يكشف لنا القاص الكويتي هنا عن مقدرة بارعة على الغوص في أغوار النفس البشرية، فلا نعرف إن كانت الساحة هي تلك التي يمارس فيها الإعدام العلني، أم هي تلك التي تدار فيها صراعات البلدة الاجتماعية ودمدمات النفس البشرية واعتمالاتها.

الساحة

محمد الشارخ

(1)
مثل كل الساحات في القرى الهامشية جنب المدن الداخلية. ساحة غير متوازنة بالطول أو العرض. القرى التي تُعرف على خرائط قادة وحدات الجيش دون أن يعرفها أو يزورها مسئول. قرى البؤس الأبدي. القرى المدفونة هناك وراء كثبان الرمل، أو صخور الجبال. أو المزارع. لا تُرى من الطريق العام. والساحة مثل القرية خلقت نفسها بنفسها، في مدخل القرية، أوسع مكان فيها. فيها المستوصف ومكتب البريد ومركز الشرطة وبائعو الخضروات وجزاران والمقهى الوحيد وميكانيكي السيارات وكلاب وقطط لا صاحب لها. وفيها يتم الشنق. في هذه الساحة التي يخرج من جوفها الشارع الوحيد ومنه تتفرع أزقة مختلفة الطول والعرض حسب تمدد البيوت وارتفاعها والأقدار. في هذه الساحة دخلت الرافعة ووراءها سيارة الشرطة ونزل منها محمد معصوب العينين. يداه مكبلتان باسم الوجه ثم عادت أدراجها بعد ساعتين أو أكثر دون تنفيذ مهمتها، بسبب هياج الناس وخوف الشرطة من غضبهم. الموت. موت محمد شنقاً. والدته ماتت فجر نفس اليوم ثم والده بعدها بشهر. رافعة بناء صفراء يرتفع لسانها لأكثر من أحد عشر متراً ينتهي طرفه الأسفل بحبل ليف متين. وصلت الرافعة في الحادية عشرة صباحاً ووراءها سيارة شرطة بدون شبابيك. الأهالي تجمعوا في الساحة الرئيسية أمام المستوصف الحكومي. كانوا قد عرفوا قبل يومين. التوجس والهمهمة. "سيشنق هنا" والبعض يمتعض "لن يشنق هنا". خافت الشرطة وعادوا بالرافعة وأعادوا محمداً معصوب العينين يداه خلف ظهره وجهه متورد ويهز رأسه كمن يحيي الناس. عنده أمل. يبتسم عند مغادرة الساحة أكثر من ابتسامته في مجيئه.
قال جواد:ـ لن أذهب.
قال أخوه الأصغر:ـ تعال... أنت لم تر شنقاً من قبل.
قال جواد:ـ قلت لك لن أذهب.
قال أخوه:ـ كل الناس هناك.
مضى أخوه راكضاً نحو الساحة وجواد دخل البيت. واتجه نحو غرفته التي يشاركه أخوه فيها وأقفل الباب. وضع سجادة وبدأ الصلاة. وفي السجود لم يرفع ظهره كانت الدموع تبلل الأرض، ثم زفرات، ثم نشيج ثم بكاء بصوت عال ثم رفع ظهره وأخذ يضرب ساقيه بيديه ثم قام ورفع يديه لأعلى "هذا ظلم... لماذا الظلم". في الظهر لم ينم ولا في الليل. أخوه يقص ما جرى. الشنق سيتم داخل السجن في اليوم التالي. جواد يدخن سجائر طول الوقت ويشرب شاياً داكناً مليئاً بالسكر وصدره ينتفخ ولم يخرج من غرفته أبداً.

(2)
زهرة في العاشرة تلعب. معها فايزة بنت خالها وأختها الصغرى ومعها محمد وجواد وجاسم. بيت أهلها مجاور لبيت أهل جاسم. يقابل بيتهم منزل أهل محمد وهو الأكثر بهاء والأعلى بناء. مطلياً بلون أبيض وشبابيك خشبية زرقاء. في الليل حين ينام الجميع يفتح محمد الشباك الأزرق وتفتح زهرة. الكلام قليل واللقاء الليلي. الهواء والنجوم والغيوم والقمر أحمر أحياناً وأحياناً كالذهب. والحوائط الواطئة ترمي في الشارع مربعات ومستطيلات من ظلها. أسود ورمادي. ونور السماء ينير الأرض فيتفتح الظل. ومع دوران القمر تتغير الأشكال. يتغير لون الأرض والمستطيلات. بعد منتصف الليل. بعد إقفال التليفزيون وعودة الوالد للمنزل. في سن العاشرة يلعبون الاستغماية. زهرة تعرف محمداً من رائحته. من نعومة يديه. جميلاً رشيقاً. الأغنى بين الجيران، وأكثرهم حرصاً على الدراسة. يسمونه "المثقف". في القرية يفخرون بأنه سيكون أول من سيدخل الجامعة. في بعض المرات يضمها محمد من الخلف. الجيشان العاطفي والبهجة الأبدية. وهي ترتاح لذلك وتتوسل الحيل والمداعبات للالتصاق. وذات يوم اتفقا وتراكضا من طريقين مختلفين بين النخيل وقت الغروب وصدرها يلج ونهديها لم يعرفا النضوج من وراء النخلة فاجأها محمد وأحاط كتفيها ويداه في النهدين وصدرها يلج خائفة فرحة سعيدة استدارت نحوه وعاجلها بوجهه وذاق طعم اللمى. الشباك يفتح بالليل والإشارات صارت بالعيون وبالشفاه. للشفاه رنين.
قال جاسم:ـ لهذه الدرجة تحبها.
قال محمد:ـ لا أستطيع أن أنام دون تخيلها. وكذلك في الصباح حين أصحو.
قال جاسم ضاحكاً:ـ يعني بالليل والنهار.
قال محمد:ـ ليلاً ونهاراً.
قال جاسم:ـ هذه بلوى.
قال محمد:ـ هو الحب.
