة عن الطوق وتعكس الخصوصية الثقافية والجمالية التي تمتعت بها طيلة قرون طويلة، في الأندلس والمغرب الأقصى.

لقد سعت التجربة الكالغرافية إلى إثارة الانتباه إلى بعد آخر من أبعاد جمالية النص الشعري، وهو البعد البصري. وعلى الرغم من أن هذا البعد كان معروفا في الكتابة النثرية والشعرية العربية، منذ القديم، وخاصة في الكتابات ذات الطابع الديني والصوفي، إلا أن المتأمل للتجربة الشعرية لدى الشعراء الكالغرافيين، يحس بأنه أمام حركة واعية بضرورة توظيف العين في قراءة الشعر. مع أن هذا التوظيف ظل حاسما عند التفريق بين الشعر والنثر، خاصة إذا تعلق الأمر بالقصيدة العمودية. لا يتسع المجال للوقوف عند هذه التجربة بما تستحقه من دراسة وتمحيص، ولكن المحاولة الحالية تود الإلحاح على الأهمية القصوى التي تحتلها تلك التجربة، في سياق البحث عن ملامح الخصوصية في القصيدة المغربية الحديثة انطلاقا من ملاحظتين:

ـ فلقد وظفت التجربة الكاليغرافية الخط الأندلسي، دون أن تحظى أنواع الخطوط الأخرى بنفس الأهمية. وهو ما يؤكد ما سبق أن تمت الإشارة إليه من أن التجربة تعتبر وجها من وجوه الخصوصية الشعرية بالمغرب. هذه الملاحظة الأولى.

ـ أما الملاحظة الثانية فإنها تأكيد للأولى، ذلك أن الناظر في النصوص الشعرية التي تنضوي تحت عنوان هذه التجربة، تنم عن أشكال تحيل مباشرة على نمط المعمار المغربي والأندلسي، من خلال توظيف الأقواس والصوامع وهذا ما يدفع إلى الربط بين النسق المعماري، وبين نسق بناء القصيدة، التي تتخذ في غالب الأحيان شكلا مفتوحا أو دائريا.

وعلى الرغم من أن التجربة لم تعمر طويلا، لأنها كانت تفتقر إلى السند النظري الذي يمنحها المشروعية، باستثناء بعض بعض المحاولات التي سارت في هذا الاتجاه(12)، فإنها قد نجحت في إلقاء حجر في بركة القصيدة المغربية، التي كانت راكدة. فلقد أيقظت هذه التجربة في نفوس بعض الشعراء المغاربة والعرب، شهية إعادة الربط بين النص الشعري والتشكيل من زويا مختلفة(13). ومع ذلك فإنه يبدو لمتتبع هذه التجربة أنها كانت تتسم بالمثالية الفنية، إذا صح هذا التعبير، لأنها تقوم على افتراض وجود نوع من التطابق بين الخطاط والشاعر. وما دام التطابق مستحيلا، فإن القصيدة الكاليغرافية تغيب النص الأصلي لصالح النص المخطوط، وبذلك يتحول هذا الأخير إلى مجرد قراءة للنص الأول. مما يترتب عنه سوء تفاهم دائم بين الشاعر وبين الخطاط من جهة، وبين القصيدة والمخطوط من جهة ثانية، ولعل هذا هو الذي شكل عاملا إضافيا ساهم في استنفاد التجربة في فترة قصيرة.

( V )

إن التجربة الكاليغرافية التي استهلكت نفسها في زمن قياسي، لم تعد تقنع جيلا آخر من الشعراء، أغلبهم كان على اطلاع واسع على الشعر العالمي بلغاته الأصلية، وخاصة اللغة الإنجليزية واللغة الإسبانية بالإضافة إلى اللغة الفرنسية. ولكن الاطلاع على الشعر العالمي في نصوصه الأصلية ليس كافيا لمد الشعراء بنفس يطور القصيدة المغربية. فقد توالت على المغرب مع بداية الثمانينيات أحداث أفرزت جيلا من المثقفين يضع كل شيء موضع السؤال، والإشارة هنا إلى أحداث الدار البيضاء 81، وأحداث الشمال 84، والانتكاسات المتوالية التي عرفتها التجارب الديموقراطية منذ أواسط السبعينيات. ولكن الأحداث في حد ذاتها، مهما كانت عظيمة، لا تؤدي بطريقة آلية إلى تطوير القصيدة، خاصة وأن الشعر هو النوع الأكثر تأصيلا ضمن أنواع الكتابة الأدبية في المغرب والعالم العربي. ولكنها مع ذلك كانت مدعاة لطرح أسئلة جذرية وعميقة عن مسار القصيدة. وقد أفضت تلك الأسئلة إلى عودة مؤقتة لشعر الالتزام بصيغة تنحو إلى منح الأسبقية للشعر عن القضية. ولكن الوجه البارز لقلق الأسئلة سيؤدي إلى الركون إلى قصيدة النثر.

