رغداء تتلقى سطور رفيق السكري الذي يسافر فجأة إلى الرقة
أبدت مدفعية الجيش الروسي رأيها بالحوار الصعب الذي نشب بين الرئيس ونوّاب الشـعب، فقصفت البرلمان. كان رفيق السكري في هذه الأثناء ملتاثاً بيوبيله الفضي، فبعد خمسة وأربعين يوماً كان سيكتمل مرور خمسة وعشرين عاماً على إصداره كتابه الأول. كان يعالج أفكاراً نيئة كثيرة ومتضاربة على شكل أغصان وأخشاب عائمة بلا ناظم أو هدف، فجاء اندلاع النار من نوافذ البناية البيضاء للديمقراطية الروسية الوليدة، كأنما، في الوقت المناسب. لقد فهم رفيق السكري، وهو في دمشق، أن الرياح أصبحت مواتية الآن لينال درجة الدكتوراه من معهد روسي مرموق. إن علاقاته، ككاتب كبير وناشر ناشيء، ليست أقل تشعباً وسطوة من أن يحصل على الوعود الأكيدة بالمساعدة والمعلومات التفصيلية اللازمة خلال ثلاثة أيام. ولكنه تيقن في اللحظة الأخيرة من أن حريق البرلمان الروسي غير كاف لحزم الحقائب والطيران إلى موسكو للقيام بهذه المهمة في غضون أسبوعين. المسألة لا تتعلق بالمال، على وفرته النسبية، بقدر ما تتعلق بضرورة وجوده في المنطقة في هذه الفترة. كان عليه أولاً أن يتابع اتصالاته الملحة مع صديق قديم معني بالثقافة وإدارة الأعمال في اسطنبول للوقوف على ماتمّ من الاستعدادات اللازمة لإقامة حفل اليوبيل: استئجار قاعة في جامعة اسطنبول لهذا الغرض، ترجمة ثلاث قصص قصيرة من قصصه إلى اللغة التركية لتنشر عشية اليوبيل في صحيفة أدبية محلية ذات نفوذ، على أن يُشار في ذيل القصة الأخيرة إلى أن إحدى كبريات دور النشر التركية تعكف الآن على ترجمة إحدى روايات الكاتب. ثم دعوة ما يتيسر من الكتّاب الأتراك ممن يهتمون بقضايا الثقافة العربية، وتكليف بعضهم، مهما تعذّر ذلك، بإلقاء بضع كلمات على شكل محاضرات قصيرة ومكثفة تدور، قدر الإمكان، حول أدب رفيق السكري.
وسيكون المحتفى به سعيداً إذا عثر صديقه، وسوف يعثر إذا أراد، على مستشرق غربي واحد على الأقل في مكتبات اسطنبول بين رفوف المخطوطات العربية حتى ولو لم يكن اختصاصياً بشؤون الأدب العربي الحديث. إن كلمتين إنكليزيتين تهمسان في اليوبيل سوف تضفيان عليه دلالةً أبلغ وهيبةً أكبر ولو كانتا بعيدتين عن المحتوى المباشر للمناسبة. أما دعوة المثقفين العرب المقيمين في اسطنبول فمن باب أولى، ثم انتخاب خمسة منهم على الأكثر لحضور العشاء، الذي سيضم بالإضافة إليهم كبار الضيوف الأتراك، وأربعة من الأدباء العرب: سوريَين وآخرَيْن بحرانياً ومغربياً سيكونان في سورية آنذاك للمشاركة في مهرجان البادية، بالإضافة إلى ناقد عربي معروف، سيركّب رجلاً إصطناعية في تلك الفترة في أنقرة،> سوف يكون بساقين سليمتين قبل الموعد المحدد بيوم أو يومين، بحيث يتسنى له القدوم إلى اسطنبول في الوقت المطلوب. ثم على صديقه القديم أن يبلّغه بما توصل إليه استطلاعه عن أسعار فنادق الدرجة الثانية المطلة على البوسفور، وغير المطلة عليه لإقامة الوافدين حصراً لمدة يوم واحد، وأن لاتفوته أخيراً الإجراءات الرسمية وما إذا كانت ضرورية مع السلطات الأمنية التركية، وأن يضعه في صورة ما إذا كان لابد من تحريك ساكنٍ ما في دمشق للهدف ذاته. وكان على رفيق السكري بعد ذلك أن ينطلق إلى بيروت لبذل جهود معينة لكي ترحب واحدة من دور النشر الكبيرة فيها بنشر روايته الأخيرة التي تعنى بالفترة الواقعة بين عامي 1931 ـ 1933 من تاريخ سورية، على أن تصدر قبل اليوبيل مباشرة، وأن يحصل على وعود شفوية من القائمين على الصفحات والملاحق الثقافية في الصحف البيروتية لنشر مقالات مكرسة للاحتفال، ستصل تباعاً من دمشق وعمان والشارقة وتونس وقبرص.
وبعد عودته كان عليه أن يزور أمه المريضة في قريته القريبة من دمشق. ولكن قبل ذلك كله عليه أن ينتهي من كتابة محاضرته «الشعب السوري في الرواية التاريخية السورية مقارعاً الاستعمار منذ الاستقلال في العام 1946 إلى قيام الوحدة في العام 1958، التجربة الروائية لرفيق السكري أنموذجاً» والتي سيلقيها في المركز الثقافي العربي في الرقة حيث سيقيم يوماً إضافياً للقاءات مكثفة مع أدبائها الشباب بعد الأخبار المشجعة التي وصلته عن جودة موسم الحبوب هناك. وسوف يكون مفيداً أن يحل ضيفاً على رفيق دراسته سعد البصري في الليلتين اللتين سيقضيهما في مدينة لم يزرها منذ ثلاثين عاماً. فسارع إلى الانتهاء من محاضرته، وسافر إلى الرقة. ولم ينس قبل خروجه من المنزل أن يترك لصديقته الحميمة رغداء رزق الله اسحق عدة سطور في دفتر الملاحظات على طاولة عمله في غرفة المكتب. وذلك من باب تذكيرها الخطي بما ينبغي عمله في فترة غيابه، فتتجنب ارتكاب الهفوات المنمنمة التي تبدو في لحظة اقترافها قابلة لنسيانها، كما ُتهمل بثرة صغيرة تلاحظ عرضاً تحت الحاجب. إذاً لن يضرها إذا لم يجلب لها الفائدة المؤكدة أن تقرأ رغداء سطوره المومى إليها قراءة متأنية مع فنجان قهوتها الأول. إن رفيق السكري حين يلجأ إلى توجيه الملاحظات التحريرية لايعني غير الإلزام الكامل بالمسؤولية عن مجريات الأمور. وهكذا يخسر الخطأ كل احتمالات العفو، ويغدو تبريره نوعاً من الإصرار عليه، أما الاعتراف به فلن يظهر إلا بمظهر التنكر بقناع الفضيلة. وهذا ما تدركه رغداء جيداً، وقد اعتادت أن تضع يدها على المطلوب بالذات.
وليس بمستطاع أحد أن يقدر موهبتها تلك حق قدرها إلا إذا سنحت له إمكانية مستحيلة في الإطلاع على ما يحرره رفيق السكري. ورغداء حين تمارس مهاراتها هذه إنما تلتقط رأس الخيط الأبيض المنشود بين كبّة خيطان بيض مكرورة ومشعّثة. ورفيق السكري حين يحيّر السطر الذي يقتضي الوضوح إنما يتبرأ سلفاً من خطأ مقاصده إذا حدث، فيكون في مقدور رغداء أن تطلق العنان لمخيلتها المبدعة ما دامت المذنبة على كل حال. إنها لا تكتفي عادةً ببلوغ الهدف المرتجى بل تضيف إليه التفاصيل المباغتة التي تخدمه دون أن تحرفه عن مساره، فيخرج من بين يديها بصورة تجعل رفيق السكري يموّه رضاه بهلال مقلوب، يكوّنه بشفتيه المشدودتين فوق ذقنه، وقد ينهض إن كان جالساً وينتقل إلى موضوع آخر واضعاً على الرف إلى جانب محفوظات مغبرّة أخرى كلَّ جهودها التي بذلتها بحرفية وإلهام كبيرين. نعم لقد تعلمت رغداء أن لا تنتظر من رفيق السكري تصرفاً مغايراً. إنها الآن تتقبل تحطيمه بهاءَ أعمالها من دونه كتنفيذ يكاد يكون حرفياً لخطة وضعتها مسبقاً هي بالذات. وسوف تنظر إلى أي اختلاف بحرارة الموقف كارتجال خارج على المألوف. لكن رغداء رزق الله اسحق لم تكن كذلك. كيف وجدت إذاً بعد خمس وأربعين سنة من عمرها أن أفظع ما يمكن أن يحدث في حياة المرء هو في كل الأحوال أقل من فاجعة وأكبر بقليل من شؤم عابر؟ لم تكن كذلك عندما قدمت إلى دمشق قبل أكثر من عشرين عاماً من تل أغبر ـ البلدة القريبة من لبنان. لم تكن كذلك رغم أنها جاءت وحيدة من دون زوجها عساف ودون أختها وديعة ودون عمتها ودون أمها. كان معها فقط قلب أبيها الجمركى في نقطة على الحدود بين سورية ولبنان: رزق الله اسحق.
* * *
من هو رزق الله اسحق؟ وكيف كانت رغداء قبل أكثر من عشرين عاماً؟
رزق الله اسحق رجل يدعوك لنسيانه، جهم، خجول، بشاربين مشذّبين وأثر ابتسامة ملصوقة على فمه المطبق. وتظن، إذا دققت، أنه راضٍ بالأثر الباهت الوحيد الذي تتركه فيك نظافة ألبسته، فتستكثر عليه القدرة على الغضب مثلاً. مع أنه كان يغضب أحياناً إنما في منزله حصراً، فلا يكسر صحناً ولا يمزق قميصاً ولا يقلب خزانة، بل يضرب أم رغداء والعمة فقط. يفعل ذلك صامتاً دون تجهم، تنهدّ قبضته على ظهر إحداهما وخاصرة الأخرى كما لو أنه يستغرق في التفكير. وبالعادة يضربهما بلا مقدمات، ولأسباب لاعلاقة لها بزلات لسان أم رغداء، ولا بغباء العمة. ومع مرور الأيام أصبحتا تحدسان متى يهوش عليهما، تشعران بذلك في طلّته حين يفتح الباب وبطريقته بالجلوس وشرب الماء ومضغ الطعام، فتكمدان وتتطلعان باستسلام الواحدة نحو الأخرى، فيما تنتظران بمرارة اللحظةَ التي يهبّ فيها عليهما. وريثما يفعل ذلك كانتا تقومان بأقل ما يمكن من الحركة. كانت رغداء وأختها وديعة تذهبان في لحظة ما قبل العاصفة على رؤوس أصابعهما إلى الغرفة المجاورة حيث تنفرد رغداء بثقب الباب وتنظر بصبر نافد إلى أمها وعمتها كيف تتكسران تحت أربعة أبيها. وبقدر ما كانتا تخمدان فلا تقاومان كان هيجانه يخفّ حتى يقوم عنهما إلى فراشه وينام حتى صبيحة اليوم التالي.
ورزق الله اسحق يستيقظ عادة في الرابعة بمزاج رائق إذ يشعر بتحلله من قيود كثيرة في الفترة التي يشغلها وحيداً حتى موعد استيقاظ افراد أسرته في السابعة. يتفكّه بهذا الوقت متمطقاً بكل دقيقة وحريصاً على طرد الأفكار المسبقة بالنظر إلى كل شيء. كان أول ما يفعله حين يعي نفسه في الفراش هو البهجة. يستنشق أكبر كمية ممكنة من الهواء محرَّراً من أي مضامين مركبة يمكن أن يستجرها مجرد تلامس الأشياء من حوله، ومكرَّساً لحواسه فقط فتستقبل بصورة عارية ومباشرة غرفة نومه المعهودة: خزانة بدرفتين وسرير مفرد وأيقونة بشمعة منتهية ونافذة بستارة مسدلة تسرّب ضوضاء العصافير مشوبة ببعض النور، وسقف تتدلى منه لمبة مطفأة. وقد أدمن رزق الله اسحق مع الأيام إحساسه بوفرة صباحه الخصوصي ولم يضجره قط. كان ينزع غطاءه مثل قشرة وينهض، يتمطى، يتثاءب، يدفع الهواء إلى أصابع قدميه، يرفع الستارة، يميل بجذعه إلى الأمام ليطمئن على دراجته المربوطة إلى شجرة الكينا العملاقة التي تجاور شباكه، وقد يفتح النافذة ثم يسدل الستارة من جديد فيمشي باتجاه الخزانة بلا غرض، قد ينقز في مكانه بلا غرض، قد يخزه ألم في عموده الفقري ريثما يذهب إلى الحمام، يغسل وجهه ويعود، يؤكد على كيّ بذلته الرسمية ويركنها جانباً، يتنكر بثياب مدنية متينة، ثم يخرج إلى دراجته الهوائية، وينطلق باتجاه صومعة ناسك قديمة في قرية مجاورة.
وكان يزيد من بهجته أن الطريق إلى هناك تكون عند ذاك شبه خاوية إلا من الأشجار وبعض الأبقار والكلاب. إنه في تلك اللحظات لايريد رؤية بشر متفهمين لزيارته الصومعة على أنها مجرد سلوك شخصي لاينطوي على أي خطر، لا يريد ابتساماتهم التي تمن عليه بتسامحها معه إذ تترك له معنى وحيداً معبداً ومستقيماً لزيارته اليومية المبكرة لأنه ببساطة يستهدف لها معاني أخرى لا تخص أحداً غيره. كان يطير على عجلتيه منصتاً بإمعان إلى جنزير دراجته وصواميلها المرتخية، ويصون مزاج طيرانه حتى يصل إلى رأس التلة حيث ترقد الصومعة. يوقف دراجته على جحشها الحديدي، ثم يتوجه إلى سكيبة خضار الناسك يتفقدها، يسقيها بقادوس من حوض يملؤه عادة أولاد القرى المجاورة، يخلخل ترابها، وينقيها من الحشائش المتطفلة عليها. وأحياناً يشتهي للناسك نوعاً من الخضار فيتحيّن وقت بذاره أو شتله لعله يسعد بابتسامة الناسك المربَكة عندما يلاحظ نسقاً جديداً من السِلق يشق التراب أمام عينيه. كان الناسك يحزر مجيئه فيراه، إذا خرج، دون أن يلتفت إليه. ولم يكن لدى رزق الله اسحق ما يقوله له، فكان دائماً يوشك على نطق كلمة مبهمة تسارع عيناه القلقتان إلى البوح بها بصورة ما فيقبلها الناسك بصمت. ورغم أن رزق الله اسحق لايجد ما يعمله كل صباح بسكيبة الخضار، ولكنه حرص دائماً على زيارته حتى ولو اقتصرت على شربة الماء التي يقدمها الناسك له عادة قبل أن يعود.
وبوصوله المنزل من هناك كان يحلق ذقنه كما يمارس متعة سرية غير مكلفة، يأخذ دوشاً بارداً، ثم يرتدي قيافته الجمركية الكاملة قبل أن يتناول كتاباً محضراً سلفاً ليستذكر على إيقاع طقطقة حذائه الرسمي عادات وصفات حيواناته الأثيرة. يندهش للمرة الألف من فيل البحر، لأن نظره ضعيف وسمعه ثقيل، ومن أسد البحر، لأنه انطوائي وجبان ولاتكترث أنثاه بصغارها. لكنه يحب خنفساء كوكوبانو المضيئة التي تعيش في أمريكا اللاتينية، فيقلب على صفحتها التي يحفظها عن ظهر قلب. يراقب من جديد قبائل الهنود كيف يعلقونها في أقفاص بمثابة فوانيس الإضاءة وكيف يطعموها بقصب السكر ويرشونها بالماء فلا يتغبش نورها، وكيف تسجنها نساؤهم في أكياس صغيرة يتزيّن بها، يقطبنها إلى صدور أثوابهن في المناسبات. ثم يتأثر كالعادة كثيراً حين يقلب على القرود اليتامى. ورزق الله اسحق يستمد حيواناته هذه من رفين قصيرين عزيزين من الكتب يحتلان مكاناً عالياً من صدر الصالون. ومع أنه لم يزد عليها كتاباً واحداً بعد زواجه إلا أنه ينهمك بقراءته الصباحية هذه كأنه يتعرف عليها لأول مرة. وأحياناً يُطلع الآخرين من حوله في المنزل على فوائد كتبه. ولكن تزويدهم بهذه المعلومات إن حدث يتحوّل إلى مجرد خلفية رتيبة لمختلف أعمالهم المنزلية. ونوبات القراءة هذه متباعدة جداً على كل حال، يلجأ إليها بعد أن يظهر للجميع أن الأب في كدرٍ شبيه بكدره العميق النادر الذي يزيله عادة بضرب أم رغداء والعمة. كما أن هذا التثقيف الاضطراري لم يكن مؤذياً قط حتى ولو انتبه إليه المرء بين حين وآخر لأن معظم هذه الكتب لايخرج عن سير الحيوانات المتوحشة والأليفة والطيور والأسماك والطحالب والفطور. ولكن من يقع في فخ الانتباه إليه يحرص دائماً على أن لايوجه إليه أي استفسار وذلك ليجنب الجميع مغبّة الانشراح الزائد الذي سيشعر به المحاضر من كل بد، ما يظهره في غير طوره بعيداً عن التصور المحبب الذي يحبسونه فيه قدر الإمكان.
وكانوا ينفذون هذه الخطة دونما اتفاق معلن مسبق فيتحركون من حوله كأنهم لايرونه، فيما يحدث في ذلك اليوم النادر أن يتحسسوا في فرشهم وتحت مخداتهم وعلى مساند مجالسهم ومسكات أبوابهم وفي أقمشة ملابسهم وفي جيوبهم وفي صحونهم وفي القدر التي على النار وفي طست الغسيل ما يستدعي ويتشبه بجلود الحيوانات وعيونها وأظافرها وشعورها وأذنابها وخراطيمها وأجنحتها، تمر بحواسهم بصورة تستعصي على الإقرار بها فلا تعيق الأم عن غسيلها، ولا العمة عن عدم رضاها، ولا هذه البنت عن وظيفتها المدرسية، ولا تلك عن دميتها، كأن فراشةً لم تحطّ على كتف أحد، وثعلباً لم يتعلق على مشجب، وحمامةً لم ترفّ تحت ياقة أي منهم. وكان لاينتشله شيء من براثن حيواناته اليومية المبكرة إلا ساعة الحائط في الصالون عندما تعلن السادسة والنصف فيطابق بين دقاتها الاحتفالية وبين وقع حذائه على الأرض حتى تصل به الخطوة الإيقاعية الأخيرة إلى باب المطبخ حيث يشعر بالجوع. يعيد الكتاب إلى مكانه ويستعين بمخيلته فتعج رأسه على الفور ببخار أطعمة محتملة مفروشة على مشمّعة الطاولة. كان شوقه إلى الطعام يزيد من قابليته إلى تأليف وجبة إفطار للجميع انفرد بإنشائها منذ زمن بعيد، واعتبر دائماً أي مساعدة بهذا الخصوص محاولة للتشويش على سعادة تتسع له فقط. فكان يهنأ بتحقيقها ويشغل من الوقت ما يحافظ، خلال ذلك، على بذلته الرسمية من أي توعك وكأنه في صيدلية وليس في مطبخ. وفي الساعة السابعة من كل صباح كان يروز سفرته العامرة بمحبة وإعجاب، ثم ينطلق ليوقظ أسرته النائمة منهياً بذلك صباحه الخصوصي الوفير.
وقد كان بديهياً أن يعني خروجه من المنزل باتجاه الجمارك أول ما يعني أن شيئاً شاذاً لم يطرأ على الحال التي كان عليها قبل خروجه. ولكن بعض الدكاكين التي تكون مغلقة حتى لحظة مروره بها، وبعضها المفتوح، وطريقة وقوف بعض الناس أمامها وعلى مفارق الطرق، كانت تدفعه إلى الشك بهذه المسلّمة، فيشكك بها ويتنازل عنها بسهولة. وكان يحاول الخروج من هذا المأزق الدوري بأن يقلّد نفسه: يطير على دراجته كما لو كان يطير عليها، ويلقي بالسلام على من يعرفهم كما لو كان يلقيه عليهم، ويرى أمامه فلا يصطدم بعمود أو عربة أو جدار كما لو كان يرى فلا يصطدم بشيء، ويصل إلى نقطة الحدود كما لو كان يصل إلى هناك. وكان ذلك يساعده في الدخول إلى مقر عمله كما لو أنه مشرق متفائل وميّال إلى سماع النكات، ومن ثم جاهز لأن يضحك كما لو أنه يضحك بصورة مرضية لمن يرويها، ويحدث أن يتسنى له من يروي النكات مثلما يحدث أن لا يستجيب أحد لرغبته الخفية في الضحك، فلا يبادر هو إلى تلبيتها بالحديث الطريف خشية أن يستثقله أحد، وأن يبدو ذلك على سبيل قتل الوقت العمومي. ثم إنه لايفضل أن يتعرض لنظر شخصين اثنين دفعة واحدة.
ونظراً لأنه كان نادراً ما يُشرك في عمليات التفتيش لما يثيره من البلبلة بين صفوف زملائه المفتشين وزبائنهم المهربين معاً، فقد كان لديه الوقت الكافي في دوامه الرسمي لأن يتملّى من النافذة التي تقع إلى يمين مكتبه بالجبل المشجّر العالي القريب. كان يظن أنه لايشبع من تأمل هذا المنظر فيلهبه أحياناً بمشاعره، ويقرر بينه وبين نفسه أن بلادنا قطعة من الجنة. ثم لايتعمد الارتياب بهذا الاستنتاج، ولكنه يخشى أن يكون قد وقع في معنى مثيل بالريبة دون أن يدري فيكرر من باب الاحتياط قناعته الكاملة بأن بلادنا فعلاً قطعة من الجنة. وفي غمرة برهانه على ذلك كان أحياناً يصرّح بصوت مسموع بمثل هذه الجملة فيصادف أن تكون في الوقت غير المناسب إذ تبدو مثل تهنئة في مأتم. ورغم أن ذلك كان يجعل زملاءه ينظرون إليه كما لو أنه غراب أبيض إلا أنه لم يستطع مع الأيام أن يتخلى تماماً عن مثل هذا الوضع المعقد. كان يعاني فجأة من حاجة قاسية إلى أن يثبت قناعاته الراسخة بحبه الكبير لبلاده. وقد لاحظ رزق الله اسحق أن هذه الحاجة تستبد به كلما أمعن النظر أكثر فأكثر بالجبل العالي القريب. وكان لايستطيع إلا أن يتمعن به حتى لقد خطر بباله أنه لايتقاضى راتبه الشهري إلا مقابل ذلك التمعن، مادام لايكلف إلا نادراً بمهمات أخرى.
ثم صار يتبرع بلا مناسبة بتبنّي أفكار مستقاة من نشرات الأخبار المحلية عما يجري في دمشق وبيروت وفلسطين المحتلة. ولكن هذه المساهمات الحماسية في تبرئة الذمة لم تفلح إلا في حمل زملائه على إعادة بعض حساباتهم فأبعدوه خطوة إضافية أخرى باتجاه النافذة عن شؤونهم في العمل، إنما لأسباب مختلفة هذه المرة. ثم لم تلق كل المشاريع الخيرية التي اقترحها أذناً صاغية عندهم، فجاء ذات يوم بشجرتي برتقال نحيلتين وغرسهما بالقرب من حائط المخفر، فقلّ شعوره بالتقصير. كان غالباً ما يتفتّل حولهما ويلتقط الزغبر الذي يتكاثر، برأيه، على ساقيهما الرهيفتين وبين وريقاتهما المعدودة. وكان أمام الجمركيين من رتبة أعلى، وفي حضور بعض المهربين الكبار، يميل إلى قول بضع كلمات عن الغايات النبيلة التي تكمن وراء زراعة الأشجار بشكل عام والحمضيات بشكل خاص. ثم يضرب المثل بجهوده في هذا المضمار، ذلك لأن صورة الجندي المجهول لن تخدمه في شيء مادامت حاجته لإثبات حبه الكبير لبلاده يمكن أن تنتقل عن طريق المصادفة إلى علم من يخالطونه فيلجأون إلى أقرب الاستنتاجات منالاً، ويخلصون إلى فكرة شوهاء تقلب المسألة رأساً على عقب، وتُبدي رزق الله اسحق بلبوس المطعون بشرفه الوطني لا أقل ولا أكثر.
لقد رتب عليه سوء الفهم المحتمل هذا آلاماً كان ينبغي طمسها لتلتبس عليه أولاً، فيدّعي نسيانها ويقفز فوق مستنقعاتها الآسنة الصغيرة المتناثرة في رأسه وبين خطواته. وقد أصاب بعض النجاح في هذا الخصوص لولا هفوة المحاسب التي ارتكبها ذات يوم في تقدير مكافأته عن أيام المناوبة الشهرية، فكانت أقل من كل المكافآت التي تلقاها حتى ذلك التاريخ. لم يجرؤ طبعاً على مراجعة المحاسب، بل تقبّل ذلك بشعور من يغطس فجأة في الطين إلى ركبتيه، ومَن سقطت بقربه من مكان ما تنكة فارغة على أرض مبلّطة مصقولة، فظهر مثل ممسوك من ياقته بيد خفية غافلته من الخلف كان قادراً على تخيلها بمنتهى البساطة والدقة والبراعة تماماً كما يفعل المذنب المحترف. وقد اقترنت تلك الهفوة بأن رئيس نقطة الجمارك استدعاه على غير عادته في ذلك اليوم وطلب إليه أن يجلس ريثما ينتهي من قراءة ورقة بين يديه، ثم رن جرس التلفون فرفع السماعة وتبادل حديثاً طويلاً، ثم طبقها فدخل إليه رجل خمسيني قصير بدين أنيق غابت عقدة كرافاته المفترضة تحت غبغبه المختنق بالدم. وفيما كان رئيسه يحتفي بالقادم المبتسم بمشقة، لاحظ وجودَ رزق الله اسحق منكمشاً رغم جهامته على أحد المقاعد، وأراد، كأنما، أن يستغرب وجوده فمنعه من ذلك انحناؤه على الضيف وتقبيله. ولكنه استطاع أن يوليه اهتماماً رمزياً لم يتسع لأكثر من سؤاله: ماذا تفعل هنا؟ ثم لم يجد وقتاً لسماع الجواب فغاب عن ذهنه، فيما نهض رزق الله اسحق، وقد أذهلته وسدت عليه الهواء فراسة رئيسه في قراءة أفكاره دون أن ينطق بحرف واحد. ولم يع ضرورة أن يكون بعد ذلك مباشرة وراء مكتبه حتى نهاية الدوام إلا عندما وجد نفسه جالساً على كرسي خشبي صغير أمام أم رغداء والعمة. كانتا كامدتين وجامدتين حيث هما، تتطلعان باستسلام الواحدة نحو الأخرى، وتنتظران بمرارة اللحظة التي سيهبّ فيها عليهما. ثم أرعبه أن ضربه لهما لم يجلب إلى عينيه النعاس هذه المرة. سهر حتى الصباح ولم يعش صباحه الخصوصي الوفير. تقيّف ببدلته الجمركية ولم يذهب إلى نقطة الحدود إنما إلى مقر رئيس المنطقة.
قال: أنا رزق الله اسحق من الجمارك … تفضل.
قال رئيس المنطقة: ما هذا؟
قال رزق الله اسحق: خطاب.
قال رئيس المنطقة: خطاب؟
قال رزق الله اسحق: خطاب وطني وقومي، ألن يأتي عيد الجلاء؟
قال رئيس المنطقة: بلى.
قال رزق الله اسحق: لقد كتبته البارحة خصيصاً لعيد الجلاء.
قال رئيس المنطقة: وتريد أن تقرأه على الناس؟
قال رزق الله اسحق: أريد أن تقرأه أنت يا سيدي.
ولأن رئيس المنطقة قد تعلم من خبرته في الصعود على سلم المراتب أن يتريث أمام مثل هذه المفاجآت التي لايقدم عليها شخص مختلّ بالضرورة، فقد آثر ان يفهم. طوى نزقه السلطوي وأظهر أنه مبهوت. ولمّا كان رزق الله اسحق يُظهر انتظاراً صريحاً للحكم على خطابه العزيز، فقد مال رئيس المنطقة إلى التزود بالحيطة ما دام المقام الأعلى لم يثبت دائماً أنه صاحب الكلمة الفصل أمام المقام الأدنى، وما دام انتقاله إلى درجة أعلى أصبح يتطلب مزيداً من الحنكة في الانحناء أمام العواصف التي تكثر كلما أسرف المرء في الصعود. ولذلك فإنه لم يجد صعوبة كبيرة في دعوة هذا الجمركي الطارئ إلى الجلوس. فجلس رزق الله اسحق وجعل رئيس المنطقة يقلّب صفحات الخطاب بحذر مهندسي زراعة الألغام والكشف عنها. ومع أن أشياء كثيرة من حوله كانت تفصح بفظاظة عن أثمانها الباهظة ولكن افتقارها للأسلوب في الاستخدام والتجاور جعلها تبدو وكأنها مسروقة منذ ساعات من بيوتات ثرية ذات أذواق مختلفة.
رغم ذلك لم يؤلف رئيس المنطقة نشازاً بوجوده على هذه الخلفية المتنافرة القيّمة. كانت تتجسد في نمط قبضه على الأوراق تلقائيةُ أصحاب المهن التي تعتمد على الجهود العضلية الخارقة، وقد بدا كمن يملك غدّة سرية تتحكم به في الوقت المناسب، فتسهّل إفرازاتها عليه التعرف على مصلحته الحيوية مهما تنكرت بأطمارها وأقنعتها المتنوعة. وهكذا أفلح بالقبض على طريقة رزق الله اسحق غير المطروقة في التعبير عن ذات الأفكار التي تتكرر في الخطابات من هذا النوع. ثم حاول تجاهل غبطته ولم يستطع، فأفلت فمه ابتسامة مَن عثر على لقية في الطريق. اعترف لنفسه أخيراً بأن عيبه لم يكن قط في ضعفه بالإنشاء بل في أنه لم يحظ بمن ينشئ له حتى الآن. ومع أنه شعر ببعض الاعتراضات الغائمة على بعض المقاطع، ولكنه لم يفلح في صياغتها بجمل مفيدة ومؤثرة، فرأى أن يتجاوزها فلا يورط هيبته بكلمات ركيكة.
وربما لم يكن خطأ، ربما كان نبلاً غير مقصود وفي غير محله أنه لم يُعر تلك المقاطع الاهتمام اللائق برئيس منطقة لأن رزق الله اسحق قد يورطه في خطابات مقبلة بمطبات قد تكون جديرة بالمساءلة مادام الرواج الذي ستحظى به خطاباته سوف يعرّضه لزوال الكلفة بينه وبين أعلى سلطة تنفيذية، ما سيعيد إليه عاجلاً أو آجلاً حاجته القاسية إلى إثبات حبه الكبير لبلاده. وكان رزق الله اسحق يعي ذلك تماماً ولهذا تسللت حيواناته الأثيرة إلى خطابات رئيس المنطقة السياسية اللاحقة على شكل نداءات برعايتها وإشاعة دراسة حيواتها. وبقيت اعتراضات رئيس المنطقة غائمة أيضاً بخصوصها، لولا أن وفداً ودياً من كبار موظفي المنطقة قام بزيارته وطرح عليه بين الجد والمداعبة ما إذا كان مقتنعاً فعلاً بحرصه المباغت على الطيور إلى حد دفعه في خطابه الأخير إلى تحريم صيدها لمدة عامين. كاد رئيس المنطقة يستغرب تحريمه، ولكنه لم يجد بداً من الدفاع عن الطيور في اللحظة المناسبة، فدافع عنها ببرود وهو يصوغ في داخله اعتراضاً محدداً بهذا الشأن بلغ درجة من الوضوح جعلت رزق الله اسحق يعترف بأنه مشبوك مثل ذبابة بخيوط عنكبوت، فلا آلامه الوطنية تسمح له بالتقدم في هذه العلاقة ولا خوفه من السيد رئيس المنطقة يسمح له بالانسحاب منها. فصار يتردد إلى الحانة الوحيدة في البلدة.
* * *
رغـداء الطالبة الراسبة في امتحان البكالوريا تلتقي الشاعر قدري الباشا
تشكل الحانة مستطيلاً ضيقاً فتذكرك بعربة من الدرجة الثالثة في قطار قديم وصدئ. ويساعدك كثيراً في هذا التصور اصطفاف الطاولات والكراسي على الجانبين وتمايل الزبائن واقفين وقاعدين فلا تشكك، إلا إذا أردت، بأنهم جميعاً على سفر. وإذا كانت نوافذ هذه العربة لاتطل على المناظر الهاربة، فإنها مثل أي عربة قطار من الدرجة نفسها تنتهي بباب ضيق يأخذ بالضرورة إلى مرحاض قذر. وكان هذا التصور يدغدغ لدى كل المسافرين الكهول في الحانة ذكريات عزيزة لم تحدث، وإذا حدثت ففي أحلام يابسة بعيدة ترقد الآن تحت طبقة سميكة من الغبار. كان قطارهم يقلع عادة حوالي السادسة مساء، فتراهم في تلك اللحظات يتبادلون ابتسامات وتحيات متوترة ومحيَّرة بين فرح غريب وكآبة تضغط على الصدر، دون أن يفوّتوا ترديد عبارات الأمان والسلامة والتيسير على حد مهيب بين الجد والسخرية. وكان من بينهم مسافر في الخامسة والثلاثين لا يرافقهم دائماً في السفر، ولكنهم لم ينقطعوا قط عن انتظاره في كؤوسهم الأولى كما لو أنهم عاجزون عن تسمية أشياء هامة تنقصهم فجأة بغيابه. كان شخصاً متعالياً دون أن يكون جارحاً في تعاليه ويشبه تتمة ملحوظة للطاقم العام في الرحلة، لمجرد وجوده صامتاً ووحيداً دائماً مثل قرد مريض في قفص. وكانوا لايتقارشون وحشته بحماقاتهم العابرة ومزاحهم الثقيل كأنهم في أمس الحاجة إلى اختلافه الغامض، حتى ليظن المرء أنهم قادرون على الانتقام منه ببشاعة لا يتصورها أحد، فيما لو تبين لهم أخيراً أنه لا أكثر ولا أقل من أي واحد منهم. ولذلك لم يخّيب أملهم حين علموا أنه شاعر.
وقد انزلق رزق الله اسحق في جملة ما يحدث ويقال في الحانة دون أن يلفت النظر لولا أنه اتخذ ذات مساء وَضْع طائر حيّ سقط في صحن كبير من الحساء الحار عندما اختار طاولة الشاعر المنفرد ليجلس إليها. وطّن النفس ما إن استقر على كرسي الخيزران على مقاومة الشعور العام الذي ساد في الحانة في اللحظات التالية والذي كان يدفعه إلى تبرير ما فعل. اعتقد أولاً أنه شخص طبيعي. ثم التفت إلى جاره الذي كان أشبه بالغائب، فأسعده أنه الشخص الوحيد الذي لا ينتظر منه شيئاً، وأنه على الأغلب لا يلاحظه فشجعه ذلك على أن يطلب من الغرسون بطحة عرق ورمانة. ثم سعل بخفر شديد سعلة وحيدة خفيضة ومبتورة محاولاً بها أن ينتمي إلى الطاولة. خففت عليه مشقة هذه المهمة السيجارة التي أشعلها فبدا كأنه يتخفى وراء بصّتها المتقدة. ثم تحصن بالكأس التي ملأها، وكانت الشفّة الأولى منها طويلة بما يكفي لأن يتلفت حوله بثقة مخلخلة. عزز بشفّة أخرى وحبتي رمان يقينه بأنه لا يفرق فعلاً عن أي من الجالسين إلى طاولاتهم.
تأكد من ذلك حين لاحظ أن كأسه فارغة من نصف البطحة الذي سكبه لتوه، فصب النصف الباقي بمزاج رائق، مظهراً على شفتيه أثر ابتسامته المعهود، ومنتبهاً لأول مرة إلى أن سعاد محمد كانت تغني على الأغلب "أنا هويت". صار يتدبر في معاني الكلمات حتى الشفّة التالية عندما غامت بعدها الفكرة التي تعقّبها في رأسه فالتفت إلى جاره وسأله عما إذا كان يحب السمك. ثم أردف كمن لاينتظر جواباً بأنه يحبه عموماً .. ويقدر السلمون خصوصاً ولا يأكله، لا يأكله لأنه سمك محترم، ولأننا في العادة عندما نفيق لانجد على الباب سلموناً، الدببة فقط تأكل السلمون بدون تمييز، الدببة والطيور الضخمة تأتي وتجلس على الصخور تحت الشلالات تنتظر السلمون من السماء، لا تصيده بل تلقطه مثل أحجار حية نابضة ومتموجة .. هل أمسكت بيديك سمكة سلمون؟ ولا أنا، ولكني سأريك صورتها غداً، تعال غداً وسأعرفك عليها وأزودك بمعلومات ضرورية ودقيقة عنها، ولعلمك السلمون ليس قَرشاً ليعيش مثل البشر والقطط والكلاب في كل مكان، وليس قملاً، الآن ضع لحسة سمن على رأسك ولاتستحم وسوف تقمّل بعد أسبوع، خذ واحداً وواحدة من أولاد آوى وضعهما في قفص ثم سافر به إلى أي بلد آخر حطّه هناك في أي حديقة حيوان أو خذه إلى بيتك وغطه ببطانية ثم إنزع البطانية بعد عدة شهور وسوف تجدهم ثلاثة أو أربعة .. السلمون نغمة ثانية .. السلمون يتذكر .. لكي يتكاثر يتذكر نهره الأول، هناك عندما وجد نفسه سلموناً لأول مرة .. يقطع البحار، ويعاكس الأنهار، ويقفز فوق الشلالات فيتحطم أكثره على الصخور، ولكنه يعود .. يعود.
ثم سقطت كأس من طاولة مجاورة. شعر رزق الله اسحق أن صوته كان أعلى من أن يكون بين شخصين متحاذيين، فقد كان الوحيد الذي لفتت نظره شظايا الكأس المكسورة على الأرض فيما كان الجميع يتابعون سكناته. لكن ذلك لم يردّه عن محاذير أفكاره. صفن لحظة ثم مال إلى جاره المتملي بمكان بين الرمانة وصحن صغير بالزيت والثوم، وقال كمن يعترف له بعصفور يختنق في عبّه: أشعر أحياناً أنني سلمون مخدوع .. الأنهار عموماً من يعدّها؟ إذاً لماذا لايخطئ السلمون؟ أنا على سبيل المثال، اعذرني ولكن مثلاً مثلاً .. هل تستطيع أن تثبت لي أنني عدت فعلاً إلى نهري الأول؟ أنا شخصياً مقتنع بذلك كما أمسك يدك الآن، ولكن كيف أقنعك أنت؟ المنطق يقول إنك إما أن تذهب إلى جهنم أو إلى نهرك الأول .. أنا مع الحل الثاني فما رأيك أنت؟ ثم أخذ جرعة طويلة من كأسه وأدرك، كأنما بعد فوات الأوان، أنه بحديثه هذا إنما وضع رأسه تحت تصرف رجل لا يعرف منه أكثر من بروفيله الصامت. ولم يكن ثمة مناسبة لسحب الكلام فتقبّضت ملامحه. ثم وجد أن يورّط جاره بهواجس مثيلة. رشف شفّة أخرى والتفت إليه بوجه أقرب إلى التوسل منه إلى القدرة على نصب كمين: ألا تشعر أحياناً أنك مخدوع؟ يعني بشكل عام، ثم تكتشف أنك غلطان مثلي؟
ثم أردف: أنا شخصياً تمر علي أيام وأيام ولا أشعر بذلك، يصادفني أحياناً شهر بكامله ولا يخطر لي مثل هذا الخاطر.. وأنت؟ أنا أعرف شخصاَ يشعر بذلك .. ألا تعرف أحداً؟ المسألة على كل حال مسألة وقت وهي بالمناسبة ليست مصيبة .. اعذرني ولكنها قناعتي .. ثم كاد يقول: أنهارنا تغصّ بأسماك السلمون. ولكنه خشي أن يكون جاره صياداً محترفاً فلا يكتفي بتكذيبه. ثم قال: السلمون كما تعلم يحتاج إلى صعوبات كثيرة لكي يعيش عندنا .. أقصد لا بد له من دببة تنتظره عندما يعود، والدببة عموماً ألعن من السلمون لا تتحمل العيش عندنا .. تنهزم .. وأنت هل توظف حارساً على كل دب .. أعني لا أحد يجبر الدب على انتظار سلمون لن يأتي .. ثم من أين ستأتي بالطيور الضخمة؟ ولا تنس الشلالات العالية كيف ستؤمّنها للأنهار تتزحلق عليها لأن السلمون، اعذرني ولكنه يحب أن يتحطم، وعليك أن توفر له كل الظروف والصخور لكي يتحطم عليها معظمه على الأقل وهذا صعب ومكلف .. مع أن الارلنديين ضحكوا على السلمون .. كل سلمون إرلندا تقليد، أنشؤوا له صعوبات كبيرة على أنهارهم .. شلالات اصطناعية وصخور مزيفة فانطوش السلمون وصار يعود إليهم أيضاً يتحطم ويبيض .. علّموه فتعلم فما بالك، اعذرني، بالإنسان، هل تنكر أن للإنسان ستين روحاً؟ مثل أرواح السلمون الإرلندي .. لأ؟ .. قل لي لو سمحت.
ثم قال: ألا تريد أن تقول شيئاً؟
ثم قال: قل شيئاً، إذا أردت، وبمحبة.
ثم كأنه استسلم لنفاد الكلام فخاف من صمته وكرع الجرعة الأخيرة في كأسه والتفت إليه بعينين منتظرتين وسأله: تقاسمني ببطحة عرق؟
حرك الشاعر أخيراً يده وأجابه بأن قدم له نصيّة العرق التي أمامه. تناولها منه كمن يفتح شباكاً، وكمن يضع أساساً لحائط. ملأ كأسه وهو لايغادر وجه نديمه، ثم أخذ رشفة سريعة وعاد إليه متلهفاً ومصغياً كأنما يدعوه إلى دوره بالكلام. قال الشاعر بصوت عميق خفيض كمن يتحدث في نومه:
ـ بلادٌ أضنُّ عليها بروحيَ ليست بلادي.
ثم سكت، فيما ذهل رزق الله اسحق، وهتف كأن أحداً أنزله أخيراً من سقيفة خانقة: ليست بلادي.
فردّ الشاعر كأنما لنفسه: ليست بلادي.
ثم مال نحوه رزق الله اسحق وهمس إليه بصوت متهدج مخنوق: اعذرني .. ولكنك سلمون مخدوع.
ثم ابتسم فجأة ابتسامة عريضة: تذهب معي إلى البيت؟ قم نشرب قهوة آخر الليل عندي .. أنا رزق الله اسحق .. ما اسمك؟
عقد الشاعر حاجبيه فاستفسر رزق الله اسحق: تكره اسمك؟
نهض الشاعر فنهض رزق الله اسحق.
كانت سعاد محمد قد أنهت وصلتها منذ فترة طويلة. بدا الزبائن بين سحب الدخان صامتين ومنصتين مثل تماثيل مشدودة الانتباه إلى طاولة واحدة. كان الغرسون جامداً على عتبة الحانة مثل ميكانيكي مستسلم لعطل عصيّ طرأ على القطار، فتوقف بمسافريه في ظلمة غريبة دامسة. وربما قد تناهى إليهم من الخارج صرير جندب وحيد فساعدهم في استكمال وحشة بدأ يشكلها وقوف موظف الجمارك، ورفيقهم الشاعر المنفرد. كانوا، كأنما، يخافون عليهما من خروج متأخر إلى خلاء مريب، ولم يكن ثمة محل للكشف عن أمنياتهم في بقائهما مزيداً من الوقت، فقد خرجا.
كأن لفحة الهواء المنعشة التي تلقتهما على الباب شغلتهما عن الكلام فتشاركا بالصمت باندفاع ورغبة، فيما هما ماضيان في زقاق معتم طويل. وكان واضحاً أن لدى الشاعر تمرساّ في كيف يرمم تعاليه بغض النظر عن كؤوس العرق مهما بلغت، فلا يفضي بمالايريد، ولايزوغ بصره ولايترنح، ويقف في مكانه ما يوازنه من الوقت إذا كانت قدمه ستزل في الخطوة التالية. لم يول رزق الله اسحق اهتماماً بكل أعمال الترميم التي أجراها الشاعر على نفسه نظراً لافتقاده الموهبة في ردم الهوة بينه قبل الحانة وبينه بعد الحانة. ثم إنه تذكر في تلك اللحظات القيود التي تكبله إلى السيد رئيس المنطقة، فشعر بأن الشاعر محضه ثقة لا يستحقها، ولضرورة ما تصوره ضحية هينة ومطواعة لبراثنه هو المخادع المرّ، واعتقد أنه يستطيع أن يخنقه دون أن يلاقي مقاومة تذكر، وقد يسحله وراءه ويرميه في بئر عميقة وفارغة. ولكن من أين سيعثر على بئر كهذه في هذا الوقت المتأخر؟ الأفضل، إذا كان سيخنقه ولابد، أن يترك جثته في المكان نفسه فيأتي الذئب ويأكل وجهه ورجله. وفي الصباح يجتمع الناس حوله ويجدونه بلا وجه ولا رجل فيستغربون، يحركونه ولايتحرك، فيعرفون أنه مخنوق أيضاً. ولكن من المجرم الذي خنقه؟ مَن؟ ثم يسمعون صوتاً عالياً من بعيد ينوح وينادي: أنا .. أنا .. أنا المجرم .. أنا خنقته .. خذوني إلى السجن .. لقد خنقت صديقي. وعندما يقترب المنادي يكتشفون أنه الجمركي رزق الله اسحق.
ـ لماذا تبكي؟ سأله الشاعر.
ـ أنا أبكي عليك.
ابتسم الشاعر.
مسح رزق الله اسحق دموعه. ثم وجد أن يؤدي الجُملَة الشافية التي أدلى بها الشاعر في الحانة. أخذ وضعية نصب تذكاري، فيما وقف الشاعر على بعد خطوتين ملتفتاً إليه دونما فضول زائد. قرر رزق الله اسحق أن يبدأ أداءه عند النقطة التي تتوقف عندها يده المرتفعة في الهواء. وقفت يده في المكان المحدد حيث بدا معها وكأنه يرحب بشخص قادم من بعيد. لكنه لم ينطق بحرف. لقد نسي الجملة ولبث جامداً كما هو فترة أشعرته بالمرارة من ذاكرته التي اختلط عليها كل شيء. حاول عبثاً أن يستعيد من ركامها ما جرى في الحانة أولاً بأول بينما بدأ يتساءل في الوقت نفسه عن جدوى تعليق يده في الهواء كل هذه المدة. لكنه لم ينزلها فقد جلب له بصيصُ الأمل في تنظيم ذاكرته مزيداً من الإحساس بالخزي، قبل أن يضمحل تماماً. وكان لابد من تدخل رفيقه فتابع طريقه ليواجه رزق الله اسحق مشقة أقل في لفلفة الموقف. أنزل يده كأنه يسرقها من رف عال في مخزن مزدحم بالناس، وود لو يستطيع إخفاءها كلها من أصل ذراعها، فلم يجد غير أن يدفن قبضتها مثل رأس نعامة في جيبه الدافئ. ثم مشى خطوة وأخرى فكانتا بمثابة كلمتين سحريتين أجبرتا تلك الجملة المتخفية على الظهور مثل ثعبان من تحت أنقاض حوادث متشابكة وأفكار مبعثرة ومشاعر مختلطة. برزت كلماتها جلية على شاشة بحجم ظهر رفيقه الذي سبقه ببضع خطوات.
كان نافلاً في تلك اللحظة أن يستوقفه من جديد ليؤديها بحضوره، فمضى خلفه وهو مأخوذ بأنه يعجز عن استيعاب الجملة رغم جلاء حروفها على الظهر الذي يسعى أمامه. كأن كلماتها أصبحت لاتشير إلى معنى موصول بقدر ما تعلن تلاصقاً عشوائياً بين بلادٌ وأضنّ وعليها وبروحي وليست وبلادي. استعان باقترابه من ظهر الشاعر ولم يتصل المعنى: كانت بلادٌ تنتهي عند أضنّ ثم تكبر عليها ولا تعرف على مَن، فتأتي بروحي مثل مجموعة من الآلام قبل ليست التي تظهر وكأنها اسم علم يخفق قبل بلادي. ثم تراءت له تلك الكلمات نافرة ومضيئة. كان يدرك أنهما متوجهان إلى منزله لتناول قهوة آخر الليل إلا أنه شعر بأنه مرغم على المشي وراء ضيفه حتى لقد اعتقد أنه لايستطيع الالتفات إلى الوراء والركض في الاتجاه المعاكس. كان كأن قوة خارقة تشده إلى ظهر الشاعر مثل ضرير يهتدي به في شارع غريب، فأمسك به وأصبح ينتبه إلى الحجارة والمعلبات الفارغة وأشياء مبهمة أخرى كانت تصطدم بحذائه. وعندما وجد أن خطاه قد تسارعت على أثر تسارع خطى الشاعر تأكدت له ضرورة التخلص من خضوعه له على وجه السرعة الممكنة، وإلا فلن يقوده إلى غير الجنون. ثم تراءى له باب منزله، وكانت قبضتاه مازالتا متشبثتين بظهر الشاعر، فاستوقفه فجأة: لقد وصلنا ... ما اسمك؟؟
ـ قدري الباشا.
سحب رزق الله اسحق مفتاحه وعرف كيف يفتح الباب. كانت ابنته رغداء جالسة على الصوفا مثل مكافأة لم يتوقعها. اندفع إليها وقد رفع يديه ملتفتاً نحو قدري الباشا، قدّمه إليها كما لو أنه يميط أخيراً الغطاء عن تمساح صغير، مطّ عنقه مزهواً وقال: شاعر!!
ثم أضاف مترنماً: قدري الباشـا!
كانت رغداء قد وقفت، فأصيب قدري الباشا بحزن مباغت حطّم له كل أعمال الترميم التي أجراها على نفسه بعد خروجهما من الخمارة، فبدا أكثر شبهاً برجل مخمور كئيب. ثم انزلق مترنحاً باتجاه ضوء باهر في باب مقابل مفتوح على شجرة ليمون وسكيبة مزروعة بالخضار. وقف بمحاذاة كرسي قش صغير ووحيد ريثما لحق به رزق الله اسحق ثم ابنته مصطحبة كرسياً آخر شبيهاً وطاولة صغيرة. جلسا، ثم التفت قدري الباشا نحو رغداء المنسحبة استوقفها بعصبية جلية وملامح منقبضة وقال كما يصحح خطأ حدث رغماً عنه قبل قليل: أنا لست شاعراً ..
كان ذلك لقاء رغداء الأول بقدري الباشا. ولأنها كانت تود الذهاب إلى فراشها، ولأنها لم تكن قد تجاوزت آنذاك التاسعة عشر من عمرها، ثم لأنها لم تلاحظ وجه أبيها المبهوت من تنكر قدري الباشا لعلاقته بالشعر فقد صدقت كآبته والتفتت إلى أبيها تلومه بفمها المطبق فوجدته يقول: ابنتي رغداء تحب الشعر.
ـ أنا لست شاعراً. كرر قدري الباشا ولم تشعر رغداء بإهانة، بل كادت تشكر أباها على أنه لفت نظرها إلى حبها للشعر. رفع قدري الباشا رأسه وسرح في أوراق الليمونة وقد ذهبت تجاعيد وجهه. خيّل إلى رغداء أنه يغالب بكاءه، فرغبت بالبقاء لكي يبكي أمامها. قال مخاطباً الأغصان: أصبح يقززني يأسي.
ثم استدرك ملتفتاً إلى رغداء: ولكني لست مسكيناً، لست مسكيناً.
ثم صار له عينان شريرتان: شدة يأسي تمنعني من المسكنة، المسكنة أسوأ أشكال الأمل، لأنها نوع منحط من التسول، إن من يئن يطلب شيئاً، أنا لا أئن، أنا أغنّج إحباطي الأسود بأصابعي، أتغنى به، ولكن يأسي هذا أصبح يقززني .. يقززني.
ثم سكت وكان رزق الله اسحق مثل خائف، فقالت رغداء: أكتب عن الأمل.
ـ لا أعرف. عاد إلى عينيها.
فابتسمت: أنا لا أحب الشعر اليائس.
سعل رزق الله اسحق ثم تكتّف قدري الباشا: أصبحت أشعر أنني منافق.
ـ لاتكتب.
نصحته رغداء وكانت تريد أن تدله إلى فكرة ذهبت عن بالها، عندما شخص إليها فترةً جعلت رزق الله اسحق يسعل مرة أخرى، ثم صادقت أخيراً على كلامه: أنت على حق .. لستَ شاعراً.
ـ اليأس لا يحميني.
برطم كأنما لنفسه فأعجب رغداء أنه يبحث عن حماية أحد إلى درجة أنها تنهدت فانسحبت إلى غرفة نومها. فزّ قدري الباشا من مكانه واقترب من رزق الله اسحق، وقال كأنما بلسان غيره: كنت مهرجاً قبل قليل .. اعذرني. ثم غادر مسرعاً بينما ظل رزق الله اسحق جامداً على كرسي القش.