وفي تعريشة العنب. كان الأولاد يحملون على أكتافهم البنات ليقطفوا العنب. وزهرة تحيط رقبته بفخذيها ويتحسس شيئاً فشيئاً يدعك رأسه بين فخذيها وجهها يحمر ويداها لا تصلان للعنب. والضحك حولها صخب العالم. عرائش العنب تغطي السماء. هي ومحمد في عالم الجني والشوق. يقفز محمد بها ويقفز ويقفز وهي تضحك لا تكاد يدها تصل للعنب. يهزها ثانية. يرفعها عالياً وسطها يحتك بشعر رأسه وهي من سعة الضحك وصليل الروح واهتزاز العناقيد لا تطول العنب. وفي المدرسة في الفصل يذهب خيالها للعنب. لليوم التالي. للعبة التالية. في العاشرة زهرة ومحمد يكبرها بسنتين. ومن تهيج الوجد تمسح رقبتها حيث كانت يده. تود لو طال الدرس لتشدو ذكرى الأمس وأول أول أمس.

(3)
من أكثر حزناً أُمّ جاسم أم أُمّ محمد. أُمّ جاسم في المطبخ ظهيرة الثلاثاء وسمعت ضجة ودخل عليها زوجها وأخوها وابني أخيها ألقت ما بيدها صرخت "ما الخبر!!" أحاطوا بها وهي تهالكت على أرض المطبخ تفتح جزءا من حجابها وعيناها نهر دمع "جاسم!!" على أرض المطبخ سقطت لم يستطيعوا رفعها. صرخت "جاسم!!" ورجلاها ترفسان كالخروف المذبوح. والجميع عرف القصة. القرية ثلاثمائة بيت. بيوت طينية لا يعلو ارتفاع أكبرها عن طابقين. الكل عرف القصة. خلال دقائق. قُتِل جاسم. ضربه حاتم على رأسه. لم يستطع حاتم إلا أن يستجيب لنداء أبي محمد "أبعد هؤلاء الأولاد من هنا". يلعبون الكرة في المزرعة وأبو محمد يتمتع كالعادة مع أصدقائه في المجلس الذي بناه على النهر مباشرة. مفتوح الشبابيك. هواؤه بارد وبعض صحبه ينامون الظهر فيه. والقهوة والشاي والعنب وفواكه الموسم لا تنقطع من مزرعته ومن الأصدقاء. خرج أبو محمد ليبعد الأولاد وإزعاجهم ودوي الكرة عن المجلس أو فوقه أو فوق القوارب. ثلاثة أو أربعة قوارب بطنها خضراء أو حمراء وجوانبها زرقاء وصفراء والمجاديف ملساء شققت الشمس والمياه أوساطها. ورأى حاتماً أمامه. وحاتم مثل أبيه وأخوته لا يعرف إلا القوة. تصارخ معهم. أربعة ضربوه حين أخذ الكرة منهم وألقوه أرضاً. لم يصدق الإهانة ولا يقبل المهانة. جاسم آتيا من بعيد سمع الصراخ ورأى العراك فاندفع ليبعدهم عن بعض. حاتم قفز وأخذ حجراً وقذفه نحوهم جاء في رأس جاسم. وقع على الأرض. وانتفض الأولاد بعيداً. وحاتم انقض على جاسم بالصخرة التي كانت على الأرض يضربه في المكان من الرأس الذي جاءت فيه الضربة الأولى. الأولاد يبتعدون وجاسم هامد ممدد على الأرض لا يدافع عن نفسه، وحاتم دون وعي يظنه منهم أو معهم. روحه المشتعلة كالزلزال. فوق الصاع صاعين. دوي الرعد في شظايا القلب وغضب القرون. الجينات يده تسرع على جبهة جاسم كالمطرقة. جلمود صخر بعد آخر وآخر. لم يتحرك جاسم. لم يقم حاتم عن جاسم إلا بعد أن أعيته يده من الضرب الأعمى. عيناه حمراوتان وفمه مليء بالزبد.
مات.
الأولاد تراكضوا وتعالت الأصوات. والشمس ساطعة والظل يغطي نصف جسم جاسم. وعلى النهر من حوائط المجلس ظلال يقذف بها تماوج ماء النهر، والقوارب تتأرجح مع الهبوب. وجاسم دمه على التراب وأبو محمد في مجلسه الخاص مع الأصدقاء سمع الضجيج خرج متبختراً. طويل القامة. متعطراً. ثيابه نظيفة بيضاء وأزرار الفضة في أكمامه تلمع في ضوء الشمس. حبات عنب خضراء في يده على هواه يزدرد. التفت حاتم نحوه "عمي لقد أعطيتهم درساً" قال أبو محمد "قتلته" قال حاتم "أعطيتهم كلهم درساً" قال أبو محمد "هل قتلته".

(4)
جاسم ومحمد وجواد يعودون من المدرسة. جواد هوايته الملاكمة. ومحمد وجاسم يخرجان معاً يعودان معاً وأحياناً هذا يبيت عند هذا. وأم جاسم لا تريده أن يبيت عند محمد تخاف عليه. عنده ارتجاج عصبي. وهو صغير سقط من فوق الحصان. كان راكبا في حضن أبيه وفي لحظة من تلك اللحظات الغادرة استدار والده يحادث شخصاً آخر والحصان بدأ السير ببطئ وجاسم يلعب برقبته. ينحني للأمام يمسح بيده الصغيرة شعر الحصان. سقط على الأرض والحصان داس على رأسه ورفسه في صدره. لم يخرج منه دم لكنه صار يهز رأسه كثيراً. وحتى في الفراش وهو نائم يهز رأسه هزاً عنيفاً وأمه تقلق عليه. محمد وجاسم يتبادلان الملابس كأخوين.
قال جواد لجاسم:ـ هذا قميص محمد.
قال جاسم:ـ أريد أن يعديني بالثقافة.
قال محمد:ـ أنا أعديك. طوال الوقت تفتح الشباك تنظر للبنات.
وقاطعه جواد:ـ من كل الأعمار.
وجاسم قال:ـ وكل الألوان.
وأكمل محمد:ـ أنا أقرأ.. الكتب عندك.. اقرأ أنت. نصف وقتك تصفيف الشعر والحديث عنهن.
قال جاسم:ـ يا عمي اسكت. أنت تحب وقلبك مليان. هي زهرة وهي تحبك.. ربي يعطيني مثلك.