ليس هذا سياق مناقشة قصيدة النثر المغربية، وتكفي الإشارة خدمة للفكرة التي تدور حولها هذه المحاولة، إلى أن الشعراء المغاربة لم يمارسوا كتابة قصيدة النثر بشكل واع بركائز هذا النمط من الكتابة الشعرية إلا مع بداية الثمانينيات. هذا على الرغم من أن بعض الشعراء العرب كانوا قد كتبوا قصيدة النثر منذ أواخر الخمسينيات. هل يمكن رد هذا التأخر في اكتشاف قصيدة النثر إلى الطبيعة المحافظة للثقافة المغربية، كما يذهب إلى ذلك الشاعر محمد السرغيني في حوار متأخر(14)؟ لا شك أن قصيدة النثر قد جسدت، في جميع الحالات، مخرجا للأفق المسدود الذي وصلت إليه التجربة الكاليغرافية. وهذا ما يفسر أن أحد أبرز الشعراء الكاليغرافيين، هو الشاعر محمد بنيس كان من أوائل من كتبوا قصيدة النثر بالمغرب، وهي عبارة عن قصيدة معروفة ومتداولة نشرت في بداية الثمانينيات بمجلة "الكرمل" الفلسطينية (15). وفي المقابل فإن شاعرا آخر ممن مارسوا كتابة القصيدة الكاليغرافية وانتموا إلى تجربتها وهو المرحوم الشاعر عبد الله راجع(16)، وقف موقفا سلبيا من قصيدة النثر وكاد يخرجها من دائرة الشعر. وعلى الرغم من هذا التعارض في الموقف من قصيدة النثر، إلا أنها على عكس ما حدث في المشرق العربي، لم تثر نقاشا ساخنا بين المهتمين بالشعر المغربي. ولعل السبب قي ذلك يرجع إلى أن النقاد والشعراء المغاربة كانوا على اطلاع كامل على جوهر السجال الذي أثارته القصيدة في لبنان والعراق ومصر. ومن هنا تم استقبال قصيدة النثر بالمغرب، بطريقة توحي بأن الساحة الشعرية المغربية كانت تنتظرها، وكأنها قدر القصيدة العربية. وهكذا أصبحت القصيدة المغربية مطبوعة بالتعدد والتعايش بين قصيدة النثر والقصيدة الحديثة الموزونة.

وإذا كان هذا التعدد لا يفصح في حد ذاته عن أية خصوصية تميز القصيدة المغربية، فإن هذا الهاجس ظل يلازم الشعراء، سواء كانوا من أنصار الشعر الموزون أو من المتحمسين لقصيدة النثر. وقد عبر ذلك الهاجس عن نفسه من خلال ما يمكن أن نسميه فضاء القصيدة، عن طريق الحرص على ذكر الأمكنة والرجالات والطقوس الصوفية والاجتماعية المحلية. ولكن المظهر البارز لخصوصية القصيدة المغربية الحديثة في أيامنا هذه، يكشف عن ملامحه عن طريق السير وفق خطين متمفصلين:

ـ خط أفقي يقوم على رصد التفاصيل اليومية، وعلى قوة المشاهدة، والصور التلقائية. وهو طريق رسمه عدد من الشعراء لأنفسهم خارج الشعر العالم. ولا داعي إلى التذكير بأن البساطة التي يقوم عليها هذا النوع من الشعر هي بساطة خادعة إذ سرعان ما تفصح لغتها السهلة عن عوالم معقدة تروى من معين الفلسفات العالمية الكبرى(17) .