* * *
من هو قدري الباشا؟
كان قدري الباشا هارباً من حلب ..
لست هارباً، فأنا لم أرتكب جريمة حتى أهرب. لقد تركت حلب، لأن وجودي فيها أصبح يشكل خطراً عليّ. أحب حلب، ولكني أفضل أن أكون حياً خارجها على أن أكون ميتاً فيها. أنا لا أظن أن شيئاً على الأرض يمكن أن يكون سبباً مقنعاً لأن أستهتر هكذا بباقي أيامي السوداء أو البيضاء، لا فرق، ولا أعتقد أن الموت بحاجة لأن ندله إلى طريق فرعية إضافية تأخذه إلينا مباشرة. إن لديه من الخبرة وحدة الأدوات وتنوع الأساليب وحنكتها ما يجعله يؤدي عمله معنا بصورة جيدة دون أي مساعدة من طرفنا. وأنا لا أتنكر فقط لأي خدمة له بهذا الخصوص بل وأتحاشى لقاءه قدر الإمكان. وربما كان من حسن الحظ أنني أمارس معه هذه السياسة منذ ما يقرب من عشرين عاماً عندما التقيته بمحض المصادفة في حادث سير. أردت أن أقطع الشارع من أمام باص للنقل الداخلي فركضت، ولاقتني سيارة مسرعة. كانت رأسي ثقيلة، لم أستطع حملها، أعدتها إلى حيث لامس خدي سطحاً خشناً. بقيت كذلك فترة لا أستطيع تحديدها. وعندما رفعت رأسي من جديد ارتفعت معي فرأيتني على الأرض، وعلى مقربة مني سيارة واقفة بزجاج أمامي مكسور ومتناثر من حولي. اجتمع خلق كثير ففهمت ما حدث.
نهضت. ساعدتني يدان غريبتان لم تتركاني حين استويت على قدميّ. كان ثمة لغط شديد. سمعت من قال: خذه إلى المشفى. تفقدت أعضائي. كان دم يزرب من كفي، ثم رأيت دماً آخر على قميصي عرفت بعد قليل أنه يقطر من وجهي. وعندما صرت أستطيع التدقيق فيمن حولي أدركت فظاعة منظري في عيون الناس وغضون وجوههم المنكمشة من الألم والشفقة والفضول. لكن أحداً منهم ما كان له أن يتوقع في تلك اللحظات أنني كنت الأكثر سعادة من الجميع. كان يغمرني فرح من لا يعرف كيف قفز فوق خندق عريض عميق ومظلم كان عليه أن يتجاوزه في كل حال. كانت كل عضلة من جسمي أشد إنهاكاً من أن تطاوعني في التعبير عن ذلك الفرح. لقد كنت حياً. اقتربت من السيارة مستنداً إلى رجلين، فتح أحدهما الباب وساعدني الآخر في الجلوس وراء الزجاج المحطم وأنا لا أصدق أن في مقدوري فعلاً أن أشعر حقيقة بهذا الوهن الفظيع الذي يتملكني. كان السائق يشرح بانهماك جلي كيف أن الحق كان عليّ.
منذ تلك الحادثة لا أفوّت رياضتي الصباحية، أتجنب السهر الطويل والمنغصات المحتملة التي يمكن أن تأتيني من مجرد نافذة مفتوحة، أحافظ على نظام غذائي شديد التوازن، أصعد إلى الميزان قبل كل حمّام، أقوم بتحاليل دورية للدم والبول والبراز، أقيس ضغطي قبل أن أنام وبعد أن أستيقظ، أتأكد باستمرار من لون بشرتي، لا أتناول دواءاً إلا بوصفة حتى ولو سحبت الطبيب من فراش امرأته عند اللزوم، ولا آكل خارج منزلي إلا ما عُرّض على النار المباشرة، أغسل يدي بعد كل مصافحة مريبة، أعقّم خضاري، فواكهي، صحوني، أرضية شقتي. أقوم بذلك بجدية وبلا كلل وبنفس مفتوحة على تطبيق أشد التعليمات الصحية تعقيداً دون أن أثير انتباه أحد. وإذا اقتضى الأمر أقارفها بسرية تامة مع شيء رمزي من تبكيت الضمير، ذلك لأنني شاعر يائس. واليائس سيبدو مضحكاً إن هو أبدى اهتماماً مَرَضياً بكريمات إزالة الشعر، أو بالعطر الملائم لفترة الظهيرة، أو بالألياف الطبيعية في الجزر وخبز النخالة. وأنا لا أستطيع ولا أريد أن أتخلى عن يأسي مع أني لا أزعم أنني يائس على طريقة اليائسين الطبيعيين. اليأس عندي طريقة في الحياة التي أحبها وأستمتع فيها وأحرص على أن يكون لكل ساعة معنى يخصني دون غيري.
يسعدني مثلاً أن يتحكم مزاجي القاتم بمجموعة من رجال ونساء يدعونني إلى العشاء، يفتنني عجزهم عن انتزاع فَرَجٍ صغيرٍ من وجهي المكتسي بطيف ألم متعال خفيف وابتسامة رانية على شفتي منذ ظهوري الأليم بينهم، إنهم يسحرونني عندما يُسكتون جوعهم بلقم خجولة ومذنبة تجاه ما يعتمل في روحي من حرائق، وعندما أشجعهم على المضي في عشائهم إذ أمد يدي وأتناول برأس الشوكة فرمة لحم مشوي أمضغها ببطء وتأمل كما لو أنني أفكر بوحشية البشر إذ يقدمون على ذبح الخراف وشيّها وأكلها فوق ذلك، فيوحى إليهم وكأنني قد تناولت برأس شوكتي قبل قليل عيناً من وجه خروف حيّ وضممتها مكرهاً في فمي. ثم إن التخلي عن اليأس لن يعني عندي أقل من التخلي عن الشعر، فلكي أظل شاعراً ناجحاً يجب أن أكون يائساً ناجحاً أيضاً. الشعر كان دليلي إلى اليأس. حدث ذلك في مطلع شبابي بعد أن هجرتني فتاة قبل أن أهجرها بقليل. آلمني ذلك وظننت أنني لا أستطيع العيش بدونها، ثم كتبت قصيدة لها تحت وطأة يأس شديد، فباغتني أن الاستحسان الكبير الذي لاقته هذه القصيدة، وجعلني أنسى من هجرتني.
قصيدة يائسة واحدة فعلت ما عجز عن فعله أيٌّ من ديوانيَّ المتفائلين المنشورين قبل تلك القصيدة. وأعتقد الآن أنه لو تسنى لي آنذاك أن أسبق فتاتي إلى هجرها قبل أن تهجرني لما نجحت في تكوين صورتي كشاعر له حضور. ولربما كان علي في أحسن الأحوال أن أنتظر سنوات طويلة لكي تتاح لي امرأة أخرى يتاح لها أن تهجرني في التوقيت نفسه والبراعة نفسها. ثم استنبتُّ فيما بعد بذرة اليأس هذه في أصصي الشعرية الخاصة، وتوصلت إلى الاستغناء عن المسببات المادية للإحباط. لقد تمكنت من تكنيك الشعور بالمرارة دون الحاجة إلى حدوثها بالفعل، فلكي أحقق درجة عالية من اليأس ما عدت أحتاج إلى كارثة. صار بإمكاني أن أكون يائساً بلا سبب وفي أي وقت أريد طالما أن ذلك يروّجني كشاعر متميز لدى جمهوري، أخصّ منهم الثوريين الشباب الذين ينوؤون تحت حمل ثقيل مرهق من الآمال الكبرى، فلا يسعفهم النزق ولا الوقت ولا شعورهم الحامي بالعدل بأن يجدوا مبرراً كافياً حتى للحب إذا كان خالصاً من شوائب العقيدة.
كما أخص الثوريات الشابات المنزلقات من الأسر الغنية المضجرة، ومن الأسر الفقيرة المتعلمة من شدة الشوق إلى الخروج على علاقات بلا تقاليد في المتعة وتحقيق الذات. وكذلك الطابور الرقيق الطويل من عوانس ومطلقات وأرامل في زهوتهن الأخيرة، والمتزوجات المتحسرات على الحب من اللواتي لا تستطيع الواحدة منهن أن تنظر إلى شباك مغلق، دون أن تتخيل وراءه قصة ملتهبة تقوم بدور البطولة فيها امرأة سواها تقل عنها بالعنق والساقين والمؤخرة والقلب. وكان أشد ما يسحرهن أنني يائس منهن في قصائدي. وكلما كنت أكثر يأساً فيها كنّ أكثر سخاءاً عليّ بوصل حبل المودة. وكان يحلو لإحداهن أن تكون المعنية بآلامي فتنسج، من دوني، لنفسها شرنقة حب شبه معلنة تقوم على فراش وحيد جرى بيننا، أو عناق وحيد، أو قبلة وحيدة، أو مجرد كلام وحيد جرى عن أمطار آذار. ثم تخلي هذه المكان لغيرها ما دامت قد لقيت ما لقيت من عناء الحب، وما دمت طيلة ذلك العناء قد صنت لها أسراراً لا وجود لها، وحافظت على نقاء يأسي من التبجح والتعالي. وقد تحتل المكان نفسه اثنتان فتلعبان معي لعبة العذاب المسلية: نبتعد عن تسمية الأشياء بأسمائها ليكون ثمة ازدهار للحيرة والحرقة واحترام خيار الآخر مهما كان قاسياً والميل إلى مغمغته كلما تجلى لكي لا يموت الأمل باستئناف تيهٍ لذيذ تحت ثلاث عباءات.
وكان الثوريون من جمهوري يؤولون يأسي على أنه نوع من رفض الواقع المرير، ودعوة حارة إلى تغييره. ولا يجدون في نساء قصائدي إلا صوراً للوطن من زوايا مختلفة. ومع أنني كنت أعجب للمعاني الوطنية التي كانوا يتصورونها بسهولة حتى عندما أبلّغ بلعابي وردة سوداء بين فخذي امرأة من شِعر، إلا أن ذلك ما أزعجني قط طالما أنهم لايتدخلون بمقاييس الصدر النافر الذي يؤرقني ويظهرني في كلماتي منطوياً وبرياً إذا شئت وشاء لي الهوى. ثم ما يضيرني أن أبدو مسوّقاً لحب بلادي ما دمت لا أتعمد ذلك؟ وهل كان الثوريون غرباء إلى درجة امتناعي عن تقديم هذه الخدمة لهم؟ كنت لا أعترض على أن يروا فيما أعمل وكأنه استكمال لما يعملون، بل كنت لا أوحي إليهم بغير ذلك فهم بالنهاية أكبر الخاسرين. وفوق ذلك فقد وفروا ليأسي تجليات أخرى ما كنت، لولاهم، أستطيع تذوقها ببساطة. لقد توصلت، بعد عناء قليل، إلى أنهم يفضلونني مختنقاً، وينتظرون ذلك بصمت وبفارغ الصبر. صرت أختنق أمامهم كما لو في زنزانة زجاجية مفرغة من الهواء، ومسدودة بإحكام، وموضوعة على قاعدة تمثال في ساحة عامة، حيث يتجمعون من حولي يتلهفون إليّ من وراء الزجاج، وهم يبتلعون دموع الرضا والنقمة الهنية، فيما أكون في ذروة نشوتي بيأسي الخانق.
ثم تعلمت كيف أموت من أجلهم دون أن أموت، فجعلت أستشهد في قصائدي وأجعلهم فيها يرفعونني على أكفهم يتحلقون من حولي ويرقصون. فيكون على امرأة جميلة أن تنثر الرز على المشيعيين المبتهجين بآلامهم، وعلى أمي أن تزغرد من نافذة تطل علي، وعلى أبي الميت أن يكون موجوداً يرفع رأسه ويقوّم شاربيه. ثم يكون على أنيني أن لايعلو على نبرة استشهادي الدائم، لكي لا أفقد سلطة الشهيد الحي التي منحوني، ولكي لا أقلد غيري من الشعراء. باختصار كان علي أن أكون جرحهم المفتوح بصمت والنازف بلا توقف، طالما أن يوماً أبيض واحداً من أيامهم كان أبعد بكثير من استلامهم وزارة الدفاع أو الخارجية. ورغم أن السعي وراء تلك الأيام المحجوبة في الغيب كان يتطلب منهم قدرة أسطورية على الإحساس بالبراءة والاستعداد الغريب المطلق للتخلي عن الرأس عند أول منعطف، ومن ثم كان يتطلب مخيّلة لاتحدّ، رغم ذلك فقد كانوا يظهرون وكأنهم يمارسون لعبة خطرة على أحد. والدليل أنني اعتُقلت مع أنني لا أعدّ نفسي من الذين يَجنون متعة من التهاوش مع السلطة.
في عشية اعتقالي وعلى شرفة منزل أحد معارفي اعترفت لي امرأة شابة أنها لا تفهم الشعر ولا تحبه، ولكنها تحب أن تتطلع إلي فلا تشيل عينيها عني. كانت تدعى إيمان وقد تعرفت إليها في الليلة ذاتها، وقبل أن تغادر حرصت على إعطائي رقم تلفونها بعيداً عن الأنظار، فوعدتها أن أتلفن لها في العاشرة من صبيحة اليوم التالي. ولكني في ذلك الوقت كنت معصوب العينين أمشي في دهليز طويل فلم أف بوعدي. ثم أردت أن أستوعب الحاصل وكأنني اعتقلت من باب الخطأ فقد ظننت حتى ذلك الصباح أنني لم أكن أمارس شيئاً آخر غير يأسي، ولكني فوجئت بصعوبة إقناعهم بهذه الحقيقة. ثم اقتنعت باستحالة ذلك مع أنني كنت أفتقر إلى حقيقة أخرى، ما سهّل عليّ الاستماع إلى إدانتي من شخص وقور دلق كلامه أمامي على صورة حقيقة كاملة كان علي أن أتقبلها كما هي، فتقبلتها. ثم استطعت أن أتقبلها بعد أسبوع عن قناعة رأيت من الأسلم أن تكون غير منقوصة، فكانت كاملة كما أردت. لقد ظهر لي أنني تكتمت على معلومات كان الأحرى بي أن لا أتكتم عليها.
وبالفعل تبين لي أنني كنت متكتماً عليها دون أن أدري. وقد حصل هذا التكتم فيما كنت مسافراً ذات مرة من حلب إلى دمشق وبالضبط في الاستراحة التي نزل فيها المسافرون بعد مدينة حمص. هناك، قيل لي إنني طلبت شاياً وجلست إلى طاولة منفردة، منفردة إلى درجة الغموض. وبالطبع لا يمكنني أن أنكر هذا فأنا فعلاً أفضل الشاي على القهوة، وفي مثل هذا الظرف وهذه الساعة المبكرة ـ الرابعة صباحاً، لا أميل عادة إلى رؤية أحد، وطبيعي أن أختار تلك الطاولة المشبوهة. وكان يمكن للمعلومات ألا تتكون لدي فلا أضطر لكتمها لو أني أنهيت كأس الشاي عند هذه النقطة. ولكن ثلاثة شبان اقتربوا مني قبل ذلك وجلسوا إلى الطاولة نفسها. وقيل لي إني رددت على تحياتهم بحرارة بل قمت نصف قومة وأنا أصافح أحدهم. ثم ذكروا لي أسماءهم ولم أذكر أحداً منهم ولكني ما استثنيت أبداً أن أكون قد التقيتهم بمكان آخر فأنا شاعر معروف لدى من يمكن أن يكونوا مرشحين لإشارات استفهامهم على اختلاف طُرزِهم. ثم عرفت أن واحداً ممن جلسوا إلى الطاولة كان مطلوباً لأسباب لم تفسر لي. وقيل لي إنه لم يتابع الرحلة إلى دمشق أو أنه أصلاً لم يكن في قوام المسافرين. فبدا وكأنه ظهر في تلك الدقائق خصيصاً لكي أتكتم عليه.
ورأيت أنهم على حق مادمت لا أعرف كيف أنفي سفري المتكرر من حلب إلى دمشق، ومن ثم يكون مستحيلاً التنصل من جلوسي مع من تكتمت عليهم ذات صباح باكر في استراحة تقع بعد حمص بعشرة كيلومترات. كوّن لدي نظام استقبال السجناء الأغرار والقاووش وسكانه المتلاحمون انطباعاً قوياً وعصياً على استيعابي في بداية الأمر وهو أنني لن أموت بسبب سماحة الأعراف التقليدية في معاملة المعتقلين بل من استحالة تطبيق حذفور واحد من حذافير التعليمات الصحية التي اعتدت عليها. ولكن سحنات السجناء من حولي سرعان ما ساعدتني في اكتشاف بطلان هذا الانطباع، وفي أنني سأظل حياً في الهواء المستعمل ذاته فترة لن تقل عن عشر إلى خمس عشرة سنة. كان رجل خمسيني يمارس من التمارين السويدية كل ما لا يحتاج إلى القرفصة أو الاستلقاء. وكان آخر يصلي فيركع فوق آخر نائم ولا يجد فسحة لسجوده. عجوز يستغرق في رأس سبابته التي تهم بملامسة الحائط اللصيق. شاب يخفي وجهه الأزرق في خرقة أشبه بمنديل سابق. ملتح بعينين غائبتين يرش بشفتيه المختلجتين المتورمتين تسبيحاً خافتاً يتراكم في الفراغ الضيق المتعرج بينه وبين وجوه وركب وظهور مجاورة.
وكنت أبحث عمن يمكن أن يعرفني في القاووش، فقد حزّ في نفسي أن أحداً من المسجونين لم يكترث بي. همس لي جار ملزوق بي نحيل رقيق القسمات في وجه مستطيل ممصوص: عندك بزر؟ التفتّ إليه فاحتمى بعظام كتفيه كأنه انتظر صفعة مني. قلت: ما عندي. قال: أحسن. ثم أغمض عينيه ريثما تقيأ شخص في أول القاووش، ثم فتح عينيه وهمس لي: إذا لزمك شي أنا جاهز .. لا تخجل .. اسأل عني أنا الاستاذ محمود. وخيّل لي لسبب لا أعرفه أن ذلك المتقيئ لتوه يعرفني، فهب "عليَّ" من ناحيته نسيم منعش. ولكني خفت أن أقطع الطريق المعقدة إليه فوق الهامات والأرجل والبطون ثم أكتشف خطئي. جلست على ركبتي. مططت عنقي. ثم وقفت أخيراً لأساعده قدر استطاعتي في تذكري. وددت لو أتحدث إليه من مكاني بصوت عال ورخيم فرفعت يدي. نظر إلي. عرفني. اقتربت منه في دقائق التنفس. مسحني بنظرة عابرة تماماً كما ينظر إلى موضوع سواي. شعرت بالحرج إذ انتظرت أن يفاتحني هو بالحديث. لم يكن يعرفني. كان عليّ أن أسأله سؤالاً سخيفاً وأبتعد.
ولكني عندما عدت إلى القاووش قررت أن أفاجئ جاري الاستاذ محمود بقصيدة. وكذلك فعلت، فتقبّض الاستاذ محمود مثل قنفذ من كلامي المعرب المباغت. ثم استرخى مخرجاً رأسه من فجوة بين كتفيه بعد أن أطلت، ولم ترتب عليه فصاحتي أي أذى. جعل يتمعن بفمي المتلهف المشغول. كنت أعرف أن اختياري لم يقع عليه لمجرد أنه ألصق شخص بي في القاووش. من الطرف الثاني كان يلتصق بي شخص آخر على قدر مهول من الجد والضجر، ولكني لم أجرؤ على جعله مستمعي الأول. لقد اخترت الاستاذ محمود لأنه في خوف دائم منحني فرصة أن أكون حراً أمامه بلا رتوش، وذلك بعد أسبوع كامل وموحش من وجودي بينهم أعزل من إعجاب أحد. وكان مستحيلاً أن أشكّل جمهوراً جديداً لي بوتيرة انتشاري ذاتها التي حققتها على مدى سنين طويلة خارج السجن. كان مؤلماً أن أعيد المشي على خطى مشيتها ونسيتها، وكرهت أن أبدو رجلاً يكتشف متأخراً مواهبه الأدبية، لأنه سجين أو مهان أو فاشل. ولن يكون أقل استحالة وسخفاً أن أقف على حجرة كبيرة في ساحة التنفس وأهتف بشعري بلا مناسبة أو سياق، فكان لا فرار من ممر إجباري كالأستاذ محمود، ممر لا يريك نهاية بقدر ما يوهمك بوجودها، تماماً مثل ديكور مختزل لجمهور يفي بالغرض ما دام لايسمع إلا صوته الداخلي.
تابعت قصيدتي مزهواً ومتشنجاً من الانفعال. وحين أنهيتها بقي الأستاذ محمود شارداً في فمي المرتعش المغلق ثم قال بعد حين: أصلاً ما عندنا شي نعمله غير أن ننام. ولم أشعر بقصور الرضا الزهيد الذي نابني من الأستاذ محمود إلا عندما أمّنت عليه متلقياً دائماً لايعترض حتى ولو أيقظته في آخر الليل ليتلقى حاجتي لقراءة شعري. ولكني لم أعفه من هذه الحاجة رغم شعوري ذاك ورغم معرفتي الأكيدة بأنني أسيء استغلال غيابه عن قواه التي تنظم علاقاته مع الآخرين. لقد كان ببساطة ضحية لي، وكنت بطبيعة الحال أتألم من أجله ولكن إلى الحد الذي لا يخلصه مني رغم كل شيء مادمت عاجزاً عن تقديم نفسي شاعراً معروفاً إلى جمهور لم أختره ولم يخترني. كيف أتخلى عن مسكّن موضعي في متناول يدي؟ كان أحياناً يسألني بعينين ضارعتين أن أتركه صافناً بالسكة المدقوقة فوق شبك النافذة العالية، فأستجيب منكسراً لرجائه حتى تطق مرارتي، وأحنث بوعدي من جديد. كان يريحني أن أعتقد أنه في غياب تام رغم عينيه المفتوحتين، ورغم النفس الضعيف الذي يتردد في رئتيه الضامرتين، وذلك لأتنصل من سمة الانتقام في مثاقفة الأمر الواقع التي تجري بيني وبين الأستاذ محمود، الانتقام البشع من كلينا بالدرجة نفسها، رغم أن الظاهر كان لاينمّ عن حصتي من الألم كما ينمّ عن حصته.
كان ذلك حتى أسبوعي الثالث في السجن، الفترة التي كانت كافية لأن يتخلخل فيها أمام من تنام وتستيقظ وتأكل وتشرب وتستحم البابُ الذي تخفي وراءه مشاعرك غير المخصصة للتداول. وكان علي إما أن أستسلم وأقبل بالنور، يتقاسمه الجميع بالتساوي كما يتقاسمون الخبز والماء، أو أن أكتفي بسجني الثنائي الطوعي المؤلم مع الأستاذ محمود، فأزيد مع مضي الوقت من سماكة جدران زنزانتنا الخاصة بي وبه داخل القاووش. وكان الخيار الثالث ضرورة كالهواء فجاء به الأسبوع الرابع. لقد جنى حسن طالعي على مستقبل طالب جامعي وأتى به معتقلاً إلينا. كان الشاب يتقنّع بوجه من أدلى لتوه بدلو ثمين في عملية صنع الحدث، رغم الرهبة التي تخفيها بلا جدوى عيناه القلقتان، ويداه الطويلتان اللتان لم يعرف أين يضعهما. استلم بضعة أشبار مربعة من أرض القاووش كانت أقل من الضخامة التي جاء بها، ولكنه شغلها مثل برغي مكروب في مكانه المناسب. حاولت جاهداً منذ وصوله أن لا أقع في الجهة التي ينظر إليها. لقد أحببت أن يكون ممن قرأوني فلم أجازف فوراً بسعادتي المحتملة. كان لا يلزمني أن أخسرها بدافع الوقوف على الحقيقة، فالحقيقة نفسها كانت تالية في ذلك اليوم بالمقارنة مع أمل محدود دافئ.
كنت أسترق النظر إليه من بين أجساد ووجوه كثيرة وأخترع نسخاً مختلفة لسلوكه في اليوم التالي عندما سأبزغ أمامه ونسخاً أخرى لسلوكي كانت في معظمها تنوّع احتمالي السعيد وتنتهي بتصعيد حميم بين رفيقي درب في الجحيم. في العشية أردت أن لا آوي إلى النوم لمجرد أن موعد نومي قد حان. أردت أن أنام مرهقاً ولكن ليس من الساعة أو الساعتين اللتين أنفقهما عادة في تحويل نعاسي الكاذب إلى حقيقي. أردت أن أنام فعلاً في الدقيقة التي أميل برأسي إلى الأرض، حيث لا يستغرق الليل أطول من هذه الدقيقة المركزة بدسم راحة عميق، فأستيقظ كأني نلت ما أنا بحاجة إليه من النوم لكي يطلع علي الصباح وأنا مشحوذ الحواس. تفاديته في الصباح أيضاً. انتظرت لحظة خروجنا للتنفس، وتعمدت جواري معه عند باب القاووش، ثم في الكوريدور شبه المعتم المفضي إلى آخر ينتهي بالساحة. أضاءني النهار المشمس ولم يرني. بقيت بمحاذاته وأعددت نفسي لعناق سيحدث. رفع رأسه إلى شبكة الأسلاك العالية التي تفرّض السماء فوقنا إلى مربعات صغيرة. شهقت أنفاساً عميقة متلاحقة من الهواء فعرفت أن قلبي يدقّ دقات قوية غير منتظمة. خفت. ما أردت أن أسقط فجلست على الأرض كمن سقط.
التفتَ إلي فتشبثتُ بوجهه. لقد عرفني. تعاليت على ألم مفترض شديد، ثم وقفت وتابعت سيري كأن ما حدث لاينبغي أن يهم أحداً سواي. تبعني. توقعت أن لهفته عقلت لسانه فتنظمت دقات قلبي. انتبهت إلى أنني أصبحت جاهزاً لأن ألعب دور نبي متنكر. تباطأت ثم توقفت، انتظرت أن يتخطاني. ما تخطاني. التفتُّ. لم يكن ورائي. ولكني اصطففت إلى جانبه عند أخذ التفقد ببراءة مصادفة أخرى. كنا نترادف في أرتال كثيرة خمسة وراء خمسة وراء خمسة فنشكّل بأجسادنا المتراصة مستطيلاً رمادياً ضخماً من لحم وعظم وأنفاس فوق تراب الساحة. كان كل من يقع على الأطراف يتعرض، حسب الأعراف السائدة، للكمات وركلات الحراس الذين يطوفون بمرح صاخب حول مستطيلنا الصامت الحار. وكان الشاب الجامعي يحضر التفقد لأول مرة، فشغل إلى يميني الطرف الأول من خمسة رتلنا. عمل حظي السيء على أن تجيء اللكمة الأولى قريبة من أنفه، فنبق على خده ورم أحمر بعثر على الفور كل حساباتي. فإذا كنت أصرّ على كونه معجباً سابقاً بي، فإن عليّ أن أعاونه في تخيل الآلام القاسية التي لا ترحمني. ولكن كيف كنت أستطيع فعل ذلك إذا كانت الآن الآية معكوسة؟ خفت منه عليّ. صار يقلقني وجهه الذي بدأ ينمّ عن العناد. انزلقت القبضة الثانية على رقبته من الخلف انزلاقاً سريعاً فلم تفسح له المجال لأن يتحملها. الحارس الثالث ركله على قفاه ركلة كانت قادرة على رمي شخص آخر في مكانه، ولكن جثته الضخمة أسعفتني في أن أتصور أنه لم يشعر بها. ثم بدأت الضربات المتتالية عليه تنمّي لدي إعجاباً ما بقدرته على الصمود، إلا أن أملي بأن يظل وجهه نظيفاً من تسديدة أخرى جعلني أطفيء في نفسي بريق هذا الإعجاب. إن تسديدة أخرى إلى وجهه كانت ستقلب الميزان لصالحه حتماً.
كنت معبأ لأن لا أسمح بانتفاخ جديد تحت عينه أو على صدغه أو شفتيه ومستعداً لأن آخذ مكانه على ضلع المستطيل إذا كان الدم سينزل من أنفه أو من بين أسنانه ما كان سيورطني بحماقة حارس سيفهم بالضرورة هذا التبديل على أنه نوع من التحدي، وهذا يعني دخولي مكتف اليدين إلى حلبة ملاكمة مع غول. كنت أضرع بسرّي إلى كل حارس دوريّ لاهٍ أن يتحاشى وجه جاري. صرت أقبل بكل ما يتلقاه جسده المستور في القميص والبنطلون. كان يهمني أن لا يكون ثمة أثر دام ومكشوف على مرأى مني. ثم شعرت وكأن خطة كان عليها أن تُستكمل للإيقاع بي حين جاءت الضربة القاصمة. لقد حطت القبضة التالية بحرفية مدهشة في المكان المتورم ذاته. نفر الدم من أنفه، ونفّرتني مباشرة ملامح الهيام التي تأكدت على وجهه. كان واضحاً أنه يستسيغ فعلاً أن يكون المرء قوياً ومظلوماً ومستأثراً وحيداً بالحقيقة، ما دام يدفع ثمنها بشجاعة وترنّم. وما كنت لأستسلم للخيبة التي تمكنت مني، لقد كنت إلى جانبه معتقلاً زائفاً وقزماً، وكان لا ينقذني أقل من دم مماثل. أمسكت ذراعه وأطحت به إلى مكاني وتسنّمت مكانه واقفاً مثل ديك منحوت. عاجلني حارس لعوب بكف مفتوحة وثقيلة ألصقها بوجهي فشملت عيني وجبيني وأنفي وفمي. وقعت فأنهضوني فيما سمعت من هتف باسمي في ظلمة حالكة.
كان علي قبل كل شيء أن أفخر بملوحة الدم الحارة التي صارت تتدفق من فمي ثم أن أستعيد نظري وأن أتوازن في وقوفي وأن لا أتأخر في الوقت نفسه عن إثبات حضوري: أن أرفع يدي وأن أجد صوتي وأجهر به: حاضر!. اتفق لي أن قمت بذلك كله دفعة واحدة، بل ولحقت أن أسأل نفسي في تلك اللحظة المزدحمة بالمهام عمّا إذا كان اسمي الصريح قد عنى شيئاً للطالب الجامعي. انتهت حفلة التفقد. وما نالني فوق ذلك غير رفسة ضعيفة أشبه بالمداعبة على خاصرتي. كان الشاب حريصاً هذه المرة على جواري في الكوريدور الطويل شبه المعتم. حاذاني بإصرار وأنا أتمتع بعودتي إلى حجمي الطبيعي بعد أن تخلصت من كل إعجاب به. لم أعد مديناً له بشيء، فما ناله نالني. ولذلك عدت واكترثت به بقوة دون أي شعور بقيد أو فكرة خانقة. نظرت إليه كأنني أشرف عليه. قال: شكراً لك أستاذ قدري. كان خجولاً من الصفعة الدموية التي حررتني منه. وما أردت تقزيمها ولا تهويلها، فحِلت دون أن يحوّل شكره إلى اعتذار مفتوح. عبّرت عن اهتمام ما بأن نتبادل الحديث في التنفس القادم، ثم فتحت خطوتي وسبقته إلى القاووش.
لقد برهن الشاب الجامعي على عداء فطري أصيل لكل ما يتعلق بالسلطة أياً كانت وكيفما تجسدت. كان يعارضها بقوةِ من لا يقبل عليه حكماً بأقل من السجن مدى الحياة، ولذلك فقد كان جذاباً وساذجاً مثل شهيد لم يُقتل بعد. وبقدر ما كان موحياً بالعصيان كان محتاجاً إلى تبريره، فلم يكن كافياً رضاه ولا قناعته بأن عمره قصير. كان ثمة فراغ لا بد من ملئه بعبودية من نوع خاص كأن ينفجر ببكاء دوريّ أو يحفر نفقاً أو يهدم جداراً أو يتعمّش ثم يمشي على حبل مشدود أو يُشعل حريقاً أو يصبح داعية مستميتاً لعقيدة أو أحد. ولذلك لم أجد صعوبة كبيرة في أن أملأ له أنا هذا الفراغ. صار مروّجاً لي دون أن يكون ملماً محترفاً بمفاتيح الشعر. وقد بدا لي أن قدرته المميزة في إقناع الآخرين بفكرة ما تكمن في أنه يتشكّك بهذه الفكرة أصلاً، فتشعر وكأنه ينشيء حواراً مع ذاته حين يتوجه إليهم، ويستخدم غالباً أمضى أسلحته المتوفرة، ليستدرج يقينه بيقينهم. وكان يستعيض عن بعض جهله بما يقول باستعداده الدائم للتضحية. ولم أكن من ناحيتي أقل نزوعاً إلى العودة لممارسة يأسي من جموحه إلى أن يعلق بمسننات عمل حماسي ما. ولكن لكي يكون هذا النزوع مثمراً سلّمت، بصورة مؤقتة، بمواصفات أخرى بالحياة، أعني لفّقت غطاءاً متيناً سميكاً وضعته بدقة وحزم فوق كل الانطباعات السيئة التي تألفت لدي في الأسابيع الأربعة الماضية في السجن تحت ضغط فعّال من الذاكرة، ما جعلني أتحكم بهذه الانطباعات، أجرّدها من حرارتها وأعاملها على أنها مواد محفوظة يمكن استخدامها في مهمات بلاغية باردة بلا أي عبء أخلاقي يعرقل أدائي كشاعر، الأداء الذي أتمسك به بأسناني لأنني بدونه لن أكون أكثر من إنسان محبوس، أو إنسان غير محبوس، و هذا كاف لأناس كثيرين غيري.
لذلك سخّرت تقنيات اليأس في تحويل السجن إلى مكان إقامة لا يختلف كثيراً عن أي مكان آخر، متنازلاً بإصرار عن عدّ الأيام ونبش الذاكرة ما دمت لا أعرف متى سأخرج. ثم استهجنت الفكرة الدارجة عن السجن باعتباره مكاناً لتقويم اعوجاج البشر بأسلوب غير شعبي. ولم يلزمني للتوصل إلى ذلك أكثر من أن أعترف بأني مسجون فعلاً، لأن الانسان الطليق يلاحظ بسهولة شديدة أن وجوده حراً أفضل من وجوده مقيداً، بينما لاينبغي للسجين أن يتورط بهذه الملاحظة السامة. وخاصة عندما يكون جاهلاً لمقادير أيامه القادمة. عليه ولو من باب اللعب في البداية أن يخلط بين أن يكون هنا، وبين أن يكون هناك. وطبيعي أن يلاقي في محاولته مشقّة ما في الوقوف على غير القليل من القواسم المشتركة بين المكانين. ولكنه بمساعدة اليأس يستطيع العثور عليها بجهد أقل، فيجد نفسه على ثقة شبه أكيدة من أن الحياة التي تجري هناك، هي نفسها التي تجري هنا مع فارق ضئيل بالإيقاع. أما إذا نجح في أن ينجز يأساً كليّاً وبلا هوادة فإنه يستردّ شعوره بأنه شخص طبيعي بدليل أنه يبدأ بتفضيل أن يكون المرء هنا على أن يكون هناك. إنك هناك ستكون عُرضة لوضع حريتك على المحك. وهذه مشكلة، لأن هذه الممارسة قد لا تسنح لك، إلا بصورة دفاع عن النفس حيال اعتداء غاشم عليك في الطريق، أو أمام الفرن أو أمام زوجتك، في محل لبيع الأحذية. وغالباً ما سوف تتلبك بحريتك الغُفل في تلك اللحظة ولن تعرف كيف تكون مسؤولاً عن ممارستها بأقل ما يمكن من الخسائر.
أما في السجن فأنت غير مسؤول حتى عن الدفاع عن نفسك إذا تعرضت للاعتداء نفسه. وهكذا فأنت تنام هنا مرتاح الضمير ما دمت هناك تفشل غالباً بتجريب حريتك بعواقب سليمة. أنت هنا شخص غير مسؤول ولذلك فإنك تتحمل الضرب وأنت مرفوع الرأس، فكرامتك مصانة طالما أن أحداً لا يلومك، ولا يتهمك بالجبن، أو التقصير بل غالباً ما ينظرون إليك هنا كبطل، كلما تحملت المزيد من الإهانات. ومن هنا فإن هذا السجين الواقعي ينزلق إلى الاحتفاظ باليأس الكامل كأقصر طريق إلى الحرية حتى يُطلق سراحه حيث يمكنه تغيير الوصفة، إذا وجد هناك طريقاً أقصر من اليأس إلى حريته.
بعد سنة وثلاثة أشهر من اعتقالي أُفرج عني. استقبلت النبأ مثل خديعة فقد كنت معداً لفترة أطول بكثير. كانت المدة قصيرة إلى حدّ مخجل أمام السنين التي خلّفها الزملاء وراء ظهورهم هناك. نظروا إليّ وقد استبد بهم حزن عميق، صاروا يدارونه عني بكلمات سعيدة خرقاء، عدا الأستاذ محمود الذي صافحني وقال بيني وبينه: إذا نبت للانسان شعر بني قصير على جبينه، وعلى ظهر أنفه، يصبح ابن عم الكلب. كان الشاب الجامعي مثل ملطوم على وجهه، اقترب مني وقال: مع السلامة. وهو يمغمغ تخويني الذي أفصحت عنه عيناه العكرتان. مع ذلك كنت أستطيع أن أمتنّ إلى أحد، إلى ذلك الذي لا أعرفه المتسبب بمحض المصادفة ربما في تقصير مدة سجني إلى هذا الحدّ المعيب. وقد قوي شعوري بالامتنان حين وجدتني على باب السجن. شجعني على ذلك الهواء الطازج اللامبالي الذاهب الآيب هكذا بلا مشيئة أو هدف، وكان في غنى عن أفضال يأسي فاستنشقته بدونه إذ لم يكن في حاجة إلى تجميل أو إعادة تكوين، وبفضله تمكنت من نسيان مَن كنت معهم لتوي وكأني لم أُسجن قط. نسيتهم بخطواتي المبتعدة الأولى، نسيتهم بقوة وعمق، نسيت عناوين بيوتهم التي كان علي أن أزورها، وأن أنقل إليها رسائلهم الشفوية، نسيت كلماتهم الركيكة من شدة الشوق واليأس إلى زوجاتهم وأمهاتهم، نسيت القبلات التي أرسلوها معي إلى صبيانهم وصبياتهم.
وكان ثمة رسالتان تعنّيت وأخفيتهما تحت بطانة جاكيتي في اليوم الأخير من سجني، تذكرتهما في السيارة في طريق عودتي إلى حلب، ففتقت البطانة، فتحت النافذة المجاورة ورميت بهما إلى ريح شديدة ثم رفعت الزجاج وأنا أقرر أن لا أعود إلى السجن أبداً. كانت دوريات التفتيش تزداد كلما اقتربنا من حلب. وكان المفتشون أكثر حذراً منك، وميلاً إلى الارتياب بك لمجرد أنك قاعد في سيارة، وهم واقفون إلى جانب الطريق، فيسهّلون عليك اعتقادك بأنهم ينتظرونك أنت بالذات. ولكن إطلاق سراحي الذي لم يبرد بعد جنّبني سوء النية هذا. كنت أنتظر بإلحاح أن يسألني أحدهم "وأين كنت قبل ساعات؟"، لأسارع إلى تبرئة ذمتي «في السجن». ذلك لأن طريقتهم في تقصّي الوجوه، دفعتني لأن أظن أن السجن هو أفضل مكان يخرج منه الإنسان في هذه الظروف، طالما أنني خرجت من بابه الرئيسي وبرضى الجميع. ولكن أحداً لم يثلج صدري بهذا السؤال.
حين دخلنا حلب خُيّل إليّ للحظات أن الليل قد انتصف فيها منذ ساعة على الأقل. نظرت إلى ساعتي. التاسعة والربع. الشوارع مضاءة، سيارات جيب تمرق كالسهم، بعض كلاب متفرقة ومتمهلة، بعض قطط، ولكن لا أحد، إطلاق نار بعيد، وسكون ضار يتقطّع ويضاعف من هدير سيارتنا. أوصلنا السائق كلاً إلى منزله. فتحت شقتي. غبار. غبار على الأرض والكنبات ورفوف الكتب التلفون الطربيزة المقلوبة وإبريق الشاي والكأس المكسورة. ماذا تفعل مظلتي مفتوحة على طاولة الأكل؟ هل كانت تشتيّ في تلك الليلة؟ أين أجلس؟ أية يدٍ سحرية ستنفض كل هذا الغبار دون أن أختنق؟ فتحت غرفة نومي. غبار على السرير المنكوش، على اللحاف المكوّم، على الشرشف المكشوف، على المخدة، وفي داخل الخزانة غبار أخفّ. رجعت إلى الصالون وقد خطر بي أنني الساكن الوحيد في حلب. شغلتني هذه الفكرة رغم أنني لم أصدقها. وقفت في أقرب مكان إلى دفتر الهواتف بحيث يستحيل علي أن لا ألاحظه ما دمت لا أحفظ إلا رقم هاتفي.
سحبت الدفتر من بين كتابين في المكتبة، وجلست رغم الغبار على الكنبة المجاورة للتلفون. طلبت أول رقم صادفني. كان لشخص لم تُسعفني ذاكرتي باستحضار شكله، أو أية علامة فارقة تضاف إلى اسمه المرسوم أمامي بقلم رصاص، ولكني مع ذلك ظللت أتابع بلهفة الرنين المتواصل في سماعتي. بلا جدوى. طلبت الرقم نفسه مرة أخرى. لا أحد. وكنت لا أريد أن أثبت فرضيتي الخاطئة بخلو حلب من أحد غيري. رأيت أن أطلب الرقم الذي يليه طالما أن قلبي بدأ يعبث بدقاته. كان الرقم لمنزل مصلّح برادات صلّح برادي منذ ثلاث سنوات. رنّة، رنتان، ثلاث، أربع، خمس، ست، لا أحد، لا أحد، لا أحد، ثم .. انفجرت ساعة الحائط تعلن العاشرة فيما رفعت السماعة من الطرف الآخر من الخط: آلو.. آلو.. لم أُجب. طبقت السماعة. رفعتها من جديد وأنا ألهث في دفتر الهواتف عن رقم إيمان: ألو مساء الخير.
ـ مساء الخير.
ـ أنا قدري الباشا
ـ .........
ـ هل فاجأتك؟
ـ …………
ـ كان المفروض أن أتلفن لك في العاشرة صباحاً قبل سنة وثلاثة أشهر.
ـ .........
ـ الفترة.. طبعاً.. طويلة ولكن ساعة حائطي دقت العاشرة.
ـ ...........
ـ الساعة الآن العاشرة ودقيقة ونصف، منذ نصف ساعة وصلت.
ـ ..........
ـ آلو.....
ـ ........
ـ أقول منذ نصف ساعة وصلت.
ـ ………
ـ آلو…. إذا كنت نسيتني فلن أذّكرك بأكثر من اسمي.
ـ زعلت؟
ـ زعلت
ـ ماذا تفعل غداً؟
ـ عندي موعد مهم معك
ـ طيب، في كافتيريا الصداقة مقابل الحديقة في العاشرة.. صباحاً
ـ صباحاً.
استيقظت في التاسعة صباحاً على إطلاق عيارات نارية غزيرة ومتداخلة. هرعت إلى الشرفة لأطلّ على حلب أخرى لا أعرفها. حرائق تشبّ من أماكن كثيرة. أعمدة دخان كثيف تتصاعد. القلعة بأسوارها العالية تبدو مثل كعكة عيد ضخمة لم تمس في وسط سفرة مدمرة. الشوارع المفتوحة أمامي مباشرة فارغة تماماً. في المطبخ فارت القهوة في يدي وأطفأتْ عين الغاز. تبادر إليّ أن أتلفن لإيمان لتأجيل الموعد مخافة أن يصيبها سوء ما في طريقها إلى الكافتيريا، ولكني خشيت من أن توافق على اقتراحي النبيل، فأحرم من لقاء لا أعرف إلى أين سينتهي مع امرأة لا أعرف عنها غير رغبتها المتواصلة في النظر إليّ. سررت لأنها لا تعرف رقم تلفوني. أنهيت قهوتي في الدقيقة التي اعتقدت أنها تمكنني من الوصول إلى الموعد في الوقت المحدد. حلقت ذقني فوق طبقة الطين الرقيقة التي لم تجفّ من أثر حمامي الاستثنائي البارحة. لكني لم أتأكد من تأخري على إيمان، إلا عندما نزلت إلى الشارع وانتظرت عشر دقائق كاملة، دون أن تمر سيارة واحدة أو أحد باصات النقل الداخلي. كنت وحيداً على رصيف طويل. تخيلت عيوناً ما تحدّق بي من وراء ستائر النوافذ المطلّة عليّ. لكني لم أشعر بالوحشة قط فقد كنت مليئاً بالاضطراب من تأخري ومن الاحتمالات المفتوحة التي صرت أفرزها في داخلي عمّا يمكن أن يجري بيني وبينها. ثم إن رائحة البارود التي كان الهواء ينخلها عليّ لم تحد من مقدار سعادتي المتوقعة.
لاحت أخيراً سيارة أجرة. اعترضت طريقها فاضطر السائق لأن يفرمل من مسافة بعيدة. كان وجهه مقلوباً إلى درجة أنني لم أفهم الجملة القصيرة التي عنعن بها بعد أن لقّنته العنوان. وربما أضافت البهجة التي لقيها في وجهي مزيداً من الكراهة على ملامحه الصفراء. ولكي يوفّر على نفسه عناء الاستماع إلى صوتي مستفسراً عن سبب سلوكه الزواريب الضيقة قال سلفاً: الزواريب أسلم من الطريق العام. كأنه كان خائفاً أو مطارداً أو أنه لايريد أن يجيب عن أسئلة كان ينتظر أن أنهكه بها. كنت أستمرئ سرعته على مضض، فقد اختصر عليّ بضع دقائق من فترة أنفقتها في انتظاره أمام منزلي، إلا أنني طلبت منه أن يكفّ عن جنونه حين دخلنا ساحة سعد الله الجابري. كانت النار تندلع في باص برتقالي للنقل الداخلي، وعلى مقربة منه كانت تقف ثلاث ناقلات عسكرية محمّلة بالجنود بكامل لباسهم الميداني. وفيما كنا نطير حول الساحة تسنّى لي أن ألمح بسرعة البرق حرائق أخرى في شارع القوتلي، من حيث ترددت رشقات قريبة بالرصاص. وكان الرعب وربما النزق الحاد الذي أوقف به السائق سيارته جعلني أنطلق منها مثل قذيفة على درج الكافتيريا. صفقت الباب خلفي بصورة تنافرت مع ما لاقاني في الداخل من صمت مطبق صقيل، كانت تخرمه بتكاسل دقات بيانو تتساقط من السقف. كانت وحدها في الصالة أمام فنجان قهوة بنظارة سوداء وقصّة شعر جديدة كادتا تخدعانني، لولا طيف ابتسامتها الذي أكّد خطاي باتجاه طاولتها.
لم تقم. مدّت يدها ودعتني إلى الجلوس فيما بدأ أحدهم في الشارع اللصيق بتفريغ مخزن بارودته على دفعات. شعرت بغبطة فريدة إذ لم يؤثر ذلك إلا قليلاً على ابتسامتها التي توضّحت تدريجياً طيلة إطلاق النار. وأرادت أن تقول لي شيئاً، ولكن رجلاً مدنياً مسلحاً اقتحم الباب واتجه بقدمين عارفتين إلى تلفون الحائط، ثم بدأ بالصراخ في السماعة: مافي شي غير سلامتك .. نعم؟!.. أنا ما.. أنا لأ .. لأ .. الله يقصف عمري حتى أخلص منك ومن الأخوان المسلمين .. لا تطالعي الأولاد .. بجهنم الحمرا .. عودي حنّي طيزك وطيز أمك .. أنا؟؟.. إذا ماعجبك اتركي الأولاد في البيت وانقلعي .. لأ .. بعد نص الليل .. نعم؟؟ ألو.. ألو.. ألو.. ثم طبق السماعة وخرج مسرعاً وهو يلعن الذي خلّفها. ظهر الغرسون مقنّعاً بإشراقة مهشمة سرعان ما تنازل عنها لوجه مرعوب. كان لا يمكن أن أطلب منه شيئاً. قلت: قومي. وانتظرتها عند الباب ريثما لحقت بي. الجنود في الشارع اصطفوا متباعدين على طول سياج الحديقة. في ساحة سعد الله الجابري ميّزت من بعيد عسكرياً تمترس خلف حوض حجري للزهور، كان يسدد باتجاه البريد، ولكن كان بمقدورنا أن نقع في مداه المجدي لو التفت إلى اليمين. أنقذتني تنورة إيمان من توجّسي فقد كانت قصيرة بما يكفي لأن تمنع عسكرينا من ضغط الزناد علينا، إذ ستشوّش في ذهنه على الفور العلاقة التي يمكن أن تربطنا بديننا الحنيف. ولكنها، من حسن حظنا أيضاً، لم تكن قصيرة جداً بحيث تستعدي علينا بسهولة إخواننا المسلمين.
أمسكتْ إيمان بيدي ووددتُ أن أبدي إعجابي بتنورتها ولكننا انطلقنا بسرعة لا توحي لأحد بأننا نركض هرباً من أحد. قدّرت أن من الأفضل أن ننعطف في أول زقاق إلى اليمين فانعطفنا. انتبهت إلى طقطقة كعبي حذائها التي كانت تنهمر بجلاء على رصيف الزقاق، الزقاق الذي أشرف فجأة على نهايته عند مقهى القصر. التفتّ فلمحت من وراء الزجاج مجموعة قليلة من كتاب ونقاد وشعراء وتجار غنم منبطحين تحت الطاولات. الشخص الوحيد الذي رأيته للمرة الأولى جالساً إلى طاولة يسند خاصرتيه من ضحك شديد كان الغرسون الفلسطيني عزيز. وفي منتصف محاولتنا قطع الشارع إلى إعدادية الحكمة أدركت خطأ تقديري، ولكن تبعات التراجع التي قد لاتكون لصالحنا جعلتنا نتابع تقدمنا. وفيما انخطف بصري نحو الحريق المضطرم في شركة الطيران السورية في شارع بارون كانت إيمان قد أفلتت من يدي وسبقتني مقدار خطوتين إلى حيث انبطحت قبلي بمحاذاة حائط الإعدادية. انطلقت من خلفنا رشقة من رصاص. جاءت رأسي إذ هويت بعدها على تماس مباشر بحذائها فلوّث جبيني. وصلتنا من بعيد دبدبة خطى سريعة وخشخشة بنادق دون أن نسمع صوت بشريّ. ثم مرت سيارة مسرعة، وأخرى شغّلت محركها من ورائنا. خيل إلي أنها بدأت تقترب منا. كان هديرها لا يدلّ على أنها سيارة صغيرة ولكنها كانت تقترب ببطء أو حذر. أردت أن أكون على يقين من أننا لايمكن أن نشكّل الهدف الذي من أجله تحركت من مكانها، إذ ما الذي يمكن أن نقدمه أنا وإيمان لسيارة من حجم كبير؟ ومن الواضح أننا أعزلان وأن المصادفة وحدها هي التي بطحتنا هنا.
ولكن هل يحتاج هدير السيارة الذي صار يتجلى أكثر فأكثر، إلى أسباب منطقية للتقدم باتجاهنا مادام الظرف مناسباً لحصول سوء التفاهم؟ ثم لم يُبق لي الهدير القوي المتصاعد أكثر من أمل صغير في أن السيارة لن تطلع على الرصيف خاصة وأن إيمان لم تترك بينها وبين حائط المدرسة مسافة كافية لمرور عجلة ضخمة بسلام. تمسكت بهذا الأمل وأغمضت عيني وأنا أظن أن ظهري يكاد يتحسس حرارة المحرك الهادر. لم تصرخ إيمان، ولم أشعر بأي أذى، ولكني أبقيت على عيني مغمضتين ريثما يحدث شيء ما. لم يحدث شيء غير أن الهدير التزم حداً من الصخب منتظماً، ما جعلني أثق بأن عجلة ضخمة توقفت على بعد سنتيمترات من مرفق يدي اليسرى. ما الذي يفعلونه فوقنا؟ ومتى يفعلونه؟ انتظرت أن يُطلب منا الوقوف مثلاً. دون جدوى. ثم ما لبث الهدير المتكرر بإيقاع واحد أن تخلص من نتوءاته المنتظمة فتحول بعد فترة إلى سطح أملس شبيه بالصمت، وصار بمقدوري أن ألقط أي همس بشري قد يبرز عليه.
فتحت عيني فقرأت مباشرة نمرة حذاء إيمان بالمقلوب على مقربة شديدة من أنفي 37 وقبل أن ينزلق بي هذا الرقم إلى فكرة أو صورة بدأ سواد عميق يشعّ أمامي تحت تنورتها المشمورة. كان ينبئ عن نفسه ظلام جميل من فرجة بين فخذيها البيضاوين، وكان خيطان مؤلمان من ظل واهن يصعدان من بينه، ينحنيان ويرسمان حدي أليتيها ثم يذوبان في ضوء وركين ممتلئين. أقلقتني لحسة خفيفة من النور في وسط الفرجة الفاحمة كان يمكنني اعتبارها أثراً لطية في سروالها، ولكن الدم الذي صعد إلى رأسي جعلني أعتقد أنني أواجه أجمل مؤخرة لقيتها منذ سنوات. سال لعابي فيما كنت أستطيع أن أمد يدي وأتأكد من لحسة النور بأن ألوكها بثلاثة من أصابعي. ثم حرت بكيف ألجم نفسي عن الزحف بين ساقيها، وأنا مأخوذ بولع متنام بهذا النصف السفلي بالذات. لم يعد يهمني فجأة نصف إيمان العلوي. لم يعد يعنيني أن عينيها شهلاوان أو زرقاوان، وأن شفتيها رقيقتان أو ثخينتان، و أن ثدييها نافران أو ممطوطان. كنت أجرؤ آنذاك على استبدال نصفها العلوي بأي نصف مماثل لأي امرأة أخرى دون أن يتأثر جموحي البدائي المباغت إلى التماهي في هذا الكيان التحتاني المستقل.