في الصيف ظهراً.. بعد الغداء. ينام الوالد. يأخذ محمد مفتاح سيارته والوالدة تتبعه حتى الباب لا تتأخر يعرف أبوك. ويركب جاسم معه ويمران بجواد. ويدق زمار السيارة فيرتعش قلب زهرة وهي تتسمع وأحياناً تطل من الشباك. تجري السيارة. بعيداً في درب النخل الطويل القامة والسعف المنفوش يغطي الشمس. وينزلون للنهر بسرعة. صدور قوية. وغوص. سباقات سباحة وتجديف وأحاديث البنات. البنات. والمدينة.
قال جواد:ـ لا تغوص أكثر يا جاسم نحن نعرف أنك الأسرع لكن ماذا لو دار رأسك وجاءتك الأعصاب وأنت في الماء ماذا ستقول أمك.
قال محمد:ـ ابنها الوحيد... سيقولون أنا المسئول.
جاسم أطولهم وله رقبة طويلة ويهز رقبته في الرقص مثل الراقصات الهنديات والصحب يقولون طبعاً أعصاب رأسه مطاطة وهو يحذرهم "لا تتعاركوا معي ضربة من رأسي تميتكم... أنا لا أتوجع.. ضربني الحصان وتجمد الدم في رأسي لا يهمني الضرب". والأولاد يخشونه. لخشونته رغم نحافته. يلعب الطائرة لكن عيبه أنه يتعب أحياناً. ويجلس على الأرض ويتوقف عن اللعب. قالوا السبب طوله وقالوا الحصان. لو ضربوه على رأسه قد يحصل له ارتجاج أو بلوى. يخرجون من النهر. يقفزون عالياً يمسحون بأيديهم أجسادهم. يضرب محمد جاسما على ظهره لينشف الماء عنه. وجواد يقفز عالياً ويركض جيئة وذهاباً بسرعة فائقة حولهم ويضرب الهواء بيديه المنقبضتين يلاكم الهواء. يسيل الماء على الصدر والفخذين والساقين. ينبطحون على الأرض واحداً تلو الآخر، والآخر يمسك بقدمي الأول يهزها مثل تمارين لاعبي كرة القدم للمساج وحتى ينشف الماء من أبدانهم. يلبسون بناطيلهم وقمصانهم في أحضانهم والشمس تبخر ما تبقى على صدورهم وأكتافهم من رطوبة. ويعودون مسرعين.
عند البيت يزمر محمد ثانية وتعرف زهرة التي تظل ترهف السمع حتى يعود. أحياناً تطل من الشباك أو تقف عند الباب. يضع محمد مفتاح السيارة في مكانه يأخذ حماماً وينام وزهرة إن لم يرها ذاك اليوم طار عنه النوم. ينتظر الليل ليفتح الشباك الأزرق. شفتاه تتصافحان. عبقاً طعم اللمى. الطعم الذي لا يزول. لا يزول. طرف اللسان بين شفتيها. في السينما.. منظر القبل ومحمد يستند بظهره على الكرسي ويغمض عينيه عند زهرة وطعم اللمى. وجواد يقول للممثل الذي يحتضن عشيقته بصوت مسموع "أعد.. أعد". الجمهور يلتفت نحوه وبعض الأولاد يصفقون "أعد.. أعد".
قال جاسم:ـ مرة واحدة أحضنها وأموت.
قال جواد:ـ أسمهان!!.
يغنون معاً وهم خارجون من السينما "أهوى.. أنا أهوى". لا يتعاركون. جاسم طويل وجواد ملاكم. لا يقترب منهم أحد. وجاسم يمشي نحيلاً كله عظام يمد رجليه بحركة طويلة متفاخراً بطول ساقيه. البعض يود لو يضربه إذ يبدو مغروراً. ومحمد أبوه غني. حين تقاعد من الجيش برتبة عميد عاد للقرية وصار من أهم رجالاتها وأغناهم. لديه مزارع وبيوت يؤجرها. كريماً يقصده الشباب عند زواجهم وله كلمة مسموعة في القرية، وعند الحكومة. ومع جميع أعيان القرية أسس داراً للمحتاجين. فصولا للدراسة في الطابق الأول وغرفتين للنوم تتسعان لمن يشاء من الصغار أن ينام بها.
في أغلب الأيام بعد المغرب يتمشى جاسم ومحمد وجواد في السوق يقفون عند بائع المشويات. يأكلون لحماً يُشوى أمامهم. ثلاثة أو أربعة أو ستة أسياخ لحم مع خبز حار وطرشي. أحياناً يذهبون به للنهر في القوارب يأكلون. جاسم يدخن. وأمه تخاف عليه من أن يغضب, لا تمنعه من شيء. وهي مطمئنة بصحبته لمحمد. تتمنى لو كان مثل محمد.
قال جاسم:ـ أنا لن أنجح.. سأذهب للجيش.. ثلاث سنوات. عذاب في عذاب لا أدري أين سيقذفون بي.. أنت ستكون قاربت الانتهاء من الجامعة.
قال محمد:ـ دعنا ننهي الامتحان بسلام.
قال جاسم:ـ امتحان الثانوية صعب. والجامعات والكليات تحتاج لمعدل درجات أنا لن أصل لكلية.. سأدخل الجيش حتماً.
قال جواد:ـ أحسن.. حتى يؤدبوك ويعلموك النظام.
قال جاسم:ـ فأكون مهذباً مثلك.
قال جواد:ـ ولماذا لا تجتهد مثل محمد.
قال جاسم:ـ وأنت لماذا لا تكون ملاكماً مثل محمد علي كلاي.
قال جواد:ـ أنا التحقت بالنادي الوطني سيعفونني من الجيش أو على الأقل لن أنقل لمكان بعيد. سأكون شبه متفرغ للملاكمة. أو ألحق بعمل إداري في الجيش.
قال محمد:ـ حتى تكون مثل كلاي كان يجب أن تكون في هذه السن الأول في الملاكمة في المنطقة.. ليس سهلاً أن تكون متميزاً.
قال جاسم وهو ينفث سيكارته:ـ وأنا ما ذنبي. ضربني الحصان على رأسي وأنا صغير وما عاد دماغي يتحمل الدروس.. أنا ما ذنبي. أنا بلا مستقبل. سأبحث عن عمل. ثلاث سنوات في الجيش أتدرب على الركض.