ـ وخط عمودي يرقى بالقصيدة إلى ملكوت الرؤيا ويسخر من أجل ذلك كل التجارب الرؤيوية، التي تعتبر الظاهر مدخلا للباطن. ولا شك أن هذا النزوع نحو تسجيل تجربة الشاعر، التي تكتسي هنا بعدا وجوديا، سيدفع إلى توظيف التراث والتراث الصوفي خاصة(18)

( IV )

لابد في الأخير من الاعتراف بأن ما سبقت إثارته من قضايا وأفكار هو مجرد رؤوس أقلام ما زالت بحاجة إلى التأمل والدراسة. وإذا كان لابد أن تنتهي المحاولة بخلاصات، فإنها تكتفي بتسجيل أمرين يبدوان في غاية الأهمية في السياق الذي ناقشنا من خلاله القصيدة المغربية الحديثة.

ـ أولا، إن المسار الذي قطعته القصيدة المغربية منذ بداية الستينيات إلى الآن يكشف عن غنى وتنوع التجربة المغربية التي حاولت الدراسة أن تدافع عن حضور هاجس الخصوصية فيها. ومع هذا فإن ذلك المسار تتخلله بياضات ناتجة عن علاقة النص الشعر المغربي بالنص العربي والنص الأجنبي. ويبدو من هذه الزاوية، أن الشعراء المغاربة لا يتواصلون فيما بينهم بطريقة تؤدي إلى تكوين مدرسة أو مدارس شعرية، بقدر ما يتفاعلون مع التجارب الأخرى في العالم العربي والغرب. وهذا أدى على مستوى الاستمرارية إلى أن القصيدة المغربية الحديثة هي قصيدة بدون ذرية، دون أن يعني هذا أنها عقيمة.

ـ ثانيا، إن النقد المغربي يتحمل قسطا من المسؤولية إزاء عدم التواصل بين أنماط الكتابة الشعرية بالمغرب. ذلك أنه في جملته نقد تجريبي بالمعنى القدحي للكلمة. وهو بذلك يعمل على منح الأسبقية لوجهة النظر تحت ذرائع منهجية متعددة، ويؤجل المعرفة بالنص إلى مرحلة ثانية أو ثالثة. وهذا المنظور النقدي لا يمكنه أن يدافع عن القصيدة المغربية ويؤصلها، لأنه بكل بساطة يقوم بتعويم النص الشعري وسط ركام من المفاهيم. مما يعني أن النقد في هذه الحالة لا يهمه أن يبرهن على شعرية القصيدة، بقدر ما يمارس عملية النقد، تحت وهم امتلاك منهج نقدي معين. وهكذا رافق خلل كبير العلاقة بين القصيدة المغربية الحديثة وبين النقد منذ السبعينيات، عندما تم اكتشاف البنيوية. ومنذ ذلك التاريخ والنقد بالمغرب يتنقل بانتقائية مفرطة بين شتى المناهج التي راكمها النقد الغربي والفرنسي تحديدا. ليس من العيب في شيء أن يستلهم النقد منهجا معينا شرط أن لا يعتبر مفتاحا لفك كل الشفرات، لكل النصوص.  