ذهبت عن بالي ملامح إيمان. وضعت رأسي بين فردتي حذائها فقبضتْ علي بكاحليها إذ ألصقتهما بأذنيّ. كنت سأندفع إلى الأمام ولكن رصاصة دوّت من ورائنا. نقزت إيمان بمؤخرتها إلى أعلى بقليل. ثم اندلعت زخة طويلة بالرصاص. وسّعت إيمان فجأة من الفرجة بين فخذيها لينزل من سروالها المخرم الأسود حبل ماء ذهبي تلألأ بالنور، ارتطم بتنورتها الملتصقة بالأرض فجعل يسيل نحوي ملوّثاً بغبار الرصيف. تلهّفتُ لأن أستنشق عبيره المخلوط بأثر من حموضة واهية وبرائحة سمك حي خرج لتوّه من الماء. ارتفعت بجذعي قليلاً لأيسّر مروره. تدفقت زخّات متتالية من الرصاص تمنيت أن لا تتوقف هي الأخرى عن الجريان، فقد شعرت أن هذا الذي يطلق النار إنما كان يطلقها في تلك اللحظة من قضيبي. كان بنطلوني يمتصّ بول إيمان بشغف. ولكن السيارة التي حدد لها ظني مكاناً قريباً من يدي اليسرى خرجت في هذه الأثناء عن إيقاع هديرها المونوتوني، بينما رشح سروال إيمان قطراته الأخيرة. صار جسدها يترعدد بهزات عصبية متلاحقة فهمت منها أنها تحاول السيطرة على بكاء شديد. أردت أن أزحف لموازاتها إلا أن السيارة بدأت تعول كأنها تنوء تحت حمل باهظ في صعود. استرقت النظر إليها أخيراً، كانت ناقلة عسكرية ضخمة على بعد ثلاثة أمتار منّا تنفث خلفها زوبعة متصلة من الدخان، دون أن تفلح في التقدم خطوة إلى أمام. كان يستحثّها اشتباك ناري مختلف النغمات نشب في مكان ما خلفنا. على ظهرها عسكر جالسون في صفين طويلين متواجهين، وقد التفت إلينا من هم في الصف المحاذي لنا برؤوس متناسقة كما لو أنهم يحيوننا في عرض عسكري. كانت نظراتهم المبتهلة والضارعة تتجمع بين فخذي إيمان في حسّ عظيم من الفجيعة والتسليم بالعجز والتهذيب المرير.
نجحت ناقلتهم أخيراً في شدّهم بحركتها المتثاقلة وظلت عيونهم تحيي موضوعها اللذيذ الذي لم يتوقف عن ارتجاجه العصبي حتى استنفدت رؤوسهم أقصى ما في قدرة رقابهم على الالتواء. ثم شجعني رجل يركض على الرصيف المقابل فخطفت إيمان وانطلقنا باتجاه جسر قسطاكي حمصي. كان علينا أن نقطّع كل أنفاسنا لكي نجرؤ عند نهاية الجسر المقنطر الطويل على الإحساس بنجاتنا. عزز أمانَنا هذا صيادٌ عجوز لا يتحرك منه شيء غير دخان سيجارة في فمه، كأنه واقف في مدينة أخرى يصطاد أسماكاً أخرى من نهر آخر. وكذلك شئنا أن يفعل قسطاكي حمصي الجامد هو الآخر بقامته المديدة وأنفه المكسور على قاعدة تمثاله في ساحة صغيرة بعد نهاية الجسر، وقد بدا الاثنان في أعيننا جسورين وشاذين فتبادلنا النظرات. كانت إيمان تلهث وتخفي وراء نظارتها السوداء كل انفعالاتها المخجلة، فلم أحدد ما إذا كانت تراقب بقعة بولها الكبيرة حول سحّاب بنطلوني، ولكنها كانت تحتفظ بحقيبة يدها فوق مكان معين من مقدمة تنورتها. قالت: يجب أن أعود إلى البيت. قلت: يجب أن نلجأ إلى أقرب بيت .. بيتك قريب؟ سكتت. قلت: إذاً إلى بيت خالتي. وكان يفصلنا عن قبو خالتي ركض خمس دقائق أخرى.
كان مدخل البناية مظلماً كالعادة، وكالعادة أصبح الظلام كلياً على درج القبو حيث لابد من شحط الأحذية على سطح كل درجة. ثم ندمت كالعادة أيضاً على أنني لم أُدخل كميّ بنطلوني في جوربي فلا يتسلل في أحدهما متجول من الجرذان. كانت صأصأتهم تنبعث من الظلام، مدموجة برائحة أكياس قنّب متعفنة ورطبة وملوثة بالمازوت. فتحت الباب امرأة قصيرة بدينة تبينتها عجوزاً بصعوبة. كان من ورائها يظهر صمت عميق ونور شحيح وبرودة. ثم عرفت أنني لم أخطئ الباب حين جعر فجأة زوج خالتي من مكان ما بصوته الجرش الغليظ مترنّماً «يا طول عذابي واشتياقي ما بين بعادك والتلاقي». دخلنا فلفّنا ظلام أقل. وبفضل ضوء زهيد كان يرشح من نافذتين محاذيتين للسقف ورصيف الشارع تمكنّا من مصادفة رؤوس غائمة لأشخاص من أعمار مختلفة كانوا منتشرين على الديوانتين والسجادة فالتفتوا إلينا مستطلعين. كان زوج خالتي يمعن في جعيره المنغّم ويتلوى بجثته العظيمة وكرشه الضخم ومؤخرته البارزة، أمام خالتي المحجبة بشاشية صلاتها والجالسة على كرسي صغير عند أول كوريدور المطبخ، من حيث كانت تصل إلى بروفيلها الورع حثالة نور أخضر كليل. كانت غائبة تماماً مع مسبحتها، إذ تواظب بعد كل صلاة على سحب مئة أستغفر الله، ومئة سبحان الله والله أكبر ولله الحمد، ومئة الصلاة على النبي. وما أن لاحظتنا جامدين في منتصف الصالون حتى استند زوجها الى إحدى ركبتيه وجعل يتمايل برأسه أمام وجهها باعقاً: «اصبر مع الأيام تتحقق الأحلام»، فأسرعتْ بإنهاء صلواتها الأخيرة على النبي ثم قرأت الفاتحة على عجل، مسحت وجهها براحة كفها وسألت زوجها: بتحسن تحط خرا بحلقك وتسكت؟
ثم نهضت متوجهة إلينا بوجه مضياف بشوش: أهلا وسهلا. انتبه زوجها إلى وجودنا ففزّ متقدماً إلينا بعينيه الجاحظتين وشعره الأشيب المنكوش وابتسامته التي يدلّي من طرفها عادة قطعة كبيرة من هبرة لسانه يكزّ عليها بين فكيه في هذه الأثناء. لم يقترب مني كثيراً ولكن صنّة عرقه البائتة نفذت إلى دماغي وذكّرتني بأن عليّ غداً إجراء تحليل للبول والبراز والدم بعد كل هذه المدة الطويلة. كررت خالتي: أهلا وسهلا. وأدركتُ من غضونها الجديدة أنني لم أزرها منذ فترة طويلة. قلت كأنني أعتذر عن اصطحابي إيمان: القيامة قائمة في الشارع. تفهمتني خالتي: الله ينتقم منهم. ممّن؟ ما عرفت. ولكن زوجها أراد أن يضع نقاطه الخاصة على الحروف: ـ تتزوج بالسرقة يا سيد قدري؟ ما لك حق. قالت خالتي: ـ ارتفع السكر معي .. صار لك خبر؟. قال زوجها: ـ أخي لا تعزمني بس كان هنّي هالعجوز تشوفك عريس. قلت: ـ إيمان صديقتي. قالت خالتي: ـ اتفضلوا، قوموا يا أولاد عن الديوانة.
جلسنا وميزت بصعوبة أن الأشباح المستكينة من حولنا كانت لنساء محجبات وأطفال. قال زوج خالتي: عندي شريط مهول لشرموطة مصرية قديمة .. بس صوت ملائكي. قالت خالتي مشيرة إلى زوجها: هذا البغل يرفع السكر والضغط والبول في الدم بكلمة واحدة، والله حكم علي مؤبد تحت كرشه. فقهقه زوجها: خالتك خرفانة وغشيمة حب وهيام. قالت خالتي: ـ تحبك رصاصة في كبدك وتخلصني منك يا تور. غرق زوجها من جديد في الضحك ثم شرع يتمايل أمامها ويغني: ـ هات القزازة واقعد لاعبني دي المزة طازة وانت عاجبني. وكان مفهوماً لنا جميعاً أن زوج خالتي أراد أن يقول إنه ليس حماراً كما يحلو لخالتي أن تراه، وهكذا فإن أحداً لن يقنعه بأنني جئت إلى منزله الطاهر بامرأة شريفة، فهو كمعلم كباب سابق في مطاعم باب الفرج وكسائق تكسي عمومي حالياً يملك من الخبرة في معرفة القحبات ما يجعله واثقاً من أن إيمان ليست إلا واحدة منهن، ولكنه بالمقابل لا يمانع من استقبالها بحفاوة، ولو كانت كذلك. المهم أن لا يستجحشه أحد. ثم صار يبالغ بهز أكتافه وكرشه فاستوقفته خالتي: هش.. هش.. هش. ولم يهش فقالت لي: إذا الله رضي عليّ ودخّلني الجنة فلأني تحملت هالربيطة طول عمري.
أنهى زوج خالتي وصلته أخيراً وهبط في وسط السجادة لاهثاً متعرقاً. عجّت منه قنّة نفّاذة غريبة. مال إلى الوراء مستنداً إلى ذراعيه ليتنفس بصورة أفضل. كان سعيداً فعلاً ويختلس نظرات متقطعة حارة إلى إيمان. نظر إلى النافذة ثم عاد إليها بصوت متردد خفيض ومبهور: أهلين مدام. واعتقدتُ أن الظلام الفاتح الذي يحيط بنا سيساعد إيمان في إخفاء حرجها وربما غضبها من ورطة كهذه. ثم اعتبرت أن إيمان قادرة على إبداء الجَلَد المطلوب ما دمنا مضطرين لوجودنا عندهم، ريثما تهدأ الحال في الشارع. ولكن الذي حدث هو أن إيمان فقعت من الضحك، فنطّ من مكانه زوج خالتي مرتبكاً ونافياً تهمة عن نفسه. ثم استجرّ ضحكه هو الآخر كأنه معني بما يعنيها. برز على وجه خالتي امتعاض صريح ناتج عن خيبة فضولها في معرفة سبب الضحك. حاولت إيمان حبس قهقهاتها، مسحت عينيها بمنديل أخرجته من حقيبة يدها، فقطع زوج خالتي ضحكه المفتعل. نهضت إيمان وقالت: إمش. ثم انفجرت من جديد بقهقهة أقوى، وهي تشدني نحو الباب. سحب زوج خالتي هبرة لسانه من بين فكيه وجعل خالتي طالقاً إذا كنا سنخطو العتبة.
ودت خالتي لو تسد فم إيمان بشحاطتها البلاستيك. وخشيتُ أن تقوم بعمل شبيه فقد كانت مضطربة بكلام بذيء يفور في عينيها المتهوجتين وخلف شفتيها المزموتين. فتحت إيمان الباب وتريثت عند حافة العفونة والصأصأة والظلمة الدامسة. تناهت إلينا رشقة بعيدة بالرصاص تشبث بها زوج خالتي دليلاً دامغاً على خطأ خروجنا، وأراد أن يطلّق خالتي مرة أخرى، ولكنه ضيّع أثرنا في الظلام فصاح: طيب انتظروني أوصلكم بسيارتي. كانت سيارته من موديل مرسيدس 56. تملكنا جميعاً إحساس بالفرج حين جلسنا فيها، فجعلنا نعبّر عنه بسيطرتنا التامة على رغبة خفية بالبكاء. كان زوج خالتي الأكثر سعادة بيننا، كأنه انتبه، متأخراً، إلى صحة قرارنا في الخروج من منزله، ففوجئ بانعتاق ما تذوقه منذ سنين. حار بخفة جسده العظيم والتفت إلي ليتأكد من مشاعره في وجهي. ثم وجد نفسه يقول: بس كان لازم شربانين قهوة. شغّل المحرك، ونظر إلى إيمان في المرآة أمامه. كانت إيمان لاطية بالباب تستطرد بحلم يقظة ممتع إلى جوار شعلة نار في غابة. تحركت السيارة إلى الأمام ثم انعطفت بنا إلى اليسار في شارع خاو بمحاذاة حرش صنوبر على امتداده. قالت إيمان كما لو في نومها: شارع اسكندرون. رأى زوج خالتي من المناسب أن يرسم على شفتيه ابتسامة العارف بكل بيوت القحاب في حلب. نظر إلي نظرة مَن يحجز له حصة من إيمان، وغمزني منتظراً مني إيماءة الموافقة على الشراكة. تجاهلت إلحافه، فملص زر قميصه الثاني وصار يبرطم بلحن مكسر بلا كلمات. كان أمله في ساعة بسط من الزمان ملموساً في حركاته إلى درجة أنه بدأ يحققه بصورة ما في حواسه، ونحن مانزال في السيارة. ثم اعتقدت أنه لم يلاحظ البناية المطوقة التي نقترب منها بلا اكتراث، فلم تنعكس رؤية الرجال المسلحين على سرعته بشيء، كل ما فعله حين وصلنا أنه انزلق بنا في زقاق ضيق إلى اليسار أيضاً، دون أن يتوقف لحظة واحدة عن عجن لحنه المقطع بلعابه الفارط.
أمسكتني إيمان من كتفي حين انضمّ في شارع آخر يطيل الطريق إلى منزلها ولم تتركني حتى وقفت السيارة أمام مدخل البناية التي تسكن فيها. أطفأ زوج خالتي المحرك فكان ذلك طلباً مباشراً لدعوته إلى النزول. خشيت أن أبادر بفتح الباب فيفتح بابه قبلي. بقيت جامداً في محلي. وكذلك فعلت إيمان. لبثنا في صمت دبق ثقيل. كنت لا أريد أن يربكني برغباته أكثر من ذلك فقلت: يعطيك العافية، ستقلق عليك خالتي الآن. رماني بعيني مَن تلقى طعنة في الظهر. قلت بنزق: ماذا تريد؟؟. أخرج هبرة لسانه وكزّ عليها برهة ثم قال بمرارة: ولا شي. شغّل محركه فنزلنا. لم يتحرك. وصلنا أمام المصعد حيث اشتعل زرّه تحت إصبع إيمان. ناداني زوج خالتي من نافذة السيارة: قدري! التفتّ فصاح: أنتظرك؟ صحت: لا. فصاح بملء صوته: خراي عليك. وكبس بقوة على دوّاسة البنزين. كأن إيمان لم تسمع شيئاً، أغلقتُ باب المصعد علينا فبدونا مثل ناجيين من كارثة. ثم أثارني أن ملامحها صارت وقورة إلى حد لايصدق، فاعتبرت ذلك وسيلة للتغلب على ضيق المكان وتهرّباً شكلياً من اختلاط أنفاسنا، ثم وجدت في ذلك دعوة جادة لعناقها فشعرت على الفور بثقل لذيذ يتدلى بين فخذي. لم أتجاهل رغبتي.
كان صوتي لو تكلمت سيكون لا أكثر من حشرجة متقطعة. لم أنبس بحرف، وزادني ميلاً إلى تكسير وقارها أنها لم تضغط حتى الآن على رقم الطابق المطلوب، ولكنها لمست الأخير في اللوحة فتحرك المصعد، وأنا أعتقد أنه سينفتح بعد قليل على سرير نظيف واسع. جذبتها إلي وقد أضافت لمسة من التقزز على شفتيها فانفرجتا لتمكناني من تقبيلها. كانت تلك القبلة أطول بكثير من الطوابق الخمسة في البناية فجاء توقف المصعد مباغتاً، ولكن إيمان عادت وفهّمتني بمشيتها البطيئة أمامي أنها لم تستجب لقبلتي إلا لاستحالة خيار آخر. تقبّلت إشارتها باهتمام أقل من لهفتي إلى حملها والدخول بها في باب، أي باب في الطابق الخامس. ولما توجهتْ إلى الطابق الإضافي وجدتني أحملها هذه المرة وأعدو بها على الدرج. لقفت من يدها مفتاح الشقة، فتحتها، طبقت الباب خلفنا ثم أطبقت على فمها وجعلت أعرّيها وأتعرى. كانت ألبستنا تتطاير في فضاء الموزّع الضيق كما تُنتزع عن جسدين يحترقان. ثم فرّت من يدي إلى غرفة مقابلة فلحقتها. كانت غرفة النوم. انقضضت عليها لأتخلص منها على وجه السرعة. كانت، الآن، مثل بردعة ثقيلة أرتديها وتحزّ عنقي مثل سلك رفيع وتمتص هوائي مثل خرقة محشورة في رئتي. صرت لا أرى مفاتنها معزولة عن الحصار الذي تفرضه علي، فقذفتها مني بيسر عجيب خلال دقائق معدودات بينما كانت لا تزال تعاني من إخراجي من مفرق فخذيها. لم تضعني بسهولةِ تحرري منها فأخذتْ كفي وصارت تلدها مرات لا تحصى. تلهّيت بشموس زرقاء مرسومة بحجوم مختلفة تشرق على خراف برتقالية منسوخة على طول المخدة ومساحة الشرشف.
كان ثمة تلفزيون بعيد مطفأ ونافذة عريضة تحت ستائر تنمّ عن ذوق طيب، وخزانة بيضاء ومرآة كبيرة تعكس بحياد بارد جسد إيمان وهو يتموج تحت يدي وتعكسني بلزقها وأنا أتعرف إلى غرفة أستلقي فيها لأول مرة. شهقت إيمان. توقفت عيناي على لوحة صغيرة لمنظر طبيعي معلقة إلى جانب السرير. ثم تركتْ كفي، سحبتُها، حمراء ومتورمة وزلقة مثل وليد في نَفسه الأول. كانت عيناها مغمضتين، وحين فتحتهما كان بياضهما مشوباً بعروق شعرية حمراء ومتشابكة. تحولتُ بنظري إلى السقف وأنا أنتظر أن تسألني: بماذا تفكر؟ وعمّا إذا كنت قد أخذتُ عنها فكرة سيئة بعد الذي حصل. جهّزت إجابة ترضيها قدر الإمكان، ولكن إيمان استهلكت في صمتها وقتاً أكثر من المعهود في مثل هذه الأحوال. نظرت إليها أستعجلها على بقّ حصوتها. ظلت صامتة. كانت تخترقني بعينين متأملتين. قالت بصوت خفيض ساهم وبريء: قم .. البس وامش. أربكتني بهذه النقلة حتى أنني انتظرت أن تلطّف طلبها بإضافة أخرى كأن تقول: عندي رغبة في البقاء وحدي. عبثاً، فقد لطّتني بعد قليل بالبراءة ذاتها: قم .. قمتُ كأنني أريد فعلاً أن أخبئ عنها جسمي العاري بأقمطته. لبست في الموزع حيث تناثرت ألبستنا. عثرت بصعوبة على سروالي. كان فوق ساعة الكهرباء. أردت أن أسألها عن فردة جوربي، لم أسألها. عدت إلى غرفة النوم لتراني جاهزاً للمغادرة. كانت ما تزال مسترخية على السرير، قلت: أنا ذاهب. قالت بصوت ناعس وأملس: لا تعد .. ثم صوّبتْ عليّ نظرةَ مَن يتحرى الدقة في كلامه وقالت: ولا تتلفن.
في الشارع فضّلتُ أن أنقطع تماماً عمّا عشته منذ قليل، فقد كانت كل خطوة حدثت أو التفاتة أو غمضة عين أو ثنية إبط صالحةً لأن تتشظى في رأسي وحواسي بطريقة كنت لا أضمن السيطرة عليها. كنت في غنى عن أن أعرّض إيمان في داخلي لأية حموض أو تسخين أو تفسير، ذلك لأن إحساسي الطازج بالإهانة كان سيفسد عليّ تقبّلها كما يليق بي أن أفعل. إن إيمان لم تطردني. كنت أعي ذلك تماماً، ولكني تحت وطأة الغباء الذي تبرعت بتصميمه الكرامة الجريحة ترددت في التعبير عن هذه الحقيقة بالكلمات. وكان علي لكي أنجح لاحقاً بترتيب إيمان وفقاً لأهوائي أن أذهب إلى امرأة أخرى، أو إلى المنزل لأغرق في النوم. اخترت المخرج الثاني لأني وفّقت إلى الظن بأن إيمان قابلة لأن تكون موضوعاً للتأمل بعد إخضاعها لتعديلات طفيفة. وإذا كنت في الوقت ذاته قد سمّيتها بجرذ اختباراتي الروحية، فإنما فعلت ذلك لأهدئ أعصابي بأقصر الطرق وأسخفها، ودليلي أنني ما كنت أجرؤ حتى في ذروة شعوري بالخزي أن أشوّه في نفسي أجزاءها منفصلة بعضها عن بعض، فكان يستحيل علي اتهام مؤخرتها الفذة بالتقصير، أو قلة الأدب، ومن ثمّ استحال عليّ أن أرى فيها مؤخرة لفرس أو بقرة أو خنزير. ثم إن في ركبتيها، كما في عينيها، وفي سلوكها عموماً مادة طيّعة لتصورات محروفة صرت أشعر بقيمتها بعد دقائق أخرى. وهي بهذا المعنى باتت تحضني مجتمعة ومنفردة على أن أستحلب شيئاً مختلفاً منها كامرأة، قد تبدو عادية وسطحية ومكررة حتى بالنسبة لي في ظرف آخر. وما دمت قد دبرت الإيمان بها على هذه الشاكلة فقد كان مناسباً الشروع باستثماره قبل فوات الأوان، وهذا أمثل ما يمكن جنيُهُ من علاقة مع امرأة بهذه المواصفات المختلقة. وما يزيد من جدارتها هنا أنك نادراً ما تفلح في اختراع صفات إضافية لامرأة إلا إذا استجابت لتحريض مخيلتك وتبنّت أضغاثها، وهو أمر معرّض دائماً للانتكاس، فقد تستيقظ في اليوم التالي وترى صفاتك التي صنعتها تتساقط عن امرأتك مثل مناديل ورقية مستعملة أو حمالات صدر فضفاضة، وقد تكون أنت المذنب في ذلك: فقد هطل المطر أقل من حاجة مزاجك في ذلك الصباح، أو لأن قطك الأبيض أهمل قطعة الجبن التي هيأتها له بحنان بالغ.
وهكذا قررت على جناح الدقة والاحتراس ألا أتلفن لإيمان وألا أزورها. ولسوف يتاح لي تطوير موقفها بالاتجاه الذي يحيله بعد بضعة أمتار إلى موقف آخر لا علاقة لها به، لأنه سيكون ممهوراً بتوقيعي. سوف يكون فراقها ملغوماً بمفاجآت سعيدة تعنيني بذاتي حتى ولو انفجرت بين يدي بهيئة آلام متقنة الصنع، ولذلك لم أجد غضاضة حين وقفت أمام باب شقتي أن أعترف له بأن إيمان قد طردتني فعلاً. دخلت ولم أنم، كتبت قصيدة. وفي مساء اليوم التالي كتبت قصيدة أخرى. ثم كان صعباً علي أن أتعرف على إيمان في قصيدتي الثالثة. وطبعاً كانت استعادتها ستحبطني فيما لو تمت عن طريق لقاء ثان معها. لقد أدهشني زوالها السريع مني في الوقت الذي كنت أراهن فيه على ثبات أكثر غنى. ذهبتُ أغذّيها عند قبو خالتي فلم أجد أحداً، فأفدت من الظلام الدامس على الدرج وصأصأة الجرذان ورائحة المازوت والعفونة في استعادة قبضتها المرتعشة في كفي. وكنت سأصل إلى نتائج أبهى لو اتفق لي في تلك الزيارة أن أتملى بالأسئلة التي كانت ستطفر من عيني زوج خالتي. وكان يمكن لتبرم خالتي المبطّن وسعادتها الكاذبة بي أن يضيئا غير القليل من فتنة إيمان.
ذهبت إلى ساحة قسطاكي حمصي ووقفت في مكان الصياد الذي كان متيبساً على حافة النهر الحجرية العالية. ثم وجدت أن أخون إيمان لأجرّب استعادة أكبر قدر ممكن منها من الباب الذي سيفتحه على مصراعيه شعوري بالذنب تجاهها. اخترت معلمة ابتدائية أربعينية قبيحة وحولاء لأزيد من إحساسي بالدناءة، كانت راودتني ذات مرة عن نفسي متعللة بإعجابها بصوتي حين أتحدث، فاعتذرت آنذاك متعللاً برأفتي بها من نقل عدوى زكامي المزعوم. في طريقي إليها تخيلت أنها قد تحولت الآن إلى عاهرة رخيصة، فقررت أن أترك لها على المخدة مبلغاً محدداً من المال، كبرهان قاطع على ابتذالي. لاقتني بترحاب كبير، وساءني أنها لم تكن سكرانة وأنها كانت بلباس محتشم، وأن بيتها كان خالياً من أي زبون أو قوّاد. لاحظتْ امتعاضي وكان نافلاً أن أشرحه لها فبعصتها لأجعلها تدرك فوراً الدِرك الذي هويت فيه والذي لن أصل إلى قراره بدون مساعدتها.
بكت على صدري فباشرت باستعمالها قبل أن يُفشلَ بكاؤها خطتي. صارت تشهق تحتي مثل جدي ذبيح بهناءته. كنت أبعجها بخشبة طويلة أفتش محموماً في أحشائها اللزجة عن عار كنت في أشد الحاجة إليه، فعثرت عليه مباشرة بعد النشوة القصيرة التي تسربت مني متقطعة إلى لحم المعلمة. ابتعدتُ عن وجهها المطموس بشهواتها وبي رغبة خانقة بالتقيؤ. تهوّعتُ على صدرها ثم قمت، رفعت سحاب بنطلوني وأنا أبحث عن الباب. لحقت بي، كان نصفها الأسفل عارياً ونصفها الأعلى في بلوزة صفراء كالحة، وشعرها مقموطاً بمنديل أردت أن أراه وسخاً فرأيته كذلك. وكنت أوشك أن أجرحها بالكلام لو أنها تمسكت بي. خرجت وأنا أود لو أبكي بين يدي إيمان. أمسكت برغبتي هذه وعنيت بها، نمّيتها بين يدي بامتناعي عن تحقيقها، فانبعثت محاسن إيمان باهرة على خلفية قبح المعلمة. وهيأتْ لي هذه المفارقة مناسبة أخرى لازدراء نفسي فعبدت إيمان. صارت تتمثل كل ما أخلعه عليها لأزيد من الهوة بيني وبينها ولكي تحضر في قصائدي بعيدة مستحيلة مسلوبة مني كأنها ليست لي، وما قطّ عنتني وما قط شلحتها عن كتفي ولا ولَدتْ كفي ولا طردتني من منزلها. أصبح أكثر ما يربطني بها يأسي العميق منها وكنت أنوّعه باستخدام تقنيات فنون أخرى كالمسرح والسينما والتصوير أو بتطعيمه بمضاجعة نساء أخريات غيرالمعلمة فتيسّر لي مع الأيام أن أخلق بسهولة شديدة وجوهاً كثيرة لثيمة بسيطة مثل غمّازة خدها أو ثديها عندما يكون في جيب بنطلون. وبقدر ما كنت أجني المزيد من ثمار يأسي من إيمان كان يكبر في الوقت ذاته احتمال لقائي بها بالمصادفة، ويأخذ شكل تهديد خفي وممكن الحدوث في أية لحظة، إذ ما الذي يقنع إيمان بالبقاء في منزلها، وما الذي يجعلها تبتعد ما أمكنها عن الطرق التي أمرّ بها ما دامت تجهل مقاصد حركتي في مدينة مثل حلب، ومن يضمن لي أنها لن تسلّم علي لو انتبهتْ لوجودي، ولم أنتبه لوجودها ثم إنها قد تبحث عني. وإذا كانت لا تعرف مكان إقامتي فإنها سوف تحصل على رقم تلفوني بسهولة، ألم أتعرف إليها عند صديق مشترك؟ وقد كان بديهياً أن أحرص على أصول لعبتي لأن لقاءنا كان سيدمر بطبيعة الحال مشاعري الخصبة نحوها قبل الأوان. وكان يتعذر علي ألا أبرح منزلي لأسباب عديدة، لعل أهمها هو أنني بدأت أقيم أمسيات شعرية مكثفة بقصائد يأسي الجديد، ما كان يضاعف طبعاً من خطر اللقاء بها، فقد تُرتّب فضيحةً لمشاعري وأنا على المنبر. إن أحداً لن يغلق الباب في وجهها إذا قررت فجأة أن تحب الشعر. وكان طبيعياً أن أحمي منها تصفيق جمهوري، ولكن لم يكن أمامي لمنعها من العبث بنجاحي غير تحقيق المزيد من النجاح.
كان متذوقو عملي يساعدونني في هذه المهمة ولايعلمون نفوري المنظّم من موضوعي الذي يستمرئونه بحماس. كنت في غنى عن وضعهم في صورة علاقتي المعقدة مع هذا الموضوع، فما كان يهمهم الثمرة وليس تاريخ تكوينها. ثم ما الفائدة من إطلاعهم على هذا الجانب ما داموا يملؤون من أجلي كل كراسي القاعة حتى في ظرف أمني معقد؟ كأنهم بإصرارهم على حضور أمسياتي كانوا يؤكدون على مقاومة من نوع خاص، فربما كنت حجة لهم لكي يثبتوا لأنفسهم أنهم في هذا الظرف بالذات غدوا أقل تهميشاً وأكثر شعوراً بأطرافهم، وربما كانوا يبالغون بمصاعب الوصول إلى مكان الأمسية لينشؤوا تلفيقاً خاصاً بهم يمكّنهم من تحدي خنوع مألوف فيتمرنون على تمرد لن يحصل، فقد كان الأهم إجراء تدريبات مسلية على العصيان كطريقة مأمونة في احترام الذات. لعل التحقق الدوري من بطاقاتهم الشخصية في طريقهم إلي كان يخضعهم للذةِ أن يكون المرء موجوداً، تلك اللذة التي كانوا، كأنما، يتعرفون إليها لأول مرة، وكانت تُضرب بمرتين إذا روفقت ببعض التعسف العفوي الذي يمكن أن يمارسه عليهم المتحققون، فيعودون إلى بيوتهم راضين وسعداء بتبرمهم من الأحداث بدرجة سعادتهم بفنون يأسي من إيمان.
وكان يمكن الذهاب بهذا التواطؤ المشغول بيني وبينهم إلى مدى أعمق وأكثر تشويقاً لولا أن هذا اللعب البريء الذي شُغفنا به بدا لغيرنا أقرب ما يكون إلى اللعب بالنار. لقد حدث ما أرغمني على أن أهدم بيديّ قصور الرمل التي بنيتها وأقطع بلا رأفة خيوط دماي لتتكوم بين قدميّ حطاماً من خشب وقماش وأصباغ. كان ذلك ذات مساء عندما اتصل بي الشيوعيون محذرين من أن إسمي أصبح الآن في لائحة المرشحين للاغتيال من قبل الأخوان المسلمين، فتوقعت على الفور نجاحهم الأكيد باغتيالي. سوف ينجح قتلي معهم بلا أي مخاطر وبلا أي خطة، ولن يحتاج إلى عدة أو عدد، كل ما يستلزمه منهم مسدس صغير وقاتل وحيد من أسوأ رماتهم بحيث يستطيع إذا ما أخطأني بالإطلاق الأول أن يثنّي علي ويثلّث حتى يتكلل برصاصة تثقب رأسي. إن أحداً لن يدافع عني، حتى جمهوري إذا صادف ومرّ في تلك اللحظة فإنه لن يتدخل، سوف يشجعه سقوطي مضرجاً بدمي على المزيد من تدريباته الخفية على التمرد الذي لن يحصل. وأنا لن أهرب، إلى أين أهرب؟ ولكن لماذا يقتلونني؟ وماذا فعلت لهم ليستكثروا علي أنفاسي؟ هل كان يأسي خطراً عليهم أيضاً؟ الوحيدون الذين فهموا يأسي بالمقلوب هم الشيوعيون. أنا لا أعرف من أين يخترع الشيوعيون الأمل في قصائدي وكيف. لقد أحبوا إيمان على طريقتهم هم دون أن يتعرفوا إليها في الواقع. كان جهلهم بها يجعلهم يتخيلونها بمقاسات أسطورية لتتطابق مع سورية التي في أذهانهم. وكلما ذكرت إيمان كانوا يقابلونني بالهتاف والتصفيق كأني باسمها أمجّد جراحاتهم أو أمهاتهم. ولعل أملي الذي اخترعه الشيوعيون هو الذي حرّك عليّ الأخوان المسلمين، فوضعوا اسمي على لائحة انتظار القتل.
في الصباح طرق بابي رفيق شيوعي سلمني مسدساً وقدّم لي شرحاً سريعاً ومبعثراً عن كيفية استخدامه مفترضاً لأمر ما قدرتي على ملء الفراغات بين كلماته الملهوجة. ثم أكدّ لي جدية الموقف وخرج كأنه لم يسلّم أحداً قطعة سلاح. كان المسدس على طاولة الطعام، وكنت واقفاً إزاءه أحاول أن أجد له مكاناً بين أثاث الصالون. كان بغرابة سحلية ميتة برأسين ومنفّراً مثل كف مقطوعة. ثم أقلقني أن لاحظت فوهته مصوبة إليّ إذا وقفت أمام المغسلة لأحلق ذقني، فأبعدتها برأس إصبعي حيث تصوبت الفوهة إليّ إذا خرجت من غرفة النوم، فدفعتها إلى حيث تصوبت إليّ إذا جلست وراء مكتبي، ثم إليّ إذا لزمني القاموس المحيط في المكتبة، ثم إليّ إذا فتحت باب الشقة ودخلت، ثم ظننت أن المسدس يحوص حول فكرة واحدة هي قتلي، فدفعت فوهته باتجاه جاكيتي المعلق، ثم إلى تاريخ أوروبا على الطربيزة، ثم إلى التلفون، ثم إلى المسجلة، ولم أعرف بعد أن دار المسدس دورة كاملة كيف أرشح لفوهته أقل الأشياء أهمية بالنسبة إليّ. لقد بدا كل شيء ضرورياً من حولي حتى أرجل الكراسي ومنفضات السجائر والكتب الرديئة التي يفوتني دائماً التخلص منها في الوقت المناسب.
إلى أي شيء أصوب المسدس النائم إذاً؟ لقطته من نهاية قبضته بإبهامي وسبابتي كما ألقط حيواناً شاذاً من أذنيه وأبعدته عني، كما لو أن له ذيلاً طويلاً ملوثاً بالطين. دخلت الحمام، ملأت طستاً كبيراً أبيض بالماء البارد وجعلت أغطّسه ببطء من يتلذذ بإغراق قطّ، ثم أفلتّه فسقط إلى القاع وظهر هناك كبيراً ومطعوجاً وبلا فائدة. خرجت من الحمام وأنا أتجاهل إحساساً مقيتاً يتكاثر في رأسي على شكل تشظي فكرة شوهاء. أغلقت باب الشرفة بإحكام ثم عدت وأغلقت النوافذ واعتبرت الفرصة سانحة لأتلصص من بين الستائر إلى الشارع فتلصصت بفضول ظاهر. كان الشارع كما عهدته تماماً لولا ولد في العاشرة ملزوق بجذع الشجرة أمام الفرن. رجعت إلى الصالون، أطفأت النور واستلقيت على الصوفا دون أن أخلع شحاطتي. سمعت وقع خطوات بطيئة على الدرج، لم يتوقف صاحبها عند باب شقتي وهذا طبيعي. ثم كان طبيعياً أيضاً صعود امرأتين مستعجلتين تجاوزتا شقتي وكأن أحداً لايسكنها. لقد واتى مزاجي عدم الاكتراث هذا، وتمنيت أن لا يزورني أحد في ذلك الصباح لأن زيارته كانت ستؤكد على هواجس ما زلت حتى تلك اللحظة أتملص منها، وكنت سأبرهن عليها بامتناعي الأكيد عن فتح الباب. وددت كثيراً أن أتجنب اختباراً من هذا القبيل ثم اعتقدت أنني لن أخطر على بال أحد، فقد كان بإمكان من يعرفني أن يقوم في ذلك اليوم بما هو أجدى من رؤيتي. قمت وتلصصت مرة أخرى إلى الشارع، كان الولد مازال ملزوقاً بجذع الشجرة.
رجعت إلى المطبخ، غسلت بضعة صحون وكؤوس وفناجين قهوة. ثم رتّبت غرفة نومي كما لم أرتّبها من قبل، وكذلك الصالون. شعرت أني لا أرتب الأغراض في بيتي إنما أربّت عليها، أمسّدها، أتحسس طياتها وزواياها وسطوحها كأني نسيتها وها أنا أتذكرها بأصابعي أستظهرها بحواسي لأتأكد أن مسنداً لم يفُتني أو كتاباً أو مخدة. وكنت لا أريد أن أتعالى على الألم الذي كانت تسببه لي تلك العناية، فقد كنت مغتبطاً بها ولكني أدركت أنني لا أقوى على الاحتفاء بها طوال يومي فتوقفت عن مداعبة أغراضي. بدلت ملابسي على عجل كأنني قررت أن أبحث عن قاتلي: توجهت إلى الباب، فتحته، لم يكن وراءه، لم يكن أمام البناية، لم يكن على شرفة مقابلة، لم يختبئ وراء شجرة، لم يكن وراء جريدة، لم يكن عند منعطف، لم يكن على دراجة، لم يسرع بخطواته ورائي، لم يمسكني من ياقتي أو شعري، لم يلهث مثلي، لم يركض مثلي، لم يقع مثلي، لم ينهض معي، لم يصطدم بامرأة شتمتني، لم يجلس خلفي في سيارة أجرة، لم تلامس فوهة مسدسه نقرتي، لم ألمحه بين البشر المسرعين المتداخلين في مستطيل النافذة إلى يميني، لم يتنكر بصورة شرطي سير على مفرق الطرق، ولم يلتبس بالسائق الذي أقلّني ثم أوقف سيارته فجأة أمام بناية إيمان، فلم ينزل معي، لم ينضم على أثري مثل لص في المدخل، وكنت واثقاً من أنه لم يطر على درجها كما طرت حتى الطابق الخامس عندما خارت قواي فاستعنت بالحائط في صعودي إلى الطابق الإضافي.
عبثاً حاولت ابتلاع لهاثي. أردت أن لا أبدو مطارداً أمامها. ولكن عبثاً. كنت أتنفس بصعوبة بالغة وتهزّ كياني من برهة إلى أخرى رعدة محموم. لقد بلغت درجة من الضعف جعلتني أصدق بكل جوارحي مشاعر الشيوعيين تجاه إيمان، فشعرت حينما قرعت عليها الباب بأنني أقرعه على سورية. انتظرت بلهفةِ وانكسار ولد ضالّ أن تفتح لي. فتحت. كانت قدماها في بابوج على شكل قطتين نائمتين، ولكنها كانت أطول منها في آخر لقاء حتى لقد تطلعتُ إلى الأعلى لأحوش وجهها. كان وجهها بعيداً، وكانت في روب منزلي مزهّر عملاق، وخيّل إلي أنها ترنو إليّ من بعيد بعينين حانيتين، ثم مدت إليّ يداً طويلة جداً خفت أن لا تصل إلى رأسي فوقفت على رؤوس أصابعي لأمكنها من ملامستي، حطتها على شعري فغصّ حلقي برغبة جارفة بالبكاء. ولكن صوتها منعني، صوتها الذي سقط على جمجمتي مثل حديدة. قالت: جئت تأخذ فردة جوربك؟ قلت جاداً وبشرف: لأ.
ضحكت ودخلتْ تاركة خلفها الباب مفتوحاً لي. دخلتُ. كان في غرفة الجلوس رجل مهندم بصورة مقززة أظهر امتعاضاً حاداً مني بطرف شاربه المدبب حين قدمته لي وقدمتني له. ثم أكد امتعاضه بسعال قصير خبيث حين جلست إلى جانبه على الصوفا. وعندما جلست إيمان أمامنا على الكنبة اكتشفتُ أنها أصبحت قصيرة. ثم تابعا حديثاً مبدوءاً قبل قدومي لم أفهم منه جملة واحدة، فقد وجدتُني أعدد بيني وبين نفسي الخصال القبيحة التي فاتني حتى الآن أن ألاحظها في إيمان. وسرعان ما اختزلتُ إيمان بمجموعة من البشاعات المتراكمة هكذا بعضها فوق بعض. ثم لفت نظري أنها في أثناء ذلك كانت تضمحل على الكنبة حتى صرت لا أميزها إلا بصعوبة. وقفتُ فنظرتْ إلي وخلتُ أنها بعين واحدة. ثم ضحكا معاً. كان ضحكهما منيعاً بأسوار عالية وبلا نوافذ أو بيبان. قلت: أنا ذاهب. سمعتني إيمان بينما تابع البغيض ضحكه. تبعتني نحو الباب، كان وجهها طافحاً بسرور مقطوع سوف تكمله بعد خروجي، سوف تقول: «أحمق» بعد أن تطبق ورائي الباب، سوف تستدير شاكية من كابوس ذهب، سوف تتنفس الصعداء بمثابة إجابات تقدمها سلفاً على أسئلة قد ترد إلى خاطر الرجل البغيض، سوف يسعد الرجل البغيض بتبرمها مني، سوف تجلس في حضنه وتمصمص له شاربيه المفتولين لكي تمعن في تشويه صورتي … وأردت أن أبقى لأهدم بوجودي الثقيل كل ما كان سيحدث من بعدي لولا أني وصلت الباب. تمنّتْ علي أن أزورها في وقت آخر، ولكن ذلك لم يُضف إلى قامتها سنتيمتراً واحداً، ولم يدفعني إلى أن أرى عينها الثانية. خرجت وأنا أستنكر رأي الشيوعيين بإيمان، إذ كيف يمكن أن تشبه سورية إذا كنت أعجّ بكراهيتها؟ كيف؟! وقفت على باب بنايتها مثل منفي، وكان علي أن أترك حلب.
* * *
رغداء تريد أن تصبح شاعرة
في الصباح قلت في سريري وأنا أطمر رأسي تحت اللحاف: كيف يصبح الإنسان شاعراً؟ لم أجد جواباً. ظننت أن أبي سيجيبني بوضوح، ألم يحزر البارحة محبتي للشعر؟ تمطيت ثم تمطيت حتى تحول جسمي إلى عود مشدود ونزّ من أصابع رجلي صمغ لذيذ فقامت حلمتاي. خجلت من إحساسي بالسعادة فشعرت على الفور أني أحب عسّاف ابن خالتي. ثم نهضت ورحت إلى المطبخ لأسأل أمي عما إذا كان عساف سيتخرج من دار المعلمين في هذه السنة أم في السنة القادمة فقالت لي راضية: في هذه السنة. كنت أعرف ذلك وأعرف أنه كان سيزورنا في اليوم نفسه، ولكني سألتها أيضاً عن متى سيأتي عساف لزيارتنا يا أمي؟ فاشتدّ رضاها وبشّرتني بأنه سيكون اليوم على العشاء يا حبيبتي. ثم عدت إلى سريري لأتذكره. تذكرت رأسه بسهولة ولم أتذكر قميصاً من قمصانه أو بنطلوناً من بنطلوناته لأراه كاملاً. لم أسأل أختي وديعة، جربّت عليه بذلة أبي الجمركية ثم جلست معه على الصوفا في الصالون ولم أنطق بكلمة. ربطت لساني يدا أبي وأصابعه الطويلة وخاتم زواجه فأحسست أنني أجلس مع جسم أبي مركّباً عليه رأس ابن خالتي عساف. جربت عليه قميص أستاذ الجغرافيا الزيتي وبنطلونه الجينز فأصبح عساف مضحكاً لأنه استعار أيضاً عوينات الأستاذ الطبية السميكة. قلت إذاً في برنس أمي القديم، برنسها الذي مازال أزرق حتى الآن والذي تخفيه دائماً حين تنوي عمتي الدخول إلى الحمام. استطعت أن أرى عسّاف هذه المرة خارجاً من باب الحمام بالبرنس الأزرق وعرفت أن اليدين الخارجتين من كميه القصيرين لم تكونا يدي أمي وأن الساقين المبلولتين كانتا ساقي عساف لأنهما لاتشبهان ساقيها.
قلت: الحمد لله على سلامتك، متى وصلت؟ قال: هذه وصلتي. فطلعت أختي وديعة من غرفة نومنا واستندت إلى بابها، وكانت لا تنظر إليه بل إلي، ثم لاحظتُ سروالي الأسود على جسمها تحت ثوب نومها المزهر. قلت: أختي نجحت إلى الصف الحادي عشر وأنا رسبت في البكالوريا. قال: اشتريت لك ثلاثة دواوين شعر. قلت: سأنجح في السنة القادمة ولكن كيف حزرت أنت أيضاً أنني أصبحت أحب الشعر؟ قال: أنا أيضاً سوف أذهب إلى الشام. قلت: كنت أظن أنني سأدخل كلية الصيدلة ولكن كما ترى سأدخل كلية الآداب. قال: شهادة دار المعلمين لاتخوّلني الدخول إلى كلية الحقوق أو المعهد المسرحي. قلت: المعهد المسرحي أفضل. قال: معلمو المدارس لا يقرؤون، ما عندهم وقت، بعد الظهر يفتحون أكشاكاً أو يعملون أجراء في محلات الأحذية والحلويات ولذلك سأضطر إلى تقديم البكالوريا. قلت: إذا صرت ممثلاً لن تعيش إلا في الشام. قال: ماذا أفعل في حمص أو في طرطوس؟. قلت: في الشام يغيب الانسان عن الوعي مثل حجرة ترميها في الجب. قال: في الشام يكتري الانسان بيتاً، ويعيش في أصعب الظروف. قلت: أنا غبت عن الوعي في الكنيسة، أخذني أبي إلى الشام وصلينا فيها. قال: المهم أن يصبح الانسان محامياً أو ممثلاً لأن البداية دائماً صعبة. قلت: كان الناس كثيرين في الكنيسة، جلسنا في الصف الأول، وكانت رائحة البخور قوية فشعرت بأني أغطس في خشب المقعد وبدأ يعلو سقف الكنيسة، أمسكت بيد أبي فصارت تغطس معي في الخشب، ولم أعرف إلى أين وصلت. قال: عند الضرورة أعمل وأدرس.
ثم سمعت بكاء أختي وديعة الخافت على باب غرفة النوم ولم ألتفت إليها قلت: حين فتحت عيني لم أكن في داخل الكنيسة كنت على بابها، وكان يحملني شخص آخر غير أبي كان شاباً بشاربين أشقرين خفيفين ويلبس فراشة حمراء على ياقة قميصه الأبيض، وكان خائفاً عليّ وذراعاه تضماني إليه بقوة، ثم رأيت أبي ملتاعاً فقلقت عليه والتصقت بالشاب حتى لامس خدي البوبلين البارد على صدره وتمنيت أن لا أنزل. قال عساف: كل الناس يروحون إلى الشام ولا يعودون. قلت: في المرة القادمة تعال إلينا بقميص أبيض بوبلين وفراشة حمراء، ولكن ماذا نفعل إذا ربيت شاربيك وطلعا أسودين مثل شعرك؟ يجب أن يكونا أشقرين هل تعرف لماذا؟ قال: لماذا؟ قلت: إذا سلّمتك سراً ماذا ستفعل به؟ قال: أخبيه. قلت: اليوم سأكتب عنك قصيدة ولكن كيف يصبح الانسان شاعراً هل تعرف؟ ثم دخلت عمتي، بيدها كرسي قش صغير وشعرها واقف مثل طربوش أسود على رأسها ومائل إلى الوراء، وعلى جبينها غرة مستقيمة، وعلى شفتيها حمرة ضاوية وعلى خديها شامتان من الكحل، وكانت محشورة في تنورتي المشجّرة، وبلوزتي العفنية مع أنها أسمن مني بكثير، وضعت كرسيها قريباً من عساف، وسألتني منشرحة الصدر: هل تريدين أن أعدّ لك فقرات ظهره؟ قال عساف: وماذا ستكتبين عني؟ فقامت عمتي وبطحت عساف على الصوفا، سحّلت البرنس الأزرق عن ظهره العاري فقمتُ من جانبه وقرّبتُ كرسيها وجلستُ عند رأسه لأن عمتي وقفت على ركبتيها وبدأت بعدّ الفقرات. قلت: لا أعرف، ولكن هل ستكون نائماً في القصيدة أم صاحياً؟
ثم صار بكاء أختي وديعة واضحاً. قال عساف: عندما تكتبين يجب أن تضعي باقة ورد أمامك. وكانت عمتي تقول: أربع عشرة خمس عشرة ست عشرة. قلت: القصيدة عنك وليس عن الورد، فهل أضعك أنت أمامي؟ قالت عمتي: ثلاث وعشرون. قال عساف: الورد لينشرح صدرك. قلت: تريد أن تقول إن صدر الشاعر يجب أن ينشرح قبل أن يكتب؟ ثم خرجت أمي من كوريدور المطبخ تحمل بيدها صينية فارغة وسكيناً، وباليد الأخرى كيس بامية خضراء وضعته إلى جانبها على الصوفا المقابلة وبدأت بتقميعها، ثم انفتح باب أرض الحوش وظهر أبي بلباس الجمارك، وفي يده كتاب يقرأ به، جلس إلى جوار أمي وقال: رأى البرتغاليون أفعى الكوبرا لأول مرة في جزيرة سيلان، وهناك أطلقوا عليها اسم كوبرا دو كابيللو أي الأفعى ذات البرنيطة. قال عساف: ربما. قالت عمتي: اثنتان وتسعون ثلاث وتسعون أربع وتسعون. قالت أمي: يحتار الانسان ماذا يطبخ. قلت: هل يشبه الشعر الركض فيفتح الانسان باب بيته ولا يعود؟ يركض يركض ولا يعرف إلى أين، إذا كان الشعر هكذا فهو سهل، المهم التفاؤل لأن الشاعر المتشائم كيف يركض؟ قالت عمتي: مئة وثلاث. قال أبي: والهنود يحترمون هذه الأفعى فذات يوم نام بوذا على الأرض، وكانت شمس منتصف النهار تقلق نومه بلهيبها، فجاءت إليه أفعى الكوبرا وظللت رأسه ببرنيطتها.
قالت أمي: الخيار ناعم واللبن مخفوق ورشّة نعناع وقطعة ثلج. قال عساف: المهم أن يوافق زوج خالتي. قالت عمتي: مئة وعشرون. قلت: ليس الآن، كنت صغيرة وكان أكبر مني بسنة أو بسنتين وكانت الشمس حامية والزقاق فارغاً والقطط نائمة في ظل الحيطان، وقفنا في عين الشمس وسحّل لي سروالي ثم سحّل سرواله، كان عضوه قصيراً ورفيعاً مثل خنصرك، رفع لي ثوبي وحطّه في سرّتي، كان قاسياً مثل عظمة، أمسكنا بعضنا لكي لا نقع وبقينا جامدين حتى جاءت أمي وخلّصتنا من بعضنا. قالت أمي: من أين يا حسرة أهلي حتى الآن يبعثون لنا كل المؤونة. قالت عمتي: مئة وثلاث وخمسون مئة وأربع وخمسون. فضحكتُ وقال عساف: ولكن العرس في طرطوس. قلت: ما حزرت، البقال لم يفتح فمه بكلمة معي، ولكنه كان يبلع ريقه كلما اشتريت منه كيلو سكر أو صابونة، مرة واحدة فقط مدّ يده ليلعب بصدري، فرجمته بحجر وكسرت له واجهة دكانه، كنت أرقص من الخوف فهدّأني الزجاج المكسور، وأسرعت إلى البيت وبكيت بعد أن أقفلت باب الغرفة. قال عساف: نشتري كمنجة لبنتنا. قلت: ولكن البقال كان يستطيع أن يشكوني إلى أبي. قال أبي: وتعيش في المناطق الجافة بين الصخور. قلت: كيف أدافع عن نفسي كيف؟ قالت عمتي: مئتان. قلت: انتظرت أن يطرق البقال بابنا ثلاثة أيام. قالت أمي: زوجها عميد وتظن نفسها عميدة.