نظر جاسم لمحمد:ـ أنت ماذا تريد أن تصبح.
ضحك محمد:ـ قلت لك ألف مرة أريد أن أتعلم التجارة.. أعمل في بنك ثم أؤسس شركتي للأعمال الحرة.. رجال الأعمال هم المحظوظون. انظر لأبي كل السنوات في الجيش.. في خدمة الوطن.. والآن عاد للقرية بمرتب التقاعد وأرض زراعية. لو كان رجل أعمال لكنا في المدينة الآن.. أو في العاصمة.
قال جواد:ـ لكنك وجدت زهرة هنا.
قال محمد متباهياً:ـ ستكون زهرة هناك أيضاً.
ضحك جاسم وهو يقضم الشواء. سأكون شرطياً.

(5) ـ أ
أبو محمد مذهولاً.. وأصحابه أتوا من المجلس يسألون ما الأمر ويقفون بجانبه، والأولاد ملابسهم متعفرة من العراك وجاسم مرمي على الأرض دون حراك. جامداً. ودم عند رأسه. وحاتم بيده الحجر واقفاً بجانبه ويداه على رأسه والصخرة بيده "لم أرد قتله.. ما كنت أريد قتله" الناس تتجمهر. من المقاهي والدكاكين والنساء من البيوت يتجمعن يسألن بعضاً. وحاتم يشق قميصه بيده ويرفع يديه نحو رأسه والحجر بيده "الله قتله.. الله قتله. هذا يومه ليس أنا" يصرخ عالياً "ليس أنا" يدور بوجهه نحو أبي محمد وأصدقائه ويجثو تحت قدمي أبي محمد "أرجوك عمي.. أنا لست القاتل.. أرجوك عمي أنقذني" وقف والناس يتدافعون للنظر إليه وإلى جاسم مندهشين. اخترق صفوفهم وجرى هارباً.
دخل أبو محمد للبيت معه صديقان وتجمع أبناؤه الثلاثة معهم. محمد أصغرهم. صديق جاسم. أخوه. رفيق العمر. عيناه متجمدتان. ليتني أنا الذي مت. ليتني أنا. وأخواه الأكبران ينظران له بصمت والوالد ما زال مبهوتاً تائهاً عيناه محمرتان صغيرتان مرتكزتان لا ينبس بكلمة. أحد الأصدقاء يقول "المكتوب" ويرد الآخر "قضاء الله وقدره" ومحمد يقول في نفسه "ألم يكن ممكناً أن يكون قدر الله أكثر رحمة". عيناه جامدتان. دمع أزلي متحجر في مقلتيه. بعد الظهر كانا سيأخذان السيارة ويذهبان للسباحة في النهر مع جواد. كانوا يحملون البنات فوق أكتافهم يلتقطون العنب وفي المساء الشواء. والنكتة مشتركة والنميمة والعراك إن حصل. ليتني أنا لا هو. ليتني أنا.
وجاء المجلس بكاء أم جاسم ولطمها. ذهبت أم محمد وأختاه ونساء الجيران كافة عندها وبجانب البيت تحت الحوائط الواطئة في الظل رجال وصبيان يذهبون ويروحون ويتحدثون. في الظهيرة في الشمس العمودية والحوائط الواطئة لا ظل يحمي أحداً والعرق يتصبب. النمل لا تدب على التراب. تلوذ في جوف جوف الأرض، أقصى ما تستطيع تحمي نفسها. وكلما دخلت امرأة ارتفع البكاء والعويل واللطم ثانية.. أخوا محمد الكبيران يأتيان بالماء للوالد وأصدقائه الذين توافدوا عليه. كان سيخطب زهرة لمحمد بعد امتحان الثانوية، ووعد جاسماً أن يخطب له من يشاء مع خطوبة محمد. قال له جاسم "أنت اخطب لي. أنت مثل أبي. التي تختارها لي أنا أتزوجها. أريد أن أتزوج مع محمد". مسمّر العينان يتذكر الجيش. في الجبال. في المعارك. تحت وقع القنابل وأزيز الطائرات والجري في الخنادق يحمل رفاقه الجرحى يغطيهم يختبئ تحت الأشجار ينظر بمنظار، يشرب ماء. لا شيء مثل هذا. يرى جاسماً ممداً في الشمس دون حراك وبنطاله منسحب لمنتصف ساقه ويداه ممدتان طويلتان بجانبه. اليمنى مقبوضة تحمل تراباً. وحاتم جاثم على صدره. ساقاهما تتعافران تنفرجان تتجاسسان. تتوقف ساق جاسم عن الحركة وقدمه اليمنى تهتز وتهتز ثم تخبو بلا نبض. "أنقذني عمي.. الله قتله".

(6)
قبل العصر دخل عليه أبو حاتم وثلاثة من أبنائه. غاضباً يده في جيبه طوال مكوثه. بدءوا الكلام الطيب. وكان أبو حاتم واضحاً. ابني تعارك من أجلك. ليس له دخل بهذا الموضوع. وجاسم أصلاً مريض. ابني ليس قاتلاً.. أنت لديك معارف ولديك المال. لن يذهب ابني بسبب الدفاع عنك. عن راحتك. أنت السبب ابني ليس القاتل. نحن فقراء ليس لنا معارف مثلك ولا فلوس للمحامين والقضاة. سأقتل كل أبنائك لو شنقوا ابني. ستتلوع بأبنائك واحداً تلو الأخر لو تلوعت بشنق ابني. أتوا لهم بالقهوة دفعها أبو حاتم بيده وكذلك أبناؤه. قام أبو حاتم خارجاً يده في جيبه وأبناؤه وراءه.