كاتب وناقد مغربي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ الأعمال التي أنجزت عن الشعر المغربي الحديث قليلة جدا بالنظر إلى الأهمية التي يحتلها في المشهد الثقافي المغربي. وإذا استثنينا المقالات التي تنشر في الملاحق الثقافية، والدراسات التي تصدر في المجلات والدوريات فإن عدد الكتب التي كرست لدراسة الشعر المغربي الحديث قليل، وتعتبر دراسة محمد بنيس وعبد الله راجع، الذين ستتوقف عندهما هذه الدراسة أهم ما أنجز في هذا الإطار.
(2) ـ راجع للأول: ظاهرة الشعر العربي المعاصر بالمغرب. دار العودة. الطبعة الأولى. بيروت 1979. وللثاني:القصيدة المغربية، بنية الشهادة والاستشهاد. منشورات عيون. الطبعة الأولى. الدار البيضاء 1987.
(3) ـ يفصح المؤلفان في عمليهما عن المنهج الذي ارتضياه في الدراستين المذكورتين. ويتعلق الأمر بالبنيوية التكوينية. وهذا الاختيار المنهجي يعلن عن نفسه من خلال العنوان الفرعي لكتاب بنيس: "مقاربة بنيوية تكوينية". أما عبد الله راجع فقد نص على ذلك في المقدمة حيث صرح أن "منهجنا في البحث محاولة للاستفادة من البنيوية التكوينية" ص 14.
(4) ـ عرفت نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات بحثا مستمرا عن سبل الخروج عن القصيدة الموزونة، ومنها قصيدة التفعيلة، ومن المعلوم أن هذه الفترة قد عرفت ميلاد قصيدة النثر العربية، على يد محمد الماغوط وأنسي الحاج وأدونيس وجبرا وآخرين.
(5) ـ في هذه الفترة كان الشاعر محمد السرغيني الذي يعد أحد رواد القصيدة المغربية الحديثة، يدرس بالعراق، وقد كان له احتكاك بالشعراء العراقيين الرواد. أنظر حوارا أجراه معه كاتب هذه الدراسة، نشر في جريدة "الاتحاد الاشتراكي" العددان 6232 و6233. الجمعة فاتح شتنبر والسبت 2شتنبر 2000.
(6) ـ نقصد بوصف العمودية هنا استجابة القصيدة للمعايير العروضية للقصيدة العربية التقليدية خاصة. ومعلوم أن هذا المكون وحده لا يكفي لكي نلحق قصيدة ما بإطار عمود الشعر الذي تنسب إليه، خاصة كما حدده المرزوقي في مقدمة شرح "الحماسة" ولذلك ينبغي الاعتراف بأن في الوصف شيئا من التجاوز.
(7) ـ يبدو أن تأثر الشعراء المغاربة الرواد بكبار الشعراء في المشرق العربي، وكذا بالشعر العالمي، قد أدى إلى تنوع إطاراتهم المرجعية. وهو ما نتج عنه اختلاف في الرؤى الشعرية منذ البداية، وهو ما تنبئ به قراءة مقارنة لشعر السرغيني والمجاطي والكنوني، على سبيل المثال.
(8) ـ عرفت سبعينيات هذا القرن بروز الموجة الثانية من شعراء قصيدة النثر . كما عرفت القصيدة العربية في هذه الفترة تنويعات فنية ودلالية تعكس القلق "الوجودي" الذي انتاب الثقافة العربية بعد هزيمة 1967.
(9) ـ من هؤلاء الشعراء على سبيل المثال لا الحصر، أدونيس ويوسف الخال. يراجع للأول: زمن الشعر . دار العودة .الطبعة الأولى .بيروت 1978. وللثاني: الحداثة في الشعر. دار الطليعة. الطبعة الأولى. بيروت 1979.
(10) ـ أمثال عبد الإله كنون ومحمد على الهواري وغيرهما.
(11) ـ من هؤلاء الشعراء محمد بنيس وعبد الله راجع وأحمد بلبداوي وآخرون.
(12) ـ يعد محمد بنيس من أوائل الدارسين الذين تنبهوا إلى أهمية البعد البصري في العمل الشعري. يراجع الفصل الأول من كتابه: ظاهرة الشعر المعاصر بالمغرب. دار العودة. الطبعة الأولى. بيروت 1979.
(13) ـ بلغت العلاقة بين الشعر والتشكيل أوجها في الكتاب المشترك الذي أنجزه الشاعر حسن نجمي والفنان التشكيلي محمد القاسمي.
(14) ـ يراجع الحوار الذي أجراه معه حسن مخافي وأعده للنشر مصطفى النحال في جريدة "الاتحاد الاشتراكي" العدد 6232 والعدد 6233 يومي فاتح وثاني شتنبر 2000.
(15) ـ الإشارة إلى قصيدة "موسم الواقعة". أنظر مجلة الكرمل. العدد 9. سنة 1983. ص 236 وما بعدها.
(16) ـ عبد الله راجع: القصيدة المغربية، بنية الشهادة والاستشهاد. مقدمة الجزء الأول. منشورات عيون المقالات. الطبعة الأولى. الدار البيضاء 1988.
(17) ـ يراجع على سبيل المثال ديوان "دفاتر الخسران" للشاعر الراحل أحمد بركات.
(18) ـ يمكن أن نمثل لهذا النزوع الشعر بكتابات الشاعر صلاح بوسريف، وخاصة بديوانه "فاكهة الليل".