ثم سمعت أختي وديعة تشهق كما تشهق في الليل بعد أن تتأكد من نومي، قلت: ثلاثة أيام صمت البقال. قال عساف: في كل الأحوال لن نفعل إلا الذي في رأسنا. قلت: في اليوم الرابع أكلني صدري في نصف الليل فأغمضت عيني ورأيت البقال تحت جفوني، رمحت في مكاني وخفت أن تشعل وديعة الضوء فتجد البقال واقفاً على سريري بقميص أبيض وفراشة حمراء. قالت أمي: زوجها يرخي لها الحبل وهي تفلت على باعها. قلت: كيف أُنزل البقال من سريري، نهضت ومشيتُ على رؤوس أصابعي في العتمة حتى وصلت إلى غرفة أبي، شققت الباب، كانت الشمعة تنير الغرفة و الأيقونة تنير وجه أبي النائم. قالت عمتي: مئتان وثلاث وخمسون مئتان وأربع وخمسون. قلت: أنا لا أريد البقال، ولكنه صار يجرؤ على أن أراه تحت جفوني، فصرت لا أدخل إلى غرفة أبي لكي لا تراني الأيقونة. قالت عمتي: مئتان وسبعون. قلت: وصارت بطني تؤلمني كل يوم أحد لكي لا أذهب معهم إلى الكنيسة. قال عساف: لن ننتظر. قلت: لم أحب أن أضحك على أيقونة أبي. قال أبي: وعضّتها مميتة. قلت: هل تريد أن أحكي لك عن أستاذ الرياضيات؟ قال عساف: المهم أولادنا. قلت: اطمئنْ أستاذ الرياضيات لا يحبني يحب التي إلى جانبي في المقعد، أنا لا أغار منها ولكني أحب أن أعذب الأستاذ بالأسئلة، فتنقهر جارتي مع أنها مخطوبة.
فصرخت وديعة ثم صرختُ أنا في وجه عساف: وماذا تريد مني أيضاً ماذا تريد؟ وانبهر نفسي وارتعشت من شدة البرد والخوف والذل فسددت بأصابعي أنف عساف وفمه، وقلت: لكنك لم تشرح لي كيف يصبح الانسان شاعراً لم تشرح لم تشرح. ثم نهضتْ عمتي عن ظهر عساف وقد سالت شامتاها إلى ذقنها من العرق الغزير الذي بلل وجهها ورقبتها وتحت إبطيها وقالت مبتهجة: ثلاثمئة وعشر فقرات. فأغلق أبي كتابه، وضعه على الرف، ثم اقترب من ظهر عمتي وأمسكها من طربوشها الأسود، وقلبها إلى الوراء فوقعت على الأرض، وقام عساف، شلح برنس أمي الأزرق وخرج عارياً من باب منزلنا، ثم دخلتُ أنا ووديعة إلى غرفة نومنا ورأيت من ثقب الباب وجه أمي المفلوجة من الرعب، وكانت عمتي تصيح تحت قدمي أبي: أنا؟ .. أنا؟ .. متى قلت؟ .. متى قلت؟ أنا ما قلت .. متى قلت لك زوّجني؟ أنا لا أريد .. لا أريد أن أتزوج، من قال لك سأتزوج؟ متى قلت لك؟ متى؟ متى؟ متى؟.
جاء المساء أخيراً.
وكان حاراً في غياب أبي. إلى أين ذهب؟
أمي على الصوفا مشغولة ببدلات عسكرية تستلم منها حزمة كل خميس وتسلّم أخرى لخياط يتعهدها من الثكنات ويوكل لأمي فتح عراويها وتركيب أزرارها. وديعة نائمة وعمتي من أول المساء تنتف شعر رجليها في الكوريدور أمام مرآة صغيرة. كيف تسع كل أفخاذ عمتي في مرآة لنتف الحاجب؟ دخلت المطبخ، كان نظيفاً ومليئاً بروائح طعام ينتظر، طنجرتان ساخنتان على غاز مطفأ، وعلى الطاولة صحون حمص ولبنة ومكدوس ومخلل وفي أحدها يلتوي حبل صاصيجو قصير غير مقلي يظهر عادة في المناسبات، وفي المصفاة بقدونس مفروم، وعلى زيق المغسلة برغل ناعم منقوع وكرة صغيرة صلعاء من هبر مدقوق ثم زورق كبير معرّم بالخضار المغسولة بندورة وخيار وبصل أخضر وأوراق خس وعروق نعناع. قلت لن يتأخر أبي إذاً وفي كل الأحوال سوف يحضر قبل وصول عساف، لكن الأفضل أن يأتي بعد وصوله. أمي تريد أن تملأ عين عساف بصحونها ليزداد إعجاباً بي، أما أبي فلن يقلّد حركات أمي في استقبال ابن اختها، أنا نفسي لا أحب حركاتها هذه لأن عساف يحبني بدون تبولتها، وعساف أصلاً لا يحب الصاصيجو، عساف يحبني وحريص عليّ وإذا أردت فسوف ينام بدون عشاء، عساف لن يأتي ليتعشى عندنا، ولا لكي يرى خالته وزوجها.
مع ذلك عندما غليت القهوة حسبت حساب أمي لأنني يجب أن أحبها إذا كنت سأكتب اليوم قصيدة عن عساف. أخذت فنجاني ودفتري الطويل القلاّب إلى أرض الحوش، وضعتهما على الطاولة تحت الليمونة وجلست، ثم قمت ودفعت الطاولة إلى الأمام وجلست، ثم قمت وحملت الكرسي الصغير من تحتي إلى الجهة الأخرى فصار بإمكاني أن أسرح بأوراق الليمونة. ملأت رأسي بالأوراق وانتظرت، ثم قمت وأشعلت لمبة النيون على الحائط ورجعت إلى مكاني فانجلى لون الأوراق، حتى الأوراق التي في رأسي كأنني بللتها بالماء، لون أخضر كأنه أزرق. ثم ذهبت الأوراق، أخرجتها القطة، قطة الجيران السوداء نزلت إلى برميل المازوت، ومنه قفزت إلى سكيبة الخضار، اصطادت شيئاً بين شتلات الباذنجان، وعادت من طريقها نفسه إلى رأس الحائط فنظرتُ إلى السماء. زرقاء داكنة. وعندما رجعتُ إلى القطة كانت تأكل وتحتها الحائط مشروق. متى انشرق الحائط؟ القطة لا تشعر بشيء وأبي كذلك وأنا ماذا يمكنني أن أفعل؟ عبّأتُ رأسي بالأوراق من جديد وانتظرتُ، انتظرتُ: سقطت ورقة. ماذا يفهم الشاعر من سقوط ورقة ليمون أمامه بخاصة إذا كان يكتب قصيدة عن عساف؟ ثم هبّ نسيم فتحركت الورقة وأنا جالسة. ماذا يمكن أن تفعل الورقة أكثر من ذلك؟ لقد سقطت من أجلي ثم تحركت وأنا لا أفهم عليها. لو كنت قدري الباشا لفهمت كل إشاراتها، لو كنت قدري الباشا لعرفت كيف أخلص عساف من أوراق الليمونة وأضعه أمامي على ذاك الكرسي لنحبه أنا وقدري الباشا، نعدّل له ظهره أنا وقدري الباشا، نكبّر له عينيه نصغّر له أنفه نمطّ له عنقه نطوّل له أصابع كفيه نمشّط له شعره، نحلق له ذقنه نعطّره ونقبّله نقبّله أنا وقدري الباشا، أنا وقدري الباشا، ثم يجلس قدري الباشا إلى جانبي على هذا الكرسي الصغير الذي أجلس عليه، يمسك بيدي وينحني معي على هذا الدفتر القلاب، ننظر معاً إلى عساف ونكتب معاً، يده فوق يدي، قصيدةً طويلة عن حبيبنا عساف لا تنتهي حتى الصباح. آه لو كنت قدري الباشا! آه لو كنت قدري الباشا!.
ظل النسيم يهبّ فتثائبت وانبسطت بنعاسي على الكرسي وبالهواء الذي يتغربل علي وكدتُ أغفو لولا عمتي، جاءت تتمايل في ثوبها الجديد وقد طلست وجهها بطبقة سميكة من الحمرة والكريم، وفرّدت شعرها على كتفيها، سحبتْ كرسي عساف من تحت الشجرة وجلستْ عليه إلى جانبي، شمرت ثوبها عن فخذيها المسلوختين من النتف وقالت: عندي رفيقة لا تعرفينها، سافرت إلى لبنان واشتغلت قحبة عشرين سنة، البارحة رأيتها في الطريق، هذه البارحة، جاءت تسلّم على أختها، أختها متزوجة عندنا، وسألتني أين أعيش قلت في بيت أخي، وصّلتني إلى باب البيت وخجلتُ أن أعزمها، سيقولون صار بيتنا مأوى للقحبات، ما رأيك هل أعزمها؟ قلت: اعزميها. قالت: وأنا هذا رأيي لأن القحبة بني آدم مهما كانت قحبة .. بس أبوكِ. قلت: لا تشرحي له قصتها. قالت: سيعرفها من ضحكتها. قلت: قولي لها لاتضحكي في حضور أخي. قالت: عندها ستضحك عن قصد. قلت: ولماذا الأذى؟ قالت: قحبة! قلت: وماذا تريدين منها؟ قالت: أريد أن أتباهى بك أمامها. قلت: ومن متى تتباهين بي؟! قالت: طيب.. أريد أن أفرجيها على هذه الخضار من زرعها غيري؟ قلت: أنت وحدك. قالت: وبدون خضاري تظلون بدون خضار. قلت: نظل. قالت: على كل حال صديقتي القديمة تأتي بدون عزيمة. قلت: إذا جاءت سأدللها لك. قالت: تُبيّن أصغر مني بكثير مع أنني أكبرها بسنة واحدة. قلت: أنت فعلاً أكبر من عمرك بكثير. قالت: لهذا يا مؤدبة لا أتباهى بك. قلت: زعلتِ؟ قالت: ما زعلت، فرحانة بشبابك. قلت: لا تزعلي. قالت: أمرك، لن أزعل. قلت: عمتي.. هل تحسدينها؟ قالت: أنا لا أحسد مخلوقاً مِنْ لمّا صرت أضرط من قدّام.
ثم رنّ جرس الباب وأسرعت إليه عمتي وتركتني أتصور كيف يمكنها أن تضرط من قدام، ولم أسألها فقد كانت تؤهّل وتسهّل بالمدام سوزان.
* * *
رئيس المنطقة يغضب في عيد الشجرة
هل انشقت الأرض وابتلعت رزق الله اسحق في عشية عيد الشجرة؟ لم يتناول السيد رئيس المنطقة عشاءه. توجست السيدة حرمه في داخلها قلقاً ممضاً على مسائها الرائق، ثم بعثت إليه بأغلى بناته تدعوه إلى العشاء وكأن الأمر على هذه الدرجة من البساطة. ولكن السيد رئيس المنطقة صرف ابنته الأثيرة دون أن يلوّث خدها بلعاب قبلاته. مع ذلك أرادت السيدة حرمه أن لا تعترف بمخاوفها فاضطرت إلى أن تأخذ حماماً على عجل وأن تنفق نصف ساعة على الأقل أمام مرآة زينتها، تلبس أثخن أساورها، تخطّ على شفتيها أكثر حمراتها صخباً، وترتدي كلّ ما يتماشى مع ثمالة الذوق التي يحتفظ بها عادة السيد رئيس المنطقة قبل أن تسمح له بالارتقاء إلى سريرها بعدة دقائق. ولكنه لم يستجب لها بأكثر من تمسكه بمسندي مقعده على الشرفة، فشعرت على الفور ببثرتين أو ثلاث طفت على جبينها. كان لا بد من عمل شيء إستثنائي من المستوى ذاته لإنقاذ نضارة جلدها في ليلة نادرة كهذه. لجأت إلى أشد الوسائل كراهة إلى نفسها لإخضاعه: صارت تتمطق، كما بقطعة حلوى، بالألفاظ الإباحية التي يعبدها والتي تتغنى بعضوه التناسلي بصورة يقشعّر لها بدنها. نفّذت ذلك بأكثر ابتساماتها بسالة وسوقية، وهي تترصد بفارغ الصبر النتائج في عينيه الراكدتين كعيني سمكة. ثم كادت تتهوّع إذ انفرطت في مخلتها نماذج من وضعيات شبقية مؤذية لأنفتها المعتادة.
رغم ذلك كانت مؤمنة بضرورة عملها المهين هذا حتى يتناول السيد رئيس المنطقة عشاءه، لأن السيد رئيس المنطقة يجب أن يتناول عشاءه في كل حال. إنه لايتخلى عن تناول عشائه حتى ولو قرب رأس عزيز ميّت. وإذا كانت تدرك هذه المسلمة كما ينبغي فإنها تدرك بالقوة نفسها العواقب الوخيمة التي تنجم عن عدم تناوله عشاءه. وحقيقةُ أن السيد رئيس المنطقة ممتلئاً بالطعام، يختلف عنه تماماً بمعدة خاوية، أمرٌ لا يقدّره حقّ قدره أكثر من السيدة حرمه لأنها لا تريد، هي الأخرى، أن تتخلى عن استبدادها به محشواً بأطايبها، فكلما كان قادراً على التجشؤ مستلقياً ببطن ورمان ورجل مرفوعة على ظهر الصوفا كان أشد ترحيباً بازدرائها. وكانت كلما شعرت بحاجة أكبر لإذلاله تستخدم كل مخزونها من فنون الطبخ فتبدو كما لو أنها تحضّر طعاماً فريداً لحبيب حقيقي بعد غياب. أما أن يصرف السيد رئيس المنطقة نظره عن فنون سفرتها فتلك لعنة يبرهن فيها السيد رئيس المنطقة قبل كل شيء على أن ثمة في حياته ما يستأثر عند الضرورة بكل أهوائه، فيصبح فجأة إقباله على الطعام بعد محاكمات ذهنية غريبة ومؤلمة نوعاً من خيانة أحد بحجم ذاته أو الوطن مادام نقله إلى دمشق أصبح الآن في طور اللمسات الحاسمة الأخيرة. إذاً هل كان على السيدة حرمه أن تسلّم بفقدانها سلطتها في تلك الليلة الطارئة وتهيئ بشرتها النضرة للبثور القرمزية الصغيرة تطفح على سمرة فخذيها ووركيها ووجهها وعلى جلدة رأسها ما دام السيد رئيس المنطقة مصراً على جوعه؟
إن جوعه يعيد إليه في مثل هذه الساعات سلطته السليبة على امرأته، ينبشها وكأنما، من تحت أنقاض، ينفضها مثل كيس مجعّد ومغبر، يبخها بالماء، يمسّدها براحتيه ثم يطويها بإتقان ويتأبطها فيصبح عسيراً على امرأة كائنة من كانت أن تجور عليه. إنه يعلن في مثل هذه الساعات تفاهة أن تتحلى السيدة حرمه بتعاليها عليه ما دام أهلها لم يشبعوا الخبز لولا يده البيضاء، فقد وظّفتُ أباك في مؤسسة الكهرباء، وأمك طباخة في مشفى المواساة، وأخاك ساعياً في البريد، ثم عمتك التي لا تقطع وقتاً من صلواتها أصلها شرموطة، وزوج خالتك قوّاد وإذا أردت فإنني أثبت لك بالأرقام أن عمك وجدك وجد جدك قوادون أيضاً، وأنك قحبة لو ما تزوجتك، أنا أصلاً ما دخلت بيتكم إلا لكي أتزوج أختك، ولكنها كانت مسافرة فوجدتك أمامي وقبلت بك، لكي لاتنتهي إجازتي قبل أن أتزوج، وأنا أستطيع الآن أن أسجنك أنت وبناتك في الحمّام أنقعكن جميعاً في البانيو أفتح عليكن الماء البارد أطفئ النور وأقفل الباب وأخرج حتى الصباح، وأستطيع الآن أن أغسل لك شعرك المصبوغ هذا بزيت سيارتي الجيب ثم أقصّه لك وأرسلك رملاً إلى أهلك بالخرق التي جئتِ بها من عندهم. ولكن السيد رئيس المنطقة كان يستطيع فوق ذلك أن يُسقط رأسه على صدر السيدة حرمه يطلب الصفح منها ثم يمشي أمامها مثل خروف إلى طاولة العشاء البارد، لتبدأ من جديد طريقتها المجرّبة بازدرائه.
إلا أنه هذه المرة لم ينبش شيئاً من أمواتها، ظلّ فقط صامتاً ومتمسكاً بمسندي مقعده. كانت السيدة حرمه قد أمسكت منذ فترة عن تغنيها بعضوه، ولكنها لم تغادر الشرفة. جلست إلى جواره لتتأكد من نجاتها فعلاً من البثور المقيتة التي كان عليه، قياساً إلى ليالٍ مثيلة، أن يتسبب بنشرها على جسدها. بدت كأنها تنازلت طوعياً عن نفوذ عزيز، وانتظرت باستكانة مرؤوس تعليمات جديدة. إلا أن الدقائق المطمئنة القليلة التي قضتها إلى جانب السيد رئيس المنطقة بعثت فيها أملاً كان ميتاً قبل لحظات في أن تسترد شعوراً بالتكافؤ في أسوأ حال. ثم سجّلت في داخلها انتقاماً منه مبدئياً فلم تشأ أن تصدق أن السيد رئيس المنطقة يمكن أن يستغرق في التفكير. اعتقدت بسهولة أن ما يجري في رأسه لا يمكن أن يكون أفكاراً، إنما هو قطيع من الماعز على جبل أجرد. شعر السيد رئيس المنطقة على الفور بفوضى الماعز الذي افترضته زوجته في رأسه فزادت بلبلته بلّة وبدا للحظات أنه لايعرف أسباب ضيقه. وكاد يستفسر لدى زوجته عما جعله يؤخر عشاءه حتى هذه الساعة، لكن سائقه الشخصي هتف له وأخبره أن الموظف رزق الله اسحق غير موجود في المنزل، وأن الموظف رزق الله اسحق غير موجود في الخمارة، وأن الموظف رزق الله اسحق غير موجود في الطريق بين المنزل والخمارة. ثم شّتته ثغاء الماعز فالتفت إلى زوجته، ووجدها تسأله بحذر من يستدرج فريسة إلى فخ عما إذا كان جاهزاً للسفر إلى الهند في الأسبوع القادم.
إلى الهند سوف يسافر مع أمه المريضة، سيشتري لها كِلية رجل هندي، من أول رجل هندي يعرض كليته عليه حتى ولو كان طويلاً ورفيعاً وأسود. قال للسيدة حرمه: هل سمعت طرقاً في الباب؟ قالت: لم أسمع .. سوف أتأكد. وعندما سيعود من الهند سوف يحضر في دمشق اجتماعاً هاماً سيبتّ بصورة نهائية بمسألة انتقاله إلى هناك. عادت السيدة حرمه: لا أحد. قال: هل سأل عني رزق الله اسحق في غيابي؟ قالت: سألتني هذا السؤال في أول المساء. ونظراً لأن السيدة والدته المريضة قصيرة القامة وسمينة وبيضاء فقد أراد أن يتأكد من السيدة حرمه أيضاً مما إذا كان أمراً مفروغاً منه، أن تكون كلية الرجل الطويل طويلة مثله، وإذا كانت كذلك فكيف ستحل محل كلية أمه المدعبلة؟ ولكن السيدة حرمه كانت في هذه الأثناء سعيدة لأن أحداً لم يطرق الباب، ما دام ذلك يجعل السيد رئيس المنطقة أكثر تهذيباً عندما يجوع. ثم شعر السيد رئيس المنطقة بمزيد من الماعز المفترض في رأسه فلم يجرؤ على التأكد من شيء إنما لجأ إلى تخيّل التشجيع الكبير الذي سيلاقيه من المدراء الكبار في دمشق. سوف يصفقون له ويثنون على طلاقة لسانه ويرفعون نخبه ثم يتابعون عشاءهم قبل أن يوقعوا جميعاً على قرار نقله إلى العاصمة. ثم ونكاية بالسيدة حرمه سوف يجلب معه في طريق عودته من الهند مضيفتين من شركة الطيران، وأمه لن تعترض على ذلك لأنها ستكون ميتة هذه المرة نظراً لضيقه الشديد من أمراضها التي تقبل عليها بحماس منذ أن أصبحت كلمته مسموعة.
قالت السيدة حرم السيد رئيس المنطقة: ماذا تريد من رزق الله اسحق؟
فهتف له سائقه الشخصي: غير موجود.
فزّ السيد رئيس المنطقة من مكانه كأنما لينفرد أخيراً بالموضوع الوحيد الذي ينبغي أن يشغله هذه الليلة: أين اختفى رزق الله اسحق؟ وكاد يفلت من يديه سؤاله الأهم هذا عندما لاحظ ببغاءه الإفريقي في قفصه المتدلي من سقف الشرفة، فاقترب منه وكاد يلاغيه لولا أنه انقبض فجأة، وتمنى لو كان رزق الله اسحق مسجوناً لديه في الرئاسة. ولكن القفص الذي أمامه وصعوبة تحقيق أمنيته بحذافيرها ساعداه في البرهة التالية في تشذيب نواياه تجاه رزق الله اسحق فعدّل أمنيته بطريقة لم يتحكم معها بأعصابه، فانفجر بالضحك. لقد تمنى لو يربي رزق الله اسحق في قفص الببغاء على الشرفة. ثم سحبه تقليب فكرته إلى مزيد من الضحك فتجاوز بعض غلّه، ولكن أين انقلع رزق الله ضْراط؟ أين يمكن أن ينقرد وفي مثل هذا الوقت؟ الساعة الآن قطعت التاسعة والنصف ولا أثر له لا في الخمارة ولا في البيت:
ـ هل سألتَ عنه في المشفى؟
ـ غير موجود.
ـ هل دخلت العنابر وتأكدت بنفسك؟
ـ غير موجود
ـ هل فتحت براد المشرحة؟
ـ غير موجود
ـ إذا ً لم يمت، سأسحب روحك من شروشها إذا مات قبل أن يسلّمني الخطاب، وفي الصباح سوف أعرف كيف أجعله من الآن وصاعداً تحت العين واليد والرجل دائماً ابن الكلب!
لا يتذكر سيرانه إلا في ليلة عيد الشجرة، أما فخامة عيد الشجرة فلا يشرّف هذه السنة إلا في ليلة سيران رزق الله اسحق، شيء مثل المؤامرة، واحد يخرج وآخر يدخل، ماذا أفعل الآن بعيد الشجرة وحدي؟ كيف سأعبّر عن حبي للأشجار، وأنا لا أعرف كيف أعبّر عن حبي لزوجتي، وفوق ذلك الإنسان يحب الثمار وليس الأشجار، أنا أحب الدرّاق، ولكن ما دخل شجرة الدرّاق بالدرّاقات المغسولات والمصفوفات في زورق كبير في البراد، إن طعم الدرّاقة لن يتغير في فمي إذا قيل لي إنها مقطوفة من شجرة تفاح، إنني أمرشها ولا أفكر بنسبها ولا أفهم ماذا يريد الناس الذين سيجتمعون غداً في الساحة العامة من حبي للفواكه، أنا أحترم أيضاً الثوم المقلي بالكزبرة أكثر من تقديري للموز، ولكن هذا الاحترام يخصّني وحدي، ولذلك لن أنجح وحدي في ملء خطاب قومي بالفواكه التي أفضلها والخضار التي لا أتصورها، ولكن رزق الله اسحق يدبّر الموضوع بسهولة الماء، رزق الله اسحق مليء بالكلام، إنه بدون عيد شجرة يحشر الأشجار والحيوانات في خطاباتي بالمناسبات الأخرى، يحشرها بيد معلم فيصفق لي الناس ويحسدني المسؤولون الآخرون، لقد نجح رزق الله اسحق خلال فترة قصيرة في جعلي دون أن أدري مناصراً مرّاً ومعروفاً لسلامة البيئة والحيوانات والطيور على اعتبارها ثروة قومية، ولكن ها هو رزق الله اسحق يختفي من الوجود فما معنى هذا؟ ما معنى أن يوقّت غيابه في عيد الشجرة بالذات، وفي اللحظات الحرجة والأخيرة من ترتيبات نقلي إلى العاصمة؟ المشكلة ليست فقط في تدبير مدائح للأشجار من هنا وهناك، ولا في تعداد المناقب التي تحققت في منطقتنا، ولا في شرح المؤامرات التي تحوص من حولنا، المشكلة في عيد الشجرة نفسه، عيد الشجرة ليس عيد جلاء أو عيد شهداء، إنه يلبّكني حتى قبل رزق الله اسحق، إن كل إنسان خاصة إذا كان رئيس منطقة قادر على كتابة خطاب ناجح في أي مناسبة وطنية أخرى، ففي أي صفحة من أي جريدة صادرة في أي يوم سوف يجد فقرات خطابه مشلوحة أمام عينيه، أما في عيد الشجرة فكيف أعرّي أمريكا وإسرائيل والأخوان المسلمين؟ مشكلة إسرائيل محلولة: لقد رأيت بعيني كيف يقلعون أشجار الفلسطينيين بالبلدوزرات على شاشة التلفزيون، أما عصابة الأخوان المسلمين فلن يعارض ابن شرموطة واحد من المواطنين الشرفاء المستقيمين إذا قلت إن هذه العصابة الجبانة تكره الأشجار، مثلما تكره الزبالين وأساتذة الجامعات، وشركات الطيران، والمؤسسات الاستهلاكية، ولكن ماذا أفعل بأمريكا؟ كيف أثبت بالأرقام كره الأمريكيين للأشجار؟ الكل يعرف أن غابات كثيرة تحترق كل عام في أمريكا، ولكنها تحترق للأسف بسبب ارتفاع درجات الحرارة، إن رزق الله اسحق وحده يعرف كيف يثبت أن تلك الحرائق تتم بمباركة سرية من البيت الأبيض، لأن من المستحيل أن أحبّ الأشجار أنا وأمريكا، سأكون محظوظاً لو أن الرئيس الأمريكي يأمر علناً بحرق كل أشجار أمريكا هذه الليلة، يجب أن يحقد الأمريكيون على الأشجار عندما أحبها، من مصلحتي أن يحقدوا عليها ويبيدوها لأنهم عندما يحرقونها يصبح لحبي لها قيمة ومعنى، ولذلك يجب أن يحرقوها لكي أزرع، هم يحرقون وأنا أزرع، هم يحرقون وأنا أزرع، التلفزيون يصور جرائمهم في حق الأشجار البريئة، وفي الخبر الثاني يصورني أحمل رفشاً بيدي، أفتح بنفسي حفرة في الأرض ثم لا أسمح لأحد بأن يُنزل الشجيرة بدلاً مني، أنا سوف أمسكها بأصابعي وأدلّيها في حفرتها، أنحني، أنحني أنا رئيس المنطقة بكل نياشيني وبدلتي الخمرية وكرافتي الخضراء وقميصي الفوسفوري، أنحني لأردّ التراب بكفيّ أنا على الشجيرة الصاعدة، سوف تظهر كفي كبيرة على شاشة التلفزيون، سوف يظهر خاتم زواجي، وخاتمي العقيق، وقد تظهر ساعتي معفّرة بالتراب ثم أنحني أكثر لكي يظهر وجهي وأنا أنكر ذاتي أمام المشاهدين، ثم أبتسم لهم قبل أن ينتهي الخبر، ولكن قبل ذلك يجب أن أخطب بهم في الساحة ولكي أخطب بهم في الساحة غداً يلزمني رزق الله اسحق اليوم، ورزق الله اسحق؟
ـ غير موجود.
ولأن رزق الله اسحق يجب أن يكون موجوداً فقد اتخذ السيد رئيس المنطقة قراراً: ابتعد عن ببغائه الإفريقي المعلق. التفت إلى زوجته التي ما برحت جالسة على مقعدها وشعر على الفور بحقنة جديدة من الثغاء جرت مندفعة في عروقه. تشوّش وكاد ينسى قراره لولا خطورة الموقف التي ساعدته في إخفاء الماعز تحت غطاء كتيم، فعرف أن عليه أن يذهب بنفسه إلى منزل رزق الله اسحق، لن يكتفي بالسؤال عنه على الباب بل سيدخل ويتحقق من وجوده بنفسه. ولم يتلكأ، فتح باب الشرفة وخرج.
* * *
رغداء لا تريد أن تكون يائسة في عشـاء قدري الباشا الأخـير
كان لا يمكن انتظار عساف أكثر من ذلك. إن وقتاً إضافياً من التردد كان سيُفقد المائدة بهجة أن يكون المرء معنياً بها بالدرجة التي تعني أي فرد آخر. ولذلك أخذوا أماكنهم راضين تماماً عن كمية المجاملة التي بذلوها بسخاء لزوجة رزق الله اسحق في انتظار ابن اختها. لم تعرف رغداء إلى جانب من ستجلس بينما توقع الآخرون بين لفتة وأخرى أن تشغُل أحد الفراغين المتجاورين اللذين تشكلا لتوهما لها ولعساف بتواطؤ مكشوف شارك به الجميع باستثناء وديعة، ربما بسبب انتقالها حديثاً إلى الصف الحادي عشر، حتى قدري الباشا لزّ بدوره إلى رزق الله اسحق مكوّناً حصته من الفراغين المتلاصقين. ولكن رغداء، وبإحساس أن ما يحقّ لها لايحقّ لغيرها، ظلت واقفة بثوبها الأبيض الطويل ذي الياقة الضيقة المزررة ويديها العاريتين وقد ألّفت بأصابعها المشبوكة تحت سرّتها بقليل ما يشبه عشّاً مؤقتاً لعصفور غائب. ثم أكسبت المزاجَ المرح الناشئ مأثرةً صغيرة حين انسحبت وصعدت إلى السيبة الحديدية الواقفة بجوار شجرة الليمون. انصمدت على درجتها العليا كما لو في مكان محبب ومجرّب. وبذلك طرأ تأجيل جديد على بدء العشاء ريثما يهضم الجالسون مأثرة رغداء، و يتاح لهم الوقت الكافي لتخيب توقعاتهم لما ستقدم عليه لاحقاً. وكان بمقدورها أن تبقى موضوعاً للفضول فترة أطول لولا أن العمة فوّرت البيرة من الكأس التي سارعت إلى ملئها باعتزاز خاص لمدام سوزان.
وفيما أرادت العمة بذلك أن تبرهن لضيفتها أن هذا العشاء في جزء كبير منه إنما يحدث على شرفها، فإن الآخرين وجدوا في هذا التسرع في دلق البيرة إيذاناً ملائماً ببدء العشاء. وهنا فضّلت مدام سوزان بصوت مسموع العرق على البيرة، ما دفع رزق الله اسحق إلى أن يزرّر عينيه وجعل العمة تتعثر بكيف تمحو خطأها بحق صديقتها القديمة. ولمّا لم تصل إلى نتيجة مرضية، أدركت أن مثل هذه البداية لا تبشر إلا بأخطاء متعاقبة سوف ترتكبها الليلة من كل بد. ثم رأت أن الرغوة التي ماتزال تتدفق إلى سطح الطاولة هي أكثر ما يشير الى خطئها الأول حتى الآن. وإذ تناولت كأس البيرة وشفطت رغوتها عرفت في الحال أنها بقّعت ثوبها الجديد، وشعرت بالنداوة تتساقط فوق ركبتها فعدّت ذلك خطأها الثاني. كان الباقون ينفذون عشاءهم بلقم متباعدة مترددة وجرعات مرتجلة كبيرة من العرق أو البيرة أو الكولا، رازحين تحت شعور مقيت يظهرهم وكأنهم يأكلون ويشربون من سفرة عساف. كان إصرار أم رغداء على عدم المشاركة حتى الآن هو الذي صاغ في نفوسهم هذا الشعور. ولأن رزق الله اسحق لايمكن أن يحتفي في تلك الجلسة بغير شخص واحد هو قدري الباشا فقد طلب من زوجته أن تأوي إلى فراشها إذا كانت في صحة لاتساعدها على الجلوس. ردّت أم رغداء بسكب بضع ملاعق من التبولة في صحنها مع أنها كانت تستطيع أن تقوم وتملأ وقتها بتلة البدلات العسكرية في الصالون.
كانت رغداء تتحسس بشغف غوايةَ مكانها العالي وقد ضاعفت رهبةُ سقوطها المحتمل المسافةَ التي تفصلها عن الأرض فكانت توشك، لمجرد هذا الارتفاع، أن تدّعي مقدرة غير مختبرة في أن تقوم بألعاب سحرية بالعصي والقبعات والأرانب وفي أن تمشي على حبل بين رأس السيبة وفم المزراب، المهم أن لايقول أبوها الآن: انزلي يا رغداء وتعشي. أنهى رزق الله اسحق وقدري الباشا الكأس الأول، وهيمن على الطاولة إحساس بصمت ثقيل. وكان ثمة مخرجٌ مضمون لتبديده بتركيز الإقبال على الطعام والشراب بحيث يتملص كل بمفرده من مسؤولية البدء بالكلام. كان رزق الله اسحق يدرك أكثر من غيره الأسباب الكثيرة التي تلزمه بالقيام بهذا الواجب بخاصة أن العمة كانت تحضّه على ذلك بابتسامة فخورة، كأنما تستعرضه بها أمام مدام سوزان، وقد فاضت عيناها بالإعجاب الحار المسبق. مسح رزق الله اسحق جبينه براحة يده ثم ثنّى العرق في كأسه وكأس قدري الباشا، وعندما همّ بكسره شعر بانفراج الأزمة بينما كان الماء يتدفق من الإبريق فقال:
ـ الإنسان الفرنسي ..
ـ مابه؟ .. الإنسان الفرنسي؟
نطّت العمة فأمسك رزق الله اسحق لحظة عن الكلام ثم تابع ملتفتاً إلى قدري الباشا:
ـ الإنسان الفرنسي.. متوسط استهلاكه من الماء ألف وسبعمائة ليتر يومياً ..
وكان يمكن للصمت أن يلقي بظلال ثقيلة من جديد بعد هذه المبادرة المدورة، ولكن العمة أحبت أن تجلو إمكانات أخيها بصورة أوضح أمام المدام سوزان، فعاجلته قبل أن يبرد:
ـ والإنسان اللبناني؟؟..
وهنا اعتبرت المدام سوزان أنها المخوّلة أكثر من غيرها في الإجابة على مثل هذا السؤال، فانبرت إلى قطع الطريق على رزق الله اسحق قائلة بتدلّهٍ وفخر:
ـ أكتر من هَيك..
كان رزق الله اسحق واثقاً من استحالة أن يصرف الإنسان اللبناني مثل هذا الرقم يومياً، ولكنه انقبض من حقيقة أنه لايعرف الرقم الدقيق لمتوسط استهلاكه من الماء، فشرب جرعة طويلة من كأسه ثم غضّن وجهه وقال مرتاباً ومتألماً:
ـ أكثر من ألف وسبعمئة ليتر؟ معقول؟!
انخضّت المدام سوزان. ولم تفهم العمة لماذا يستكثر أخوها الماء على الإنسان اللبناني، ولكنها كانت في أتم الرضا عن عقد الكلام بينه وبين عزيزتها المستاءة. محضته نظرة لائمة ومفتونة، ثم ثنّت العرق في كأس صديقتها كأنما تزوّدها بوقود الكلام مادام عليها الآن أن تبرهن على قدرة الإنسان اللبناني على صرف ما لا يتخيله رزق الله اسحق من الماء ولكن ...
ـ يا رغداء انزلي اتعشي. صاحت وديعة
لم تسمع نداءها رغداء. وكذلك فعل رزق الله اسحق، بينما سمعته الأم ولكنها قدّرت أن ابنتها لن تجلس إلى الطاولة بدون عساف. العمة سمعته أيضاً ولكنها تجاهلته بصعوبة لكي لا تيأس من برهان المدام سوزان على ماء الإنسان اللبناني. قدري الباشا سمع النداء هو الآخر، ولكنه أحب رغداء قريبة من أغصان شجرة الليمون، وشعر بضرورة حمايتها من نزولها، فقشّر تفاحة وقدمها لوديعة. تناولتها وديعة كما تتناول قيداً ليديها أو شرشفاً سميكاً ينشره قدري الباشا بينها وبين رغداء فكادت تبكي. لم تبك بل قدّمت بدورها التفاحة المقشّرة إلى المدام سوزان التي تقبّلتها كما تستلم مفتاحاً لصندوق مغلق، فغفرت على الفور لرزق الله اسحق وتوجّهت إلى قدري الباشا برقة مسرحية:
ـ مرسي على التفاحة.
ـ عفواً. ردّت وديعة.
ولكن قدري الباشا لم يستسلم، تطلّع إلى رغداء وعزّز خواطرها الشجاعة. كانت رغداء قد استدلّت قبل لحظات على طريقة في تطويل السيبة أكثر فعالية من رهبة السقوط وهي إغماض عينيها، فأغمضتهما وشعرت بالفرق. ولكن جرس الباب الذي أزّ فجأة خسّرها الارتفاع الشاهق الذي ربحته لتوّها ففتحت عينيها وسقطت إلى مكانها العالي. انتظر الجميع باستثناء قدري الباشا أن تسارع رغداء إلى النزول من على سيبتها لتفتح الباب. لم تتحرك رغداء، فطارت أمها وفتحت. لم يكن القادم ابن اختها عساف.
دخل السيد رئيس المنطقة بهيئة من يضبط أخيراً طرائده متلبسين. تأكد أولاً من وجود رزق الله اسحق، ثم شدّته شجرة الليمون ولم ير رغداء، صفن بأوراقها فترةً مكّنت الجميع من النهوض. تقدم من بينهم المذنب رزق الله اسحق مرحّباً بصوت مربك. احتلّ رئيس المنطقة أحد الفراغين المتجاورين، فأخفت أم رغداء استياءاً من كونها لم تعد ترى ابنتها الكبرى بثوب الزفاف إلى جانب ابن اختها عساف، ثم نجحت في أن تبتسم كراعية بيت في حضرة الضيف، ريثما يعفيها زوجها من هذا الحِمل بتقديمه إلى الحاضرين. لكنه لم يفعل. اضطرت إلى التململ تحت هذا العبء فقالت:
ـ أهلا وسهلا.
كان رزق الله اسحق منكمشاً في مكانه مثل هارب ممسوك، ولايرى غير شوكته على الطاولة مغروزة في فرمة صاصيجو، ولكنه لم يكن خائفاً. كان مدعواً لإزالة التباس سيحصل من كل بد، ولكي يزيله بأسرع الطرق وأنجعها كان على السيد رئيس المنطقة أن يرحل في الحال. كيف يمكنك أن تقنع رئيساً لمنطقة بالرحيل إذا كان قَصَدكَ؟ لقد أصبح لمجرد دخوله البيت أقوى من يد جريحة وكتعاء لرزق الله اسحق، ومن ثم فلن يتمكن من تلفيق سبب يُظهره في عيني قدري الباشا أقل من خائن ومخادع. سوف يستحيل عليه إنكار العلاقة الآثمة مع هذا المتكوم أمامه مثل هارون متحفّز. كيف يحافظ إذاً على قدري الباشا دون أن يزول رئيس المنطقة في الحال؟ اعترف رزق الله اسحق لنفسه بأنه لايكره رئيس المنطقة، وذلك لكي يتنفس أولاً، وثانياً لكي يُسهّل على نفسه التوصل إلى أن السيد رئيس المنطقة انسان رغم كل شيء. إنه بالنهاية لم يولد من بطن أمه رئيساً لمنطقة. إن خطأ صغيراً في حياته كان يمكن أن يجعله نجاراً أو معلم مدرسة، فهل من المعقول أن يكره الإنسان كل النجارين ومعلمي المدارس لأن أخطاء صغيرة كان يمكن أن تجعل منهم رؤساء مناطق؟ ثم إن رزق الله اسحق لايكره أحداً لكي يكره رئيس المنطقة، فشعربالخجل من كونه لم يقدمه إلى الطاولة حتى الآن. ولكنه من جهة أخرى كان مستعداً لأن يتجاهله حتى الصباح، فاستاء من وضوح استعداده هذا وحاول تكذيبه بالعودة إلى تجميل رئيس المنطقة.
هنا تنحنح قدري الباشا، ففهم رزق الله اسحق أنه يعترض على أي تحريف في حقائق مشاعره. ولكن هل يستطيع قدري الباشا أن يدحض حقيقة أن رزق الله اسحق لايميل مطلقاً إلى تقبيح السيد رئيس المنطقة؟ انتظر قليلاً ولم يتنحنح قدري الباشا، فاعترف رزق الله اسحق لنفسه: لايستطيع، أنا فعلاً لا أحب أن أزيد من عندي أي شيء قبيح على السيد رئيس المنطقة، وأتحدى قدري الباشا أن يثبت عكس ذلك، وإذا كنتَ لن تثبت عكس ذلك فماذا تريد مني يا قدري الباشا، اعذرني ولكن ماذا تريد؟ هل أقوم وأقلب الطاولة فوق رأس السيد رئيس المنطقة لكي تنبسط؟ هل أطرده أمام زوجتي وأختي وبناتي؟ ثم هل تظن أنني أطير من الفرح لأنني أسهر مع السيد رئيس المنطقة؟ أنا لم أقبّل يديه ورجليه لكي يأتي، ولكنه جاء فماذا نفعل؟ ثم شرب رزق الله اسحق واقتنع في قعر كأسه أن قدري الباشا على حق مهما تجنّى على السيد رئيس المنطقة لأنه شاعر، والشاعر الطبيعي لا يمكن أن يحب أي رئيس منطقة في العالم. فكيف إذا كان هذا الشاعر قدري الباشا؟ لقد سجنوه خمس سنين، وربما عشر سنين، وربما أكثر، سجنوه في زنزانة إفرادية بالتأكيد، إن قدري الباشا ليس لصاً ولا قاتلاً لكي يقبل بزنزانة جماعية، يجب أن تكون إفرادية، لكي يستحيل عليه الاستلقاء فيها، يجب أن تسمح له بالوقوف والقرفصة لاغير، يجب أن يقدموا له فيها رغيفاً واحداً يابساً في اليوم، وطاسة عتيقة وصدئة ومطعوجة وبماء نتن، يجب أن يخرج للتنفس مرة كل يومين، والأفضل كل ثلاثة أيام، يجب أن يبحّ صوته قبل أن يخرجوه إلى دورة المياه، يجب أن يحشروا معه كلباً ميتاً ليلتين في الأسبوع، يجب أن لايرى غير الكوابيس في نومه المقطر، يجب أن يوقظوه بقطط شرسة يسقطونها عليه من نافذة صغيرة عالية في السقف وقبل أن يجن بقليل أخرجوه من السجن، فاستلمه الاخوان المسلمون، وصاروا يطاردونه، وأنا الآن ماذا أفعل؟ أسهّره مع السيد رئيس المنطقة؟ حتى أنا أشارك في تعذيبه وكرمى لمن؟ كرمى لرئيس المنطقة، وكل ذلك لأنني لا أعرف كيف أنسحب من رئيس المنطقة.
أنا لست جباناً ولكن مشكلتي مع السيد رئيس المنطقة لا تحلّها الشجاعة، الشجاعة تعقّدها وتهوّش قلبي بلا فائدة، فألهث وأنا في مكاني، كيف أشرح للسيد رئيس المنطقة أن الخطابات التي أكتبها له لم تعد تساعدني؟ كيف أقول له يا رئيس المنطقة من الآن فصاعداً لا أريد أن أكتب لك أي خطاب؟ اعذرني ولكني لا أريد هكذا بلا سبب، أنا أصلاً غير مجبر على أن أذكر لك الأسباب، هل أنا مجبر حقاً على ذكر الأسباب؟ أنا غير مجبر هل لاحظت؟ ولذلك لن أذكر لك سبباً واحداً، ما علاقتك أنت بأسراري؟ إنني لا أؤمّن عليها حتى زوجتي، إنني أطمرها في مغارة عميقة، أضيّع مكانها لأظهر أمامك مثل رجل بلا أسرار، ولكني لا أتخلى عنها أنا حريص عليها لأنني أخجل منها هل تفهم؟ ولكن ما علاقتك أنت؟ أخي أنا لا أخجل من أسراري فماذا تريد مني؟ قل لي، لأ قل لي، لا تقل شيئاً، لا أريد أن أسمع شيئاً، وداعاً، وداعاً، ثم أخرجُ من مكتبك وأنا أهيل عليك التراب، أهيل عليك التراب حتى أصل إلى بيتي، أقول لأم رغداء سوف أنام يومين أو ثلاثة، لا أريد أن أسمع حس أحد، وإذا جئتَ لا تفتحي له، وإذا ألححتَ افتحي له وقولي متُّ أو سافرتُ، ثم أذهب إلى غرفتي أشعل شمعة الأيقونة، وأصلي ثم أظن أنني لم أرك في حياتي، أندسّ في فراشي وأنام حراً مثل ميت، وعندما أفيق ذات صباح أكون شخصاً لا يعرفك، كيف أستطيع الآن أن لا أعرفك؟ اعذرني ولكن كيف؟ إنك أمامي وورائي، أنت تطاردني مع أنني لا أركض أمامك، أنت تطاردني باطمئنانك علي، وبأسنان ابتسامتك العريضة، أسنانك البيضاء الطويلة المسنونة، ثم من طلب منك أن تتدخل في الجمارك لزيادة مكافآتي الشهرية؟
اتركني يا أخي لقد لجأت إليك ذات يوم لكي أتخلص من أوهامي، لو كنتَ مكاني ... افترض أنك في مكاني فهل ستشنق نفسك؟ لقد اشتبهت بنفسي فأردت أن أكذّب نفسي، وأعلن بصوت قوي أنني أحب بلادي، بلادي هذه التي هي بلادك بسهولة وبلا أي إثبات، ولكن أليس من الجنون أن أقف في الساحة أمام تمثال الشعب وأقرأ عليه اعترافي؟ أنت نفسك ألن تعتبرني مخبولاً لو فعلت؟ وربما كان من واجبك أن تعتقلني، ولذلك لجأت إليك أنت لتقرأ خطابي، فتبرئني من أوهامي أمام الجميع، وكنت مستعداً لكتابة خطاباتك دائماً أعني كنت مستعداً لأن أستشهد، لكن المشكلة أن الحرب لا تقوم خصيصاً لك لكي تستشهد فيها، فماذا تفعل؟ هل تستسلم للشكوك في نيّتك أصلاً أيها المخادع الذي لايتذكر الشهادة إلا في أوقات السلم، أيها الجبان، أيها الخائن، كيف إذاً لا أكتب خطاباتك؟ أعني كيف أتحمل كل هذه العيون وكل هذه الأصابع؟ ولكنك أصبحت تتضايق من جناحيّ، كل إنسان يطير حتى أنت، يركّب لنفسه جناحين خاصين ويطير، هل تظن أن جناحيك من طينة جناحي، اعذرني ولكننا طيران مختلفان، فما المشكلة؟ نحن مختلفان حتى في المناقير، انظر إلى منقارك وإلى منقاري، ما آكله هل تأكله؟ لا تأكله إذاً لماذا تتدخل في جناحي؟
في البداية قلتَ لي: خفف لي من الحيوانات في الخطابات القادمة. فخففت الحيوانات وأكثرت من الطيور، قلتَ: ألم أقل لك خفّف من الحيوانات. قلتُ: خففت. قلتَ: وما كل هذه العقبان والهداهد والغربان واللقالق التي وضعتها في الخطاب؟ قلتُ: هذه طيور. قلتَ: ولو. فخفّفت من الطيور أيضاً ثم في عيد الثورة قلتَ لي: خفّف من الأشجار. ثم في عيد العمال العالمي قلتَ: ألم أقل لك خفّف من الأشجار. وفي عيد الأم قلتَ: لماذا لم تخفف من الأشجار؟ ثم حرّمتَ عليّ في عيد الشهداء أن أذكر من الآن فصاعداً أي شجرة أو حيوان أو طير في أي خطاب قادم، وكنتُ لا أستطيع، كيف أستطيع عندما في نشرة الأخبار مثلاً، هذه نشرة بعد الغداء ألا تسمعها؟ تسمعها، وأنا أيضاً أسمعها، ولكن ماذا أفعل؟ أعني الناس في نشرة الأخبار يقتلون بعضهم على سبيل المثال، ألا يقتلون بعضهم؟ يقتلون، خذ حلب، ماذا يفعلون في حلب؟ هل يلعبون فيها؟ اعذرني ولكن على من؟ وعلى أي سبيل؟ فماذا تفعل؟ الرشاشات والمسدسات والدبابات ليست من البلاستيك، والناس أيضاً بخوذات وبدون خوذات ليسوا من البلاستيك، الناس هناك ينبطحون وفحص البكالوريا هل سيقدمونه هذه السنة؟ سيرسبون غصباً عن أمهاتهم، ولكن على الحائط ماذا يفعلون؟ هل يبولون؟ هل انحصروا جميعاً وقرروا معاً وعلى نسق؟ ثم على نسق ينامون هناك تماماً حيث يبولون، الأمر إذاً ليس بيدي عندما تتكاثر الحيوانات في خطاباتك، الأمر بيدك أنت، أنت، أنت، كيف أشرح لك؟
خذ شخصاً يمشي، أنت مثلاً تمشي تمشي تمشي ثم تقع في حفرة ما لها قرار، وهنا أمرّ أنا، هل لاحظت؟ فماذا أفعل؟ هل أرمي لك حبلاً لتتسلق عليه؟ افترض ولكن من أين؟ أولاً ما عندي حبل بلا قرار، ثانياً ما عندي أشتريه، ثالثاً الدولة لا توزع علينا الحبال، فهل أتركك وأمشي؟ اعذرني ولكن كيف؟ إذاً لايوجد هنا أفضل من نعامة، نعامة عادية ومريضة أضعها في خطابك وأدافع عنها، ولكنك الآن تحرّم عليّ الدفاع عن أي حيوان أو شجرة أو طير في أي خطاب فما العمل؟ ماذا تخسر أنت إذا دافعتُ أنا عن النعامات؟ لماذا يجب أن تكون كل النعامات عندنا في صحة جيدة؟ ماذا تفهم أنت من نعامة مريضة؟ صدقني إنها لاتستهدفك بمرضها، وحين تعجز عن سحب رجليها الطويلتين لا تحطّ من قدرك، وحين تئن لا تسبّك، إنها تتألم دعها تتألم، ماذا تخسر أنت من نعامة مريضة تتألم؟ ثم إن النعامات لا تعيش في بلادنا لكي تأخذ على خاطرك، اعذرني ولكن ماذا تخسر إذاً؟ افترض أنني أكذب ولكن اتركني أشعر أنني أدافع فعلاً عن نعامة، نعامة مريضة أتصورها في بلادي، كيف أكون من بلادي إذا كنت … أعني كيف أقول إن هذه الشجرة لي؟ كيف أثبت ذلك؟ يجب أن أثبت ذلك لأنها لي، ولأنني لا أصدق أنني سقطت من القمر، أنت لم تسقط من القمر فلماذا أسقط أنا من القمر؟ أحب أن يكون لي شجرة، شجرة خاصة بي على الأرض، ثم يأتي إلى شجرتي هذه أحد، أي أحد، يأتي بفأس كبيرة يريد قطعها فأخرج له أنا وأمنعه، أضع حدّ الفأس في كفي وأقول له لا تقطعها هذه شجرتي، لماذا تقف بيني وبينه؟ لماذا تقف بيني وبين شجرتي؟ ولماذا تسكت؟ أنت تسكت وعليّ أنا كتابة الخطابات، أنا لا أعرف الآن كيف أكتب خطاباً واحداً بدون نمر جريح واحد على الأقل، وأنت تحرّم عليّ النمور، إذاً أسكت أنا أيضاً، سأسكت، سأتمسك بالنافذة الصغيرة إلى يمين مكتبي، لم يعد أمامي غير أن أعجب أكثر فأكثر بالجبل المشجّر العالي القريب، سأحبه بلا هوادة، سأحبه بلا توقف من أول دقيقة في الدوام إلى آخر دقيقة، أنت، اعذرني ولكنك أنت، أنت لم تترك لي غير هذه النافذة الصغيرة إلى يمين مكتبي، كيف أكتفي بنافذة صغيرة إلى يمين مكتبي؟ ماذا يمكن أن تقدمه لي نافذة صغيرة إلى يمين مكتبي؟ إنك بيدك هذه تعيدني إلى نفسي المطعونة، نفسي المريرة، نفسي المشبوهة، هات يدك يا قدري الباشا، هات يدك، هات، يدك، يدك يدك يدك يدك يا قدري البااااااااااااااشااااااااااااا يا اااااا قدري ي الباااااا شااااااا.
ثم وقف رزق الله اسحق وصاح في وجه السيد رئيس المنطقة: هذا هو قدري الباشا، ماذا تريدون منه أيضاً؟ ألا تكفيه نجوم الظهر التي رآها عندكم؟ ماذا تريدون فوق ذلك؟ لن تمسوا بعد الآن ظفراً من أظافره، إنه الآن في حمايتي، هل فهمت؟؟
ـ كنت أظن أنكِ مثل قحبات الأفلام.
قالت العمة فضحكت المدام سوزان بطريقة قحبة سكرانة في فيلم مصري. وانتبه رزق الله اسحق إلى أن أحداً لم يتجاوب مع كلامه العالي، ولا حتى السيد رئيس المنطقة المنهمك بالطعام، فصرخ بالتوتر ذاته:
ـ في حمايتي هل فهمت؟؟
ـ كيف يعني؟
تساءلت المدام سوزان، فقالت العمة:
ـ يعني تعيفك يد وتأخذك يد.
كررت المدام سوزان نسخة من ضحكتها السابقة. وصمم رزق الله اسحق أن يعيد كلامه العالي في حماية قدري الباشا، ولكنه اعترف في اللحظة الأخيرة بفقدانه الحماس المناسب لصراخ مثيل. ثم خشي من احتمال تجاهله من جديد إذا جرّب صراخه مرة ثالثة، ما كان سيوقعه في حيرة كانت لا تلزمه.
قالت المدام سوزان:
ـ حبيبتي“الفنانة متل أياّ صاحب صنعة زائد الزوق والنعومة والأخلاق.