(5) ـ ب
لم يقم أبو محمد من جلسته. في الجيش مقداماً وميداليات شرف وبسالة. قال أحد الأبناء "لم تأكل يا أبي" كان صامتاً عيناه مسمرتان عند حاتم يقبل قدميه. الصمت. صمت الأبواب والحوائط والسقف. وبين حين وحين بكاء وعويل من جديد في بيت أم جاسم. الشمس بعنجهيتها تملأ ساحة الحوش وتحشُ ظلال الحوائط الواطئة. النساء الذاهبات والغاديات يلتصقن بالحوائط. باب المجلس مشرعا. وأبو محمد ينظر في الحوش في المربعات والمستطيلات الرمادية والداكنة والأجزاء التي تشعلها الشمس الموقدة تود لو تحترق. كل الشبابيك مفتوحة والهواء يخترق المكان يخفف اليباس والعرق. عرق الجبين والسواعد والصدر. صمت وأبناؤه ينظرون للأرض أو يضعون رؤوسهم فوق أيديهم. حزانى صامتين. ينظرون لأبيهم.. ذاك القوي، ذي الكلمة المسموعة والنفوذ وغوث المحتاج. اتجه محمد نحو أبيه والدمع ممسك عينيه. وبصوت خفيض "سأذهب للشرطة لأقول إنني القاتل" لم ينصت له الأب ولم تتحرك عيناه. أخذه أخواه وأجلساه بينهما. وضع رأسه على كتف أخيه الأكبر يكلمه بصوت خافت وحشرجة.

(7)
كم مرة. مرات. لا يمكن حصرها. زهرة ومعها أختها الصغرى في المغرب في أطراف القرية بعد الساحة. يتسللن بعيداً وراء البيوت الكسيحة والدواب الجاثمة ينتظرها محمد. يشم رائحتها قبل أن تصل. حفيف الأشجار يخبره بوصولها. يداهما معاً. بطنها يضغط بطنه. متلاصقان. يقبل الرقبة ويسندها على شجرة. سروالها طويل والحجاب يغطي الشعر. ويحك جسده جسدها حتى يتبلل. يود لو يطيل ولا يستطيع وهي تخاف أن تتأخر. خداها يتوردان تشد شعره على صدرها. تفركه بيديها.
مع جواد وجاسم يذهبون للمدينة كل أسبوع أو مرة كل أسبوعين يدخل جواد وجاسم للمبغى وهو ينتظر في المقهى القريب يشرب شاياً. "لا أستطيع أن أخونها" وزهرة تقول له "نحن نعرف ما يفعل الشباب في المدينة" ينظر لها بعينين ناصعتين "لا أستطيع.. هما يدخلان. لا جواري ولا رقيق هذا ما ملكته أيمانهم. أنا أجلس في المقهى. لا أستطيع أن أخونك" تضم وجهه على صدرها يحاول إمساكها تسحب أصابعها من يده وتركض لتلحق بأختها. وهو يفتح البنطلون يرمي مناديل الورق الرطبة التي يضعها داخل سرواله كلما ذهب لمقابلتها.

(8)
لا يستطيع الانتصار. يعرف أنه لا يستطيع. بعد كل المعارك والنياشين ها هو في القرية محمود السمعة والجاه والنفوذ أولاده حوله والكرم بين يديه لا يستطيع الانتصار. لا يتحدث ولم يأكل أو يشرب. جامداً كأبي الهول. جاثماً دون ملامح. ولا رفة عين. حاتم جاثم يقبل قدميه، ومحمد يريد أن يبعد الروع عن أخوته وأبيه وأبو حاتم يده لم تخرج من جيبه وأبناؤه الثلاثة يخرجون معه دون سلام. عيناه عبر الباب يغطسان بضوء الشمس العمودية. يقلب الأمور، تاريخه، عمره الآن، أبناءه. والشمس ساطعة تكاد وهو في المجلس أن تلهب عينيه. لن يستطيع الانتصار. والانحسار يجرف دم جاسم ودموع حاتم وكل السنين. مكسور. عيناه زجاج. نواح وعويل من أم جاسم بين الحين والآخر. وأبو جاسم دخل المجلس. ألقى بالسلام وجلس بينهم لا يتكلم. والشرطة دخلت وراءه. محقق ومعه ثلاثة شرطة لم يقم أبو محمد للسلام عليهم. جلسوا. صمت يدوي كالانفجار. العيون في الحوائط. في الأرض. لا ينظر آدمي لآخر. لا أحد يتحدث. شربوا قهوة. ومحمد قام ووقف أمام المحقق "أنا الذي قتلت.. لم أقصد القتل. حدث ذلك صدفة أنا وجاسم أصدقاء. نحن أخوان. لم أكن أنوي قتله" قال المحقق "يا ابني أنت مجنون!!" ومحمد أصرّ "أنا الذي قتلته" قام المحقق غاضباً. وقف ينظر لمحمد وأبيه. لإخوته. لأبو جاسم. خرج من الغرفة. عاد بعد دقائق واقفاً "أأنت مجنون!!." تم توقيع المحضر. محمد والشهود. والد محمد لم يتكلم وأبو جاسم لم يفهم على وجه الدقة ما يجري. اقتادوا محمداً معهم. أركبوه سيارة الشرطة مكبل اليدين. والناس حول بيت جاسم مذهولون. سمعت أختاه وهما في بيت أم جاسم بطرف الخبر. خرجتا للشارع وسيارة الشرطة تمضي عبر الساحة.
الأصدقاء يأتون ويذهبون. الكلام قليل. والصمت أكثر وفي قلب أبو محمد ضجيج وانكسار. وأخيراً تحدث. في المجلس ابناه وأبو جاسم وأصدقاء. وعيناه مركزتان على الشمس في الخارج دون أن يلتفت أو يغير سحنته "شهر وسيخرج محمداً من السجن.. سأخرجه بعد شهر لا أكثر" شارداً خفيض الصوت كالحالم يتعثر في كلماته "شهر.. شهر" ساد صمت عميق صمت ونحنحة وآهات. يفجّر البراكين ويغرق المحيطات. صمت تفر منه الحيتان والأفاعي. قام أبو جاسم الذي ظل صامتاً يدور بعينيه بينهم لا يفهم ما الذي دار تماماً. ثم تجمعت الصورة لديه وقام منفعلاً "لأ لأ.. أنا لا أريد ابنك. أريد القصاص من القاتل. أريد شنق حاتم بدم ابني.. القاتل يقتل وليس محمداً".