ثم فكر رزق الله اسحق بهل يستطيع فعلاً حماية قدري الباشا الآن على فرض أن طاقماً كاملاً من رؤساء مناطق ومسلحين ملتحين قالوا له: تفضل يا سيد رزق الله اسحق احمِ صديقك الشاعر قدري الباشا! وهل يكون قد وفر له الحماية اللازمة إذا وضعه في صندوق ثم خبأ الصندوق في السقيفة مثلاً؟ ولكن كيف سيتصرف إذا جاءت سيارة جيب في نصف الليل، ونزل منها رجل طويل وعريض ومعه رجلان طويلان وعريضان، وقالوا له: سلمنا قدري الباشا نعدمه ونعيده لك. ماذا يقول لهم؟ هل يكذب عليهم؟ وإذا كذب فهل سيصدقونه؟ ثم من سيمنعهم إذا فتشوا البيت من الصعود إلى السقيفة: افتح هذا الصندوق. يفتحه ويظهر عليهم قدري الباشا، وهو يأكل سندويشة جبنة. وتطعمه أيضاً؟. "بنتي رغداء ترسل له سندويشات الجبنة. تعالي يا رغداء“. نعم أنا أعمل له سندويشات الجبنة. وأمك تعرف أنك تعملين له سندويشات الجبنة؟ “نعم أعرف. والعمة؟ نعم أعرف. وأنت يا وديعة؟ أنا ورغداء نعمل سندويشات الجبنة لقدري الباشا. أنا أعمل وحدي سندويشات الجبنة. أنا أساعدها. تفضلوا جميعاً إلى سيارة الجيب. أنا لا أفهم لماذا سيعيدون قدري الباشا إلي إذا كانوا سيعدمونه.
ـ وتصومون؟
قالت العمة، فردّت المدام سوزان:
ـ حسب، حسب الدين.
ثم وجد رزق الله اسحق كاسه مترعة من جديد، فغبّ نصفها ورأى أن من الأفضل له، ولقدري الباشا أن لا يحميه. إن حمايته تعني نهايته كشاعر مقدام لأنها سوف تحرمه من الموت بين مخالبهم، وهكذا سوف ينحرم رزق الله اسحق نفسه من القدوة الحسنة. والفرق كبير بين أن يموت المرء قديساً بين أنياب الظالمين، وبين أن يموت مخبّأ في صندوق وفي يده سندويشة جبنة. الأفضل أن لا يورطه في جبن الحماية، الأفضل أن يجتمع عليه رؤساء المناطق والمسلحون الملتحون تحت شجرة في غابة ويأكلوه. ورزق الله اسحق من جهته سوف يبكيه ما بقي حياً، وسوف يحلم دائماً بأعمال شجاعة يرضى عنها قدري الباشا وهو في قبره. أين يمكن أن ينقبر قدري الباشا إذا كانوا سيأكلونه؟
ـ وكل واحدة إذا أرادت تقبلونها فنانة معكم؟ يعني حتى ولو قطعت الأربعين من زمان وبحياتها ما جرّبت الفن؟
استفسرت العمة بحرارة فطمأنتها المدام سوزان:
ـ لا تخافي حبيبتي مقبولة ولو بنت ستين المهم أصلك وخفّة دمك.
ولكن إذا كان رزق الله اسحق لن يحمي قدري الباشا فكيف يسحب تعهده الصارخ بحمايته؟ كيف يتأكد من أنه لم يقذف به فعلاً في وجه رئيس المنطقة؟ وإذا كان رئيس المنطقة أحجم عن التعليق حتى الآن، فإن ذلك لا يعني طرشه أو تطنيشه، كما لايعني من ناحية أخرى أن رزق الله اسحق لم ينطق بشيء، إذ كيف يتجاهل صوته المبحوح من أثر الصراخ؟ فحسم أمره وتبنّى الاحتمال الأسوأ وقرر أن يتصرف وكأنه قد تورط فعلاً بحماية قدري الباشا. تهيأ للعمل في الاتجاه المعاكس أيضاً، فابتسم على الفور في وجه رئيس المنطقة الذي كان يتابع أكله بهمة وشهية عاليتين. خطر ببال رزق الله اسحق أن يعبّر مباشرة وبإيجاز عن الغرض من وراء ابتسامته تلك فقال: قدري الباشا بالمناسبة ليس في حمايتي وتستطيعون اعتقاله الآن وإذا أردتم سلّموه إلى الأخوان المسلمين.
كان رئيس المنطقة يستمر في الطعام فقط. التفت رزق الله اسحق إلى قدري الباشا ليقبّله ويطمئنه إلى أنه سوف يشعل من أجله الكثير من الشموع، ولكنه لم يجده في مكانه. وعندما لمحه جالساً على مقربة من رغداء على رأس شجرة الليمون عاد وتوجه بالكلام إلى رئيس المنطقة بصوت أعلى: قدري الباشا ليس في حمايتي وهو بالمناسبة على رأس شجرة الليمون، اعتقلوه إذا شئتم وإذا كان لايلزمكم سلموه إلى الأخوان المسلمين، وأنا من طرفي سوف أتألم عليه كثيراً، ولكن كما ترى ليس في اليد حيلة، مع أن الاعتقال هو الوسيلة الوحيدة للحفاظ على رونق قدري الباشا، اعذرني لكن هذا رأيي.
ثم أراد رزق الله اسحق بكل جوارحه أن يصدق أن السيد رئيس المنطقة من الناس الذين يفقدون حاسة سمعهم عندما يأكلون. والتفت إلى أم رغداء ليتأكد من ذلك أو من صوته ولكنه لم يجدها في مكانها هي الأخرى. كانت تجلس على أول درجة من درجات السيبة الحديدية وقد رفعت رأسها لتتابع ما يجري بين رأس السيبة ورأس شجرة الليمون. كانت رغداء ما تزال تتمتع بأن رئيس المنطقة لم يلاحظها بعد. وكان كل شيء يدل على أنه لا يفعل ذلك من باب غض النظر عن مأثرتها بقدر ما فاته فعلاً أن يراها، ما جعل رغداء تفيد من قيد مكسور آخر كان يمكنه عرقلة ارتفاعها المطرد بعد أن أغمضت عينيها من جديد. ثم قدّرت أن بمقدورها توظيف قسوة أبيها في كسب المزيد من العلو. ولكن كيف تجعله قاسياً؟ كأن يبادر على الأقل بزجرها من مكانه وهو جالس. وعبثاً انتظرت فاضطرت للاعتماد على مساوئه القديمة ونجحت في نبش صفعة عتيقة مهلهلة كانت تلقتها منه منذ ثلاث سنوات أو أربع. ومع أنها لم تعد تذكر الآن سبب تلك الصفعة إلى درجة أنها يمكن أن تكون قد اخترعتها نظراً للحاجة إليها. ولكن ذلك لم يمنعها من استخدامها في إضافة شيء ما إلى طول سيبتها. ثم اعتقدت أن من النافع أيضاُ في هذا المجال أن تغار أمها منها على اهتمام قدري الباشا بها، ولهذه الغاية كان على رغداء أن تعترف صراحة بأنها لاتنتظر عساف، وأن تبرهن على أن قدري الباشا يهتم بها فعلاً، وأن تقتنع ولو بعلامة وحيدة على زعزعة الرباط المقدس بين أمها وأبيها. وكان أسهل هذه الشروط أن تعترف بأنها لا تنتظر عساف، ففعلت ذلك بغبطة واضحة. ثم عثرت على سوسة في الرباط المقدس بين والديها، فقد كانت أمها قد أسرّت لها منذ شهور بأنها لم تتزوج من أبيها إلا لأنه أخذ قبلة من فمها ذات يوم، وهكذا فلو أن شخصاً آخر سبقه إلى القبلة نفسها لما كان أبوها رزق الله اسحق، ربما كان رزق الله الباشا مثلاً. ولكن رغداء لم تعرف كيف تبرهن على اهتمام قدري الباشا بها إلا عندما أحست به معلقاً إلى جانبها على رأس شجرة الليمون، فاستوفت بذلك شروط تأجيج الغيرة في صدر والدتها. لقد بدا وجوده القريب منها كأنه من شغل يديها، حتى أنها رأت أن لها دخلاً كبيراً في أن تصبح شجرة الليمون على مثل هذا العلو البالغ، المهم أن لا يتدخل طارئ جديد يزيد قشة أو ينقص قشة من جهودها، فقد يتلف كل شيء فجأة بتأثير التفاتة مركزة يصوبها نحوها السيد رئيس المنطقة.
شبع السيد رئيس المنطقة أخيراً. استند إلى ظهر الكرسي ورفع رجله اليسرى ومدها على كرسي قدري الباشا الشاغر، وأصبح في ذروة استعداده، لو كان في ظرفه المنزلي، لأن يتلقى بتفهم كامل موجة الازدراء الدورية التي تغمره بها السيدة حرمه خلال الطعام وبعده. ورغم أنه كان على دراية تامة بتحول هذا الطقس إلى عادة متأصلة في صميم حياته الزوجية ولكنه لم يدرك إلا في تلك اللحظة أن تلك العادة، في حال فقدانها المفاجئ، يمكن أن تتحول إلى حاجة أقرب ما تكون إلى حكة الجرب عندما لا يطفئها إلا الدم تحت الأظافر. لقد فهم السيد رئيس المنطقة الآن فقط لماذا كان يحرص دائماً على تناول كل وجباته في المنزل، ولكنه لم يقع على وسيلة تساعد رزق الله اسحق في التخلي عن ابتساماته البلهاء التي يخصّه بها بسخاء مقزز، وتعيده إلى سخطه الآنف الذكر في حماية قدري الباشا. إن مجرد صراخه بغض النظر عن مضمون هذا الصراخ كان يمكن أن يحكّ للسيد رئيس المنطقة جزءاً ولو صغيراً من الفراغ الملتهب الذي كانت تطفئه السيدة حرمه بازدرائها. ثم صعب عليه أن يطلب منه صراحةً لو ينبّ في وجهه لسبب من الأسباب، فافترض أن على رزق الله اسحق أن يحزر حاجته إلى الازدراء فيسارع إلى تلبيتها من تلقاء نفسه.
ولكن رزق الله اسحق ظل يبتسم. وظل السيد رئيس المنطقة ينتظر احتقاره، ثم نفد صبره وأصبح قابلاً لأن يَقنع بعنزتين وحيدتين يفترضهما رزق الله اسحق في رأسه. إن عنزتين فتيتين وجائعتين كانتا قادرتين على رعيِ جربه الدوري في تلك اللحظات. ولكن خطاب عيد الشجرة الذي جاء من أجله إلى منزل رزق الله اسحق كان بوسعه، وبانحراف بسيط، أن يلعب دور العنزتين مادام مستقبل السيد رئيس المنطقة فوق كل النزوات، ولذلك فقد أصبح نافلاً أنه لاحظ قدري الباشا لأول مرة على رأس شجرة الليمون مفترضاً بعد فوات الأوان أنه الشخص الوحيد القادر على ازدرائه بجدارة.
كان قدري الباشا مبسوطاً من أن رغداء مسحورة بالأيام الصعبة التي عاشها قبل مجيئه إلى البلدة، وقد عمد إلى جعلها أكثر حلكة بسرور ظاهر لتتناسب مع ميل رغداء العارم إلى تهويلها. كان كلما سوّد أيامه فاض بالنور في عينيها، فتربّى في دخيلتها وتحت رعايتها شعور عميق بالقصور لا تستطيع إزالته إلا بمشاعر حب عنيف، فأحبت قدري الباشا. أنا لا أحب عساف. كيف يمكن أن تحب فتاة مثل رغداء شاباً مثل عساف؟ عساف لم ينسجن لكي تحبه، لم يُقلع له ظفر، لم يهرس له سن ولا شفة، لم يُنتف له شارب، لم يقّطع عليه سوط واحد، لم يُطفأ في جسمه عقب سيجارة واحدة، ولم يُشتم بأمه، وأبوه لم يمت لكي يُنبش من قبره، ثم إن الأخوان المسلمين لا يطاردونه، فعلى أي شيء تحبه رغداء؟ هل تحبه لأنه سيبقى في طرطوس للأبد؟ في الصباح ظنت أنها تحبه، وفي أول المساء ظنت أنها تنتظره، ولكنها الآن متأكدة. أنا لا أنتظر عساف ولا أحبه، أنا أحب قدري الباشا. وسوف تُخبّئه في الصندوق الذي في السقيفة، وسوف يكون على رزق الله اسحق أن يمانع فلا يعود قدري الباشا صديقه، لكي يَسهُل على رغداء عصيان أبيها فلا يعلم بمخبأ حبيبها، سوف تهرّب له سندويشات الجبنة بعد نوم الجميع وقبل يقظتهم، ولن تسمح لوديعة بمساعدتها، وإذا سألتها أمها هل تحبين قدري الباشا، سوف تبكي أولاً ثم تمسح دموعها وتبتسم وتقول لا أحبه، وإذا في نصف الليل طرق بابهم رجل طويل وعريض ومعه رجلان طويلان وعريضان وسألوا عن قدري الباشا سوف تنكر وجوده، وإذا دخلوا عنوة ليتحققوا من كلامها سوف تفعل كل شيء لكي لا يصعدوا إلى السقيفة وإذا صعدوا. فكيف أخفي صندوقنا يا قدري الباشا؟ سوف تجلس عليه وستغيب عن وعيها إذا كان ذلك سيشغلهم عن قدري الباشا، وإذا كانوا لن ينشغلوا بها فلماذا تفقد وعيها، لن تفقده، سوف يبقى أمامها أن تتوسل بعينين جارحتين وفم مزموم وذقن مرتعشة، وسوف يكون على أكبر رجل طويل وعريض أن يتأثر وأن يفهم فيسامح: يأمر رفيقيه الطويلين العريضين بالنزول، فينجو قدري الباشا. أليس
قال السيد رئيس المنطقة:
ـ عيد الشجرة غداً.. هل تعرف؟
قاوم رزق الله اسحق غصّة حارقة في حلقه:
ـ أعرف، هل تظن أن أشجارنا في خطر؟؟
قالت العمة:
ـ نعم من أول كاسين .. جسمي لا يتحمل الويسكي.
قال السيد رئيس المنطقة:
ـ أشجارنا لايمكن أن تكون في خطر.
قال رزق الله اسحق:
ـ يجب أن تكون في خطر.
قالت المدام سوزان:
ـ ملاّ خبريّة؟؟
قال رزق الله اسحق:
ـ حتى ينجح الخطاب.
قالت العمة:
ـ يعني هذا شرط؟؟
قال رزق الله اسحق:
ـ بدون الخطر الخطاب يفشل، لأن الدفاع عن الأشجار يصبح بدون طعمة.
قالت المدام سوزان:
ـ مش ضروري لأنّو ما بيخلى الأمر من شي حشّاش أكابر، بس كِيف بدك فن بدون ويسكي؟ صعب.
قال السيد رئيس المنطقة:
ـ والحل؟
قالت العمة:
ـ التفصيل مو عليّ، عليّ اللبس، المهم ما أدوخ.
قال رزق الله اسحق:
ـ من ناحيتي لا توجد مشكلة، المهم أن ينجح الدفاع.
قالت المدام سوزان:
ـ مزبوط لأنو الإنسان مش معقول ينام ع الطاولة من أول يا ليل، بس ع الصينية الزباين ما بيتنقّوا، متل الرمان ما بينحزر لحتى يفرط.
زقزقت العمة شغفاً بمهنتها المحتملة. وبدأ قدري الباشا يتحسس لأول مرة، كما يتحسس ثمرة شهية، فرصةً مواتية لمنعطف جديد ينقذه أخيراً من اليأس. ثم اعتقد أن رغداء مؤهّلة لأن تكون العامل الحاسم في إنجاز هذه المهمة. ولكي يمنع اليأس من التدخل في استثمار رغداء رأى قدري الباشا أن يحول دون التباسها بسورية، ولكي لا تلتبس بها كان عليه ألا يفقدها، يجب ألا يكون مضطراً لاستعادتها لأن أي استعادة لها لن تتم، كما علمته التجربة، إلا بيأس كلّي. ومن ثم سيكون مفيداً ولاغنى عنه أن تظل رغداء هي هي في النوم واليقظة، بحيث تحتفظ بعيوبها جليّة تماماً وعصيّة على أي محاولة من يأسه لترميمها أو التستر عليها، أو قلبها إلى محاسن زائفة. عمتي تقول عندي عيوب كثيرة ولكني لا أصدقها. صدقيها. هل تلزمك عيوبي؟ تلزمني. طيب إذا كره الإنسان عمته أحياناً عيب .. عيب؟. أنا أكره عمتي أحياناً. أحسنتِ. وإذا أخفى الإنسان أحياناً البدلات العسكرية من أمام أمه عيب .. عيب؟. وإذا رغب الإنسان في أن يحرق شاربي البقال بولاعة عيب؟. عيب. وإذا كان على فخذ الإنسان وحمة سوداء كبيرة مثل هذه انظر .. عيب؟ عيب. ماذا تريد من عيوبي؟
عندما تكونين من دون عيوب أفقدك فيقوم يأسي ويخترعك، وتصبحين مثل كذبة أصدقها فلا ألمسك إلى جانبي بل ألمس الهواء. عندي عيوب أخرى هل تريدها؟. أريدها. مرة كسرت ثلاثة فناجين من الطقم الذي تخبئه أمي لعرس ابن أختها عساف، ومرة أيقظت أبي لكي ينتقم من أمي على إزعاجه، ومرة وعدت عمتي بأنني سأجننها عما قريب وأنني سأزوجها من قط أعور وعجوز يطلع على ظهر الحائط ولا يعرف كيف ينزل، ومرة سمحت للبقال نفسه بأن يلعب بصدري، ومرة قلت له قبلني من رجلي .. والآن هل تكفي كل هذه العيوب لكي تلمسني كلما أردت؟ سوف تحرسني عيوبك من يأسي وسوف ألمسك. عيوبي مثل الكلاب البوليسية أليس كذلك؟ نعم ولكن قدري الباشا بلا يأسه سيكون مجرداً من قدري الباشا فمن غير يأسه ما كان له أن يكون ذلك الشاعر الملهم الكبير. كيف يظل شاعراً؟ كيف يتخلى عن يأسه دون أن يتحول إلى مجرد موظف عادي في بلدية مثلاً أو في مركز لمكافحة الملاريا؟. أستعين إذاً بالموت. لأن قدري الباشا المحب لرغداء ذات العيوب البوليسية والأعزل من يأسه وشعره سوف يجد نفسه فجأة شخصاً جسوراً، لا يفذلك ذله ولا يقتنع بعدالة اعتقاله، ولن يتفهم سبباً واحداً يسوغ لأحد أن يهينه، لأن حريته لن تكون غفلاً إلى أبد الآبدين، سوف يجربها، وسوف يلمس الفرق الكبير بين الانسان مسجوناً وبينه طليقاً. ولذلك سوف يبحث عن يوسف العظمة، ويتطوع في جيشه الذي سينطلق إلى ميسلون مرة اخرى.
سوف أذهب معك لأقاتل أنا أيضاً في سبيل دمشق. إذهبي معي إذا أردت ولكني لا أذهب إلى ميسلون لأقاتل بل لكي أصبح شاعراً من جديد، عندما ستنطلق الرصاصة الفرنسية نحوي ثم تخطئني. أذهب معك إلى الجحيم .. إلى ميسلون. إلى ميسلون. ولكن الفرنسيين سيتكفلون هناك بفصلهما للأبد، لأنهم لن يكتفوا بمجرد تعريضه للموت بل سيقتلونه فعلاً وحقيقةن بصفته الآن شاعراً لم يعد يائساً. وبصفتكَ تحبني. سوف يكون جديراً برصاصهم إلى جانب يوسف العظمة، سيكون يوسف العظمة مشغولاً بسحب سيفه النحيل عندما سيسقط إلى جانبه قدري الباشا مثقوباً في قلبه، ولن ينتبه إليه وزير الحربية إلا عندما سيخرّ صريعاً فوقه بعد دقائق، فيكون قدري الباشا آخر قتيل غائم يراه يوسف العظمة. سيمرّ الفرنسيون وتبقى رغداء الواقفة الوحيدة على ظهر ميسلون مثل شاعر فقد نصفه بين القتلى. يا يوسف العظمة لا تستشهد هذه المرة أرجوك، يا يوسف العظمة أبوس يدك انتصر على الفرنسيين هذه المرة فقط، يا يوسف العظمة إحم حبيبي قدري الباشا. ولكن يوسف العظمة يظل دائماً مثل يوسف العظمة، إنه لكي يزحف على الفرنسيين، يجب أن يكون ناقص العدة والعدد، وإلا فلن يتفّق له أن يستشهد بأسرع وقت ممكن في سبيل دمشق، لأنه لا يستطيع إلا أن يستشهد في سبيلها دائماً، يجب أن يمرّ الفرنسيون على جسده في طريقهم إليها، لكي يظل مثل يوسف العظمة، ولذلك لن يقبل إلا بحتفه المحقق مرة أخرى وأخرى وأخرى، إنه ينتصر عادة على الفرنسيين بطريقة لاتحجب بنادقهم عن صدر قدري الباشا ما دام قدري الباشا سيأتي إلى ميسلون.
لماذا نذهب إلى ميسلون؟ لماذا؟ من أين إذاً تدبر رغداء موتاً حقيقياً أميناً يتعرض له حبيبها قدري الباشا الأعزل من يأسه بحيث يعود شاعراً من جديد ويكتب قصائد عن الأمل مثلاً؟ هل تلجأ معه إلى الموت الذي يتعقبه به الأخوان المسلمون؟ ولكن هذا الموت خشن لا مبال، آلي بارد موت سيعطل له، كما لو بالخطأ، صفاته جميعاً فلا يعود يتصف بها، موت سيحوله بلمسة واحدة إلى لحم نيئ يبرد بعد قليل ويخمّ بعد يومين، كيف تقنع رغداء القاتل البلدي الذي يتعقب قدري الباشا بضرورة قصائد الأمل التي سيكتبانها معاً إن نجا من رصاصته الباردة. لن يقتنع لن يقتنع. الأفضل أن يطلق رئيس المنطقة النار عليّ. وإذا أصابك؟. يجب أن لا يصيبني. وإذا أصابك؟. أقول يجب أن لايصيبني. سيصيبك سيصيبك. سوف يسقط قدري الباشا مثل عصفور عن شجرة الليمون وسوف تجد رغداء نفسها وحيدة قبل أن تعرف كيف يصبح الانسان شاعراً. إلى أي سماء خالية من الرصاص تطير رغداء بقدري الباشا؟ أين يكتب الشاعر قصائده عن الأمل دون أن يطاله فعلاً رصاص الفرنسيين الملتحين رؤساء المناطق؟ لن يكون إذاً مكان أصلح من صندوق السقيفة لذلك. كيف تسلم رغداء قدري الباشا لرصاص الفرنسيين الصائب أياً كان شكلهم خارج الصندوق؟ والصندوق قبل كل شيء غار للتماسك والملامسة والأنفاس الساخنة والتعرق والجدران الخشبية الملتصقة بالأكتاف والسقف الملزوق بعظم الجمجمتين والظلام الأمين الأمين.
والشعر قد لايحتاج إلى قصر أو برية. لا يحتاج ولكن شاعراً مزدوجاً مؤلفاً من قدري الباشا ورغداء ومكبوساً في صندوق مغلق سيحتاج إلى مكان أرحب قليلاً لكي يستدرج رأس الشعر على الأقل. إذا نام الشاعر لا يشعر بالضيق، النوم يحوّل التابوت إلى غابة. والشعر؟. الشعراء النائمون يحلمون بالقصائد. لكن أحداً غيرهم لا يقرؤها في هذه الحال ولا يلمسها لأنهم لا يكتبونها، لابد من اليقظة للكتابة، لابد من اليقظة. ولكنهما كشاعر مزدوج ومكبوس ومستيقظ في صندوق سيكونان محكومين باليأس من جديد. لا أريد أن أكون يائسة. اليأس هو البديل الأوحد للنوم في هذه الحال لأنه القوة الوحيدة التي تعيد إليهما الغابة التي يخسرانها في اليقظة. لا أريد أن أكون يائسة. اليأس سيؤمّن لهما ما سيحتاجان من الهواء. لا أريد أن أكون يائسة. وسيزودهما اليأس بأفكار واسعة ذات شموع يسرحان بها ويستمدان منها الشعر في ظلام الصندوق الخانق. لا أريد أن أكون يائسة. من سيفعل لهما كل ذلك غير اليأس. لا اريد أن أكون يائسة، لا أريد لا أريد لا أريد ..
ثم أعولت رغداء: يا اااااا أمي ي ي ي ي قو و و لي ي ي ي ي لعساااااف يخطبني.
فهتفت وديعة: جاء عساف!
عوى جرس الباب عواءاً رفيعاً عالياً متواصلاً تشعّب في أجسادهم مثل نداء طويل حار من وراء طبقة سميكة من الماء، كأنه يلحّ على إنقاذهم من كابوس يتقاسمون بطولته بتلهف ودون توقف. وكانوا قادرين على الظهور متماسكين كما ينبغي، متناغمين كما ينبغي، ومتحلقين جميعاً حول المائدة كما ينبغي، ولكنهم أبوا، كل لأسبابه، أن ينقادوا لشيء آخر غير الذي يعتريهم فأنصتوا لمجرد الإنصات إلى الجرس يبرق فيهم بلا جدوى. لم يتحرك أحد، لم يتصدّع أحد، لقد كانوا يتمسكون بما أنشؤوه طيلة العشاء فجمدوا في أماكنهم كالتماثيل ريثما ينقطع نداء الجرس اللحوح. كانت وديعة قليلة، شاذة، وملحوظة، تختلج مع الرنين في برديّة شديدة. استجابت للجرس أخيراً أم رغداء النائمة على الدرجة الأولى من سيبة ابنتها الكبيرة، ولم تصحُ إلا في منتصف الطريق إلى الباب فغذّت خطاها، فتحته وعادت مسرعة بعينين مذهولتين: عساف!
لم يكن عساف عملاقاً كما توقع الذين لايعرفونه. رنّت بدخوله ضحكة المدام سوزان، فقلّدتها العمة بالنبرة المخمورة الغاوية، وكان واضحاً مقدار الجهد الذي بذلته لتنجح في ذلك. وقف رزق الله اسحق على غير العادة، عقد حاجبيه، بكّل جاكيته، ركّز على نقطة تقع غالباً على جبين السيد رئيس المنطقة وقال: في هذا اليوم يدوس عتبة بيتي لأول مرة إنسان عزيز ومرموق: السيد رئيس المنطقة، فأهلاً بك وسهلاً ياسيدي في منزلك. ثم هجم عليه. ولاقاه السيد رئيس المنطقة وقد طفرت من عينيه دمعتان كبيرتان. تعانقا بحماس صديقين يفترقان للأبد، تبادلا قبلاً طنّانة طويلة ثم انفصلا كأنهما لايصدقان لقاءهما المؤثر الأخير.
كانت المدام سوزان قد استلّت في هذه الأثناء مرآتها الصغيرة من حقيبة يدها واطمأنت على مكياجها وتسريحة شعرها، بينما قلّ حجم عساف فلم يتجاسر على الجلوس في المكان الشاغر إلى جانب رئيس المنطقة، أوى إلى كرسي خالته واحتله إلى جوار رزق الله اسحق. جلست أم رغداء على كرسي قدري الباشا ولم تفطن حتى الآن إلى أنها الشخص الوحيد الذي يطير من السعادة بمناسبة قدوم عساف. ثم أرادت المدام سوزان أن تعطي درساً عملياً للعمة في أصول الفن، فجعلت تشعّ بريقاً فاقعاً باتجاه السيد رئيس المنطقة، واحتارت العمة قليلاً ثم أدركت استحالة تقليدها لأي من الحركات المعقدة الجديدة التي بدأت بأدائها المدام سوزان. وأخيراً حدد رزق الله اسحق ما كان ينقصه طيلة السهرة: أن يمسك بشعر أخته الفاحم ويسحلها وراءه إلى الصالون، يعفس في قلبها ويعود. ولكن عساف رغم خسائره كان الأسرع والأدق في التماس مقاصده فتوجه إلى السيد رئيس المنطقة مباشرة وقال:
ـ سوف أتخرج هذه السنة من دار المعلمين، ماذا أفعل كي أتعين في الجمارك؟
ثم أردف:
ـ في نقطة تفتيش على الحدود.
ولم تتمالك نفسها أم رغداء، نهضت وكادت تطلق زغرودة طويلة مُعتَبِرةً أن عساف قد تخرج من دار المعلمين، وتعيّن على الفور في أقرب نقطة حدود من منزلها، قامت وتركت الطاولة، اقتربت من شجرة الليمون لتُخرج زغرودتها بصيغة رجاء حار إلى قدري الباشا: كرمى للرب اترك رغداء بحالها يا أخي.
ثم عادت إلى مكانها تبكي من الفرح.
قال قدري الباشا بصوت ساهم وضعيف:
ـ سوف أذهب إلى ميسلون.
قالت رغداء:
ـ إذهب.
قال قدري الباشا:
ـ سوف أذهب، لقد تعبت.
قالت رغداء: إذهب ومُت مع يوسف العظمة، أنا سأتزوج عساف ولن أسمح له بأن يصبح جمركياً، لا أحب أن أكون زوجة جمركي مثل أمي، لأن عساف لن يهوش علي، وأنا لن أفتح عراوي سترة عسكرية واحدة، ولن أركّب أزرار أي بنطلون خاكي لأنني أريد أن أكون مثلك، ولن يعاندني عساف لأن أبي سيفتّش عن حجة ليصرفه عني، سيحب أبي لو كنتَ أنتَ عساف، وأنت لن تكون غير قدري الباشا، أبي يراك في عينيّ ويسكت عن فضيحة، وأمي تحوص حولك وتبقّ البحص عليك، وأنت ستموت، وأنا سأتزوج عساف الذي لن يصبح جمركياً مهما فعل. «ولكن رغداء لم تجد أمامها مستقبلاً آخر لزوجها رغم مناصرة أبيها الذي لمّح لها في ليلة عرسها إلى امتعاضه من مصاهرة عساف قبل الجمارك وبعدها. وكان أشدّ ما ضيّق الخناق عليه هو أن السيد رئيس المنطقة عمل فعلاً على تعيين عساف في النقطة ذاتها التي يخدم فيها. ولأن نافذته الصغيرة المطلة على الجبل المشجّر العالي القريب لم تعنِ شيئاً لعساف فقد كره رزق الله اسحق أن يبرر نفسه أمام جمركي شاب طموح على طريقة الآخرين. لقد كان لايحتاج شاهداً من أهل بيته على الخيبة التي يمارسها بانتظام خلال أوقات دوامه الرسمي، ومن ثم في غنى عن تبرير نفسه أيضاً أمام زوجته وأخته وابنتيه ليظلّ زوجاً مقنعاً وأخاً مقنعاً وأباً مقنعاً بعد كل هذه السنين. كان رزق الله اسحق واثقاً من أنه لن يشغُل في الصورة التي واظب على نقلها عساف عن عملهما المشترك إلا موقع الإنسان الفائض عن الحاجة. وبالنسبة إلى شخص قطع الخمسين كان قاسياً أن يتم البرهان يومياً على أنه شخص فاشل. ومع ذلك فقد كان رزق الله اسحق عُرضة لهذا التجريس خاصة بعد أن اقترحت أم رغداء أن تنام وديعة مع عمتها في الغرفة الصغيرة فيخلو مكان لعيش رغداء وزوجها في منزل رزق الله اسحق.»
اليوم بعد أن تذهب أنت ورئيس المنطقة والمدام سوزان، سوف يخطبني عساف، سوف أجلس إلى جانبه على الصوفا وأسكت كما ستطلب أمي، لن أنظر إلى أنفه الذي لا يشبه أنفك ولن أنتبه إلى أذنيه اللتين لا تشبهان أذنيك، ولن أسمع كلامه الذي لن يشبه كلامك، سوف أجلس وأسكت ولن أعرف إلى أين أذهب بعينيّ، إلى أبي الذي سيصفن في أظافر يديه أم إلى أمي التي لن تشبع من النظر إلى عساف أم ألتفت إلى يد عساف التي ستجاور يدي على الصوفا؟ يدي التي سوف يطلبها إلى طرطوس، إلى القرية التي سيعلّم فيها، ستفقأ أختي وديعة دمّلتها وستفرح بخروجي من البيت، وعمتي سوف تنشغل في المطبخ حتى ينطبق الباب ورائي، وأبي سيكون نائماً، ستلوّح لنا أمي فقط، لن تزغرد هذه المرة، ستبكي على فراقي كرمى للجيران ولكن الدنيا لن تسعها، سيسبقني عساف وهو يعتل أغراضي في صندوق، الصندوق المركون منذ سنين على سقيفتنا، وعندما سندخل في أول منعطف بعد بيت أهلي سوف يسألني عساف من تحت الصندوق عنك، سأنتظر هذا السؤال وسأعترف له بالحقيقة، بأنك تحبني حتى العبادة، ولكنك ذهبت إلى ميسلون، ثم سوف يسألني عن نفسي وسوف أسكت لكي يلعب فارك في عبّه، وإذا سألني إن كنتَ سترجع من ميسلون فسوف أكذب عليه، لن أقول ذهبتَ لتموت ولن تعود، سوف أسكت أيضاً لكي يفهم ما يريد، أنا لا أخاف من عساف، أنا قوية بك، وهو سيقبل بي معيونة، سيظن أنه خلّصني منك، وأنه شلّحك البنت التي كنت ستنجّسها وأنه أكبر مني ويستوعب أخطائي، وأنت، أنت ولدت قبله بكثير ولكنك لست أكبر مني أليس كذلك؟ وأخطائي لها قيمة عندك، أنا أعرف هل تذكر؟
على كل حال سوف يتجمع عندي عيوب كثيرة في القرية لن يستفيد منها أحد من بعدك، ستكون قرية عساف على جبل، والجبل سيطل على البحر، وسيكون لبيتي شباك أنظر منه أحياناً إلى الطريق وأنتظرك، وأنت لن تأتي، لن تأتي، أنت لست عساف لكي تأتي دائماً، لست مثله لتكون حاضراً كلما ناداك الإنسان، الذي يريدك لا يجدك على كل رفّ وفي كل صندوق وعلى ظهر كل خزانة وتحت أي بساط، ولكن عساف سيبحث عنك في كلامي حتى عندما أحكي عن أمهِ، وأنا لن أخبّيك، وهو لن يقبض عليك إلا عندما ينام، سوف يكشف عنك الغطاء ويراك برأس ويدين ورجلين، وسوف يخنقك طول الليل إلى جانبي وأنت نائم وأنا نائمة، وعندما أستيقظ لن أتذكرك دائماً، إذا تذكرتك دائماً سوف أبقى زوجة لعساف، لأنني عندما أتذكرك أراك وعندما أراك حتى البيضة لا تنسلق معي والبيضة يجب أن تنسلق معي، لكي لا أبقى زوجته، يجب أن أنام وأفيق وأشم الهواء وأقدّم البكالوريا وأنجح فيها.
«فنجحتْ فيها رغداء بعد ثلاث سنوات من زواجها بمجموع ضعيف ولكن رزق الله اسحق فرح بهذا النجاح على ركاكته، مادام يصفع عساف على بوزه. لقد فهم عساف باكراً وبأدوات متواضعة عملياً أن رغداء إذا خُلقت لرجل في الدنيا فإنها لم تُخلق له بالتأكيد، ولكنه لاحظ باكراً أيضاً أن رزق الله اسحق هو الحلقة الأضعف في مناعتها. كان رزق الله اسحق كلما ابتعد عن جسد ابنته، بدا لعساف وحيداً أعزل ومقدوراً عليه، وكانت هبّة ضعيفة من رائحة إبطيها تعيد إليه في نظر عساف كل ما فقده في غيابها من مخالب وأنياب. ولكن سحر رغداء لا يعود في حضور أبيها برّياً ومتعالياً على مشاعر عساف، فتتضاعف لديه فتنتها كأنثى مروّضة، ما كان يجعله لا يفضل في كثير من الأحيان انسحاب رزق الله اسحق إلى الغرفة الثانية، مع أن بقاءه الثقيل سوف يمنعها من تغيير ملابسها الداخلية أمام المرآة. كان عساف يكره رزق الله اسحق ويعبد جسد ابنته طيلة وجودهم معاً، ما كان يمدّه بمسوغات لاتنضب للانتقام من رزق الله اسحق في نقطة الجمارك وفي المنزل في الوقت المناسب: يُغلق له نافذته الصغيرة المطلة على الجبل المشجر العالي القريب بحجة أنها تجلب الهواء البارد، يدخل مستعجلاً ويُخرج رزمة من المال من جيبه ويطلب منه أن يتأكد له من صحة عدها ريثما يعود، يسأله أمام الموظفين الآخرين عن راتبه بعد ثلاثين سنة من الخدمة، يستفسر عمّا إذا كان لايشعر بالملل من الجلوس وراء المكتب، يقترح عليه أن يروّض ساقيه لكي لايصاب بالنقرس، يصبّ لنفسه دائماً في الفنجان الكبير ويترك له الفنجان الصغير، يمتدح له عمر حذائه الطويل ويراهن على أن قميصه هو شيخ القمصان في نقطة الجمارك، يجلب إلى المنزل الخضار والفواكه فتطول رقبة أم رغداء، والعمة لاتفوّت شخصاً يدخل البيت دون أن تسأله عمّا إذا كان الثوب الذي اشتراه لها عساف يشكو من شيء، عمّا إذا كان ينبغي الآن استخدام المكنسة التي اشتراها عساف، عمّا إذا كان الوقت صحيحاً في المنبه الذي جاء به عساف، عمّا إذا كان الكيك ناضجاً في الفرن الذي أصلحه عساف، عمّا إذا كان عساف يفضل الفاصولياء أم السبانخ، عمّا يمكن أن يكون رأي عساف بالمعلاق المقلي، عما إذا كان عساف قد شبع من النوم، عمّا إذا كان يتضايق من صوت رزق الله اسحق العالي، حتى خشي رزق الله اسحق ذات يوم على سريره وأيقونته ورفّي كتبه العزيزين من توسع عساف، فنقل كتبه إلى غرفة نومه. وكان عساف يزداد حنقاً ولذة كلما رقّت رغداء في حضور أبيها، وكانت رغداء تزداد عذوبة كلما ذوى أبوها، وكرمى لعينيه صارت تكسر الكوب الذي يحبه عساف، وتدلّل بيديها الخضار التي يجيء بها أبوها، وتلحق به إلى غرفته لتسأله بشغف عن كم ولداً تلد الفيلة، وعمّا يفعله القرد اليتيم في الغابة، وعمّا إذا كان الكركدن أثقل من فرس النهر. لم يعد رزق الله اسحق يعرف كيف يقصّر رقبة أم رغداء ولسانها، ولا كيف يوقف سمنتها عند حد، ولا كيف يبعد العمة عن باب الحمام كلما دخل عساف ليستحم، حتى لقد فقد الرغبة في عجنهما بأربعته، وأصبح في حاجة إلى أكثر من سير حيواناته وأكثر من مثابرته على كتابة الخطابات للسيد رئيس المنطقة، وأكثر من الحانة خاصة بعد اختفاء قدري الباشا، وأكثر من الحياد الصامت وشربة الماء اللذين اعتاد على تلقيهما من الناسك. كان لايريد أن يهجر بيته، فقد كان ينتظر يداً من الرب تخلّص عجينه من شعر عساف. ورغم ذلك وريثما تنزل عليه يد الرب اعتاد مع الأيام أن يجد في عساف تأويلاً مريحاً وتحت الطلب للبعوض الذي بدأ يتكاثر في أذنيه، ولابد أن غياب عساف المفاجئ والنهائي هو وحده ما سيصفّي رأس رزق الله اسحق من أي طنين، لأن غيابه وحده ما سيمنحه الإحساس الذي لايتزعزع بأنه مواطن محترم وحقيقي، وما سيعيد حتى العصافير لشجرة الكينا هذه، والمعنى الفني الحميم إلى تحضيره الإفطار، والحياة الكاملة إلى الحيوانات والطيور في غابات وصحارى وبحار رفّيه القصيرين، وهو وحده ما سيزوده بعد طول عناء بالشجاعة اللازمة لأن يقول للسيد رئيس المنطقة، لماذا لم تنتقل حتى الآن إلى دمشق ياسيدي؟ نعم إن غياب عساف المفاجئ والنهائي سيعيد أم رغداء إلى حجمها الطبيعي، وسوف يكون سبباً وجيهاً في زواج العمة وفي تخلصها من الحكة الدائمة في مقعدتها، كما سيمحو البثور التي أكلت وجه وديعة، ولذلك سرعان ما لمح رزق الله اسحق خطاً مستقيماً مباشراً وقصيراً يصل نجاح رغداء بغياب عساف المفاجئ والنهائي، فلم تنجح ابنته الكبرى إلا لتنوّه بيد الرب التي طالما انتظرها. وكان طبيعياً أن يفرح ويلطم بفرحه عساف، رغم خشيته من أن لايلعب غيابه المفاجئ والنهائي الدور الذي رسمه له سلفاً، فقد يكون لطنين أذنيه على الأقل أسباب أخرى غير وجود عساف في المنزل. وكان عساف الشخص الوحيد الواثق من نجاح رغداء، لأنه كان واثقاً من أنها لم تحبه قط. ثم ضبط رزق الله اسحق نفسه فخوراً بعلامة الجغرافيا عندما علم أنها تؤهل رغداء رغم نجاحها الركيك للانتساب إلى الجامعة، ولم يتأكد من مخاوفه إلا عندما أعلنت رغداء ذات صباح أنها سوف تسافر فعلاً لتسجل في فرع الجغرافيا بجامعة دمشق.»
سوف أبقى في دمشق للأبد، وسوف ينشغل عني عساف في طرطوس بدفاتر الإملاء وأوراق المذاكرات، ولن أترك له أثراً مني فأنا لن ألد له ولا لغيره، انظر إلى أمي، أنا ووديعة نرقّصها على أصابعنا كالقردة، أحياناً أكرهها لأنها لاتعرف كيف تفتح الباب وتذهب، لماذا لاتذهب وتأتي بعد يومين؟ ثم تذهب وتأتي بعد عشرة أيام، ثم تذهب ولاتعود، نحن لن نموت من دونها، ولكنها لاتذهب، أمي تخاف من أبي وتحبنا، ولذلك لن تذهب، أما أنا فلن أصبح قردة أحد حتى ولو كان ابني، سوف أفتح الباب وأذهب، أذهب إلى دمشق، سوف أتذكر أنك متّ في سبيلها، سوف تساعدني وأنت ميت، سوف تعلّمني وأنت ميت في دمشق كيف يصبح الإنسان شاعراً لأن القصائد التي سأكتبها يجب أن أكتبها أليس كذلك؟ ثم وقفت رغداء على رأس سيبتها الحديدية، فزغردت أمها.
قالت رغداء:
ـ إلى دمشق.
ونزلت.
* * *
رغداء تريد أن تصبح مسيحاً، رغداء تريد أن تصبح رسامة، تلتقي رفيق السكري لأول مرة
في دمشق ملصت رغداء فخذيها من سروالها القطني الأزرق، فمهما كان رقيقاً فسوف تشي بحدوده شلحَتُها الحريرية. التقطت ألبستها المكومة على كرسي خيزران وعلقتها متأنية على مشجب في حائط مجصص. وبينما التفتت سقط كولونها على حرف سلة المهملات. وباطمئنان قطة منزلية بليدة تقدمت بساقين حرتين إلى طاولة خشبية متينة وغير مدهونة. وعندما استوت واقفة عليها أظهرت شلحتها الخضراء المنقطة بزهور صفراء كم هي قصيرة على قامتها وكم هي مناسبة. ثم لم يكفِ رغداء رفعُ الكلفة، إذ شعرت بحاجة إلى التدخين، لأن تطلب سيجارة من أحد، ولا الهمةُ لأن تنزل وتتناول واحدة من حقيبتها. لقد كانت متعبة رغم أنها نامت جيداً ولم تفعل شيئاً بعد استيقاظها غير أنها استحمت وشربت قهوتها وجاءت. جلست أخيراً على الطاولة، ثم اتكأت بمرفقها الأيمن على مخدة ملبّسة بأطلس أحمر ترك أثره الحار على وجهها حيث مالت إليه، مدت ساقيها وأنزلت ركبتها اليسرى أمام الأخرى. اشتعلت الزهور الصفراء ببريق ذهبي على وركيها الخضراوين، وسطع نور باهر على كتفها العاري، وبدرجة أقل على بياض ربلتيها وبطتي ساقيها وكعبي قدميها. ثم بدأت تمعن النظر بالأشياء من حولها لا لتراها إنما لتزيلها، فلا يعرقلها شيء عن ملاحقة شعورها بفرشاة الرسام الباردة على جسدها الناقص في القماشة الشاسعة المنصوبة أمامه.
كانت شلحتها بدرجة خضرتها ونسبة انتشار زهورها الصفراء تلتبس في أسفل اللوحة بمرج أخضر منقط بزهور صفراء هو الآخر فبدت كما لو أنها ترتدي العشب. وثمة أفق مائل بعيد تنفصل عنه شمس حمراء بشبر وحيد من سماء قليلة وصافية. ومن تحت الشلحة يتدفق أحمر صريح خال من الظل تحدّه خطوط قرمزية تجري متلوية وتشكل في مقدمة اللوحة رجلي رغداء الممدودتين وذراعيها وجزءاً من كتفها. ثم ينقطع أحمر جسدها فجأة عند عنقها ويبدأ فراغ أبيض أبيض في مكان رأسها. قال الرسام: حاول أن تعقد مفارقات سخيفة أمام المعجبات بك وستجد كيف سيغمين من الضحك، يكفي أن تكون نجماً لكي تجد نفسك رائعاً حتى ولو كنت تافهاً، تسعدني تفاهتي عموماً، وأتمنى لك مثل هذه السعادة.
كان رفيق السكري الواقف إلى جواره يتجنب بصعوبة النظر إلى كتف رغداء العاري لأن شعوراً غريباً تلبّسه منذ استلقت على الطاولة، وهو أنه يضع على رأسه طربوشاً أحمر. ولكن على أي أساس يمكن إنشاء علاقة بين كتف امرأة تعرف إليها منذ دقائق فقط، وبين طربوش أحمر على رأسه، إذا كان يعتمر برنيطة سوداء اشتراها عن طريق المصادفة المحضة منذ أيام؟ وهو بالمناسبة لم ينسها على مكتبه في المنزل عندما خرج، ولن يبحث الآن عن مرآة في المرسم ليتأكد من وجودها عليه. إن شعوره بالطربوش لايعني وجوده بالضرورة، مع أن ذلك ينطبق أيضاً على البرنيطة بالدرجة نفسها بالنظر إلى كتف رغداء العاري. وكاد رفيق السكري يظن نفسه معبأ في شروال لولا أنه لاحظ الغليون الصغير الحائر في يده اليسرى ورأى فيه تعزيزاً مباشراً لوجود البرنيطة مادام الطربوش والأركيلة والمحراث من عائلة واحدة. لاكَ غليونه بأصابعه القصيرة كما يلوك يقيناً مبلبلاً، ورأى أن يقصّ شريط هواجسه المتداخلة هذه بالأيور الفرنسية التي تؤرقه منذ أيام والتي جاء يستفسر بشأنها لدى الرسام: عمّا إذا كان جده المجاهد السابق في ثورة ابراهيم هنانو قد ذكر أمامه شيئاً عن قفة مليئة بأيور جنود فرنسيين مقطوعة، وعما إذا أُرسلت فعلاً إلى أحد مخافر الدرك في مدينة حلب.
إن توثيق هذه القفة سوف يفتح الطريق أمامها إلى مسودات الرواية الجديدة التي يؤرخ فيها لتلك الفترة بخاصة إذا تمكن الرسام من تذكر الاسم الحقيقي للمجاهد المتنكر الذي سلمها، واسم الضابط الفرنسي المغفل الذي استلمها. ولكن رفيق السكري مع ذلك خشي أن يزلّ بالأيور الفرنسية إلى منعطفات زلقة وعميقة، فرأى مبدئياً أن لايزيد من التباس هيئته عليه بامتناعه عن النظر نهائياً إلى المصدر الذي يبعث فيه كل هذه الفوضى في المرسم: كتف رغداء العاري. فحصر الرسامَ في نطاق رؤيته ثم قال له كأنه يسقط من فمه كرة بينغ بونغ على الأرض المبلطة: التفاهة .. سعادة .. مسلية .. إذا .. شئت .. في .. أوقات الفراغ غ غ غ.
كانت رغداء قد أزالت بعينيها حتى الآن كل اللوحات المعلقة على الجدران والمسنودة إليها، والنافذةَ الكبيرة بسمائها الصافية، والأصيصَ الضخم بنبتته العملاقة، والحاجزَ الزيكزاك الأخضر بالقماشة السوداء المنسدلة عليه، وحزمةَ السنابل اليابسة في جرة كبيرة من الفخّار، وتمثالَ امرأة جالسة على قاعدة بثلاثة قوائم، وقطاً أبيض وسجادة صغيرة ينام عليها، وطربيزات بمنافض وأعقاب سجائر وفناجين قهوة مشروبة، ومقاعد خيزران ملبّسة بكريتون مورّد. لكنها لم تفلح في إزالة رفيق السكري المدكوك والمدعبل. ثم زاد من رسوخه أن الرسام بدأ يعصر ماسوراته على حاملة الألوان، ما أفقد رغداء أي احتياطي للوقت حتى للتخفيف من أثره على خلفية مرسم مُزال. ولكن ماكاد الرسام يقترب من جسدها الأحمر الناقص على القماش المشدود حتى شرعت رغداء غريزياً بعمل مضادٍّ يثبت الكتلة البيضوية التي يشكّلها رفيق السكري، لأن الرسام سوف يبدأ الآن برسم الرأس. إن رأسها أو رفيق السكري هما الشهادتان الوحيدتان على أن الجسد المعني بالرسم هو جسدها، لأن حلول رأس امرأة أخرى محل رأسها سوف يقطع الأسباب التي تصلها بجسدها الخاص أمام الآخرين. مع أن كل شيء، كل شيء يدعو الرسام لأن يرسم رأسها هذه المرة مادامت لم تتعلم الرسم حتى الآن، ومادامت لم تعد تحب الرسام لكي يستمر في دفع أجرة الغرفة التي تكتريها عند امرأة عجوز، ومادامت فقدت منذ سنين شهيتها بتقديم أي مادة من مواد قسم الجغرافيا، ومادامت قواعد اللغة العربية التي تلقنها لتلميذتها الوحيدة ثلاث مرات في الأسبوع لاتغطي عملياً أكثر من نفقات شراهتها بالتدخين، ومادامت الآن غير مهيأة لتقشير برتقالةن ويجب أن تتقبل المكاسب السخيفة بشرف، ومن ثم لاينبغي لنفورها من الرسام أن يحول دون تجميد ظرفها السريالي. وإذا كان قد غرّب جسَدَها منذ عرفها تحت رؤوس نساء أخريات في لوحاته فإن شيئاً ينبغي أن لايمنعه هذه المرة بالذات من أن يسمي جسدها برأسها هي، لأنها سوف تهجره غداً بالتأكيد إن لم يفعل.
ولكن كيف تهجره كيف؟ ماذا تفعل إذاً لكي تصبح رأسها لامفر منها في هذا اليوم؟ ماذا يُستحسن أن يجري في رأسها في تلك اللحظة لكي يستحيل على الرسام تبديلها برأس امرأة اخرى؟ هل يترك عشاؤها البارحة أثراً على الفرشاة التي يُفترض الآن أن تبني وجهها لمسة فوق لمسة؟ هل سيظهر نحيبها منذ يومين على السماء القليلة الزرقاء التي تبعد عنها أكثر من متر كامل؟ هل ينبغي للمرأة المستلقية على العشب الأخضر أن تكون ابنة لرزق الله اسحق؟ وما هو الأنسب لكي تظل حمراء أن تكون لها أخت أصغر منها اسمها وديعة أم أخت أكبر منها ولها اسم آخر ومتزوجة من فلسطيني في الأردن مثلاً؟ وهل سيكون في مصلحة رأسها ما إذا تزوجت أختها التي ليست وديعة من شخص سوري وعاشت في المستقبل في دمشق وليس في عمان؟ ماذا يضرّها لو كانت لها أم مثل أمها وعمة مثل عمتها وزوج مهجور مثل عساف؟ ربما يضرها، وربما سيتأثر المرج الأخضر الذي يحيط بها من أنها سكنت في الدير سنتين بعد مجيئها إلى دمشق، لعل الأفضل أن لاتكون قد سكنت في الدير سنتين، فهل سكنت في الدير سنتين أم لم تسكن؟ هل أحبت هناك الخوري الإيطالي أم لم تحب؟ أي الاحتمالات أجدى لكي يرسم الرسام رأسها الآن؟ حسنٌ لقد أحبت الخوري الإيطالي. كان طويلاً وبلحية شقراء مقصوصة وبنطلون جينز وبوط رياضة وجاكيت جلد أسود وشنطة تنزل من كتفه بسير. قطع الزقاق الطويل والضيق بخطى قليلة وخفيفة بدت مفاجئة عندما انتهت على باب الكنيسة في صدر الزقاق. وبينما قرع الجرس وانشقّ له الباب الخشبي الكبير تذكرت رغداء التي تراقبه من باب الدير المجاور أنها لم تحضر قدّاساً قط في دمشق منذ أتت، فحضرت في أقرب أحد.
كان الشاب الوسيم خوريّ الكنيسة في بطرشيل أصفر مشوّف. ثم زاد من وقعه في نفسها أن لغته العربية التي نفّذ بها موعظة القدّاس كانت مكسّرة وأنه كان لايعرف كيف يتنهد، فكل تنهيدة يطلقها كانت تشذّ عن غرضها الأصلي من شدة طولها وغرابة موقعها بين الكلام، فتخرج من فمه أقرب ماتكون إلى ريشة طاووس مشكوكة بلامناسبة في قفا كلمة لاتكمل تعبيراً مؤثراً يستدعيها. فعلى أي شيء كان يتنهد؟ كان الخوري يتعثر بأفكار سامية كثيرة يبدؤها ثم لايعرف كيف ينجزها، فينتقل إلى غيرها معتمداً على فواصل ريشاته المديدة، ومشكلاً بذلك موعظته من سلسلة تتعاقب عليها المعاني النبيلة المبتورة والريش الطويل.أما إذا جمعت رغداء بيدها ريشات الموعظة فإن مايتبقى منها لن يكون أكثر من خرابة نص مقدس على رؤوس المصلّين. وقد ثابرت رغداء على فعل ذلك كل أحد، فكانت تجمع ريشات الخوري أحياناً على شكل ذيل طاووس مفروش وأحياناً على شكل مروحة يد وأحياناً على شكل حصيرة وأحياناً على شكل منديل للبكاء، أو لحاف سميك أو رغيف خبز أو سيجارة احتياطية وحيدة أو حبة منوّم، وأحياناً كانت تحزم نفسها بسياج من الريش على قدّها وتخرج إلى الشارع فلا ترى أحداً ولا يراها أحد. ثم توصلت رغداء في خيمة تؤلفها من ريشات موعظة الأحد إلى أن ترتب لنفسها عند الضرورة لقاءات مع خوريّها الإيطالي.
كانت تنصب هذه الخيمة بلمحة بصر أينما شعرت بحاجة ملحّة لرؤية الخوري حتى ولو كانت على ظهر قاسيون أو أمام الكنيسة أو على شرشف سريرها المفرد في الدير قبل عشاء النزيلات، أو على ورقة إجاباتها البيضاء في مدرّج الامتحان. وكذلك فعلت عندما جاء يومها الأخير في الدير فلم تعد في الدقيقة الأخيرة قبل إقفاله في المساء. تأخرت إلى الساعة التي تأكدت فيها من أن الراهبات لن يفتحن لها مهما فعلت. قرعت الجرس لا ليستجبن لها بل لكي يُطنّشنها. انهمرت على خشب الباب بقبضتيها الصغيرتين، وهي تضرع في سرّها إليهنّ بأن لايشفقن عليها في تلك الليلة لأنها أحبت من كل قلبها أن تظهر بسيماء الشهيدة الطريدة في سبيل الحب. ومن أجل هذه الغاية نزل عليها مطر ضروري شديد، ثم كان رعد وبرق ورياح فتركت باب الدير، ونصبت على جناح السرعة وهي تمشي في زقاقات القيمرية خيمةً من ريشات موعظة الأحد. دخلت فيها فكان في الخيمة يوسف يحمل سراجاً وعلى السرير الخشبي تجلس مريم وفي حضنها الوليد يسوع. قال يوسف: ظهر لي ملاك الرب وأمرني أن نهرب معاً إلى مصر، لأن هيرودوس سوف يطلب الصبي ليهلكه، فسقطت رغداء الخادمة عند قدمي مريم، وسفحت عليهما دمعاً حاراً، وهي تتوسل للسيدة أن تمتثل لكلام الملاك. فذهبوا جميعاً إلى مصر.
وعندما مات هيرودوس عادوا وسكنوا في مدينة الناصرة ليصبح مفهوماً أن يتكنّى يسوع بالناصري. وكان أبواه يزوران كل عام مدينة أورشليم في عيد الفصح، وعندما بلغ اثنتي عشرة سنة من عمره قال يوسف، ورغداء تمشي بمحاذاة إعدادية الياس القدسي، سوف نصعد إلى أورشليم. فصعدوا بحلول العيد. وبعد أن أتمّوا زيارتهم عاد يوسف ومريم وتخلّف عنهما يسوع في أورشليم. وفي الطريق إلى الناصرة تفقّداه ولم يجداه فرجعا أدراجهما. وبعد ثلاثة أيام من البحث في أورشليم لمحا أخيراً رغداء الخادمة على باب الهيكل واقفة على أصابع رجليها تسترق النظر إلى الداخل. مسح يوسف على رأسها وتلهّفت مريم: أين يسوع؟ اعترفت رغداء: في الهيكل. أسرعت مريم ولحق بها يوسف وتبعتهما رغداء. كان يسوع جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم، فودّت رغداء لو ظل يفعل ذلك مادام يُفحمهم بفهمه. ولكن مريم قالت له: يا بني أهكذا تفعل بنا؟ نظر يسوع إلى رغداء فنكّست رأسها، وقال لأبويه كلاماً صعباً ثم قام ومشى إلى جانب رغداء. ولكي تطيل الطريق إلى الناصرة جعلت رغداء تعدّ خطاها إلى جواره.
ولما بلغ يسوع عامه الثلاثين، وهي تمشي في الزقاق المؤدي الى باب توما، عرفت أنه سوف يخرج الآن من منزله إلى الأبد، لأن يوحنا المعمدان سوف ينتظره في الأردن، كما سوف تقول الأناجيل ليعمّده، فعمّده ورجع ممتلئاً من الروح القدس. وكان حزن رغداء كبيراً لأن أهل الناصرة لم يقبلوه كالعادة نبياً في وطنه، فانحدر يسوع إلى كفر ناحوم. عندها فتحت رغداء باب البيت وتملّت في أثره، قال يوسف: سوف تلحقين بيسوع. قالت رغداء: سوف أجده في بيت سمعان. فحمّلتها مريم زوّادة وأذنت لها. ولأن يسوع سوف يشفي حماة سمعان من الحمّى فقد كان على رغداء أن تتزوج في الطريق إلى كفر ناحوم لتنجب بنتاً تربيها ثم تزوّجها لسمعان لتصبح حماته ريثما تصل إلى بيته حيث ينبغي أن تصاب بالحمّى قبل أن يمرّ يسوع بقليل. فوقعت طريحة الفراش بينما كانت تمشي تحت المطر على الرصيف المجاور لمطعم قصر البللور. واستعصى مرضها على الشفاء خلال دقائق، فمرّ يسوع. سأله سمعان من أجلها، فوقف يسوع فوقها، انتهر الحمّى فتركتها في الحال. قامت رغداء من فراشها لكي تخدمه، وهي تحار بكيف تستبقيه في بيت بنتها. ولكن يسوع ذهب إلى الجليل بعد غروب الشمس ليكرز في مجامعه.
حملت رغداء زوّادتها وقالت: أنا ذاهبة. قالت زوجة سمعان: إلى أين يا أمي؟ قالت رغداء: في طريقه إلى الجليل سيجتاز يسوع السامرة وسوف أجده وحده عند بير يعقوب لأن تلاميذه سيمضون إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً في هذه الأثناء. قالت ابنتها: اذهبي يا أمي لأنهم هكذا سوف يكتبون. وقبل أن تصل إلى بير يعقوب ولِدت رغداء، وهي تمشي، ونشأت بين أهلها السامريين، ثم مات أبوها وهي في الثانية عشرة من عمرها فزوّجتها أمها لرجل عجوز مات بعد سنتين ثم تزوجت من بعده بأربعة رجال هجروها، لتعيش مع رجل ليس زوجاً لها وذلك لكي تَصدُق نبوءة يسوع عن سيرتها عندما سيلتقيها. وعندما وصلت رغداء السامرية لتستقي ماء البير حزر يسوع أزواجها فآمنت به نبياً، وأرادت أن تلمس هدب ثوبه ولم يُسعفها سبب لأن تفعل ذلك. قدم تلاميذه من المدينة ورحل معهم ولم تلمس هدب ثوبه، فنزفت دماً طيلة اثنتي عشرة سنة. ثم احتمت من المطر الشديد بمظلة المبنى السابق لكلية الفنون الجميلة، عندما كانت تلحق بيسوع إلى كورة الجدريين. وكانت قد أنفقت كل ماتملك للأطباء وهي تعلم أن أحداً لن يشفيها. وإذ لمحت يسوع جاءت من ورائه ولمست هدب ثوبه هذه المرة مادامت عثرت على سبب بليغ منذ اثنتي عشرة سنة، فوقف نزف دمها. ولكي يضرب يسوع بها مثلاً أمام الكتبة والفرّيسيين صارت رغداء رجلاً يملك مائة خروف ثم أضاعت منها واحداً فذهبت إلى البرية تبحث عن خروفها الضال، وعندما وجدته وضعته على ركبتيها وأتت بيتها ودعت أصدقاءها وجيرانها وقالت لهم افرحوا معي، فقد وجدت خروفي.
ثم صعد يسوع إلى أورشليم وعند جبل الزيتون انتقى تلميذين قويين من تلاميذه وقال لهما: اذهبا إلى تلك القرية سوف تجدان فيها جحشاً أبيض إئتياني به لأدخل على ظهره إلى أورشليم. فذهبا، وعندما دخلا القرية لم يلاحظا رغداء وقد صارت جحشاً أبيض، مرّا بها كأن يداً كفّت بصريهما عنها وتخطّياها. خشيت رغداء من أن يكون في القرية جحش أبيض سواها فتبعتهما وتوقفت خلفهما حيث استوقفا عجوزاً سألاه عن جحش أبيض، ورأت رغداء أن تدلّ على نفسها بذيلها فجعلت تلوّح به ترفعه إلى الأعلى وتهوي به بقوة وخفّة على مؤخرتها البيضاء وخصيتيها السوداوين. ولكن العجوز قال: لا يوجد في قريتنا جحش أبيض. فنهقت رغداء وأردف العجوز: لايوجد. وأراد التلميذان القويان أن يصدّقا مقاله ولكن كيف يعودان بغير جحش أبيض مادام طلبه يسوع؟ ثم خرج طفل من باب وأشار لهما بيده نحو رغداء فالتفتا إليها واندفعت إليهما على قوائمها الأربعة وقد ندّ عنها بكاء حارّ من بين فكيها الضخمين على صورة نهيق متحشرجٍ خفيض. اندسّت بين التلميذين القويين ووضعت أذناً بيضاء طويلة ومرتعشة في راحة كل منهما ليستحيل عليهما تجاهلها بعد الآن. تحاشى التلميذان معاً النظر ناحيتها واستقبلا بتحفظ ظاهر الحرارةَ التي بدأت تتسرب إلى قبضتيهما الممسكتين رغم كل شيء بأذني رغداء. ثم عادا معها إلى يسوع بينما كانت تجري في تلك الساعة المتأخرة من الليل مباراة في ملعب العباسيين بين منتخبي نيبال وسورية.
كانت رغداء تبصبص بذيلها من شدة سعادتها، وكان التلميذان، وقد لانا، يمسحان على ظهرها ويطبطبان على مؤخرتها حتى ودّ كل منهما لو يجرب ركوبها لولا أن أحداً من الناس لاينبغي له أن يجلس على جحش يسوع إلى أورشليم. ولمّا تبيّنت رغداء أثر يسوع في الأفق البعيد صار الجحش الذي كانَتْهُ أثقل من لهفة روحها إلى لقاء السيد، وودت لو تطير إليه ولم تستطع. ولكنها أفلتت من قبضتي التلميذين القويين وجرت نحوه. وقفت لاهثة في متناول يده لو مدّها، حنت رأسها وشردت بشجيرة شوك قصيرة نمت بين قدميه. ثم كادت تقول بصوتها الآدمي: «إركب يا سيدي» لولا أن يسوع كان قد ركب عليها في الحال وحطّ راحة كفه برفق تحت حنكها فتحركت رغداء وهي تحبس حواسّها المتيقظة في الحدود التي تحد يسوع على جسدها فلا تشعر برقبتها إلا إذا ربّت عليها ولا ببطنها إلا ببطتي ساقيه ولا بظهرها إلا بالمكان الذي يستوي عليه ولا بذيلها إلا بفضلة ردائه. وكالعادة كلما وصلت رغداء إلى هذا المشهد استظهرت حوافرها عن ظهر قلب الطريق إلى أورشليم، دون أن تتعثر بحجرة واحدة. إن عينيها في هذه اللحظات لاتنشغلان إلا بقدمي يسوع العاريتين وقد علاهما غبار خفيف، فانهمكت بهما تنتظر بصبر نافد أن تلمع أورشليم في الأفق لأن القدمين النازلتين على جنبيها سوف تظهران حينذاك فقط في بوط الرياضة الذي لايفارق قدمي الخوري الإيطالي. في تلك اللحظة فقط لن يكون على ظهرها غيره، فلمعت أورشليم عندما تجاوزت موقف القزازين في شارع بغداد، وعززّ ثقتها ببوط الخوري أزرق الجينز عند أول ساقيه.
وكانت رغداء تستطيع الفرار به من نهاية القصة إلى حيث تشاء ولكن إذا فعلت فمن سيقلب عندئذ موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمام في الهيكل؟ وبمن سيمكر الكهنة والكتبة؟ وعلى وجه من سيترك قبلته يهوذا؟ ومن دم من سيغسل يديه بيلاطس؟ ثم عن يمين من وعن يسار من سيصلب اللصان الشهيران؟ وعلى ثياب من سيقترعون؟ لم تفرّ به رغداء قط فباعتبارها جحشاً ليسوع كانت تدرك أهمية أن يحدث كل ما حدث في سيرته، فجعلت تخبّ بالخوري الإيطالي هذه المرة أيضاً إلى أورشليم سعيدة وفخورة بأنها ستسلمه بنفسها إلى مصيره عند باب الهيكل حيث نزل من ظهرها ودخل يتبعه تلاميذه. عندئذ تطلّعت رغداء كالعادة إلى غفران الخوري الإيطالي، ولكي تظفر به زنت من جديد مع أغنياء اليهود والضباط الرومان فجاء وخلّصها الخوري الإيطالي من رجم بني إسرائيل. وكما في كل المرات السابقات جاءته بجرة طيب سفحتها على قدميه وجففتهما بشعرها. ولكنها وعلى غير العادة، وبينما كان الحراس يقتادون الخوري الإيطالي إلى بيت رئيس الكهنة فقدته رغداء فجأة، فلم تبحث عنه بين الحراب بل التفتت إلى أحد التلاميذ وقالت له: الحق أقول لك لا يصيح الديك اليوم قبل أن تنكرني ثلاث مرات، فأمسك بها الحراس واقتادوها.
وتماماً عند موقف عين الكرش وقبل أن تدخل ساحة السبع بحرات بقليل كانت تقف أمام باب رئيس الكهنة فأنكرها تلميذ على الفور ثلاث مرات ثم صاح الديك. كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل في ساحة السبع بحرات حين أدخلها الحراس في عزّ الظهيرة إلى بيت رئيس الكهنة. وكان يمكن سماع وقع خطواتها الوحيدة على الرصيف لولا الهتاف المتواصل من استاد العباسيين الملتهب. كانت نوافير السبع بحرات متوقفة والساحة من حولها كما لو أنها مهجورة منذ سنين. أحكم الجند إغلاق باب رئيس الكهنة من ورائها. ولكن شبحين اثنين لاحا لها من منعطف شارع 29 أيار، فلاقتهما تماماً عند كابين الهاتف. وقفا فوقفت مثل مضبوعة بمحاذاتهما. كانا شابين جميلين، ولم يترددا طويلاً، فبعد ثوان معدودات كان الثلاثة محشورين في كابين الهاتف. التصق وجه رغداء بالزجاج المطل على البنك المركزي بينما انشمر ثوبها عن مؤخرتها العارية. استلمها أحدهما من فوق بنطلون نصف مشلوح، فشعرت على حرارة فخذيها من الأعلى ببرودة سحّابه المعدني وأحياناً ببرودة أزرار بنطلون الآخر لتعرف أن تناوباً قد تمّ على أليتيها. كانت مستسلمة لهما كما لو أن هذا الخيار كان التتمة القدرية لكل ما حدث في حياتها قبل ذلك، فكانت تدرك مع كل لزّة تأتيها من الخلف أن القضيبين اللذين يدكّان أحشاءها إنما يقطّعان بعنف كل الصلات التي يمكن أن تربطها إلى الماضي، ويشقّان لها طريقاً مختلفة لأيامها المقبلة.
بعد الآن لن تعود رغداء إلى الدير، الراهبات الأربعينيات الشديدات، الراهبات الشابات المتسامحات، الأخلاق العالية، العودة الإجبارية المبكرة في اول المساء، بكاء منتصف الليل تعقبه نوبات هستيرية من الطعام الدسم، لا لن تعود إلى الدير ولن ترى الخوري الإيطالي. لن تنظر إلى الوراء، سوف ترسب أيضاً وأيضاً في مواد الجغرافيا، سوف تقرأ روايات كثيرة، سوف تحضر المسرحيات والأفلام والأسابيع الثقافية، سوف تتصفح أحياناً دراسات عن فلسفة الفن والسياسة والإلحاد لكي لا تقلّ عن أي فتاة طليعية تزدري التقاليد وتهتم بفلسطين وقصيدة النثر بقَصّةٍ رجّالية مهملة وفم يفوح برائحة التبغ والكحول عند الضرورة، سوف تستلطف شاباً بارعاً في قدرته على الاستهانة بكل شيء وعلى اجتذاب الآخرين لآرائه المؤقتة ثم سوف تتركه لأنه بخيل، ثم سوف يحبها رجل يكبرها بخمس عشرة سنة، سوف تتردد إلى منزله عدة مرات ثم سوف تهرب منه عندما تستشف نيته المبيتة لأن يلوط بها، لكنه سوف يتصل بها من جديد ويؤنبها على فهمها الخاطئ لإصبعه الوسطى حين أدخلها بعفوية وبراءة في فتحة شرجها، سوف تعود إليه وسوف تتعلم منه كيف لا تشرح أي فكرة للآخرين إلا بعد تعقيدها، لكي تضطر بعد لحظات لاستخدام وسائل إيضاح تبسيطية من أجلهم فتستخدمها بسخاء وخفة، ثم تنظر إليهم وهي تفرمل على شفتيها ابتسامة مستطلعة، ثم توصوص عينيها لتقف على ما حققوه من تقدم في فهم الأحاسيس المرهفة التي قرّبتها من عقولهم، ثم تستعين للغاية نفسها بمسمار في أعلى الحائط المقابل تعلق عليه نظرتها لفترة قصيرة، كما لو أنها تتذكر بعض التفاصيل المفيدة لموضوع نزوتها التعليمية، ولذلك لن يمنعها شيء من أن تبكي أحياناً أمام هؤلاء الآخرين أو أن تكرههم بعد ذلك لتشعر بحاجتها إليهم في اليوم التالي، لأن أحداً يجب أن لايفهمها كما ينبغي.
ولكن لن يفوتها على أي حال أن تواظب على البريد كل رأس شهر، لتستلم تعويذة على شكل حوالة مالية مضحكة سيثابر على إرسالها رزق الله اسحق عارية من أي كلام. وعندما سوف تتعرف إلى الرسام سوف تفهم فجأة أن كل ما أنجزته في دمشق طيلة وجودها فيها ينحصر بأنها توشك على السقوط من شباك ما على كومة أحجار لا على التعيين، لأن نجاحه كرسام سوف يجعلها تتأكد بوضوح من أن ثلاثة أرباعها تتدلى عملياً في الهواء والربع الأخير منها فقط يتعلق بحافة الشبّاك. ولكي لاتنفجر رأسها من الخيبة التي ستقع فيها فإنها سوف تفضل كلما افترستها هذه المشاعر القاسية الأحاديثَ المغبرّة التي سوف تحفظها غيباً وهي تهبّ عليها بحماس مع الرائحة الكريهة من فم الأرملة الأعجف صاحبة المنزل التي سوف تسكن عندها: عن زوجها المتوفى منذ أربعين عاماً، وعن سراويلها العزيزة على فؤاده وطريقته في فرك خصيتيه بالكولونيا، وطريقتها في نفخ الهواء عليهما، بحيث ينتعش زوجها أمام عينيها من جديد، بينما تصاب رغداء بالغثيان والكآبة. وهكذا تعود مرة أخرى إلى اللطافات القليلة التي سوف يبديها الرسام فتضخّمها بهدف التحرر من سطوة نجاحاته، ولا تهنأ بذلك إلا بوقوعها في حبه، فتقع ثم تثق على الفور بميولها الجديدة إلى الرسم. كيف فاتها حتى الآن أنها لم تُخلق إلا لترسم؟
ومن أجل كل ذلك كانت رغداء في كابين الهاتف في ساحة السبع بحرات تستخدم كل مخزون الليونة في جسدها الشاب لكي تمنح مغتصبَيها الجميلين الفرصة الأوفر حظاً ليغلقا في داخلها الباب بإحكام على كل زقاقات أيامها الماضية. وعندما مرت دورية الشرطة لم تستنجد بها فقد لايكمل الشابان عملهما المنشود. كل ما فعلته رغداء أنها أخفت رأسها تحت حد الزجاج وجعلت تنصت بين ظلام ست أرجل إلى السماعة التي ارتفعت وقرص الهاتف الذي بدأ يدور على رقم وهمي طويل، ثم شعرت بأمانهما حين عاودا دكّها بعنف أكبر إلى درجة أن البنك المركزي حين رفعت رأسها بدأ يتطعوج في عينيها المهروستين على الزجاج، مع كل دكْ.. دكْ.. دكْ.. دكْ.. دكْ.. ثم صفّر الحكم البرتغالي في أستاد العباسيين معلناً نهاية المباراة بفوز الفريق النيبالي.
وهنا اخترقت النافذة الكبيرة في المرسم صوانة بحجم الكف. تحطم الزجاج ولمح رفيق السكري على الفور غليونه في كفه اليسرى، ففي أثناء استغراق رغداء في جهودها من أجل تثبيت رأسها في لوحة الرسام أخفق رفيق السكري في مقاومة كتفها العاري، استغرق فيه وفقد بالتدريج إحساسه بقميصه وبنطلونه وحزامه الجلدي وحذائه بالإضافة إلى قبعته التي فقدها منذ اللحظات الأولى بعد استلقاء رغداء على الطاولة. وإذ تأكد الآن من غليونه بفضل انفجار النافذة عرف رفيق السكري أنه قد تحرر من كتف رغداء العاري. واقتنع على الفور بصورة لا تقبل الشك بأنه ليس معبأً في قمباز أو شروال، ولا يلف خصره شال عجمي ولا ينتعل تاسومة ولا يضع على رأسه طربوشاً أحمر، ثم إنه ليس قصيراً جداً ولم يتزوج من أربع زوجات. لقد كان على يقين في تلك الحظة من أنه ما زال عازباً حتى الآن ويقطن في شقة عصرية منذ قدومه إلى دمشق. ولذلك فقد كان في أتم الاستعداد لأن يضع هيئته التي خرج بها من منزله هذا الصباح على أي محك، وهو مطمئن إلى أن تغيراً لن يطرأ عليه رغم كل شيء. ولكي يثبت أن حريته التي بدأ يتمتع بها قابلة للتجريب دوّر كفه اليمنى حول فمه على شكل مكبر صوت ولعلع بخطابية مهيبة: في عام 1903 تأمل النمساوي غوستاف كليمت فسيفساء سان فيتالي في مدينة رافين في إيطاليا، وفي عام 1904 رسم لوحة علوية لقاعة طعام في قصر ستوكليه في بروكسل، وقد عالج لأول مرة الجدار كجدار مبرزاً سطحه المستوي بتزيينات غنية ذوات بعدين، وكان كليمت قد انطلق بمرحلته الذهبية في سياق حركة أكثر اتساعاً لصالح الفنون التزيينية والهندسية، مستعملاً الذهب والمعدن في ألوانه واشكاله، وعاقداً الصلة من جديد مع ماضيه الخاص بصفته ابناً لنقاش على الذهب، وقد كشف هذا التطور عن أزمة هوية في وقت كان فيه بأمس الحاجة إلى طريقة جديدة للتعبير عن علاقته بالواقع الاجتماعي الفيينّاوي.
ثم رفع رفيق السكري من نبرة خطابه كأنه يحذّر جمهوراً كبيراً من النوم: وبين عامي 1904 و 1908 نفذ كليمت ثلاثة بورتريهات لثلاث نساء عولجت الخلفيات فيها كمساحات منمنمة محكمة أو كإطار متألق ولكنه غير واقعي فيما يتعلق بالموضوع بحيث يتجسد العالم الخارجي بطريقة هندسية تحيط برأس النموذج كما لو أنه جزء من تصفيفة الشعر وتبدو الأمكنة هي التي تكسو بطلات البورتريهات الثلاث فيمتزج المسكن بأثوابهن وزينتهن وتملك أجسادهن بعداً ثنائياً مسطحاً ما عدا الرؤوس، رؤوسهن وحدها تبقى بوجوهها الحساسة المعبرة، رؤوسهن وحدها تنبض بالحياة بملامح دقيقة تكاد تلتفت وترنو وترمش وتبتسم، رؤوسهن وحدها تتمرد على النسيج البيزنطي المجرد بسمات شخصية فردة لاتتكرر، وحدها تنبق من الجدار المنمّط الذي يكبّل باقي الجسد في صميمه. ثم حبس رفيق السكري نفَسه وفجّر كلماته الأخيرة: وبعد هذه البورتريهات الثلاثة بحوالي عشر سنوات انهارت الامبراطورية النمساوية.
ثم بُحّ صوت رفيق السكري.
وكانت رغداء تجتر باندفاع مشهدَ اغتصابها في كابين الهاتف في ساحة السبع بحرات، على اعتباره أصلح ما يمكن أن تعيشه الآن مرة أخرى وأخرى لكي يرسم الرسام رأسها، فكررته بلا توقف مثل اسطوانة عالقة على نغم وحيد مبتور.. دك.. دك.. دك.. دك.. ثم انسلخ خد رغداء على زجاج الكابين واكتسب البنك المركزي المطعوج الغائم مسحة من دم شفاف .. دك.. دك.. دك.. ثم صارت رغداء تلهث تحت الدك الذي اختارته أن يكون هذه المرة وحشياً وبلا رحمة، فانفجرت بالبكاء مستغيثة بالرسام:
ـ خلّصني .. خلّصني .. خلّصني..
قال الرسام:
ـ لن أرسم رأسك.
فاستنتج رفيق السكري بصوت مبقور: لن تنهار إذاً أي امبراطورية نمساوية مرة ثانية.
توقفت رغداء عن البكاء كما تتوقف عن الطعام. نزلت من على الطاولة الخشبية المتينة وغير المدهونة. وباطمئنان قطة منزلية بليدة تقدمت بساقين حرتين إلى مشجب في حائط مجصص. التقطت كولونها الساقط على حرف سلة المهملات، ارتدت ألبستها وخرجت، ولكنها أبقت على الباب موارباً لكي يتبعها رفيق السكري فتبعها، طبق الباب خلفهما ونزلا في درج طويل.
قالت: أبي ليس رزق الله اسحق، وهو لعلمك لا يعمل في الجمارك، أبي عازف كمان مهم يشتغل في الكباريه، سافر في يوم إلى إيطاليا وتعرف في روما على أمي، وأمي لم تفتح في حياتها عراوي بذلة عسكرية واحدة، ولم تقمّع قرن بامياء واحد، كيف تطلب من مدام فرنسية أن تطبخ لك الفريكة بالرز؟ كان أبي يقول إنه رآها أول ما رآها في باريس، وهذا أصح من روما، لأن من الأسهل عليه أن يتعرف على امرأة فرنسية في فرنسا ثم يتزوجها بعد ذلك، كان أبوها غنياً جداً، عنده كروم عنب كثيرة وعنده قصر مهجور، كانت أمي تأخذني إليه عندما كنت صغيرة، ولكنها لم تجرؤ على فتح أبوابه لأنه كان مملوءاً بالغبار، إذا فتحتَ باب قصر مهجور من خمسين سنة أو سبعين فإن الغبار الذي سيتساقط سوف يطمرك خاصة إذا كنتَ طفلة صغيرة مثلي، ولذلك لم نفتح أبواب القصر إلا عندما كبرت، فنزل علينا الغبار، زوبعة غبار كثيف قامت وقعدت على رؤوسنا فجمدنا في مكاننا حتى راقت الدنيا من حولنا فصعدنا درجاً طويلاً أوصلنا إلى السطح وهناك جلسنا وتمتعنا بمنظر دوالي العنب من فوق، ثم عندما مات جدي الفرنسي باع خالي القصر وظللنا نعيش بدون قصر مهجور فعاد أبي بنا إلى سورية.
قال رفيق السكري:
ـ أنا مضطر لأن أصعد مرة أخرى إلى الرسام.
قالت رغداء:
ـ ولكن كيف صار أبي عازف كمان وكيف اشتغل في الكباريه؟
قال رفيق السكري:
ـ نسيت أن أسأله عن قفة .. قفة عمرها سبعون عاماً ساهمت ذات يوم في طرد المستعمرين الفرنسيين من وطننا الحبيب ... أنا آسف.
قالت رغداء:
ـ أنتظرك؟؟
قال رفيق السكري:
ـ بالتأكيد، انتظريني عند باب البناية، سوف تساعديني في توثيق روايتي الجديدة.
ثم صعد مسرعاً.
ونزلت رغداء ببطء.
* * *
قبل وصول رفيق السكري إلى الرقة، من هو سعد البصـري؟
منذ سنتين قصفوا البصرة. و في الليلة البارحة طلبت مني أختي أن أفيق باكراً في يوم عطلتي لأخطط دماغ ابنها الذي لم يُتمّ بعد سنته الثانية. ومريم خطيبتي بالكلام منذ ثلاثين عاماً أو أقل وعدتها البارحة هي الأخرى أن أخطبها رسمياً في مساء هذا اليوم، واليوم هو عيد الشهداء وأول خميس في الشهر فوق ذلك. وأم كلثوم طبعاً لم تمت وهذا يجب أن يعني الكثير، لأن أشياء كثيرة مازالت تدلّ على أننا لم نمت. نحن فعلاً لم نمت، أنا لم أمت. ولكنهم في البداية قصفوا بغداد. أنا لا أعرف لماذا تطلب السيدة أختي مني وليس من زوجها أن يخطط لابنهما دماغه. سوف أنهض من الفراش بعد قليل. إن خطيبتي تكره أم كلثوم من وراء ظهري، سوف أزحلقها اليوم بالحكي لأقف على حقيقة مشاعرها تجاه كوكب الشرق. أنا أفهم بالزّور كيف يتزوج الإنسان امرأة لا تحب أم كلثوم. ليت خطيبتي تعترف لي هذا المساء ببغضها لأم كلثوم. إذا اعترفت لي لن أؤجل خطوبتنا الرسمية سنة أخرى، بل سأرتاح من أملي القديم في أنها سوف تحبها في يوم من الأيام، وربما أسرعت بالزواج منها لأن كل شيء صار يشبه نفسه بصعوبة. أحياناً يعوزني برهان صغير على أنني الآن مستلق على ظهري وليس على بطني، هذا البرهان ضروري أكثر حين يتعلق الأمر بأين أكون ومتى وماذا أفعل بالضبط.
عموماً أنا لا أنكر رغبتي العارمة في الطيران. في البداية طاروا فوق البصرة فانقبض قلبي لأنني سعد البصري. ولأسباب أخرى ميّزتها بوضوح بعد أيام عندما سقطت القنابل والصواريخ الحقيقية على البصرة. أنا لا أعرف البصرة، ولم أرها حتى في نومي، ولكن أعجبني دائماً أنني من البصرة وأن الناس في الرقة يعتبرونني منذ وعيت الدنيا بصرياً. وكان يسحرني أنهم يختزلونني بالبصري فأشعر أنهم يتعمدون نسبي إلى البصرة مقشّراً حتى من اسمي الأول، وأن بصريّتي القحة تسبب لهم نعيماً خاصاً لا أفهمه، ولكن ذلك ما منعني كما لم يمنعهم من حب أم كلثوم التي لم تكن يوماً من مواليد البصرة أو الرقة، وأبوها وأمها إلى ذلك كانا مصريين خالصين. أنا من زبائن أم كلثوم المرموقين، أداوم عليها منذ أكثر من ثلاثين عاماً. في أول حياتي معها كنت أجرؤ على سماعها وأنا عارٍ في الحمام، وكان لا يهمني عندما تغني أن أراقب من شباك غرفتي عصفوراً على حبل الغسيل في أرض الحوش وأن أقول خلال وصلتها: «الحمد لله» إذا سألتني أختي عن حالي. كنت لا أبالي أن اضطجع وأنا في بيجامتي أمام الراديو في يوم خميس أم كلثوم، وأعدّ العُقد في أعمدة السقف وأتفرج على الغزالين في سجادة الحائط، والأنكى من كل ذلك كنت أسامح نفسي أحياناً في ترديد اللازمة مع سيدة الغناء العربي بل وكنت لا أستحي عندما كانت أختي تكافئني على تهوّري ذاك بـ «الله» طويلة عالية ومن القلب.
يبدو أن ابنها يعاني من نوبات صرع غير كاذبة. رأيته مرة يرتعش بين يديها، يشخر ويزبد ويكزّ على لسانه بأسنان لبنية متفرقة. أوصاها الطبيب البارحة أن تسهّره طول الليل وحتى التاسعة من صباح اليوم عندما سأستلمه منها، وعليّ أن أبذل جهدي لكي لا ينام قبل التخطيط. أبوه على كل حال لن يستيقظ قبل أذان الظهر لأنه يستفيد من أيام العطل بهذه الطريقة كما أستفيد أنا من الأيام العادية بعد أوقات الدوام الرسمي. وقد ثقّل صهري البارحة عيار سكرته كرمى لخاطري، لأنه يخطئ بأشياء كثيرة إلا في تحديد أول خميس من كل شهر، لأنه خميسي منذ سنين طويلة. وقد ثابر دائماً على أن لا يعكّر لي هذا اليوم من الشهر، مقابل تعكير مضاعف لليوم الذي يسبقه. وبحكم العادة صرت أستعدّ للجحيم الذي يصممه صهري في منزلنا أول أربعاء من كل شهر، وكان يبالغ في فظاعته لأنني أحرمه منذ تزوج أختي وسكن عندنا من خميسي. ومع أن له حرية التصرف بكل الخميسات الأخرى ولكنه تعامل دائماً مع خميسي كحق مسلوب. وقد كان ينمو مع الأيام جحيم أربعائه. أشعر أحياناً أننا نتبارز منذ سنين هو بأربعائه وأنا بخميسي، هو يعبر عن الطعنة التي ألحقها به في يومي بامتناعه عن شرب الخمر، وتهذيبه الغريب مع ضيوفي إن صادفهم، وبرقّته مع أختي بل وبارتدائه البذلة التي لا تظهر عليه إلا مرة أو مرتين في السنة، وأنا أعبّر عن الطعنة التي يلحقها بي في أربعائه بإبداء الحنكة وطول البال حيال أفكار ينبشها صهري أو إبليس بثلاثة قرون.
وقد تعلمت على مدى عِشرة العمر أن أنسى أربعاءه المرير لأهنأ بخميسي. كنت دائماً أباشره بصباح الخير إذا حدث ولمحته في صباح الخميس في كوريدور الثانوية التي نعمل فيها معاً، هو موجّهاً بخشبة طويلة، وأنا أميناً للسر. كان يبتسم لي من القلب ويردّ على صباحي بانفعال مؤثر كأنه يمتنّ للمصادفة السعيدة التي جمعتنا في تلك اللحظة. وكنت لا أتردد في دعوته إلى كأس شاي في أمانة السر فيلبي دعوتي وينهك نفسه كالعادة في البحث عن حديث يرضيني. كنت آنذاك أشفق عليه من وجهه الأزرق وعينيه المنفختين ونظرته المكسورة وشفتيه المتورمتين من كثرة الكحول وقلة النوم، وأجدني عندها فقط المذنب الأول في جحيمه الفائت لأن الجمعة لا تأتي بعد الأربعاء مباشرة لكي يشبع صهري من النوم بعد سكرته الأسبوعية الوحيدة. وأكفّر عن قسوتي في انتزاع خميسي بصبّ المزيد من الشاي الحار في كأسه وبالمزيد من الكلام اللطيف وباستعدادي الخفي لأن أركع أمامه وأطلب الصفح عن كل ما سببته له من الآلام وكل ما سأسببه له منها، على أن لا أتنازل عن خميسي حتى ولو جاء صهري إلى الثانوية بلا رأس. لقد بدأ خميسي تحديداً بعد تخرجي من دار المعلمين في حلب وعودتي ظافراً إلى الرقة فحضّرت له كل ما يليق به من اجراءات قبل عشرين يوماً. وكان تعييني بعد وصولي أميناً لسر الثانوية الوحيدة في البلدة جزءاً من هذه الاجراءات فأنا لا أستبعد أن تكون لأمانة السر علاقة في ترتيب خميسي وأظن أن تعييني أستاذاً مجرد أستاذ كان مع توالي السنين سينعكس سلباً على أم كلثوم.
وقد أدركت باكراً أن أم كلثوم لا يمكن أن تنفرد بشخص واحد في غرفة مثل غرفتي وتغني له أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعه، فعنى لي ذلك في تلك الفترة لبكة غير محسوبة، فلكي تنتقي جمهوراً على قدك لأم كلثوم لاتكفي حلاقة الذقن معياراً لذلك، كما لايكفي أن تحب شخصاً لترسّمه واحداً من هذا الجمهور فنحن نحب حتى الكلاب والقطط. وكان تخشين المنخل من باب تيسير البداية ثم تنعيمه بالتدريج حتى رسوت على خمسة أشخاص غير قابلين للزيادة إلا في حال وفاة أحدهم. وقد تحلوا مع السنين بكل ما يملؤني أكثر فأكثر بأم كلثوم، فحتى ولو أغمضت عيني فلن أفاجأ الآن بشيء. لقد صرت أحزر متى يلف هذا رِجْلاً على رِجْل ومتى يتفقد ذاك طرف شاربه ومتى يئن الآخر وعند أي مقام. وكنت لا أخطئ حين ألتفت إلى يميني لأجد شخصاً لا يتغير في مقعد بين سريري وخزانة ألبستي يترنح برأسه لأن الست عرّجت على ألمه الخاص: الصبا. وإذا حوّلتْ إلى العجم من الرصد وشئت أن أرى نشقة بأنف نظيف ووجهاً محمراً وعينين مزرورتين من بلاغة اللفتة التي خصته بها الست فإنني أنظر أمامي لأجد أشد أعضاء الخميس أناقة ونحافة وولهاً بأم كلثوم من بعدي محشوراً بين المدفأة ومنصة الست حيث يجلس راديو ضخم في صدره قنطرة مرقمة ومضاءة.
ولكن هل يكفي الانسان الطبيعي أن يكون أمين سر الثانوية الوحيدة في البلدة ومتعاطياً رسمياً لأم كلثوم حتى لا يشعر بالحكة؟ لقد تبين لي أنه لا يكفي، لأن أم كلثوم لا تغني كلما جاءتني الحكة وإذا غنت فلا تغني من أذان الصبح إلى أذان الصبح. مكان متحرك في جسمي يأكلني فأتهيأ لأنشب فيه أظافري ولا أكاد أهبط عليه حتى ينزلق إلى مكان آخر لا أطاله بأصابعي المجردة فأستعين بحرف الباب وبمسكة الشباك لأخطئه من جديد. ثم أدركت أن ما يأكلني عضو منيع في داخلي، كبدي ربما، أو عظمة فخذي أو طحالي، وكان متعذراً علي تماماً أن أضم يدي تحت جلدي لأهرش مثل هذه الأعضاء. ثم فكرت جدياً بالتخلص من الحكة عندما خشيت من تسربها إلى خميسي، فساعدني في ذلك طالب كسول. فتحت الباب في أمانة السر لتهويتها فلمحته واقفاً أمام باب المدير مع رجل هبّت منه باتجاهي رائحة خشب جديد منشور. أحببت الرائحة. وكان المدير غائباً فدعوتهما إلى غرفتي. دخلا، وجعلت أستنشق بحرية هواءَ الخشب دون أن ألزق بالرجل الفوّاح. ولكنه لم يتفهم غبّي أنفاساً طويلة متلاحقة من مكان قريب جداً من كتفه، فرجع إلى الوراء وجلس وجاورته. ثم فهّمني بحذر وكلمات قليلة أنه نجار، بالإضافة إلى كونه والد التلميذ الكسول وقد طلبه المدير لأمر هام فوعدته بأن أستطلع الأمر بنفسي على أن يعودني في صباح الغد. في المنزل شعرت أن رائحة الخشب التي صنتها في رأسي تحكّ لي المكان الذي يأكلني ببراعة أكبر بكثير مما تفعله أظافري أو مسكة الشباك. في الصباح عرضت على النجار أن أعلم ابنه الكسول مقابل أن يزورني مرتين في اليوم فلم يفهم. قلت: حسن أنا أزورك مرتين في ورشة النجارة. وساءني أنه عبّر عن ذهوله فقط. قلت: ألست مصاباً بالحكة؟ قال: لأ. قلت: طبعاً أنت لايمكن أن تصاب بالحكة لأن الخشب في تركيب دمك. ثم قطّيت له من أقصر طريق لكي أسهّل عليه فكرتي: ماذا تقترح علي إذا كان يلزمني جداً كلما عنّ لي أن أبقى في ورشة نجارة؟ فردّ ببداهة: صر نجاراً. واعتبرت اجابته إنجازاً لي لأنني دفعته خطوة صحيحة باتجاه حكتي. قلت: كما تعلم أنا أمين سر الثانوية وأضف إلى ذلك أنني أعتبر النجارة عاراً. فأعجبني أنه لم يطلب تفسيراً مني لاعتباري هذا بل اقترح علي أن يعلمني النجارة في السر.
وقد كان النجار على حق فقد علمتني التجربة أن ممارسة النجارة أشد وقعاً على الحكة من رائحة الخشب. ولكن معلمي يئس فجأة من تعليمي لأنني أتلفت له صبره المهني بسرعة قياسية. وأمام إصراري على تعليم ابنه الذي حقق نتائج شبيه بنتائجي تابع النجار تعليمي غير المجدي. وعندما صرت أخجل من بلادتي التي جعلت معلمي النجار ينتقم من ابنه كلما رآني بالصفع والركل والعض اضطررت إلى تخليص الولد وفتح ورشة صغيرة من وراء ظهره في الدرج الثاني من مكتبي في المنزل. واقتصرت مهمته على تأمين مكعبات خشبية صغيرة صار يمدني بها مجاناً من السَقط الكثير في ورشته. ورغم المصاعب التي جابهت تلميذ نجارة مثلي نفّذت وحدي وبإخلاص التعاليمَ التي تمرستُ بها حتى الآن وصنعت بلا كلل كراسي لا تصلح للجلوس بل للإخفاء، ليس فقط لأنها تتراوح بين حجم القبضة وحجم الجوزة بل ولأنها كانت مشوهة ومعتوهة ومعيبة ولا تشبه الكراسي. ولكن ذلك لم يؤثر أبداً على نهمي في لهوجتها إلى أن ضاقت ورشتي بفضائحي الخشبية هذه فنقلتها إلى خزانة محفورة في الحائط فوق سريري، موّهتُ درفتيها بسجادة خضراء عليها وعل يشرب. وطبعاً لو أنني نجحت في صناعة الكراسي الواقعية كما تخرج من يدي معلمي السابق لكنت في غنى عن لبكة إخفائها بمثل هذا الحزم ولكانت من جهة أخرى أكثر نجاعة في مقاومة حكتي العنيدة فلا أحتاج إلى دواء رديف آخر كتجليد الكتب مثلاً. وكنت سأقبل على التجليد فعلاً لولا أنني لاحظت مريم ذات يوم في مطبخنا. سألت أختي عنها في اليوم التالي ولم أفصح لها طبعاً عن العلاقة بين اهتمامي بمريم وحكة جسمي لأنني قدّرت أنها لن تستوعبها بسهولة.
فرحت أختي بي وذهبت بعيداً وتصورت أنني سوف أجعلها عمة بعد تسعة أشهر، فاضطررت لأن أعترف لها بأنني أريد خطبتها فقط. اعتبرت أختي اعترافي هذا حياءاً من البوح بمشاعري الحقيقية. ورغم أوهام أختي لم تبتسم لي مريم عندما صادفتها خارجة من بيتنا فاستبشرت خيراً بأنها وقعت على حقيقة مقاصدي وكبرت في عيني لأنني لن أشرح لها موقفي ولن أزل أمامها بكلام معقد. ولكن أختي قالت لي عندما دخلتُ: مريم لا تريدك. فحضرتني فجأة «مالي فُتنتُ بلحظكِ الفتّاك»ِ وشعرت بحرقة قوية إليها فانشغلت اختي علي: ما بك؟ خجلت أمامها من فتنتي العارمة بمالي فتنتُ بلحظكِ الفتاكِ، بخاصة وأن أم كلثوم قد بدأتها في رأسي ولوّعتني بإذا وصلتِ فكل شيءٍ باسمٌ، ثم هتفتْ «هذا دمي في وجنتيكِ عرفتهُ» فلم تحملني قدماي. انسحبتُ إلى غرفتي وأنا لا أنقطع عن سماع الست فلمعتْ علي معان مؤلمة لم أجربها من قبل، معان مغلفة غير ممسوسة. ثم وجدت نفسي أذهب إلى تجنّي مريم علي من باب تحريض الست على منحي المزيد من هداياها المختومة المؤلمة، فأسمعتني مريم كلاماً قاسياً بينما كنت أقف على رأس تلة أو على عتبة باب وربما على زيق دكة من الإسمنت لا أدري أين رأيتها، أعرف أنني جلست عليها خصيصاً لكي تجرحني مريم فجرحتني وتابعت أم كلثوم «أكذّب نفسي عنكِ في كل ما أرى وأُسمع أذني منك ما ليس تسمعُ». وفجأة برق لي في هذه القصيدة كما لم يحدث قط تلميح الست إلى حبيبي النهاوند، المقام الذي ورثته عن والدي، بينما كانت تصقل وتجوهر «فلا تسأليني في هواكِ زيادةً» الذي أعرفه أن الستّ في هذا المكان تغزل بين السيغا والرصد ثم تقفل بالسيغا، إذاً من أين برق نهاوندي وما معنى أن لا تلمّح به الستّ إلا في حفلتها التي أقامتها في رأسي ذلك المساء، لقد أتت به حارقاً متلظياً بالسيغا، فعرفت أن الستّ لم تكن مضطرة لأن تلمّح بالنهاوند على وجه الخصوص لو لم تقع مريم في حبي. ثم إن كبدي في تلك الليلة لم تأكلني ولا كليتي ولا طحالي. وفي الصباح عندما مررت بباب مريم في طريقي إلى المدرسة شعرت بأني أتباطأ تأكيداً للمحة النهاوند. وبالفعل فإن مريم لن تجد أفضل مني لتحبه مع أنني في نهاية المطاف سوف أخذلها. ثم ما حيرني أن أحد أعضاء خميسي مرّ بي في أمانة السر وبشّرني بعنوان أغنية الستّ الجديدة التي ستغنيها في خميسنا القادم: ذكرياتٌ. قال وضيّق جفونه فأشجاني: ذكرياتٌ؟؟ سألته فأكّد: ذكرياتٌ! ثم ابتسم عندما عقدت جبيني والتفتّ إلى النافذة لكي أفهم الضيق الذي بلبلني. كان صاحبي قد خرج عندما فهمت أنني سوف أستطعم بثمار أم كلثوم أكثر مما فعلتُ حتى الآن إذا طبّقت أغانيها على مريم، ولذلك فقد شعرت على الفور بحكة فظيعة.
إن الأيام الخمسة المتبقية على خميسي أقصر بكثير من أن يكون لمريم «ذكرياتٌ» طويلة معي. وكنت كالعادة لا أستطيع أن أحشر أصابعي تحت جلدي ولكني كنت مستعداً لأن أقرع جرس المدرسة في أمانة السر طيلة عشرين دقيقة متواصلة إذا كان ذلك سيساعد مريم في أن يصبح لها "ذكرياتٌ" حميمة معي. ماذا أفعل لمريم لكي تختزل عدة سنوات عنيفة من حبي حتى يوم الخميس؟ ثم فكرت بأن العمل الذي يجب أن أقدم عليه في سبيل هذه الغاية يجب أن يكون مكتملاً، وعلي أن أعترف بأني أفتقر دائماً إلى العمل المكتمل. وطبعاً كان سيحزّ في نفسي كثيراً أن أعتبر تمزيق أضابير التلاميذ عن آخرها أو قصقصة خريطة الوطن العربي الكبير أو رقصي في باحة المدرسة أعمالاً لها صفة الاكتمال. قلت الأفضل أن يصطاد الإنسان سمكة، ولكن لكي يصطاد سمكة يحتاج إلى دودة، سوف أنبشها في أرض رطبة، وقد يتأخر الوقت وفي الظلام يفشل الإنسان في خوزقة الدودة بالصنارة، وطبعاً شراء البيل مشكلة محلولة ولكن الدودة نفسها قد لا تتخوزق معي، وصنارة ما عندي ولا عندي قصبة ولا خيط طويل والصياد في الليل يتعرض لكلاب المزارع على ضفة النهر ، وفي هذه الحال أهون على الإنسان أن يكون سمكة من أن يكون صياداً لأن كل ما تفعله السمكة في عملية الصيد هو أن ترى الدودة وتبلعها، أما الباقي فعلى الصياد المسكين. قلت الأفضل أن لا يصطاد الإنسان سمكة، الأكمل أن يذهب إلى البيت.
فذهبت قبل جرس الانصراف لأني خشيت أن أستسهل رفع الأذان بنغمة الحجاز أمام باب المدير. ولأني سعد البصري أمين سر الثانوية الوحيدة في البلدة تسللتْ إلى غرفتي من النافذة المفتوحة على أرض الحوش فراشة كبيرة لتنقذني من البهدلة. وقفت أستقبلها ثم رحت أتوقع المكان الذي ستحط عليه، حاولت استدراجها إلى مرفقي بجعله مسطاعاً لها فحامت حول السرير وتحديداً فوق المخدة. شعرتُ على وجهي وأنا في منتصف الغرفة بهواء ضعيف منعش يهفّ من جناحيها الجميلين، ثم استطلعتْ الوعل الذي يشرب في السجادة وارتدّت إلى قنطرة الراديو الزجاجية على المنصة ولم تسترح على مفتاح التشغيل، إندارت وقبل أن تفلت من النافذة وجدت: أن العمل المكتمل الوحيد الذي سيساعد مريم في أن يصبح لها "ذكريات" طويلة معي هو أن أحنّط هذه الفراشة. ولكن كيف يحنطون الفراشات؟ كان بإمكاني طبعاً أن أسأل أستاذ العلوم الطبيعية بالتلفون، ولكن الفراشة خرجت إلى أرض الحوش ولن تنتظرني على باب الجيران ريثما أتلفن إليه من عندهم، لن تنتظرني لأن أي شيء خاصة إذا كان لديه جناحان لن ينتظرك لكي تحنطه بعد قليل. خرجتُ إلى أرض الحوش عندما ملَصتْ الفراشة من باب منزلنا المفتوح إلى الشارع فتبعتها وأنا أفكر بالخدمة التي لن أنساها لأستاذ العلوم الطبيعية فيما لوقرر مصادفتي في طريقي وأنا ألاحق الفراشة.
ولكن عدم معرفتي بتحنيطها لم يثبط عزيمتي على تحنيطها، لأن الإنسان يقوم عادة بأشياء لايعرف كيف يقوم بها. كان علي أن أمسك بها أولاً، لأنك لايمكن أن تحنط شيئاً قبل أن تمسكه مهما كان في متناول اليد، وقد كانت في متناول يدي فهل أضبّ عليها بكفي أم أقطع طريقها بمنديلي ثم بأصابع يدي الأخرى أمسكها من رجليها؟ كم رجلاً للفراشة؟ كيف أفلح في تمييزها قبل أن تحرف الفراشة طريقها وتنجو مني؟ كانت تسبقني بخطوة واحدة وتقودني بلا كلل إلى المكان الذي سأصطادها فيه، وكنت لا أرى غير جناحيها بأزرقهما الصانجان وأصفرهما ونقطهما الحمراء، وكانت كلما أمعنتُ في ملاحقتها تكبر في عيني على حساب خلفية مغبّشة من بيوت وأشجار وبشر يتداخلون بعضهم في بعض ثم يضمحلّون بلون رمادي باهت. تعلقت الفراشة فجأة بهواء أسود أو أنها حطت على فلاة سوداء فصغُر حجمها. وعندما طالعتني خطوط برتقالية واهية في أصفر جناحيها المفرودين سمعتُ امرأة أعولت: يا وْليديْ! ثم حمّستني الفراشة بمجسيها الطويلين وظننت أنها تتنصت بهما إلى ما يهجس في صدري. ميّزت أنها واقفة على ظهر عباءة سوداء لامرأة تخمش خديها وبأظافرها العشرة: يا وْليديْ! ثم شدّني صوت مخنوق لرجل ملتحٍ يغالب دمعه إلى جانبها: يا أختي! لا تحسبنّ.. فقاطعته المرأة بعويلها: يا وْليديْ!.. عاد الرجل يقطّع صوته المخنوق: يا أختي.. لا تحسبنّ الذين قتلوا.. فارتفعت المرأة إلى السماء بعويل طويل هذه المرة: يااااا عَمَد بيتي! فانخرط الرجل الملتحي في بكاء قوي جارح بينما طارت الفراشة، الفراشة طارت .. طارت حتى أصبحت زرقاء، زرقاء، فلم أعد أراها.