(9)
الدواب، والبقر، والنخيل والحجارة وأبواب الخشب، وخشب الأسقف والحيطان وكل البشر، كباراً صغاراً، أعضاء الجسد كلها من فوق لأسفل سافلين كلهم عرفوا الكذبة. حاتم لم يروه ذاك اليوم. وأبو حاتم وأخوته صامتون والناس لا تعرف تفاصيل ما دار مع أبي محمد. يسألون والد حاتم لماذا يقبل أن يتبرع محمد بمسئولية الجريمة بدلاً من ابنه. كل الناس رأت حاتما وليس محمدا. كيف تقبل. هذا قدر الله. حاتم لم يقصد. ومحمد بريء. القضاء والقدر. وفي المساء عرفوا الحقيقة وتهديده. دخل البيت حانقاً ووقف اثنان من أبنائه عند الباب الخارجي. الناس تمر عليهم ولا تسلم. دخل أحد ابنيه للأكل والثاني ارتفع صياحه مع بعض المارين الذين بصقوا عند مرورهم عليه. قال أبو حاتم لابنه الكبير اخرج للمقهى. قال ابنه "كيف أخرج" قال الآخر "سأخرج وسأشتم وسأتعارك ولعلي أقتل أحداً مثل حاتم" أبو حاتم دخل على امرأته "جهزي الملابس سنغادر في الصباح" إلى أين! سألته. قال في الصباح في الصباح. قالت "لكني أريد أن أبقى عند أم جاسم.. إنها في عزاء" قال لن تذهبي بعد اليوم. يبحث في الدولاب والشنط عن أوراق حفظها والأم تحينت الفرصة وسألت أحد أبنائها.
"لماذا نغادر القرية في الصباح. كل الناس منزعجون على مقتل جاسم. هذا قدره. محمد لم يكن يقصد. أنا لن أغادر سأبقى عند أم جاسم. ماذا يقول الناس. عند العزاء نهرب".
وسمع ابنها ضربات بسيطة على الباب وفتح الباب وأتت على صدره حجارة من بعيد كان أحد الصبية من أولاد الحارة قد رماها عليه.. خرج وسط الشارع الذي لا يزيد عرضه عن خمسة أمتار يتبين من ألقى عليه الحجارة وجاءته حجارة أخرى في رأسه من الخلف. صرخ شاتماً ودخل البيت بسرعة.
يا أبي هيا نغادر. سيقتلوننا جميعاً لو بقينا هنا.
وعاد الأخ الأكبر من السوق، من الساحة. لم يتقدم النادل منه. لم يعطه شاياً. لم يسلم عليه أحد. كأنه لا يعرف أحداً. وكأن أحداً لا يعرفه. نادى مرتين أو ثلاثة طالباً شاياً.. لم يكن النادل ليسمع. عاد للبيت. أبوه ينتظر. وأخذ الجميع يستعدون للهجرة. الأم في غصة كيف تترك أم جاسم في العزاء. اقتربت من زوجها "سأذهب عند أم جاسم قليلاً.. لابد أن أراها" لم يعترض زوجها ولم يمنعها الأبناء. لبست عباءتها. في الطريق استوحشت الدرب. صار طويلاً. والأولاد في الشارع يتهامسون. ونسوة تعرفهم لا يلتفتون نحوها ولا يسلمون عليها. شق عليها الأمر. قالت في نفسها هذا هو الحزن. القرية مفجوعة. وحين وصلت بيت أم جاسم كانت نساء خارجات منه وحين رأينها لم يسلمن عليها ولم يعطنها الطريق كما تعامل المرأة الأكبر سناً. القرية مفجوعة قالت في نفسها. وما إن وطأت قدمها داخل البيت حتى سحبتها امرأة من يدها "أنت لماذا تجيئين.. ابنك سليم.. جاسم مات ومحمد في السجن.. وابنك القاتل طليق لماذا تأتين هنا.. كي تزيدي مصيبتنا.. اخرجي لوحدك قبل أن يطردوك" لم تصدق ما سمعت. ثقل جسمها عليها. وعند الباب خارج المنزل سقط جسمها دفعة واحدة على الدرج، وجلست عند الحائط تسمع النواح والدعاء والنساء يدخلن ويخرجن لا ينظرن إليها. أشارت لأحد الصبية ساعدها على الوقوف وطلبت منه أن يساعدها في المشي. كان معه رفيقة. تريد أن تعرف القصة. حاتم هو القاتل. محمد بريء.. وعند باب بيتهم كان أحد أبنائها واقفاً حارساً أمسكت بساعده وسقطت على الأرض. وبسبب الحر فرشوا لها بساطاً في الحوش ومدوها عليه. عيناها مفتوحتان. أخذتها الدهشة. الأولاد وأبو حاتم جمعوا أشياءهم وأجلسوا والدتهم بالسيارة عيناها مفتوحتان غائبة عن الدنيا.
والقرية في الفجر خالية من الناس لا دواب ولا بقر ولا أطفال. نوافذ السيارة مفتوحة يأتي منها الهواء وهي في المقعد الخلفي. حين اجتازوا الساحة سمعت أحد الأبناء يقول لأخيه "لو صدر حكم بالإعدام سيكون الشنق هنا" قال الأب "محمد لن يشنق أبوه عنده فلوس كثيرة، ومعارف في الحكومة، سيعرف كيف ينقذ ابنه".
وهبت ريح عاصفة تودعهم. سماء رملية صفراء تدور حبيباتها وتعدو أفقياً تصطك وتئن يسمعها الأصم وتطير عالياً سريعاً بدوائر كالمنشار في القلب والحنجرة والعينين. أقفلوا الشبابيك والسيارة تزمجر وحرارة الماكينة المترهلة تزيد الحرارة في الداخل. والمرأة لا تتحدث. شفاهها يابسة. متخشبة. أين سنذهب. لا أعرف أحداً غيرهم. لم تشارك أم جاسم مصابها ولم تودع أهل القرية. الآن. آخر العمر رحيل بلا وداع. العرق يتصبب مدراراً. والحزن. وهذا الرمل.