وقفت في مكاني، وصار يتخطاني رجال وأطفال كثيرون فهمت عندما ابتعدوا عني أنهم يمشون في جنازة قتيل جاء من حرب من الحروب. حزنت على الفراشة، وفتّشت عنها مرة أخرى في الفضاء الأزرق من حولي. وجدت عصفوراً بعيداً في سماء صافية وغيمة بيضاء عالية تتمزع ببطء. عدتُ إلى منزلي وأنا أتذكر فقيدتي الفراشة، ولمتُ نفسي على تلكئي في تحنيطها كل هذه المدة. جلستُ إلى جانب منصة أم كلثوم وأنا أتحاشى النظر إلى القنطرة الزجاجية المرقمة لأني لا أملك تركتوراً ضخماً لكي أسوقه، حتى القمح سوف يلبّكني بذاره ناهيك عن سقايته وحصاده وبيعه في مكتب الحبوب، أصلاً ما عندي أرض أزرع عليها قمحي، هل أزرع القمح على سريري؟ إنني أتلعثم دائماً حتى في تحزيز بطيخة، وأحسد حتى الكندرجي حين يضع لحذائي القديم نصف نعل جديد، إنه يخلبني بالمسامير الصغيرة التي يبلعها ثم يخرجها واحداً وراء الآخر من فمه كما يفصفص البزر، وعندما يدقّها على حواف نعلي أتشوق دائماً لأن يقرض أصابعه، ولو أنه قرضها من أجلي مرة واحدة لكنت غفرت لنفسي كل المرات التي لم يتعوّر بها ولكنه كان دائماً يغيظني بشاكوشه الفطين. أغمضتُ عيني لأتكهن بعودة الفراشة من شباكي المفتوح، تكهّنت بها بسرعة ثم فتحت عيني. ولكي أفيد من تجربة الماضي في اصطياد الفراشات أسرعت قبل كل شيء إلى الشباك فأغلقته والتفتّ بقوة: وجدت خنفساء سوداء كبيرة على الحائط المقابل. قلت سوف أحنطها فوراً ولن أضيّع الوقت في سؤال أستاذ العلوم الطبيعية عن كيف يحنطون الخنفساوات.
أولاً الإمساك بها قبل أن تصل إلى السقف. سوف أتحمل أرجلها السوداء على راحة كفي، وإذا حشرتها بالقوة في علبة كبريت فسوف ينكسر ظهرها وربما تتقصف أرجلها اليابسة. ما لون دمها؟ ثم بأي شيء سأحشرها؟ بأصابعي؟ الحل في قطرميز بللور فارغ أدهورها فيه بعود ثقاب. ولكن ريثما أخرج إلى المطبخ وأسأل أختي وتجد القطرميز تكون الخنفساء قد صعدت إلى مكان أعلى من طولي واقفاً على مكتبي. في علبة الكلينكس! صحت في رأسي وسبقتني يداي تحررانها من محارم ورقية بيضاء كوّمتاها على المكتب، ثم صعدت عليه ووقفت على رؤوس أصابع رجلي، استعنت بقلمي في تهوير الخنفساء في داخل العلبة، هوّرتها بطريقة جعلتني أتعرق، نزلتُ لاهثاً وقبل أن أستريح أسرعت وأغلقت الفتحة بصلبان على قدها من اللزيق الشفاف، وللمرة الأخيرة خضضت العلبة لأتأكد من وجود الخنفساء، ثم خبأتها وراء الراديو. عندما جلست حزّت في نفسي أختي. المسكينة لاتعرف شيئاً عن الخنفساء. قمت وخرجتُ من غرفتي، لم أجدها في المطبخ. هل يصح أن أدخل إلى غرفة نوم أختي لكي أمحو من ذهنها أي خاطر يتعلق بأي خنفساء في منزلنا! خاصة إذا كنت أنوي تحنيطها؟ حصتُ حول السروتين. الشمس تغرب وحامية، أنصتُّ ولم أسمع وهسها. فتحتُ غرفة الجلوس ورأيت مريم، وبعد دقيقة قامت أختي من جوارها لأراها. كانتا على حصيرة قش وبينهما مخدتان. شعرتُ بأني لا أبحث عن أختي وتمنيت لو تختفي عندما لاحظت ابتسامة مقنّعة على فم مريم، مع أنني سأندم عليها لو تركتنا فعلاً لأن الأيام الخمسة المتبقية على خميسي بدت لي أمام مريم وكأنها يومان. ماذا يمكن أن أقول لمريم قبل يومين من «ذكرياتٌ»؟ إن معجنة غرفة الجلوس وطليها ثلاثة وجوه بالدهان الزيتي أهون عليّ من تدبير أمري مع مريم في هذه المدة القصيرة. قالت أختي ستجلب لي كرسياً وخرجت فاستلمتني مريم بعينيها. أردتُ أن أشرح لها الوقت الضيق الذي أمامها فقلت لها بصوت خفيض: سوف أحنّط اليوم خنفساء كبيرة. اندهشتْ ولكنها شالت القناع عن ابتسامتها وأردفتُ متلهفاً: أصلها فراشة ولكنها الآن خنفساء حقيقية وسوداء. ثم أردت أن أطلعها على ضرورة تفصيل عواطفها المتنوعة على قد الوقت فقلت: وخذي باعتبارك أن اسم الأغنية في يوم الخميس ذكرياتٌ. فتعجّبتْ: ذكرياتٌ؟!!. اعترفتُ: ذكرياتٌ.
ولكن الذي أرعبني أن مريم كادت تنفجر بالضحك عندما دخلتْ أختي تحمل كرسياً قدمته لي، ثم أذهلتني بأنها لم تضحك، ابتلعتْ حمرة خديها وغزلة عينيها وغمّازتها الوحيدة وطلّة أسنانها، وعادت إلى وجهها العذري عندما تركتنا أختي، فازددت رهبة منها ولم أجلس. طرت إلى مكتبي. أطفأتُ نار أصابعي بمسكة الدُرج الثاني وسحبت ورشتي وأدركتُ أن الكرسي المبدوء لم يكن مشوهاً على مقاس الخطأ الذي ارتكبته فشرعت أصنع فضيحة خشبية جديدة من مكعب جديد. كيف أفشيت لمريم بخنفسائي السوداء بهذه السرعة؟ لم أصمد، ألم تفشِ لي بابتسامتها لأول مرة؟ المفروض أن نكون قد تبادلنا أسرارنا. من طرفي سوف أصون ابتسامتها في جبّي العميق كما أصون أفظع عيوبي، فهل ستصون مريم خنفسائي السوداء؟ من سيقنعها بأن تطمّها في صدرها؟ أليس الصدر مطمورة الكلام؟ ماذا أفعل إذا نكشتها أمام أختي؟ أختي لن تفهم خنفسائي كما يجب لأنني أخوها ولأن «ذكرياتٌ» لايمكن أن تخصها لا من بعيد ولا من قريب ولذلك إذا دبّت خنفسائي باتجاه شحاطتها وطلعت على إصبع قدمها الكبير فإنها سوف تتقزّز لأنها سوف تتنجس ولن يغفر لها هذه الطلعة أي دين من الديانات.
أختي متدينة وتصلي في أوقات الفراغ. بينما لا تكسب مريم رجساً حتى ولو أخاطت جيبها على خنفسائي بلا أي قاضٍ شرعي أو كاتب بالعدل، على أن لا تلمحها أختي. إن ظهور رِجلٍ واحدة من سري كافٍ لأختي لكي تحزر باقي أرجله المخبأة، ومن الأفضل لنا جميعاً أن تبتسم مريم لأختي بجيب فارغ، و لأنني ملأته لها الآن بخنفسائي فإن عليها أن تنكرها أمام أختي بجيب مليء مثلما تبتسم لها بجيب فارغ. إن أختي تغار ولا تصدق حتى الهواء إذا نسّم عليّ من وراء ظهرها. وهي في كل الأحوال سوف تشعر بخنفسائي، سوف تراها في مِشية مريم، لأن مريم بخنفسائي السوداء لا تمشي بل تتنعنع. ولكن أليست مريم صديقة أختي؟ لماذا لا تنحاز إلى صداقة عمرها؟ لماذا لا تمتّن أواصر هذه الصداقة بخنفسائي السوداء تتبرع بها إلى أختي؟ لن يكون ذلك طبعاً في صالح «ذكرياتٌ» لأنه يعني أن مريم ترفض أن تخون أختي ولأن إخلاصها لها سوف يثبت لي أمراً مؤلماً وهو أنها لم تقع في حبي كما يجب، والأهم أنها لم تتفهم بعد قلة الوقت في اليومين الباقيين على خميسي. كيف أتحقق الآن من أن مريم قد أحبتني أكثر من أختي وأنها لم تبعني لها وأنها لم تكشف لها عن عورتي التي في جيبها؟ عدتُ إلى أختي. كانت وحدها. وقفتُ أمامها مكسوراً لكي أدلّها بصمتي وبيدي ورجلي ورأسي على أنني: نعم طمرتُ في مريم سراً. ثم تلهّفتُ لأن تقبض علي أختي متلبساً، ولكنها لم تسألني صراحة ماذا قلت لمريم في غيابي لكي أدلي صراحة بخنفسائي السوداء أمامها.
ظللت متحفّزاً على بعد إصبع واحد من الاعتراف بها وكدت أبقّها في حضنها ومنعتني من ذلك على الفور رأفتي بأختي من أن يشويها في المستقبل أحد ما بالنار بخاصة أنها من أنصار يوم القيامة. تحمّستُ ونظرتُ إليها. كانت تحصرني كليّ في عينيها، تشقلني وأنقص أمامها، تستثقلني ثم لا تراني. ثم تراءى لي أن غشاوة دمع غطّت عينيها من أجلي فانبسطتُ لأن فجيعتها بي طمأنتني على أن مريم قد باعتها لي وليس العكس. عَنَى لي حزن أختي العميق على ضآلة شأني أن مريم احتفظت لنفسها بخنفسائي السوداء ولن تشارك بها أحداً سواي، وما أكّد هواجسي السعيدة هذه أن أختي عزّتني: مريم لاتريدك لاتريدك. ثم لم تفهم أختي لماذا صرت أنقز أمامها في مكاني كأني في صفّ طويل من رجال ونساء يدبكون معي بركبهم وأكتافهم خمعاً خمعاً في المكان، فقامت أختي وحاولت تثبيتي في محلي ولكنها صارت ترجّ معي ظانة أنني أستحق البكاء، ثم صرختْ وأنا أرجّها رجّاً رجاً: كااااا فيييييك. جمدتُ في الحال ورغبتُ في أن أكذب عليها في كل حرف أقوله على اعتبارها أصبحت من العاذلين: صدقيني أنا مثلك مسكين ومريم لا تحبني ولا تريدني وأنا رايح أنام. ثم لم أمكّنها من تقبيل جبيني، تركتها.
قفلتُ الباب ورائي، وطلتُ علبة الخنفساء من وراء الراديو. كان إصبع الصمغ في بالي. وضعتها على المكتب وجلست قبالتها أرتعش من الغرور. إذا عصرتُ الصمغ أين سأعصر الصمغ إذا كانت مريم علبة كرتون؟ سأعصر الصمغ على ظهر علبة الكرتون. وحاولت أن تكون أختي كرة ورق مفعّسٍ حتى لا أعصر عليها أي شيء. أعتقد أن التحنيط نوع من التثبيت. شعرتُ بأني أميل إلى العلبة وأنقصف فوقها مثل شجرة ينشرونها. كنت لا أعادي أختي وإذا خضضتُها لن تخشخش في بطنها خنفسائي. ولكن ماذا لو كان التثبيت نوعاً من التحنيط؟ من مصلحتي أن يكون العكس، وأنا لا أقرّ إلا بمصالحي بما أنني أجهل أي نوع آخر من التحنيط. إذاً التحنيط يعني حصراً التثبيت على ظهر علبة كرتون. نزعت بحذر صلبان اللزيق عن فتحة العلبة. كان علي أن أتدبّر الأداة التي سألتقط بها الخنفساء قبل إزالة الصلبان، ولكنني أزلتها، والخنفساء لو عرفت ما ينتظرها بعد قليل لانطلقت مثل سهم إلى السقف أو إلى عيني. كانت أصابعي أقرب أداة انقضاض عليها فمددتها في عتمة العلبة. لم أقع عليها مباشرة.
إن أي تصور مسبق عن المشاعر التي تنجم عن مسك خنفساء باليد كان لا يلزمني. أمسكتها أخيراً من حدبتها، سحبتها، وقلبتُ العلبة بيدي الأخرى. تناولت إصبع الصمغ، كانت أرجلها تتحرك بعصبية في الفراغ، أرجل بدتْ لي مكينة، أرجل تستطيع ريثما ينشف الصمغ عليها أن تهرب بجسم الخنفساء إلى مكان منيع على الحائط. الصمغ لا ينفعني، والمسامير لا أستخدمها في ورشة الكراسي. دبّوس واحد يحل المشكلة. تلحلحتْ الخنفساء بين إبهامي وسبّابتي. الإبرة! الإبرة التي أرفو بها سراويلي الداخلية. سحبت الدرج الثالث في مكتبي واستللتها من كيس نايلون صغير. كان خيط قصير أبيض يسيل من ثقبها. ثبتّ الخنفساء في نزلة الظهر بين أليتي العلبة ثم خرزتها بإبرة سراويلي حتى جازت ثخانة الكرتون. أطفأت النورمن شدة خجلي. صار بإمكاني أن أخلع ملابسي وأفخر بنفسي وأتعرق بلا أي حرج. وقفنا عاريين أنا وهو في وسط العتمة، كنت لا أراه، ولكن في فراشي شعرت عليه ببرودة اللحاف الرقيق، وكان انتصابه يزداد عنتاً كلما أصغيت إلى أرجل الخنفساء وهي تخمش في مكانها لحم العلبة الناعم. كان فراغ العلبة من الداخل يكبّر خموشها، يعطيها صدى، يعمّق أثلامها الرنانة. من كان يصدق أن أكون قادراً، أنا سعد البصري، على القيام بعمل مكتمل؟ تحنيط خنفساء من الألف إلى الياء. الآن فقط أستطيع تطبيق أم كلثوم على مريم.
الآن فقط أستطيع بمريم وليس بتجليد الكتب أن أدعم مناعتي ضد الحكة. الآن فقط تستطيع أم كلثوم أن لاتؤجل «ذكرياتٌ»، تستطيع أن تغنيها يوم الخميس، هذا الخميس الذي سيحدث بعد قليل. إن الخنفساء بوصفها عملاً مكتملاً سوف تساعد مريم في تأليف «ذكرياتٌ» طويلة معي. ومن طرفي سوف أسهّل على مريم عملها المستحيل هذا بتطنيشي وتوسيع هوامشي. لقد علّمتني التجربة في تحنيط الأشياء أن تجليد كتاب يختلف حتماً عن مسك امرأة من قفاها والدليل عضوي المنتصب زائد الحمى التي تمدني بها أرجل الخنفساء في نزلة الظهر بين أليتي مريم. أليست مريم علبة كرتون؟ ولذلك فأنا على استعداد كرمى لغرائزي أن أقتنع بأدلة هشة على أن الدقيقة تمطّ وتنكمش مثل أي حديدة أو قنفذ أو حجرة، وأن الشجرة التي تجلس في ظلها تنكسر عليك وتقتلك، حتى أم كلثوم إذا قِستها كما يمتّرون القماش فسوف تخرج معك مطربة كبيرة لها ألف أغنية ونظارات سود ومنديل أبدي في يدها ثم لا شيء، بينما هي في الحقيقة أشياء أخرى لا تحصى. غياراتها الداخلية مثلاً لا تعرضها على أي إنسان بدون سبب، والأهم أنك تسمع منها يا ظالمني وكأنك لاتسمع يا ظالمني بل حسيبك للزمن، وهي في طبيعتها تدفعك إلى هذه النقطة، وعليك فقط أن تلقط إشاراتها وتعيّر نفسك على هذه الموجة، وإذا أفلحت بالتقاطها بوضوح مستعيناً بتطنيشك الكبير فإن كل شيء حتى الورد الجوري وزجاجات البيرة يمكن أن تحل غريزياً محل الكلمات في أغنية «ذكرياتٌ».
وتأكيداً لذلك لم أفاجأ عندما استيقظت بأنني في صبيحة الخميس وليس في صبيحة الأحد حسب الرزنامة المعلقة في غرفة نوم أختي. قلت أنا أمشي على رزنامتي، واليوم ليس خميساً فقط بل وأول خميس في الشهر. نهضت من فراشي على هذا الأساس الذي يُلزم أم كلثوم بإقامة حفلتها اليوم تحديداً في غرفتي. عندما فتحت الباب لأحلق ذقني في الحمام حاولت قدر الإمكان أن لا أستغرب وجود الظلام في أرض الحوش. لقد استيقظت إذاً قبل العادة، ولكن ضوضاء أولاد أختي والأصوات التي تأتي من الشارع أشارت بوضوح إلى أننا في المساء وليس في الصباح الباكر. هل تغيبتُ اليوم عن أمانة السر؟ لا أظن، فما دام اليوم هو الخميس وليس الجمعة ومادمنا في المساء إذاً فماذا فعلت في الصباح؟ ذهبت طبعاً إلى المدرسة حتى ولو غابت من ذهني كل الحيثيات والدليل أنني حين نظرت إلى نفسي في مرآة الحمام وجدت ذقني محلوقة. لقد داومت بالتأكيد، ولكنني حلقت ذقني مرة ثانية كما أفعل في مساء خميسي إكراماً لكوكب الشرق.
جففت وجهي وأنا أعتقد أنني أرى للمرة الأولى الشيب الغزير الذي خالط شعري. كيف لم ألحظ حتى الآن الكيسين الأزرقين تحت عيني؟ وهذه التجاعيد على جبيني؟! مشّطتُ شعري فبدوت مشرقاً بصعوبة. ثم وجدت دليلاً آخر على دوامي في أرض الحوش: زوج أختي. سلّم علي ولم يستعلم عن سبب غيابي. نظرتُ إلى ساعتي على المكتب. التاسعة وخمس وعشرون دقيقة. بقي ثلث ساعة على جمهوري، مدة أنفقتها على هندامي، لبست طقم أم كلثوم وقميصها وكرافتها وحذاءها وجوربيها، ثم تعطّرتُ ووقفتُ في وسط الغرفة مؤهباً للحفلة. دُقّ الباب. جمهوري. دخلوا. احتل كلٌّ مكانه المخصص نظيفين فوّاحين مضطربين لا نعرف ما نقول قبل دقائق من «ذكرياتٌ». صمتنا، ربما لنتأكد من دوزان آذاننا دون أن نجرؤ على السعال أو النحنحة. برؤوس أصابعنا تحققنا من أصداغنا ومسدنا كسرات بنطلوناتنا نكاد نبتسم ولا نبتسم، ولكننا احتطنا بغبّات طويلة من الهواء. وقفتُ. وقفتْ معي قلوبنا. أدرت مفتاح التشغيل، اشتعل النور في القنطرة المرقمة فصفق على الفور الشعب المصري في الصالة. جلستُ. قامت أم كلثوم. صمت الشعب المصري، ثم قال القانون شيئاً جاوبته الكمنجات: إنه مقامي. التفت جمهوري إلي. نهاوند صريح فصيح مشبع ومصدَّق. ماذا تريد أم كلثوم؟ ماذا يريد القانون والكمنجات؟ ليس عبثاً أن أدلّل بالنهاوند الآن وليس مصادفة أن تكون ذكرياتٌ بالذات من مقامي ومقام أبي، فأنا عندما أدرت مفتاح التشغيل شعرت لأول مرة في حياتي بأنني أمتلك احتياطات من التطنيش تكفيني لأن أماثل بسهولة بين من يضربني وبين من يقبّلني، بيني واقفاً على رأسي وبيني واقفاً على قدمي.
إذاً لماذا النهاوند؟ لماذا النهاوند إذا لم أكن في أمس الحاجة إليه؟ النهاوند لا يأتي هكذا. ثم شقّ علي أن أبتعد عن النهاوند لأستوعبه، فقد كان الأحرى بي أن أطاوعه ما دام أخذني، وبدا لي كافياً ووافياً لبضع لحظات ريثما فهمت عن طريق اللمس أن النهاوند جاء ليؤكد على مريم لا بوصفها عملاً رديفاً لكراسيّ المشوهة بل باعتبارها كياناً مستقلاً عن حاجتي إلى حكّ أعضائي الداخلية الحصينة، وهذا يعني أنني، أنا نفسي، قد وقعت في حبها دون علمي منذ سنين طويلة، وقد جاء النهاوند الآن ليزيح الستارة عنها. الآن أعلم أن في طاقتي أن أتعرق رائحتها، لأنها الآن لا يمكن أن تكون بطانة لجاكيتي أو مرهماً أدهن به حبة أو حرقاً، كما لم تعد تصلح لاستبدالها لأنها لم تعد دواءاً بل داءاً، إنها الآن شيء لا يلتصق بي بل يفور من مكان منيع في داخلي ولها أن تأكلني، إذا شاءت، كما تأكلني طحالي أو مرارتي، ولي أن أخترع وسائل أخرى في مكافحة حكتي حتى ولو اضطررت لأن أعمل بعد الدوام الرسمي بلاطاً أو أسكافياً أو أجيراً لسمكري، وأنا واثق من أن أياً كان سيلمح الآن مريم في جلوسي وفي مسكتي لفنجان قهوتي وفي تقليبي أضابير التلاميذ وفي تبكيلي أزراري. ولكن تفسيري للنهاوند وقد خضع لمصلحة مريم يجب أن لا يورّطني بالزواج منها لأن الانسان يتزوج بورقة ذات طابع يتشارك في التوقيع عليها عدة أشخاص غرباء وهي ورقة لاتعثر عليها فقط في المحكمة الشرعية، إنك تصادفها حتى في وجبة الأكل التي تقدمها لك أختك أو أمك، كما يحضّك عليها باعة الخضار والحلاقون والعطارون وأساتذة الديانة واللغة العربية.
ولكني لن أوقع على الورقة ذات الطوابع مهما كلف الأمر. سوف يكويني النهاوند بمريم نعم ولكن عضوي سيبقى واقفاً يشير إليها أينما توجهتْ فأكرهها عند اللزوم. سوف يملأ عضوي الفراغات التي سيتركها النهاوند، لأن أم كلثوم لا يمكن أن تفرض النهاوند دائماً وفي كل أغنية خاصة وأن الملحنين المصريين لن يكترثوا بالحياة الشخصية لأمين سر ثانوية مثلي يعيش في الرقة فهم أحرار حتى عندما ينتقون المقام الذي يداويك أو يكويك، وهذه حقيقة عارية يستطيع الإنسان أن يشدها إلى رأسه إذا نام دون أن يكشف عن رجليه للهواء البارد، وهذا ما حرصت عليه طيلة الوقت في حفلة ذكرياتٌ فلم أخرج رأسي من تحت تلك الحقيقة حتى احتجّ الشعب المصري على نهاية الأغنية فانفضّ الجمهور من حولي. قمت مفتول العضلات، كان عندي طاقة كبيرة لأن أتحمل حب مريم مضروباً بخمسة، كما قمت محنّكاً في تخريس جيش كامل من باعة الخضار والفواكه بعدم زواجي من مريم. ولكن الباب، باب دارنا دُقّ فجأة بطريقة حرّجت علي خروجي إلى أرض الحوش. أسدلت الستارة على النافذة ووقفت وراءها أتلصص إلى كيف سينفشّ بابنا قبل أن تفتحه أختي أو صهري. كانت اللمبة مشعولة في أرض الحوش ولكن امتناعهما عن الظهور دلّ على أنهما قد رشّحاني لهذه المهمة. لم أخرج. ثم أثارني أن الباب لم يتحطم حتى الآن فانتظرت ذلك بإصرار لا يقل عن إصرار الذين يحطمونه بقبضاتهم وقنادرهم.
ولكن أختي حسبت، بفطرة امرأة مدبرة، أن عشرة كيلو جرامات من الجبن البلدي لأولادها أفضل من تصليح الباب الذي سينكسر إن لم تظهر، فظهرت تمشي إلى الأمام وتلتفت برأسها نحو الوراء باتجاه باب غرفتي المطبوق. فتحت أخيراً. لم يندلق أحد إلى أرض الحوش. ميّزتُ ثلاث رؤوس لامرأتين ورجل، ثم رنّ في أذني صوت نسوي مفجوع: قصفوا بغداد! شرعت أختي تلطم وجهها وصدرها وتنفش شعرها: يا ويلي يا ويلي، وعندما تكاثرت الرؤوس على الباب هجمت أختي على تراب السروتين تهيله على رأسها. ابتعدتُ من وراء الستارة وظننت أنني سأفتح الراديو لأطمئن على بغداد، ولكني لم أستفرغ. أطفأت النور في الغرفة وجلست في مقعدي الخاص عندما أستمع إلى أم كلثوم. لم تغنِّ. طمس الظلام التام يديّ وتمنيت لو كنت مسافراً إلى دمشق أو عمان، ولكن عويل أختي الطويل والرفيع كان يربطني إلى بغداد التي تحترق الآن. قلت في قلبي: أنا من البصرة. ثم قلت بصوت ضعيف: أنا من البصرة. ثم أردت أن أفتح باب غرفتي وأبعق: أنا من البصرة. ولكن عويل أختي كان قد انقطع فشعرت أكثر بحلحلة الرباط الذي يشدني إلى بغداد فاندفعت إلى تحليل الأحداث، وحللّتها بالتفصيل، ثم حللّتها مرة أخرى، وبقيت أحللّها حتى بلقت أختي عليّ الباب، ربما بعد أيام، فدلّتها إلى مكاني في العتمة لمبة أرض الحوش. وقفتُ. كانت قد فحمت من البكاء ولكنها اقتربت مني مثل خارجة من قبر وأنبأتني بفم ورمان وصوت مبحوح أنهم يقصفون الآن البصرة، ثم هوت إلى قدميّ تستجير بي فخطر لي أن أحلل لها الأحداث. ولكني خجلت من أن أعترف لها بعجزي عن منعهم من تدمير البصرة، ثم خفت من الخفّة التي انتابتني.
مع ذلك تخفّفتُ من خجلي أيضاً بدافع إلى التحليق، واعترفت لها بسهولة غريبة بأن الأمر ليس بيدي لكي أرد عن البصرة الطائرات والصواريخ احكمي بنفسك. ثم شغلني تساؤل كان من المفترض أن يجرحني: لماذا لا أبكي أنا على البصرة؟ هل صعقني الخبر؟ حسن، انتظرت خمس دقائق أخرى ولم أبك. ثم عشر دقائق. لم أبك. لماذا إذاً لا يبكي الانسان على بلده المقصوف؟ جلست إلى مكتبي. أين ذابت أختي؟ سحبتُ ورشتي. لماذا إذاً لا يبكي الإنسان على بلده المقصوف؟ بدأتُ كرسياً. بقي السؤال واقفاً. ثم شعرت أن ما يقلقني ليس تدمير البصرة بل وقوف السؤال فقط، وكنت مستعداً لنسيانه لو جلس. لم يجلس. لماذا إذاً لا يبكي الإنسان على بلده المقصوف؟ ثم أرعبني أن أبقى وأرعبني أن أخرج. تسلّحت بكرسي مشوّه أخفيته في عبّي وخرجت. إلى أين أذهب وقد تجاوزت منتصف الليل؟ طرقت باب مريم. فتح أخوها: تفضل. كانوا مبقّعين بالقمر تحت العريشة، ويستمعون إلى أخبار القصف من مذياع صغير. جلست أقرب ما أكون إلى مريم. لم أفهم شيئاً مما كان ينقله المراسلون من البصرة، فصفنتُ في بروفيل مريم. كان خدها كبيراً ومتهدلاً على غير ما ألفتُه وتوقعت ما يشبه الغبغب يرطرط تحت حنكها. كانوا جميعاً يتفادون النظر إليّ ومحرجين أكثر مني كأن لهم إصبعاً في قصف البصرة، فجعلوا يلتهون بمراقبة أحذيتهم وأطراف أثوابهم واشباح صغيرة هنا وهناك بين المزاريب وفوق الأسطحة، وكانوا يتجنبون الكلام، أي كلام، لكي لا أزداد ألماً فهم لم يعرفوا حتى تلك اللحظة كيف يفرّقون بيني وبين البصرة، كانوا متأكدين حتى العظم من أن القنابل التي تسقط فوقها تنفجر في قلبي، فضاعفوا بذلك من بشاعة سؤالي الواقف.
لماذا إذاً لا يبكي الإنسان على بلده المقصوف؟ وخشيت في برهة ضعيفة أن أنساق بالذنب الذي يشعرون به من أجلي فأتفجّع أمامهم بلا أساس، ولكن مريم عوّقت ضعفي بعينين نمرتين صوبتهما إلي وفهمت أنها تراكم في صدرها حقداً أسود على القاصفين كرمى لعينيّ، وعيناي لا تبكيان. ثم شعرت أنهم ينتظرون مني الآن كلمة ما تحدد لهم مزاجهم أمامي، وما أردت أن أكذب عليهم فتركتهم ينتظرون حتى تململوا على كراسيهم القش. ثم قلت لما سعلوا: متى بدؤوا؟ فتبرع أخوها بالجواب: منذ ساعة لم يتوقف القصف. ثم حاولت تنفيس ظنونهم بي بأن تذكرت أبي الذي هجر البصرة بعد أن خلّفني بسنتين. كنت لا أريد أن أظهر مخلوقاً من حجر. تذكرت شبابه في البصرة ولكن لم يتألف معي من كل أحاديثه عنها أكثر من شارع قصير مسدود في أوله جامع بلا مئذنة تمشي فيه جنازة عمتي التي لا أعرفها، ومجرور مكشوف لم أعد أذكر مكانه الذي حدده أبي بالنسبة إلى بيت جدي البصري. كيف أستطيع بمجرور وجنازة أن أدافع عن نفسي؟ حاولت أن أجد شارعاً شبيهاً له في الرقة لكي أهون علي الشعور بالفظاعة. تمخّطت أم مريم لتحيطني علماً بدموعها. ثم عرفت أنني لن أجبر نفسي على التأثر العميق الذي يرضي أهل مريم. وبعد سكوت ثقيل عنّ لي أن أطرح عليهم سؤالي الواقف في حلقي مثل عظمة: لماذا إذاً لايبكي الإنسان على بلده المقصوف؟ وأمسكت عن ذلك فقد عزّ علي أن أسقط من عيني أم مريم، ثم لم تفرق معي لأن أم مريم جاهزة من زمان لتسقيطي من عينيها. كان واضحاً أنها أكثر الجالسين شوقاً إلى رؤيتي منهاراً على البصرة. ثم خيّل إلي أنني لن أبرّد قلبها إلا إذا هويت من طولي على الأرض، وارتعصتُ بين قدميها وبللت ثوبها بنشيجي ومخاطي. كان ذلك صعباً علي. والأنكى أن مريم شعرت بحاجة أمها إلى بكائي المرير ولم تفعل شيئاً. ثم لدغني أخوها، وسّع شق الحائط الذي ينبني عادة بيني وبينه وتفتّق: هل لك أقارب في البصرة؟
كانوا جميعاً يعرفون أن لي أقارب في البصرة، وبسبب حنقي من حرصه عليهم نويت أن أتنكر لهم، ولكن أم مريم لقفت المعنى السام في كلام إبنها فأنّت على أقاربي عوضاً عني: له يا ولدي.. له.. له. ثم عضّتني بعد قليل: الله يصبرك يا إبني.. الله يصبرك. لم أردّ. ثم عادت ولطمتني: حتى القبور أشعلوها بالنار. ثم زحفت نحوي لتتأكد من ملامحي فأخفيت وجهي في ظل غصن كثيف من العريشة. مطّت رأسها ولمعت عيناها الموصوصتان في ضوء القمر تنبشان الظلام في وجهي، فضايقني جداً هذا الدفع في ظهري. ولما يئس مني أخوها قام وشحط جثته الضخمة خائباً إلى إحدى الغرف ولكن الأم لم تتحرك، تشاغلت بالنور الساقط على ركبتي وتراءى لي أنها تصغي إلى أغنية الجندب. انتبهتُ أخيراً إلى صوت المراسل كان يعدد بحرارة الصواريخ التي سقطت على البصرة حتى الآن ولكن مريم قاطعت إحصاءه بأن أطفأت المذياع. لم تعلّق أمها، بدت مستسلمة للجندب ولكنها اندارت إلي وقالت: متى ستتزوج مريم؟ أعجبني الوهن في صوتها ولكن تمنيت لو أن مريم تكفلت بالإجابة عن هذا السؤال، لأنني لا أعرف فعلاً متى سأتزوجها.
ثم أدركتُ أن أمها لا تنتظر إجابة من أحد لأن الصمت الذي تركتْه بعد السؤال كان هيّناً على قلوبنا نحن الثلاثة. ثم قالت لنفسها: أنت حتى لم تخطبها منّا، الناس يقولون إنك تضحك عليها من عشرين خمس وعشرين سنة. كانت نبرة كلامها خالية من الشكوى أو التحريض فتجاسرتُ وانتظرتُ أن تقوم فقامت وانسحبت إلى غرفتها. عندها شعرت بسؤالي الواقف في حلقي بوضوح وأردت أن أتخلص منه وأضعه بأمان بين يدي مريم، فقلت: فعلاً لماذا لا أتزوجك؟ لقد مضى زمان طويل على خطوبتنا بالكلام. ثم سكتُّ لكي أبلور العظمة الواقفة في حلقي ففتحت فمي وتوقعت من مريم أن تمد يدها وتسحبها من هناك بإبهامها وسبابتها، فتحت فمي إلى الآخر لأحكّمها منها وملت من ظل العريشة إلى القمر لتراها جيداً. رفعت وجهي إلى النجوم وانتظرت انتظرت انتظرت أصابع مريم، وبينما أنا كذلك أمسكت مريم كفي وحطت خدها اللحيم في راحتي فأغلقت فمي، ولكني لم أفقد الأمل في أن أضع سؤالي على كتفي مريم فقلت: فعلاً. ثم قلت: لأن ما أحمله يجب أن تحمليه عني يا مريم في بعض الأحيان. ثم قلت: لماذا لم تمدّي أصابعك في حلقي؟ ثم قلت: اللقلق وهو لقلق لا يمد رجله بل رأسه في حلق الذئب. ثم قلت: كما تعرفين أنا مشغول، وشغلي إلى فوق رأسي ولا تنقصني عظمة، إذا وضعتِ نفسك في محلي ستفتحين فمك في الليل والنهار لأن اللقلق لا يمر عندما تعصى العظمة في حلق الإنسان.
ثم قلت: عظمتي على كل حال أكبر من عظمة غيري لأني من البصرة، ولأن كل إنسان لا يمكن أن يكون من البصرة ولذلك هناك بشر كثيرون لا يحملون عظاماً في حلوقهم فيبكون عندما يريدون والدليل أني لا أبكي، أنت لا يمكن أن يطرق بابك أحد في نصف الليل خصيصاً لكي يشفق عليك ثم قبل أن يخرج يطلب منك تصريحاً قوياً وعندما تفتحين له فمك ويرى العظمة في حلقك يخوّنك رأساً ثم يشهّر بك أمام الجيران وفي المدرسة، لأن البصرة، ألم يرسلوا البصرة إلى الكويت؟ أنا لم أمسك بيد البصرة ولم أرسلها إلى مكان، وما بست يد أمريكا لكي تحرر الكويت، ولكني أنام في المساء أمين سر الثانوية في الرقة، ثم أفيق في الصباح ناطقاً رسمياً باسم البصرة، وعليّ أن أقوم بشيء أحفظ به ماء وجهي، لأن ماء وجهي سُفح على الأرض من دون علمي، والإنسان يا مريم يجب أن يلمّ ماء وجهه إلا إذا لم يكن من البصرة، وأنا كما ترين من البصرة، ليتني كنت من قرية إفريقية على حدود اليابان فلا يجدونها إذا بحثوا عنها في الخريطة، عندما لايجد الإنسان قريته على الخريطة يرتاح من لم ماء وجهه لأنه ليس من المعقول أن يقضي عمره وهو يلم ماء وجهه، والناس دائماً ُيقتلون وهم يلمّون ماء وجوههم، أنا لا أريد أن ألم ماء وجهي، أشعر أنني أستطيع العيش بسلام بدون ماء وجه، ماء وجهي لا يلزمني، يلزمهم هم، هم الذين يسفحونه لي في كل مرة، أنا على كل حال كرهت ماء وجهي، فكيف أكون من البصرة، قولي، بحيث إذا سفحوا ماء وجهي لا يطالبني أحد بلمّه؟ الأسهل على الإنسان أن لايكون من البصرة، حسن أنا لست من البصرة، لست من البصرة، فمن يصدقني؟ لا أحد لا أحد يصدقني، من أين إذاً أستطيع أن أكون ولكن بسلام؟ من أين؟ إذا أردت الحق، الحق الحق، فأنا من أم كلثوم، أنا من أم كلثوم، عندما أكون من أم كلثوم لا أدافع عن حدودها فأقتل لأنها بلا حدود، ولا أحد يورّطني بتوسيعها فأقتل لأن الكويت على الأقل لا تحدها، ولا يمكن أن تحدّها، ولذلك لن يقصفها أحد، والإنسان فيها لايحتاج إلى ماء وجه لأن أحداً لن يسفحه له على الأرض، ولكن قولي كيف أكون منكِ ومن أختي ومن أمانة السر ومن الشارع الذي يأخذني إلى الثانوية ويعيدني إلى منزلنا ومن السروتين في أرض حوشنا ومن غرفتي وأسرارها كيف؟ كيف؟ إن ذلك فوق طاقتي لأنكم جميعاً، جميعاً قابلون للقصف مثل البصرة، وفي أية لحظة سوف تضعون في حلقي العظمة نفسها، لماذا إذاً لا يبكي الإنسان على بلده المقصوف؟
ثم سكتُّ بينما كانت مريم نائمة وقد روّلت كثيراً في راحتي، أيقظتها وأخبرتها بأنني سوف أخطبها غداً رسمياً، ثم أخرجتُ فضيحتي الخشبية: الكرسي المشوه الصغير من عبّي. وملكت الجسارة لأن أقدمه إليها كرمز لعيوب كثيرة أخفيها عنها منذ فترة طويلة. قالت: ما هذا؟ قلت: كرسي. ثم وضعتُه في كفها وأطبقتُ عليه أصابعها. قالت: كرسي؟!! قلت: هذا كرسي يخبئه الإنسان ولا يجلس عليه فخبئيه في مكان أمين لأنه شيء معيب. حطّت كفها في جيبها ذاته الذي ملأته لها بخنفسائي السوداء منذ أقل من ثلاثين سنة. في البيت كانت أختي قد بيّضت وجهها جيداً أمام الجيران، فتعرفتُ عليها بصعوبة من كثرة الخموش والندوب، ولكنها طلبت مني قبل أن أنام أن أخطط دماغ ابنها الصغير غداً في خميسي أيضاً الذين يصادف في عيد الشهداء. نعم يحدث أحياناً أن يتعاقب خميسان من خميساتي دون أن يفصل بينهما أي يوم آخر من أيام الأسبوع. نمتُ واستيقظتُ، ولكني لم أنهض من فراشي قبل أن قرع علينا الباب طارق متعجّل بعد سنتين.
* * *
رفيق السكري يصل إلى الرقة
جلس سعد البصري في فراشه.
حتى ولو كان الميت أبي لن أخرج في جنازته. لأن نهار سعد البصري بغض النظر عن الطارق الملهوف مزدحم سلفاً بأحداث غير منجزة وضرورية أو مؤجلة منذ سنين وعليه إنجازها جميعاً قبل حفلة أم كلثوم. دخلت أخته: رفيق السكري. فطفت في الحال دار المعلمين في حلب من تحت اللحاف ثم لم يبق منها غير السرير الذي وقف عليه رفيق السكري ذات يوم واعتبر طوربيد جول جمال أهم من الإنذار السوفيتي في صد العدوان الثلاثي على مصر. ثم عزمني على قرفة عرق لكي أقتنع بالإصلاح الزراعي والجيش العقائدي ونذالة اليهود، ومرة اعتبرني رجعياً. دخل فوقف سعد البصري وكان رفيق السكري يستبسل في تكذيب انطباعاته الأولى عن الرقة بعد ثلاثين سنة من آخر زيارة لها، فعانق زميل دراسته وشعر بأمان بلدي فقده تماماً في طريقه من الكراج إلى هنا. وأراد من باب التجاوز النهائي لأسباب قلقه أن يتحف سعد البصري بجملة حضّرها مسبقاً في باص السفر ولكن باب الغرفة انفتح فنقز وأضاع الجملة بدخول المرأة ذاتها التي فتحت له باب الحوش إنما الآن بطفل يبكي ويخفق بين يديها. ابنك؟؟ ابن أختي. رقّصْه. قالت أخته. كما ترى لقد بدأ نهاري ولكن يجب أن أحلق ذقني. فذهبوا جميعاً إلى الحمام.
رغى سعد البصري الصابون على وجهه ولم تتوقف أخته في المرآة أيضاً عن ترقيص ابنها الذي لم يتوقف هو الآخر عن البكاء. وفي المرآة ذاتها ظهر رفيق السكري مطمئناً من وراء كأس لفراشي الأسنان. كنت أظن أن لرفيق عينين سوداوين. الطريق من دمشق إلى الرقة _ قال رفيق_ مثل راحة الكف والسيارات والشاحنات من كافة الأصناف والبضائع في الذهاب والإياب. رقّصْه طول الطريق حتى ما ينام. ولكن وجه رفيق أنضر من وجهي. إذا نام الولد معك يبهدلك الدكتور ولا يخطط لك دماغه. مع أنني أصغر من رفيق بسنتين. وما يطمئنك أكثر ياصديقي أن أسلاك التلفون لم تنقطع من دمشق إلى حمص إلى حماة إلى حلب إلى الرقة. الدكتور نفسه يلزمه تخطيط دماغ، صوته مثل الخيزرانة الرفيعة تقطع الأذن قطعاً. ابن أختك يقطع الأذن ويزيّغ النظر. لأول مرة أشعر بأنني عجوز والفضل لمجيء رفيق. إذا تعبت من ترقيصه خشخش له بخشخاشته. وما يشعرك طول الطريق بوحدة بلادنا هو أنها محزومة من كل الجهات بشبكة كابلات كهربائية ثخينة. شبابي لن يعود. كل كابل بغلظ خمس أصابع. أو اشتر له زمارة وزمر له في أذنيه. ثم تحسّب سعد البصري عندما شددت أخته من ترقيص ولدها إلى جواره من أن يجرح ذقنه فأخذ إلى اليمين حيث أخرج رفيق السكري من المرآة.
ولكن رفيق السكري إذ شعر بالاختناق المفاجئ استنجد بكرسي الحمام، وقف عليه وعاد إلى هواء المرآة حيث ظهر فيها هذه المرة من خلفهما وقد بدا راضياً بمكانه الجديد إلى درجة أنه أشعل غليونه وجعل يدحرج كتلاً متماسكة من دخان كثيف على الصبي الذي يغلي وينغر أمامه، ثم أدرك بمرارة أن حلاقة ذقن سعد البصري سوف تستغرق من الوقت أقل من حاجته هو إلى الظهور في مرآة الحمام. لقد أعجبه لو ينفق يومه ذاك كله في مستطيل يؤطر له ما سيلي فيه من أحداث ومشاعر، وقد ردّ رفيق السكري إعجابه هذا إلى أن شاشة أي مستطيل تعرض من الإنسان ما يود أن يعرضه من حاله إذا كان هو نفسه من يحدد درجة البعد وزاوية النظر، وبالعادة يعرض الإنسان على الآخرين أمضى ما يحقق له أغراضه بأقصر الطرق، فالكسيح لن يجد بسهولة مكاناً لعرض عكازتيه أو كرسيه المتحرك لأن مستطيله سيكون مملوءاً غالباً بنصفه العلوي فقط، وهكذا يتماثل مع أي إنسان يمشي على قدمين. إن أحداً الآن مثلاً لايستطيع أن يحزر كرسي الحمام الذي يقف عليه رفيق السكري بمجرد النظر إلى شاشة المرآة ولذلك سوف يتقبل ببساطة أن الشخص صاحب الغليون أطول من الشخص الذي يمسك بشفرة الحلاقة مع أنه أقصر منه في الواقع بعشرين سنتيمترا. ثم كسب رفيق السكري حجماً إضافياً عندما أنهى سعد البصري حلاقته وانسحب إلى عمق المرآة، ثم انسحبت أخته مع ابنها الخفّاق إلى جواره وجعلت تفزر بأظافر يد واحدة الزؤانات المتكاثرة على أنف أخيها. ترحرح رفيق السكري في المرآة وأزال بدخان تبغه المتواصل أثر سعد البصري وأخته من خلفيته.
بدا لنفسه محدداً بأفضل خصاله الجسدية: وجهه الوسيم، عنقه الطويل الذي تناسب من حيث لم يحتسب مع قامة يمكن تخيّلها على المقاس ما دامت قامته الأصلية محذوفة خارج الإطار. وإمعاناً منه في تحقيق أغراضه الدفينة استغنى رفيق السكري عن كفه في تثبيت الغليون واقتصر على أسنانه البيضاء النظيفة والكاملة من أجل هذه الغاية لأن أصابعه القصيرة والثخينة سوف تعيد إليه تلقائياً شعوره بالعناصر الأقل شأناً من جسده المستبعد. وعندما استتبت هيبته رجّح على الفور احتمال قبوله في الكلية الحربية لو تسنّى للجنة الفاحصة قبل ما يقرب من أربعين عاماً أن تثمن إمكاناته العسكرية في مرآة حمام سعد البصري. ثم أراد أن يقول شيئاً حماسياً فسقط غليونه من فمه ولم يلتقطه من الأرض إشفاقاً على نفسه من مغادرة المستطيل. ومع زوال الدخان ظهر تدريجياً سعدُ البصري في عمق المرآة وأخته التي مازالت تسبر أنفه بيد وباليد الاخرى تطيّر ابنها الباكي إلىالسقف. ثم عندما حصّل رفيق السكري عيني سعد البصري من بين أصابع أخته اعترف له: قبلوا ابن خالتي زهرة في الكلية الحربية ورفضوني. ثم شجّعته الضخامة التي عاد وكسبها من ضآلة سعد البصري على القول: اعتقدت لفترة طويلة أنني لم أخلق إلا لأن أكون ضابطاً كبيراً يقوم بثورة على الإقطاع والاستعمار، ولم أقتنع بغير ذلك إلا عندما اكتشفت طريقتي في كتابة الروايات التاريخية. صار أنفك أحمر ونظيف متل الفلّة. لأن الرواية التاريخية كما أفهمها تصفية حساب أيضاً مع الإقطاع والاستعمار. صديقك مثل كيس البطاطا بس إنو مكلّب بالمراية ليش ما عرفت.
أنت الآن لا تستطيع أن تسيّر دباباتك وطياراتك إلى تركيا لتنتقم منها على أربعمئة سنة من الاحتلال العثماني أولاً سيتنصل الأتراك من كونهم عثمانيين سابقين ثانياً إذا لم يتنصلوا فإن الجيش التركي لن يرحب بانتقامك منه، إذاً عليك أن تحافظ على وحدتك الوطنية بقوة الديمقراطية الشعبية ثم تذهب إلى منزلك وتكتب على مهلك رواية تاريخية بشروطك أنت. أنا لاأعرف لماذا أصر الطبيب على تعذيب ابن اختي. وياقة صديقك تدل على أنه أعزب. ولذلك فإن الرواية التاريخية هي الطريق الأمين في استعادة الكرامة الوطنية والعائلية والشخصية. مع أن حرمان طفل من النوم ثمن باهظ. وبالطريقة نفسها تنتقم من الفرنسيين فتجعل جنودهم السنغاليين على الأقل أشبه بالحيوانات. بس يا ولد، بس ياحبيبي. ألم يحلف لك أبوك بأنه رأى بأم عينه سنغالياً يخفي ذنبه الطويل في بنطلونه العسكري. بس يا روحي بس يا خالي. وكلماجعلت الضباط الفرنسيين جبناء وأنذالاً وأغبياء سهلت على قرويي بلادنا الظهور بمظهر الأبطال الأذكياء. وإذا كان عنده بيت ملك يزوجونه عندنا من صباح بكرة ولو أنو قزم ومبطبط. وكما ترى فإن الرواية التاريخية بهذه الطريقة تقترب كثيراً من الثورة على الإقطاع. أعتقد أن الطفل لا يشعر بأنه كائن مزعج خاصة إذا كان مريضاً بالصرع. والرواية بهذا المعنى انقلاب أبيض على الورق. لأن العجائز فقط يطنطنون بآلامهم أمامك ليذكروك بأنك عاجز عن تقديم المساعدة إليهم ومن طرفي لا أظن أن ابن اختي سينتقم مني على شاكلتهم في الطريق إلى الطبيب لأن خبرة السنتين من عمره لن تعينه في تركيب فكرة شريرة من هذا النوع رغم أن الانسان الطبيعي يجب أن لا يسيء الظن بالأطفال حتى عندما يأكلون أعصابه بقصد أو بدون قصد. أعرف بنت باكر وبنت أصل وتسوى رقبته بس الفقر عامي أهلها إذا أرادها يعطونها ويخلصون من خبز بطنها. وإذا تمعنت بالأمر فإن الفروق تصبح هامشية بين احتلال الإذاعة بكتيبة دبابات وبين تمجيد التاريخ في رواية.
الأطفال عموماً شعب عنيد بالفطرة لكن من سيؤيد معك فكرة أن يرفض الانسان أخذ ابن اخته إلى طبيب الأعصاب خاصة إذاكان أبوه نائماً. خذ كل بلاغات الرقم واحد تجد فيها سيوفنا مسلولة وسيوف أعدائنا محطمة. بس لو كان عندي بنت ما عطيتو ياها لو وزن لي إياها ذهب. احياناً أحترم من كل قلبي بيت الشعر المنقوش على قبر المعري. سيوفنا يجب أن تكون مسلولة في الأدب أيضاً لأن الواقع كان دائماً أقل من الطموح. ولكن احترامي لرأي المعري بالأطفال يجب أن يختلف عن عجزي في تسكيت ابن أختي وإلا فسوف أوقظ أباه ليأخذه بدلاً مني وبما أنه لن يستيقظ مهما فعلت فمن الأفضل أن أتجاهل احترامي للمعري. المهم يا صديقي أن لا ننهزم على الورق، الورق خط دفاعنا الأخير وكلمتنا الأخيرة وشرفنا الأخير، حسنّ إننا مثخون بالهزائم على الأرض ولكن النصر يجب أن يكون حليفنا على الورق دائماً، لأن أي نصر أرضي لا يبدأ إلا بالورق. ثم انخض رفيق السكري عندما تناول سعد البصري ابن أخته وضمه إليه بقوة ثم جعل يرجّه بين يديه حتى لايسقط في النوم.
ولم يكن ثمة تفسير آخر لهذه الحركة لدى رفيق السكري إلا بكونها إيذاناً مباشراً وفجاً بمغادرته المرآة مهما نجح في التستر على حقيقة أن البشر عموماً لا يؤبّدون في حماماتهم. وكان يستطيع أن يتوسل رغم ذلك إلى سعد البصري البقاء بضع دقائق أخرى ولكن صراخ الولد المقلوب سوف يظهره لو فعل بدورعثرة في طريق الأطفال المرضى في العالم إلى شفائهم الأكيد. ثم بدا كوضوح الشمس أن سعد البصري يهمّ فعلاً بالخروج فانبهظ رفيق السكري وأيقن أن زميل دراسته لن يسعفه ببذلة ابن خالته زهرة بكل دناديشها لتطالعه بسلام من المرآة. وكان في هذه العجالة يكفيه جورب نسائي طويل يحشر رأسه فيه فلا يتعرف عليه أحد في طريقه مع سعد البصري إلى عيادة الطبيب. وإذ تحرك زميل دراسته وسبقه إلى الشارع ألفى رفيق السكري نفسه مكرهاً على مغادرة المرآة. كان باب الحوش موارباً خصيصاً له حتى ولو لم يكن مسلحاً بسكين مطبخ. تلفت حوله ليلتقط سنديانة ما على الأقل، جنزيراً قصيراً ما، صوّانة ما، شظية زجاج ما. رأى وراءه ابتسامة أخت سعد البصري مثل نصل مشحوذ يلتمع في الشمس، ثم فسّر عينيها رغم ابتسامتها اللماعة على أنهما دعوتان مفتوحتان إلى الخروج الفوري، فخرج أعزل إلا من كونه روائياً تاريخياً. مع ذلك لم يتكوم أمام الباب المشقوق من ورائه على عينيها المفسّرتين.
إن القتلى وحدهم يتراكمون لا على التعيين في أمكنتهم. وكان لا يدّعي التشبه بهم ولا يريد. ثم عرف من حلاوة الروح حتى قبل أن يزمّر له السائق أنه معني بالصعود إلى السيارة الصفراء الواقفة أمامه فاستجار بالمقعد الخلفي. كان سعد البصري يرقّص ابن أخته في المقعد الأمامي ويغطي بكاءه الطفلي الواخز بهتافه الرجولي الموقّع: حْدَيْ مْدَيْ، رحت وجيت، على رجلَيْ، لاقيت صبَيْ، عمْ يمتحْ مَيْ، قلت لّهْ اسقيني، شوي شوي، هالزعرورة وهالبعرورة، شيل رجلَكْ، هالمليحة وهالمكسورة. وسرعان ما اكتشف رفيق السكري تحت وطء الحاجة شباكَ باب السيارة الذي يجلس بلزقه فانتفت لديه بسرعة البرق ضرورة أن يكون مسلحاً. لقد وجد نفسه محدداً من جديد إنما بأضلاع الشباك الأربعة وقد أجريت عليه الحذوفات اللازمة لظهوره بأفضل خصاله إلى العالمين. ثم شرع يلعلع مع سعد البصري: حْدَيْ مْدَيْ، رحت وجيت، على رجلَيْ، لاقيت صبَيْ، عمْ يمتحْ مَيْ، قلت لّهْ اسقيني، شوي شوي، هالزعرورة وهالبعرورة، شيل رجلَكْ، هالمليحة وهالمكسورة. وعندما لاحظا معاً كيف عصف صراخهما المتحد ببكاء الصبي إذ خرس لأول مرة منذ الصباح عززا نصرهما الساحق عليه فجعلا يبعقان في وجهه بوتيرة أعلى: حْدَيْ مْدَيْ، رحت وجيت، على رجلَيْ، لاقيت صبَيْ، عمْ يمتحْ مَيْ، قلت لّه اسقيني، شوي شوي هالزعرورة، وهالبعرورة، شيل رجلَكْ هالمليجة وهالمكسورة. ثم توصلا، كلّ من طريق، إلى أن صراخهما الموحد أكبر دليل على أنهما من عجينة واحدة وأن شيئاً ليس في مقدوره أن يدق إسفيناً في اللوح الخشبي الثخين الذي يشكلانه معاً في السيارة، وأن السعادة في حقيقة الأمر تنحصر في أن ينبع أحدهما من الآخر ويصب فيه، وأن السائق غير موجود عملياً ولا يتنفسان أبداً رائحة تبغه القتّال، وأن العالم إذا كانت له ذروة ما فلكي يتعانقا عليها تحت الشمس مباشرة. ولكي يتأكد رفيق السكري من صحة هذا الكلام مدّ يده اليمنى وعصر بها كتف سعد البصري الذي استجاب لها بعينين التمع فيهما على الفور دمع لذيذ بينما كانا يمعنان أكثر فأكثر في جعير موقّع متعاظم: حْدَيْ مْدَيْ، رحت وجيت، على رجلَيْ، لاقيت صبَيْ، عمْ يمتحْ مَيْ، قلت لّهْ اسقيني، شوي شوي، هالزعرورة .. ولكن السائق أذهلهما بوجوده إذ فرمل السيارة فجأة فساد سكوت مريب ريثما انفجر الصبي من جديد ببكاء مرعوب.
قفّ رفيق السكري في الحال إلى صورته المنقّحة في الشباك المجاور. ولكن سعد البصري قطع عليه شعوره بهيبته المستتبة حين اندلق إلى خارج السيارة مع ابن اخته وغاب بعد خطوات في عبارة فرعية إلى يمين الرصيف. وكان على رفيق السكري أن يخرج من برورتريته الأثير بلا إبطاء. ولكن كيف يقوى على المرور بين كل هؤلاء الأغراب في الشارع أعزل حتى من قلم رصاص مدبب؟ وكاد سعد البصري يفلت من يده فحمّسه على النزول أنه سارع إلى اعتبار زميل دراسته شخصاً فاشلاً. عند ذلك فقط فتح باب السيارة وانطلق يقفز برشاقة ورعب فوق الألغام المزروعة في طريقه بالذات نحو العبارة. لمح في اللحظة الأخيرة زول سعد البصري وقد انضم في أحد المداخل، أدركه يلتقط أنفاسه عند أول درج الطابق الثاني وقد منعه عياؤه من ترقيص ابن أخته فجعل الولد ينود على صدره من شدة النعاس. لم يكن رفيق السكري أقل لهاثاً فقد استند بجانبه إلى درابزين الدرج، ولكنه بلّغه من بين أنفاسه المتقطعة: أنت عموماً شخص فاشل يا سعد البصري. وروّع سعدَ البصري أن ابن أخته أغمض عينيه تماماً فحاول بحثالة قواه انتشاله من هوة النوم، دون جدوى، فقد صار الولد يتدلدل مثل خرقة رطبة بين يديه. لم ييأس، حرّض عليه رفيق السكري بنظرة ضارعة. ولم يكن هذا أقل خوراً منه ولكنه لبّاه بمسك الصبي من إبطيه وصار يخضّه بعنف لاهثاً وهائجاً بكلام مبلوع. قابله سعد البصري بنفض ساقيه الصغيرتين المرتخيتين نفضاً كليلاً وبإيقاع بطيء. ثم صاح رفيق السكري: أنت عملياً لم تفعل شيئاً بعد تخرجنا من دار المعلمين، عشرات من السنين مرت عليك وأنت تراوح في مكانك.
صعد سعد البصري برجلي إبن أخته درجتين إلى الوراء ثم توقف عندما انشد الولد مثل وتر بينه وبين رفيق السكري الذي ظل مسمراً في أول الدرج وهو يصيح: أنا على الأقل أخذت البكالوريا، صحيح أنني لم أقبل في الكلية الحربية ولكنني نلت إجازة في التاريخ. كان سعد البصري واثقاً من أن الولد الممطوط لن يفلت بأي حال من يد رفيق السكري مادام ينفضه حتى الآن بكل هذا الحماس، فصعد برجليه المستسلمتين مطمئناً درجة أخرى إلى الوراء. ثم ألفى نفسه ينحني عليه لكي لا ينقطع نظراً لأن رفيق السكري لم يتلحلح من مكانه رغم كل شيء بل تابع صياحه وقد لمح كيف يزرب عرقه فوق وجه الصبي: رأيك بي بالمناسبة لا يفاجئني انا نفسي أعرف أني كاتب من الدرجة الثانية، ولكن أعرف أيضاً أن أمي لم تملصني من مؤخرتها لكي أقبل بهذه المكانة. ولكي لا ينكبّ عليه سعد البصري المنحني بتوازن مختل جاراه بخطوات بطيئة على الدرج، ما لبث أن غذاها عندما شعر أن سعد البصري إنما يسحبه هو إلى الأعلى بالولد المشدود فكف عن خضّه ولكنه ظل يهذرم: زوبعة ما، فضيحة مبتذلة ما، انفراج بسيط في زاوية النظر ينتهي بك بعد سنة إلى طريقة أخرى في التفكير، مع قليل من سلاطة اللسان وبعض نساء قبيحات لتعميق خبرتك بالمرأة، حسن هل أكمل القائمة ليبرد قلبك؟ نعم هناك دائماً اسباب غير أدبية كثيرة يمكنك الاعتماد عليها لتلميع صورتك الأدبية، أعرف كل ذلك فماذا بعد؟
وفي لحظة انفعال محموم شهق رفيق السكري وصمت ثم استعد ليزفر الهواء الكثير المحبوس بحسرة طويلة جارحة. ولكنه فضل فجأة أن يجلجل من قحف رأسه بأسماء الكتب التي ألفها حتى الآن. وإذ فتح فمه ليطلق الكتاب الأول لمح لوحة طبيب الأعصاب تقترب من ظهر سعد البصري فانفشّ صدره سدى. عكم سعد البصري ابن أخته النائم بين ذراعيه وشق الباب ودخل فتبعه رفيق السكري. كان يسيراً عليهما أن يحددا في الحال أن ما يعجّ في المكان لم يكن دخان حريق إنما هو دخان كباب يُشوى الآن في العيادة. تقدم سعد البصري ليحسن من رؤيته. دون جدوى. دخان متلاحم من كل جانب. وعندما تابع تقدمه انطرقت قصبة ساقه ربما بطربيزة حديد، فصاح من شدة ألمه: يا دكتور. لاترفع صوتك. التفت سعد البصري إلى مصدر الصوت الرفيع الحاد الآمر فاشتف بصعوبة قامة غائمة لرجل بصدرية بيضاء، اقترب منه فطالعته أسنان طويلة وصلعة مطاولة وشريطان قصيران من شعر مفضض فوق أذنيه. وعندما وقف قبالته تماماً أدرك سعد البصري أن الدكتور لا يبتسم كل هذه الفترة إنما طريقته في التمحيص الدائم بالأشياء هي التي تلم وجهه حول عينيه المزررتين فينشمر اللحم عن أسنانه طول الوقت: متى نام الولد؟. الآن على الدرج. ثم أحس بأصابع الدكتور تلامس كوعه وتقوده إلى حيث بدا له أنه يقف الآن أمام حائط. إلى يمينه تقع طاولة خشب بلون بني عليها جهاز غامض وكومة أسلاك رفيعة ومتداخلة. وإلى يساره كرسي خيزران مسنود إلى الحائط نفسه. إجلس. مع ذلك فقد خشي أن يكون الكلام موجهاً إلى غيره ولكنه جلس على الكرسي الوحيد الذي يراه، ثم عرف أنه لم يخطئ عندما سمع: لا تتحرك.
ومن مكان ما من الدخان تجلت امرأة سمينة بصدرية بيضاء أيضاً. فتحت ماسورة في يدها وشرعت تعصر منها نقاطاً بيضاً لا تحصى وبترتيب بدا هادفاً على رأس الصبي الغارق بين ذراعيه. ثم تبين له أن كبة الأسلاك الرفيعة المكومة على الطاولة والمتصلة الآن بالجهاز الغامض يحكمها نظام خفي سهّل على الممرضة أن تسل السلك المطلوب بلا أي متاعب وتلصق طرفه بالنقطة البيضاء التي تخصه بين شعر الصبي بحيث زرعت رأسه بوقت قصير بغابة ملونة من الأسلاك. ثم أزّ الجهاز تحت المراقبة الشديدة التي تبديها أسنان الدكتور المنحني على الطاولة فاكتفى سعد البصري باقل فأقل من أنفاسه. كان رفيق السكري لابداً عند باب العيادة يموه نفسه برائحة الشواء ورغم شعوره بأنه في المكان الذي ييسر له أقصر طرق الفرار عند الحاجة إلا أنه قرر أن سعد البصري بانفصاله عنه في هذا الوضع الحرج قد سلمه عملياً إلى قدر أهوج. فآثر أن يلحق به واتخذ خطوة واحدة إلى الامام. وإذ توغل خطوة أخرى في الدخان المدلهم الزفر التزم مكانه حيث اكتوى بشوق مباغت إلى دمشق فأزّجهاز التخطيط. ثم لم يسمح له رعبه بأن يشكك بصدقية شوقه إلى العاصمة فغاص أكثر فأكثر في الدخان كما يتسلق بإصرار إلى رأس عمود يهوي به نحو الأرض. ولكن نوراً بدأ يضيء الدخان المركّز فلا يكشف أستاره عن اكسسوارات العيادة إنما يغرقها بلون أبيض كتيم ودسم. وعندما لمح أثر سماء على شكل مشحة زرقاء ما لبث أن طمسها الدخان المبهر مد يده إلى الأمام المغيّب وأمسك بحافة نافذة. لم يصرخ بل تحرق إلى مشحة زرقاء جديدة تثبت له مرة أخرى أن ما يمسك الآن لا يمكن أن يكون حافة لشواية ملتهبة، فتراءت له السماء من جديد وانطمست، ما حمسه على الإمساك بالنافذة بيده الأخرى.
وهنا شعر لأول مرة بوهج الدخان إذ مال بجذعه إلى الخارج وحدد أن شبراً أو شبرين يفصلان رأسه عن مدخنة عملاقة تجأر الدخان في العيادة. وفي نوبة حنين نظيف ودّ لو كانت قريته البعيدة مشبوكة بالخطوط الحديدية ليعتبر هذه المدخنة لذاك القطار الذي لن يتوقف إلا فيها، فيفتح باب العيادة وينزل مباشرة بين ليمونات وزيتونات أهله. ثم أنقذه حرص آني على الحقيقة من تلك الأمنية العزيزة لأنه أدرك بحواسه الست أن أي حجب للحقيقة سوف يكلفه هذه المرة ثمناً أفظع من مواجهتها عارية، فاعترف أولاً لنفسه وبشجاعة الانتحاريين بأنه مذنب. ثم اعتزم الهتاف باعتذاره الخالص وتوبته النصوحة، ولكنه تلكأ لأنه لم يفلح بالسرعة المطلوبة في تعيين الجهة التي أذنب بحقها حتى الآن دون أن يدري. تروأ بالدخان السميك الأصم حتى شفّ، لبرهة خاطفة، عن بشر يمشون في الشارع. اقشعر بدنه من الهلع. ولكنه ظل ممسكاً بالحقيقة،لم يمغمغ هلعه تشبث به من نصله الحاد، ولم يعتذر لهم لأن هؤلاء البشر الأغراب يجب أن يفرقوا بينه وبين إبن خالته زهرة. إنه عملياً لم يرتكب في حياته غير سلسلة من الروايات التاريخية يستطيع أن يعترف بها أمامهم الآن، ولكنه لن يتنكر لها مهما تخلّع كيانه من الرعب. وإذا كانوا سيعلقونه من كرعوبه بعد قليل فليعلقوه شرط أن يكون ذلك جزاءاً على جناية تأليفها هي دون غيرها، فهو لن يقبل، مهما أرهبوه، بتعليقه قصاصاً على روايات غيره. إنه يفضل إذا كان الموت واقعياً وقريباً إلى هذه الدرجة أن يموت في سبيل الفن الروائي وكرامة سورية.
وفي حمى الحقيقة التي أدمت روحه تذكر رفيق السكري أن لإبن خالته زهرة، رغم كل شيء، أولاداً يحبونه وزوجة تنتظره وأماً لا تصلي إلا لكي تحصّنه بأدعيتها. ثم زاده شعوراً بهول الحيف على ابن خالته أنه تذكر أيضاً رجالاً ملتحين يذبحونه عادة في الحلم لمجرد أنه كاتب فتعمّق لديه على الفور انبهاره القديم بسياسية سورية الخارجية ورأى كما لو فاته أن يرى أن الجهر بها الآن ومن هذه النافذة هو الوسيلة الأمضى في تربيط هؤلاء الأغراب الذين يمشون بحيث لايجدون ما يقولونه. وعندما أوشك على الجهر بها ازداد اضطراباً فوقف على رؤوس أصابعه، مطّ جذعه إلى الخارج بأقصى ما سمحت به رجلاه القصيرتان، بحلق بأغراب قليلين أفلتوا من الدخان الخانق الذي يلفه، شحذ نفساً طويلاً ورعد فوقهم ببكاء باغت متظلم ومحتجّ، ثم انكفأ إلى الداخل بنحيبه غاطساً في الدخان بخطوات مقتحمة وبلا هدف. وإذ ارتطم بما يشبه خزانة هوت معه إلى الأرض تكسر زجاج وتدحرجت أشياء معدنية بينما وجد نفسه مبطوحاً أمام شحاطة سوداء أراد من كل جوارحه أن تكون لسعد البصري فصاح مسعّراً بكاءه: جدي قتله الإقطاعي.
قال الطبيب: صرع حقيقي. فأعول رفيق السكري: وجدتي ظلت خادمته حتى مات. قال الطبيب: فينو بربيتال عيار 15 مرتين في اليوم. ثم تحركت الشحاطة السوداء فنهض على أثرها رفيق السكري، وإذ ضب على صاحبها من ظهره عرف أنه سعد البصري من بيجامته المخططة، فشدد على قبضته وتبعه كما يضمّ نفسه في قلب دولاب منفوخ وكما يهتدي بخيزرانة عليمة حتى خرجا من باب العيادة. تريثا أمام الدرج النازل حيث شعر رفيق السكري بالرضا عن بكائه الذي توقف قبل لحظات. جعل يهنأ بحسراته العميقة وفهقاته المتتالية. ولكن الضوضاء النامية من العبارة بدأت تفقده هذه السعادة كلما تابعا النزول على الدرج فقال متوسلاً وهو يمسك سعد البصري من ذراعه: أنت لا تستطيع أن تنكر دور سورية في إحباط كل المؤامرات على القضايا العربية، هل تستطيع؟ أجاب بنفسه: لاتستطيع. ثم أردف وقد شرعت ذقنه تختلج: إنقاذ لبنان من التقسيم الطائفي، والقتل على الهوية، ومنع تحويله إلى ورقة تهديد لأمن سورية، لأن صمود سورية كان ومايزال مُستهدفاً، سورية الحلقة الرئيسية والمطلوب تركيعها، ولولا صلابة الموقف السوري لكانت القضية الفلسطينية نفسها ملفلفة منذ التسويات الأولى مع الصهاينة. ثم سيطر رفيق السكري على نوبة بكاء جديدة وتابع بصوت مخنوق: وسورية لعلمك لا تلعب في الظلام ولذلك لن تحيد شعرة واحدة عن القرارين 242 و 338. ثم أمسك عن الكلام الحميم عند باب البناية فقد كان ثمة بشر مازالوا يمشون فحرص قبل المرور بالعبّارة على التخلص من شعور الفرائس لحظة المطاردة، وإذ فشل لم يكرر محاولته إنما صار يظلع إلى جوار سعد البصري ثم زال عرجه عندما رأى من بعيد السيارة الصفراء تنتظرهما على حد الرصيف فطار إليها.
في الطريق إلى المنزل لاحظا حلول الليل فأفاد رفيق السكري من الإضاءة الضعيفة في الشوارع بحيث تكفلت سرعة السيارة بمحو ما تبقّى من الآثار الملموسة للبشر. وقد كان مطمئناً تماماً إلى أن السائق لا يملك حتى الآن أكثر من يدين اثنتين، ثم إن سعد البصري عند أي حركة مريبة سوف يتصرف كما يجدر بمضيف وزميل دراسة سابق على الرغم من يديه المكبلتين بالصبي. ثم عمل عياؤهما الشديد بسهولة أكبر على تقصير المسافة فاضطر السائق إلى إيقاظهما أمام باب المنزل. شهقا مثل مُنتشلين من تحت الماء، تعرفا بصعوبة أحدهما على الآخر، نزلا، تلقفت الأم ولدها. فينوبربيتال عيار 15 مرتين في اليوم. دخلا الغرفة فهبوا واقفين رجال مهندمون تجاوزوا سعد البصري ليتمكنوامن معانقة رفيق السكري. احتمى رفيق السكري بظهر سعد البصري فتعذر عليهم ذلك. أستاذ رفيق. استاذ رفيق. أستاذ رفيق. أهلاً. أهلاً. أهلاً بكم. وأنا كيف سأحلق ذقني وكيف سألبس بذلة أم كلثوم؟. أستاذ رفيق. يا أستاذ رفيق. مع الأستاذ سعد، والله، في مشوار قصير. بقي ثلاثون دقيقة على الحفلة. ثم استنتج سعد البصري أن الجميع مستعدون للذهاب معه إلى الحمام فأرجأ حلاقته إلى حين.
جلسوا فبقي له أن يجلس على طرف السرير. يا أستاذ رفيق. طبعاً. يوبيلي الفضي بعد حوالي أربعين يوماً. ثلاث تنكات جبن وتنكة سمن. لأ في اسطنبول. الغنم السرحي أطيب. يا أستاذ رفيق. لأ لأ مجموعة قصصية. السوق بارد والشعراء أكثر من الهم. يا أستاذ. حبيبي الثلاثون ألفاً ستشيل الورق وكلفة غلاف بلونين فقط. وموضوع المحاضرة؟ والبلاكات لن أدفعها من جيبي. في الربيع لأ في الربيع. لأ عندي سكرتيرة. وموضوع المحاضرة؟. أنا لا أغامر بعنوان سخيف واحد، سمعة الدار فوق كل اعتبار. عظيم بس تحتاج إلى حبة بركة. عشرة الآن وخمسة عشر بعد الحصاد. بقي خمس وعشرون دقيقة على الحفلة. وروايتك الأخيرة سوف أكتب عنها. ليس عن روح والدتك. وموضوع المحاضرة؟. فقط لأن مجموعتك مميزة. نعم مئتان وخمسون صفحة والخط 14 والغراماج سبعون.بقي عشرون دقيقة على الحفلة. بقي تسع عشرة دقيقة على الحفلة. بقي ثماني عشرة دقيقة على الحفلة. بقي سبع عشرة دقيقة على الحفلة. بقي ست عشرة دقيقة على الحفلة. بقي خمس عشرة دقيقة على الحفلة. دُقّ الباب. أعضاء خميسي. دخلوا نظيفين فوّاحين مضطربين. وموضوع المحاضرة؟ كانت أماكنهم مُحتلة من الأدباء الشباب فوقفوا في وسط الغرفة واطمأنوا برؤوس أصابعهم على أصداغهم وبها مسّدوا كسرات بنطلوناتهم من الوراء. أخي سيتزوج وسيفتح مكتب محاماة هذا العام بالإضافة إلى مصاريف اليوبيل. بشرط أن تكتب كلمتين على ظهر المجموعة. لوحة مفروزة على الغلاف أفضل. على الفرات تصيد من هنا وتأكل من هنا. بقي عشر دقائق على الحفلة. وموضوع المحاضرة؟. كذّاب جيبوه لأقلع عينه أمامكم. طيب أنا أشتري فوق المبلغ المتفق عليه مئتي نسخة. ثلاثمئة نسخة من الدار من كل كتاب اعتبروها مقابل المبالغ المدفوعة.
وعندما بقي تسع دقائق على الحفلة انفجّ باب الغرفة فجأة بركلة قوية فانصعق الجميع وظهر بين مصراعيه صهر سعد البصري، موجه أكبر ثانوية في البلدة، عاري الصدر، بين يديه طنجرة معرّمة بمحشي ورق العنب، استطلع بعينين متقدتين الوجوه المذهولة في الغرفة ثم قال بصوت مخمور جرش: قلت أمسّي عليكم. ولم يستطع سعد البصري قياساً إلى فظاعات سابقة أن يتخيل الصور المقززة التي سوف يجود بها الآن صهره السكران، فمنذ دخل البيت زوجاً لأخته لم يتطاول قط على خميسه فطوشه الآن ظهوره المفاجئ، ولم يعرف كيف يتفادى نظراته الملتهبة التي تكالبت عليه أخيراً فقام، تلبّث في مكانه ريثما حسم أمره وانضمّ إلى أعضاء خميسه المنكمشين بعضهم إلى بعض في وسط الغرفة على شكل حزمة عصيّة على الكسر. وعندما خطا الصهر في العتبة تلبّك رفيق السكري بكيف يمنعه من التقدم فشخص إليه بعينيه وفقد إحساسه بوجود الأدباء الشباب من حوله، وكان في أمس الحاجة إليهم لأنه عرف بالبداهة أنه ليس سعد البصري لكي يندغم بسهولة في حزمة العصي الواقفة في وسط الغرفة، ولأنه من جهة أخرى لا يريد أن يكون الضحية الوحيدة لهذا الرجل البهيمة. وكان المقعد ضيقاً عليه فانتبه متأخراً إلى أنه ممسوك به فلم يستسلم برفع يديه إنما صاح مشدداً على مخارج الحروف: وإذا باع الكاتب حصته من النسخ بسعر الغلاف … ثم قطم كلامه كما لو أنه أسعف نفسه مبدئياً بجرعة هواء. وموضوع المحاضرة؟
بصوت وحيد وحريص سمع هذا السؤال لأول مرة ما بعث في نفسه الأمل بوجود غيره من الضحايا فتمادى رفيق السكري دون أن يفلت الصهر من جحوظ عينيه، مهدداً هذه المرة: محاضرتي غداً سوف.. ولكن حركة الصهر إلى الأمام لجمته فشعر بالامتنان إليه لأنه أجّل الحساب معه ريثما يصفّيه مع سعد البصري. وقف بمواجهته ودحم صدر بيجامته المخططة بطنجرة المحشي. انتظر الجميع بتلهف معيب أن يقبّعه بها، ولكنه جرش أمام أنفه مباشرة صوتاً محتقناً أجشّ ومتقطعاً: إذا كنت ابن أمك يا سعد البصري أثبت لي أمام الشباب أنك رقّاوي. ثم التفت إلى رفيق السكري وكبسه بسؤاله: فيها شي؟؟ فرد عليه بعفوية مملوك: لأ.. ما فيهاشي. محوّلاً بصره إلى زميل دراسته يستحثه بعينين مفجوعتين على الاستجابة لطلب بدا له مشروعاً وفي وقته. ثم رمح في مكانه عندما توعّد الصهر سعدَ البصري بطبقة مترنحة أعلى: وإذا اااا لم تثبت نطعمك الآن كل ل ل ل طنجرة المحشي. ثم عاد وكبس رفيق السكري: فيها شي؟؟. فبصم له من جديد بتبريم رأسه: أبداً. افتح فمك. بقي خمس دقائق على الحفلة. سند الصهر الطنجرة إلى كرشه بيده اليسرى والتقط بأصابع اليمنى ورقة عنب محشية موشحة بدهن أخضر جامد وحشرها بين شفتي سعد البصري المطبقتين. أثبتْ. فتح سعد البصري فمه فانسدّ على الفور بثلاثة أصابع محشي عنب متتالية. أثبتْ. وإذ جاهد في أن يجاري حماس صهره في ملئه بالرز واللحم المفروم والورق شعر في الوقت نفسه بقوة أن يلتحم الإنسان بأعضاء خميسه وبأهمية أن يأكل عندما يكون جائعاً. بقي على الحفلة أربع دقائق. وكما لو أن همة البلع لديه قد أثارت صهره إذ فهم منه أنه يفضل طنجرة المحشي على أن يثبت انتماءه إلى الرقة عند الطلب. لقد حرمه بذلك من نصف اللذة التي انتظرها من سحب المدينة من تحت رجليه أمام الملأ، ما سعّر الكحول في عروقه فانفجر متهماً: أنت عراقي، عراقي وابن عراقي. وقد كمش قبضة كبيرة من أصابع المحشي وفعّسها دفعة واحدة في فم سعد البصري، ثم ألحقها بقبضة أخرى معسها فوق الأولى.
وكان خانقاً لرفيق السكري أن يبتلع هذا المشهد فالتمس في داخله قوة بحجم حمّصة سوداء استعان بها في شد نفسه من مقعده الضيق ليحتج على إهانة زميل دراسته سعد البصري، فعاجله الصهر بجعجعته: والعراقيون أين يعيشون؟ هتف رفيق السكري في وجهه: في العراق. ثم شهر سبّابته ودنا من سعد البصري كأنما يسقّطه في مظاهرة تلفزيونية مفبركة: في العراق، في العراق في العراق. أحجم الصهر فجأة عن تعفيس أصابع المحشي في فم سعد البصري وجعل يختلج من شدة غيرته على الرقة من الغرباء، ثم قفز بالطنجرة إلى ظهر السرير فلم يبق على الحفلة غير دقيقة واحدة. في العراق في العراق في العراق. تلجلج أعضاء الخميس في حزمتهم مضطربين صامتين كأنما ليتأكدوا قدر الإمكان من دوزان آذانهم قبل ثوان مضنية من غناء الست. لم يجرؤوا على السعال أو النحنحة، فكادوا يبتسمون ولم يبتسموا، لكنهم احمروا واحتاطوا بغبّات طويلة من الهواء. انفصل عنهم سعد البصري فانفصلت معه قلوبهم. أدار مفتاح التشغيل. اشتعل النور في القنطرة المرقمة. صفق على الفور الشعب المصري في الصالة. عاد سعد البصري إلى حزمته. قامت أم كلثوم. صمت الشعب المصري. في العراق في العراق في العراق. الحجاز في شكوى الكمنجات ولوعة الناي ورصانة العود الولهان وخفّة الرق وانضباطه.
نتر الصهر سجادة الوعل الذي يشرب وشلحها على المخدة تحت قدميه فظهرت خزانة أسرار سعد البصري، لهوج معالجتها بيمناه الملطخة بالدهن الأخضر، ثم فشّها بلكمة قوية. كفّ رفيق السكري عن تسقيط سعد البصري في العراق. قالت الستّ في الحال: أنا في انتظارك خليت ناري بضلوعي. ثم جذب الصهر إليه درفتي الخزانة فنبعت فضائح سعد البصري الخشبية. فضائح فضائح فضائح بين حجم الجوزة وحجم القبضة تدفقت على رأس موجه أكبر ثانوية في البلدة، فضائح على كتفيه، فضائح فوق محشي ورق العنب، فضائح على الشرشف المجعّد، وفوق المخدة وعلى الوعل الذي يشرب في السجادة. وعندما قالت الستّ «عدّيت بالسانية غيابك» كان يتقبّض مثل مصروع ويكزّ أسنانه على خوار عجل وبيده الطليقة يبحش الفضائح الخشبية من الخزانة ويبدرها في فضاء الغرفة. فضائح على الأدباء الشباب، فضائح على رفيق السكري، فضائح على خزانة الثياب، فضائح على منصة أم كلثوم: ياريت ياريت ياريت ياريت ياااا ريت. فضائح بين الأحذية وأرجل المقاعد، فضائح على الطربيزتين، فضائح في إبريق الماء فضائح على قهوة متشققة في ركوة وفنجان وحيد وعلى مسكة النافذة انشكلت فضيحة، وفضائح فضائح على حزمة أعضاء الخميس الذين يتقلبون مع الستّ على جمر النار تحت الفضائح، ويشردون ويّا الأفكار تحت الفضائح، وتحت الفضائح ينتظرون مع الست أحداً ما، متضامّين شغفاً به ومترنحين ألماً على غيابه مع أنهم لم يلتقوه قط ولا يعرفون لماذا هم بانتظاره بهذا التدله وفي بيت سعد البصري وفي مثل هذا الوقت، وماذا سيقولون له إذا خيّب لهم انتظارهم وجاء الآن وفتح باب الغرفة ودخل، وما الذي سيفعله معهم تحت الفضائح الخشبية التي ظلت تنهمر عليهم جميعاً حتى احتجّ الشعب المصري في الصالة على نهاية الأغنية عندما رمى الصهر بآخر فضيحتين خشبيتين من خزانة أسرار سعد البصري.
وهذه الزعبرات. زعق. ما هذه الزعبرات؟ تعال فهّمني ما هذه الزعبرات؟ وكاد أعضاء الخميس ينفضّون كلّ إلى سبيله لولا صعوبة الانطباع الذي شكّله الصهر عن الفضائح الخشبية المتراكمة من حولهم. لم يعتبروها كما أراد صنفاً من الزعبرة، فتمكّثوا في أماكنهم ليتكون لديهم انطباع أسهل عنها. ولكن سعد البصري لم يُسعفهم بالهواء المطلوب لتوضيح الصورة. بقي صامتاً يتفرج على أحشاء خزانته المنكوتة تحت ضوء المصباح وعلى مرأى من الجميع كما لو أن فضائحه تعود إلى شخص قضى نحبه منذ سنين. ثم فطن، كما يفتح باباً على فلاة خضراء، إلى أن شيئاً لم يعد يحكه منذ زمن طويل حتى أنه لايذكر متى شوّه آخر مكعب خشبي ومتى نازعته نفسه الناقصة إلى القيام بعمل مكتمل مفيد. وهو إلى ذلك في أتم الاستعداد لأن ينام الآن طويلاً وعميقاً إلى درجة الصفح الخالص المسبق عن كل الفظاظات التي سيرتكبها صهره بحق خميساته المقبلة. وربما بدافع النوم الطويل والعميق أيضاً أو لمجرد مسؤوليته تجاه ما جنت يداه، كان سعد البصري عاجزاً عن نكران مخلوقاته الخشبية المشوهة. إن الوقت قد أزف الآن إذاً لأن يتبناها أمام الجميع لأنها، كما لم تكن قط من قبل، لم تعد فضائح بالنسبة إليه إنما هي في حقيقة الأمر أجنّته الميتة، قال: هذه الكراسي لي. زعبرات: بعق الصهر. كراسي ـ أكد سعد البصري بثقة وهدوء ـ كراسي، أنا نفسي صنعتها بيدي هاتين.
وهنا انسحب أعضاء الخميس راضين بتأويل سعد البصري لفضائحه الخشبية التي بدت لهم كراسي مقنعة حقاً. ثم كما يخاطب ولده المتمادي أنّب سعد البصري صهره بصوت آمر مفاجئ للجميع: إنزل من السرير. انبهت الأدباء الشباب إذ صدع ذاك للأمر كما لو أنه صهر آخر. حطّ الآن الطنجرة على المكتب ورح إلى فراشك. فعل كمنوّم، ثم حار بيديه الفائضتين فجعل ينوس بهما على جنبيه، وهو يفتش في وجه رفيق السكري عن أقصر طريق إلى فتحة الباب. ردّه رفيق السكري بابتسامة آسفة عليه مازاد من بلبلته ونوسان يديه وأرغمه على ردّ اعتباره بعودة مضطربة إلى ثيمته الماضية عندما شكا إلى رفيق السكري بصوت متهدج وضعيف: هو عراقي وأنا ما عندي حق سراويل للأولاد. ثم ساعده تبرمه من ظرفه الظالم في الوصول إلى العتبة بقليل من الكرامة حيث طبق الباب وراءه مثل حردان. وموضوع المحاضرة؟ نطّ السؤال، كأنما، من حرف الطربيزة إلى كتف رفيق السكري مثل طائر ظُنّ طيلة الوقت أنه محنط. كان لخفق جناحيه القصير دويّ مربك في أذنيه فقد اعتقد أنه نجا من الإجابة عنه منذ وقت طويل. وبلمحة بصرأدرك أهمية أن يفكر بصوت مسموع في دقائقه الأخيرة في بيت سعد البصري فقام، تنحنح وقال: ظننت أنني سألقي محاضرة عن الرواية التاريخية السورية في المركز الثقافي غداً، ولكني لا أخفيكم أنني لا أستطيع البقاء في الرقة أكثرمن الساعات التي قضيتها فيها، ويؤسفني أن أقول إنني لن أتمكن من الخروج من دمشق بعد الآن، نعم لن أخرج منها حتى يموت ابن خالتي زهرة، عندها سوف أعود إلى القرية، قرية أبي وجدي، وهناك لن أحتاج غالباً إلى الرواية التاريخية كما أفهمها، ليتني لا أحتاج إليها هناك، مع أنني لا أهنأ بعيشي، مهما حاولت للأسف، بدون إقطاعيين وخونة ومستعمرين أنتقم منهم باستمرار، والآن يا عزيزي سعد البصري أنا ذاهب، شكراً لك على كل شيء، أتمنى فقط لو يرافقني أدباؤنا الشباب جميعاً إلى الكراج، ولن أنسى لكم هذا المعروف ما حييت.
فانتخى الأدباء الشباب وهبّوا مستعدين لمهمة تأمين الأستاذ رفيق السكري حتى باب السيارة التي ستقله إلى دمشق. تحاوطوه، واندفع بهم ينعم بعضلاتهم المتحفزة. إلا أنه توقف في العتبة فجأة لأنه لم يفهم في اللحظة الأخيرة لماذا تورط قبل قليل بإعلان توبته عن الروايات التاريخية بمجرد عودته الأكيدة إلى القرية. ثم سبقته يده إلى فتح الباب، فسارع إلى تسجيل قوله قبل أن يبرح المكان: إذا مات ابن خالتي زهرة لن أذهب إلى القرية، سوف أرحل إلى بيروت، في بيروت على الأقل لا يحزرون الإنسان من أول نظرة. ثم خرج مدججاً بالأدباء الشباب. انكبّ سعد البصري فوراً على محشي ورق العنب وتابع بنهم عشاءه البارد اللذيذ واقفاً فوق أجنّته الميتة. وبعدما شبع وجلس على سريره بيدين زفرتين انشقّ الباب وظهر من درفته المفتوحة نصف مريم. وكالعادة مدت يدها وفتحت الدرفة الثانية لتتمكن من الدخول دفعة واحدة بكل تكاويرها الرجراجة. أغلقت وراءها الباب، وتقدمت مثل آفة رؤوم بخطى ثقيلة تقتلعها بصعوبة نحو سعد البصري. لاحظ الآن أنها ملفوفة بأمتار كثيرة من قماش برّاق وبوجه معهود عجوز مغبغب ومقنّع هذه المرة بمكياج سميك فاقع دسم ومتنافر وبرمشين علويين صناعيين مضحكين. لم يندهش سعد البصري، إنما تحسّر عليها وأدرك أن الوقت أصبح متأخراً لأن يذهب الآن ويخطبها رسمياً من أهلها. هبطت على الأرض قريبة جداً من قدميه المدلدلتين من حد السرير، ثم نبهتها الفضائح الخشبية التي غطست في شحوم مؤخرتها الجليلة إلى الكراسي الخشبية المبدورة فوق كل موجودات الغرفة. تذكرت بحنان بالغ كرسيها المعيب الخاص والمخبأ حتى الآن في مكان نسيته منذ سنين من شدة حرصها عليه، كان سعد البصري قد قدمه لها ذات ليل عسير. ثم حطّت مريم يدها على خدها واستلقت على جنبها بمحاذاة السرير فشارفته بتلال لحمها الوفير. ظل سعد البصري صامتاً أيضاً. اليوم كما ترين كان عيد الشهداء، سأخطبك غداً. قال أخيراً.
* * *
رغــداء لا تريد أن تصـبح روائية، عندما يعود رفيق السكري إلى دمشق
لأن باب الشرفة كان مفتوحاً، ولأن الهواء في سكون (مع أنه كان يهب) منذ أفاقت رغداء، ولأن أولاد المدرسة المجاورة لم ينصرفوا ليوقظوها قبل الآن بلغوِهم العالي ومعاركهم المؤجلة من أوقات الدوام (مع أنهم انصرفوا) ولأن شريط السماء الذي تسمح به عادة فرجة الستارة المسدلة لم يخطر به طائر واحد (مع أن عصفوراً قطعه قبل دقائق) ولأن اللوحة التي يفخر رفيق السكري بثمنها الباهظ كانت مائلة بالصبي الجالس فيها (مع أنها مستوية) ولأن الثريا كان ينقصها مصباحان (مع أنها كاملة) ولأن مرآة زينتها كانت مشعورة (مع أنها سليمة) ولأنها عندما نهضت من فراشها لم تجد شحاطتها في مكانها (مع أنها كانت قرب السرير عند مسقط قدميها تماماً) ولأن البن يا رب أين البن؟ هذا البن لأنها لم تضعه قط هنا (مع أنه كان في علبة البن) ولأنها إلى ذلك كله كانت بردانة بردانة فإن أحداً قد مات. ولكن ركوتها فارت. من يمكن أن يموت في هذا الصباح المتأخر؟ سكبت قهوتها في فنجان شاي وعادت بها إلى السرير. لو كان الميت لا يخصها لما أثارها الآن هرم كفيها، جلد جاف، نقاط بنية فاتحة، وعروق بارزة. ولكن القهوة منعشة. حسنٌ من مات إذاً؟ حتى أظافر قدميها متقصفة، والإصبع الكبير في اليسرى ماله أحمر ومتوزم؟ هل ستجد مرهم جنتومايسين بين أدوية رفيق السكري؟ ولكن قبل ذلك كيف تحملت ضغط الحذاء، ينبغي تدليكه بماء ساخن ورغوة صابون غار. استوقفتها المرآة في طريقها إلى صيدلية المنزل فاعتبرت وجهها المنفّخ دليلاً آخر على أهمية الميت. ثم لكي تكشف كل الغطاء عن هذه الأهمية فطنت إلى انها لم تتعر أمام المرآة منذ زمن طويل. ولكنها بردانة. منذ متى لم تُعجب بظهرها، لم تؤخذ بسرّتها، لم تتفقد أليتيها؟
تعرت بشوق جامح إلى جسدها، وفي الحال قلل من اضطرابها على الميت أن طبقة من شحم بطنها ما زالت لا تكفي لبطن مستقلة ثانية وأن وركيها لم يتأثرا حتى الآن بأطباق المعكرونة التي تقبل عليها بشهية وأن نهديها وإن فاضا على راحتي رجل ما زالا يرفعان حلمتين شامختين. ولكن مع ذلك من يمكن أن يموت في هذا الصباح؟ من يمكن أن يكون؟ من؟ وقد ألحف عليها بالسؤال ذاته أنها انقبضت من بضع شعرات بيضاء في عانتها الفاحمة. انضمت في بيجامتها من جديد عندما بردت القهوة. من يمكن أن يكون؟ لن تسخّن القهوة لأنها سوف تستعرض المرشحين إلى الموت من معارفها المرضى. لا أحد بالسرطان. إذاً من المصابين بالقلب والكبد وفشل الكليتين. كثر. استعانت بدليل الهواتف، ولكن من أين ستخترع الأحاديث مع كل هؤلاء إذا كانوا جميعاً في عداد الأحياء؟ لن تتكلم، تتصل، تسمع أصواتهم فقط وتطبق السماعة. وحسب الترتيب الألف بائي: ألو، لم يمت. ألو، لم يمت. لا أحد يرفع السماعة. ألو. لم تمت. مشغول. ألو. صوت زوج صديقتها الغليظ ولكنه فارط من الضحك فهل ماتت؟ ألو. لم يمت. ألو. صباح الخير حبيبي. صباح الخير. الماما موجودة؟ في المطبخ. خليها في المطبخ. لم تمت. مشغول. معطل. لا أحد يرفع السماعة. مشغول. ألو. لم تمت.
ثم انفجّ قلب رغداء عندما قلبت صفحة الدليل وقفز من رأس الصفحة التالية اسم رزق الله اسحق مكتوباً بخط يده إلى جانب رقم أهلها. ولكن رزق الله اسحق لن يفعلها، لن يفعلها. عمتها قد تفعلها، لماذا لا تفعلها عمتها؟ ألم ينكسر حوضها منذ سنوات؟ حسن إنها أصغر منه بخمس سنوات ولكن حوضه لم ينكسر قط. ثم إنها أصبحت تعرج منذ ذلك الحين وتبول تحتها ولا تشعر بمشط قدمها. كيف يمكنها العيش بلا مشط قدم تشعر به؟ وبطة ساقها هي الأخرى صارت رخوة تلق مثل لحمة فلتانة من قصبتها، وفوق كل ذلك أصبحت تنام في حوض الحمام لأن عساف ادعى أن الحائطين الذين يفصلانه عن غرفتها لم يعودا قادرين على منع شخيرها من التسرب إليه. ثم تحجج بصنة بولها التي تعجّ في الموزع بين المطبخ والصالون. بعد ذلك اتهمها بالجنون لأنها تتكلم مع نفسها طيلة الوقت وأحياناً تهمس في أذن خابية الماء شيئاً ثم تتداعى إلىالأرض من شدة الضحك وكلما صادفت طربيزة تزجرها بالكلمات النابيات، ثم عندما بدأت تتوعد رزق الله اسحق بالذبح على اعتباره مسؤولاً عن تقويس كل من خطبها ولأنه يغسل كلاسين أم رغداء بالخفية ويترك كلاسينها تتعفن على زيق المغسلة اغتنم عساف الفرصة ودافع عن رزق الله اسحق بربط معصم العمة إلى حنفية الحمام بجنزير قصير فلت ذات يوم فشطبت به أم رغداء على ظهرها ما طرحها في فراشها مدة أسبوع.
أتكون أمها قد فعلتها؟ لأن أمها بعد تقاعد رزق الله اسحق واعتصامه في غرفته ضاع أثرها تماماً بين تلال البدلات العسكرية تفتح عراويها وتبكل أزرارها فلا تكاد تفيق حتى تبتلعها البدلات، تنبق يدها أحياناً لبرهة قصيرة بإبرة وخيط ثم تغيب فيها، وأحياناً يخيل إليهم ذيل قمطتها أو أصابع رجليها، وكثيراً ما تغفو منطمرة بها فالبدلات العسكرية أمامها وفوقها وتحتها أينما تحركت في الصالون وغرفة النوم والكوريدور وأرض الحوش، لقد تركت مرغمة وبقلب كسير كل شؤون الطبخ والغسيل والشطف لوديعة. وديعة لن تنتحر على كل حال لأنها تعد نفسها منذ فترة لأن تكون عمة ما، ولكن في منزل من؟ لم تعرف حتى الآن. ولو كانت رغداء عاقلة لظلت مع عساف ولكان بإمكان وديعة أن تنفّذ مستقبلها بنجاح في المكان نفسه مع تغيير طفيف وهو أنها ستكون هنا خالة بدلاً من عمة. ولكن ما الفرق ما دامت سوف تزرع الخضار في سكيبة الخضار نفسها وسوف تأكل القتل نفسه إنما من عساف، وسوف تنتظر عرسانها بالتصميم نفسه واللاجدوى نفسها، ثم سوف تفشي بسرها إلى خابية الماء نفسها وتؤنب الطربيزة نفسها وتُربط بالجنزير نفسه إلى الحنفية نفسها، ولكن رغداء آه من رغداء، رغداء أصرّت دائماً على تشويش أيام وديعة لأن رغداء بطيشها وبعدها تفّوت على أختها مستقبلاً جاهزاً سهلاً و مضموناً.
ولكنها لن تنتحر على كل حال، لن تنتحر، مع أن أحداً يجب أن يموت أو أنه قد مات في هذا الصباح المتأخر. وبقوة خارجة عن طوعها حصرت رغداء الميت في أحد أفراد أسرتها البعيدة، وبدا الأمر كمالو أنه متوقف الآن على من ستختاره هي من بينهم ليشغل القبر المفتوح. ارتجف في يدها فنجان قهوتها الباردة وسارعت إلى الشرفة تستعين بدربزينها الحديدي. كان الشارع المنبسط أمامها مقنّعاً بحركته الاعتيادية. وكما لو خذلها فعادت محكومة بضيق الوقت. أغلقت وراءها باب الشرفة ولحمت الستارة قبل أن ينفد تماماً الوقت الاحتياطي المتبقي لديها على تسمية الميت. وقفت في شبه عتمة ثم قررت بشجاعة يائس أنها لن تسمي أحداً. ولكنها وبكل جوارحها كانت تستثني من الموت رزق الله اسحق. هجمت على التلفون رفعت السماعة وبسبابة مدققة ومرتعشة أدارت القرص على رقم أهلها ثم طبقت السماعة قبل أن يستجيب أحد لرنين الهاتف هناك. إن اطمئناناً من هذا النوع كان نافلاً ما دام أبوها لم يمت. ثم عزّزت حياته بمزيد من العلامات إذ أدارت، أولاً، ظهرها للمرآة لبضع لحظات ثم أقدمت ثانياً على فتح الستارة فسقط الضوء، أول ما سقط، ويا للمفاجأة على كومودينة قرب السرير حيث تنتصب صورة بإطار مفضض لرفيق السكري مبتسماً وبعينين مذبّلتين. وكانت الإشارة بسهولة الماء: لقد رشّح الضوء رفيق السكري إلى القبر المفتوح.
ثم شعرت رغداء بالعار لأن كل قطعة أثاث من حولها قد قبلت هذه الفكرة بحماس محرج، ما أظهر رفيق السكري بلبوس الضحية لعفشه الخاص. وطبعاً لو أن رغداء لم تفتح الستارة بهذا المقدار لاستطاعت إنقاذه من هذا الدور ولكنها فتحتها إلى الحد الذي خلص أباها نهائياً من هذه المحنة، فعلق المسكين رفيق السكري في فخ الضوء دون أن تقصد. ولكن العار مع ذلك ما برح يسربلها لأنها على الأقل لم تكذّب الضوء ولو من باب مجاملة الموتى الذاهبين على كل حال. لقد فرّطت فوراً بكل أمل بنجاته ما دام وقع. لقد مات رفيق السكري، مات. وبموته أنهى بلا مقدمات سيرته المستطيلة في حياة رغداء، وقد مات على الأغلب في طريق عودته من الرقة إلى دمشق. ألم يسافر ليلقي محاضرة هناك؟ كان يحض السائق على السرعة عندما فتحت رغداء ستارة الشرفة. وعندما سقط الضوء على صورته تدهورت بهم السيارة في الوادي العميق. وقبل أن تتشقلب على المنحدر ثم تهبط على رؤس الركاب كان رفيق السكري قد مات من الرعب. بعد قليل سيرن التلفون. يارغداء تعالي اسلمي الجثة. سيفتحون لها البراد. تفضلي هذا رفيق السكري. ستتعرف عليه من حذائه أولاً ثم من بنطلونه الرمادي، ثم من طوله الولادي، لأن السيارة المعجونة لن تترك أثراً مميزاً في وجه أحد من الركاب. ولكن إلى أين ستأخذه ولمن ستعطيه إذا تناولته من الموظف الذي سيحمله أمامها مثل خشبة والذي سيضيق من تلكئها في استلام عزيزها المتجمد؟ لن تسأله طبعاً لماذا لايخبرون أخاه، ولن تنكره لأنها على كل حال لن تستلمه، ولكي لاتستلمه لن ترفع السماعة بعد قليل.
ماذا تفعل برفيق السكري ميتاً؟ شهقت وبكت على نفسها. لقد ترك لها قبل أن يسافر عدة سطور في دفتر الملاحظات على طاولة عمله في غرفة المكتب وذلك من باب تذكيرها الخطّي بما ينبغي عمله وعلى سبيل برمجتها بما يتلاءم مع ما سيعترضها في فترة غيابه، فتتجنب ارتكاب الهفوات المنمنمة التي تبدو في لحظة اقترافها عابرة وقابلة لنسيانها، ورفيق السكري حين يلجأ إلى توجيه الملاحظات التحريرية فإنه لا يعني غير الإلزام الكامل بالمسؤولية عن مجريات الأمور بحيث يخسر الخطأ كل احتمالات التكفير، ويغدو تبريره نوعاً من الإصرار عليه، أما الاعتراف به فلن يظهر إلا بمظهر التنكر بقناع الفضيلة، ولذلك فقد اعتادت رغداء أن تضع يدها بسهولة على المطلوب بالذات. وهي إذ تمارس مهاراتها هذه إنما تلتقط رأس الخيط الأبيض المنشود بين كبّة خيطان بيض مكرورة ومشعثة. ورفيق السكري حين يحيّر السطر الذي يقتضي الوضوح إنما ليتبرأ سلفاً من خطأ مقاصده إذا حدث، ولكي يكون في مقدورها أن تطلق العنان لمخيلتها المبدعة طالما أنها المذنبة على أية حال. إنها لا تكتفي عادةً بالتوصل إلى الهدف المرتجى بل تخدمه بالتفاصيل المباغتة دون أن تحرفه عن مساره، فيخرج من بين يديها بالصورة التي تجعل رفيق السكري يقاوم امتنانه لها، فيصبح اعتيادياً أن ينهض إن كان جالساً وينتقل إلى موضوع آخر أكثر أهمية واضعاً بذلك على الرف إلى جانب محفوظات مغبرة أخرى كل جهودها التي بذلتها بحرفية وإلهام كبيرين.
وقد تعلمت أن لا تنتظر من رفيق السكري تصرفاً مغايراً. إنها تتقبل الآن تحطيمه بهاء النتائج التي تتوصل إليها في غيابه والتي لا تصب إلا في مصالحه متعددة الوجوه. ولكنها لا تعرف الآن لمن نفذت سطوره المكتوبة في دفتر الملاحظات مادامت لن تستلمه من المشرحة. لن تستلمه. ثم إنها لن تنتظر رنين التلفون لأنها قررت أن تغادر الآن، الآن قبل أن يرنّ. وبالفعل ماذا تفعل رغداء في منزل رجل ميت؟ ثم قيّدها إلى جانب الكومودينة أنها لم تتصور كيف ستحزم بعدة دقائق كل حوائجها في منزل قضت فيه كل هذه السنين؟ ولكنها قدّرت أن ثمة أشياء كثيرة يحتفظ بها الإنسان لأنه لم يتخلص منها أولاً بأول. بعد ذلك شعرت بأنها مستعدة للتخلي عن أي شيء سيؤخرها دقيقة واحدة. ثم أذهلتها المفاجأة عندما اكتشفت أنها لن تتخلى عن أي شيء لأن كل عفشها في كل هذا المنزل لم يكن أكثر من ألبستها القليلة وغياراتها الداخلية وشحاطتها وزجاجة عطر نصف فارغة وجوربين شتويين إضافة إلى سشوار معطل ورزنامة تعود إلى السنة قبل الماضية. لم تصدق أن حقيبتها القديمة مازالت قابلة لأن تحشر فيها مخدتها الديكرون ولكنها من ممتلكات المرحوم رفيق السكري. ثم إن الوقت قد أدركها ويجب أن تلحق أخيراً بانتعال حذائها. وفي الحال جمدت في مكانها إذ رن جرس الباب. لم ترفع سماعة التلفون. ولن ترفعها. ثم لم يرن جرس الباب مرة ثانية. سمعت بوضوح كيف انضم مفتاح في القفل وكيف أزّت مفاصل الباب وكيف انطبق وكيف دبدبت خطوات بطيئة إلى الصالون ثم إلى المطبخ ثم جاءت برفيق السكري إلى غرفة النوم. عند ذلك فقط أدركت رغداء أنها لاتعرف، إذا خرجت الآن، إلى أين ستذهب.
ولكنها التقطت حقيبتها.
توجهت نحو الباب.
طبقته خلفها.
وعلى الدرج فقط تبين لها أنها منذ فترة طويلة لاتريد أن تصبح روائية.
انتهت ..
خليل الرز ـ دمشق
صدر للمؤلف
سولاويسي، 1994، رواية، دار الحوار
يوم آخر، 1995، رواية، دار الحوار
إثنان، 1996، مسرحية، وزارة الثقافة
وسواس الهواء، 1997، رواية، وزارة الثقافة
غيمة بيضاء في شباك الجدة، 1998، رواية، وزارة الثقافة