(10)
أم محمد تحتضن أم جاسم على صدرها. تبكيان وأم جاسم رفعت حجابها الأسود ورفعت ثوبها حتى ظهرت ساقيها وبيديها تضرب وجهها وفخذيها وأم محمد تحضنها بصدرها العريض تضغط على صدرها حتى لا تسقط على وجهها. بنتاها معها. الغرفة تعج بنساء الحي والبنات "قال سأتزوج مع محمد" قال "سأتزوج وأدخل الجيش" أم محمد تنظر لابنتيها مستقبلتين الجيران يجلسونهن ويقدمن لهن الماء. ولاحظت أن إحداهن غابت ثم عادت وخرجت أختها معها. وأم محمد تستدير وهي تحضن أم جاسم ولا تراهن. ثمة همهمة وعيون النساء تحدق بها. وبكاء جديد في الغرفة وقامت إحدى النساء واقتربت من أم محمد "دعيني أحضنها عنك" كان عرق أم محمد يتصبب وتساءلت عن بنتيها وسمعت بكاءهن في الخارج. كأنه صوتهن. لأ.. لأ. صوتهن. مسحت العرق وقالت لإحدى البنات بجانبها "اذهبي شوفي أين هن؟" ذهبت وغابت. وتضايقت أم محمد. قامت ثقيلة. جسمها ثقيل. قوية فوق الخمسين. بيضاء. بشرة نضرة وساعدان مليئان. وصدر كبير. سحبت عباءتها وراءها. تجر نفسها بين النساء وعند باب الغرفة نظرت حولها لم تجدهما. سألت "أين البنات؟" ولا مجيب..
وضعت العباءة على كتفيها وخرجت للشارع رأت الرجال والصبيان يتجمعون عند بيتها. أسرعت لا تنظر لأحد ودخلت بيتها.. لم تر ابنتيها. صرخت "أين أنتما؟" وجاء ولداها من المجلس مسرعان وأحاطا بها "ماذا حدث؟.. قولا ماذا حدث؟" يسحبانها للغرفة. وهي عصبية وقوية "قولا ماذا حدث؟" وصرخت بصوت عال ودفعت ابنيها عنها "أين البنات؟" قولوا ماذا حدث؟" ذهب أحد الابنين وقفل الباب الخارجي "أين أبوك؟.." ترمي عباءتها.. ترفسها برجليها "أين أبوك؟.. قل لي أين أبوك؟" هرعت البنتان من غرفة المعيشة واتجها نحو الوالدة يمسكان ذراعيها وهي ترفع صوتها وتمد يدها للسماء "مات أبوك؟.. أين أبوكم؟" قالت احدى البنتين "أبي في المجلس" صرخت وهي تندفع نحو المجلس دون عباءة أو حجاب وابناها يحاولان منعها "أبي بخير في المجلس.. أخذوا محمداً". زاغت عيناها تنظر في وجوههم تتسمع ما يقولون "قتلوا محمداً؟!!" جاء الجواب "أخذوه للتحقيق" فردت رجليها ومزقت صدر الثوب "قولوا لي الصدق. لماذا أخذوا محمداً؟.. محمد لم يكن هناك" تصرخ "سَأُجَنّ.. قولوا الصدق لماذا يأخذون محمداً للتحقيق". واقفة على رجل واحدة اليسرى ثم اليمنى ترفع جسمها وتنزله وتنظر في الوجوه "قولوا الصدق..." جاء زوجها من المجلس، منكسراً يمشي ببطء رأسه مطأطأ وبه ذهول. أمسكها من يدها وسحبت يدها "لماذا أخذوا محمداً؟" قال "تعالي للداخل" "لماذا في الداخل؟" تصرخ وهي تقف على قدم واحدة وجسمها يهتز والعرق يتصبب وفي عينيها احمرار. البنتان وأخواهما والأب أخذوها عنوة للغرفة وارتمت على الأرض "أعطني ماء" مسح ابنها العرق من جبينها وصدرها والأب جالس على الأرض بجانبها. "قل الصدق لماذا أخذوا محمداً؟" قال ابنها "أخذوه للتحقيق" نظرت إلى وجوههم وهي ممددة "الشرطة كانت هنا وأخذوه؟" ونظرت للأب "لماذا لم تذهب معه؟" قال ابنها سنذهب حالاً.. كنا نريد أن نطمئن عليك أولاً" أجهشت بالبكاء "علي أنا.. أخوك تأخذه الشرطة وأنت هنا لتطمئن علي!!" وارتفع صوتها وهي ترفع جسمها عن الأرض "يا الله قولوا الصدق" أتت ابنتها بفوطة بها ماء ومسحت وجهها ورقبتها وهي ارتشفت نصف كأس ماء وعيناها حادتان تنتقلان من وجه لآخر "قل لي الصدق والله سأموت.. قولوا الصدق" قال أحد الأخوين "محمد اعترف" مدت جذعها "اعترف بماذا؟" "اعترف أنه القاتل". استسخفت الفكرة "تكذب علي. كل الناس تعرف أن حاتما هو القاتل.. كان يقبل قدمي أبيك. كيف اعترف محمد. أنتم تعرفون أنه لم يكن هناك.. أصلاً لم يسمع بمقتل جاسم إلا عند عودته من المدرسة ورأى تجمع الناس عند بيت أم جاسم.. قولوا الصدق" قال أحد الأخوين "استريحي قليلاً وسنقول لك كل شيء". صرخت به ورمت بقية كأس الماء على وجهه "يا عجل تقول استريحي.. قل الحقيقة وبعدين سترى كيف أستريح!" ابنتاها يهمزان ساقيها، وهي تسند رأسها على مخدات، وزوجها متربعاً بجانبها يحدق فيها وبالأرض، وهي تسمع من ابنها التفاصيل مذهولة، لا تنبس بكلمة. وصدرها يرتفع للسماء ويهبط على العظام. ألقت بوجهها على الأرض وجسمها ينتفض، وبنتيها يمسكان ساقيها، يشعران بسخونتيهما والعرق. زبد تحت وجهها وصدرها.. وانتفضت. "وأنتم أين كنتم؟.. لِمَ لم تشهدوا بما تعرفون؟! تركتم محمد يفديكم!! أأنتم عجول!!" نظرت إلى زوجها بغضب وازدراء "ابتعد عني.. تركت ابنك تأخذه الشرطة دون أن تشهد بالحقيقة" قال أحد الأخوين "حاتم فقير سيشنقونه.. نحن نعرف كيف ننقذ محمداً" قالت صائحة "والأقدار!!" قال أحد الأخوين "نحن نعرف أمورنا" صرخت به "قل لي ماذا عن الأقدار!".
لمت ثوبها في حضنها منصتة تزن ما تسمع من كلام "وأبو حاتم كان عندكم؟ هل هو طلب ذلك؟ والله لو كنت مكانكم لما تركته يخرج من الدار إلا والقبقاب قد مزق وجهه، أخفتم منهم؟ أربعة وفي بيتكم وخفتم منهم! لماذا لم تعاركوهم لماذا لم تقتلوهم؟". تقطع ثوبها. صدرها يرتج وذراعاها المليئتان وكفيها يحمران ينبضان.
قام الأب منسحباً من الغرفة وهي تنظر له شزراً. "أريد أن أذهب الآن لأرى محمداً". ركبوا سيارة، الولدان والبنتان وأمهما واستحصلا أذناً لرؤية محمد الذي غاص في صدرها العريض "لا تقلقي شهر وأخرج" نظرت له باسماً متهلل الوجه "والامتحان؟" سأطلب إعفاء للدور الثاني "والزواج؟" بعد الامتحان ضمته لصدرها. "سأذهب لزهرة أطمئن عليها. أنا وأمها وكل أهلها يعرفون ما بينكما.. هي مثل بناتي. سأذهب لأطمئن". كان وجهه بشراً وحزنه على جاسم محاه سجنه "قولي لأم جاسم أنا ابنها" تنظر له قوي الأعصاب، وجهه متورد وقد تخلص نفسياً من حزن مقتل جاسم "شهر واحد. الوالد وعدني أن أخرج من السجن بعد شهر" في السيارة كانت رابطة الجأش وحزن جاسم تخطاه عمل اللازم لمحمد. قوية متدبرة. تصارع الأقدار. قالت لابنها. "اسمع سأعطيك كل مصوغاتي وبع قطعتي أرض النهر شمال الساحة تعرفانهما وأربعة مزارع للعنب والزيتون. الحديقة التي يلعب محمد وجواد وجاسم مع البنات بها. وباقي لي في قرية الأهل عشرون فداناً بور يمكن بيعها. سمعت مؤخراً أن المنطقة عليها إقبال. ومع أختي خزنة عمارتان ورثناهما من أمي ولم أفكر بهما من قبل، قلت ربما تحتاجهما خزنة. بيعاهما أو هي تشتريهما بما تريد. الآن وقت الصرف على محمد. محامون وضباط شرطة وقضاة. خذ كل شيء ولا تكن جباناً مرتين. منعت شهادتك. والآن لا تبخل بالفلوس.
قال أحد الابنين "لكن والدي سيدبر كل شيء" نظرت له بغضب "لم يدبر شهادة حق لابنه، ويقول على مسمع أبي جاسم سأخرج ابني بعد شهر. هذه أهانه لأبي جاسم. أبو جاسم يعرف القاتل. لماذا هذا الغرور والكبرياء. قال ابنها "أبو جاسم مسكين لا يحسن ما يقول".
قالت:ـ هذا الخطر. السم في أضعف مخلوقاته. لو كان ضابطاً لتم التفاهم معه. لو كان غنياً أغنيناه أكثر. لو كان موظفاً حكومياً.. دبرناه. هذا جاهل. دماغه أصغر من دماغ بعوضة. أم جاسم تساعد في تنظيف البيت عندكم. هذه ساعة الانتقام. يا ابني اسمعني لديه أقارب سيساعدونه، وفي القرية من يحقد على مكانة أبيك وراحتكم.. يا ابني عليك الآن باللصوص العتاة الشرطة والقضاة والمحامين.
سأل أحدهما "نذهب الآن للوالد أم لزهرة".
استدارت نحوهما "أبوكم أولاً.. لنرى ما ستفعل بطولاته ونياشينه بعد التقاعد في هذه القرية الهامدة. قلت له ألف مرة ونحن في العاصمة لا تعد للقرية. كان يريد مكانة في المجتمع. الغرور والكبرياء ولمعان النياشين والتأمر لم ينسه طول العمر. هذا ماكسبناه من خدمة الجيش كل هذه السنين".

(11)
في الساحة حيث تقف سيارات التاكسي عند وصوله مساءً من المدينة نظر إليه كثيرون متحفزون أخبروه واندفع غير مصدق نحو بيت أبي محمد. يطوي الأرض طياً. لم يسلم على أحد. لم ينظر لأحد. يغذّ السير وقلبه يطير قبله. جواد مثل جاسم مثل محمد. أشقاء لديهم أمهات مختلفات وآباء مختلفون. دخل الغرفة في بيت أبي محمد وقد بدءوا الأكل. الغداء يوم مقتل جاسم.
قال جواد:ـ لماذا تركتم محمداً يقول إنه القاتل.. كل البلد تعرف أنه حاتم.
قال أحد الأخوين:ـ الأمور كانت مستعجلة.. كل شيء تم دون تفكير أو تخطيط الأمور ما زالت تجري دون نظام. دون تحديد. مشاكل وراءها مشاكل في مشاكل. كيفما نظرت تجد خطأ. أنا، لا تسألني بعد عن شيء. دماغي لا يحتمل. ولا والدي يحتمل. كل ما نعمله خطأ في خطأ.
نفض الأخ الآخر الأكل من يده.. قال "وبدون قصد.. أهوال الدنيا ومصائبها".
قال جواد:ـ سأذهب لأبو جاسم أطلب منه أن يتنازل ويقبل الدية.
قال الأب:ـ له كل ما يريد حتى بيتي. كل أملاكي حتى بيتي هذا.
قام جواد قبّل رأس أبو محمد وعبر الشارع نحو بيت أبو جاسم. ما زالت النساء يخرجن بعباءتهن السود باكيات بيدهن مناديل يمسحن العرق والدموع. دق الباب وأتت أخت جاسم.
قالت:ـ الوالد غير موجود.
قال:ـ متى يعود.
نظرت له بغضب:ـ لا أدري.
قال جواد:ـ الموضوع مستعجل لا بد أن أراه.
قالت بجفاء:ـ كيف تراه وهو غير موجود.
دفع الباب بيده حانقاً:ـ الموضوع مستعجل.. أين ذهب.
أغلقت الباب خلفها واستدارت تاركة جواداً مذهولاً. وبجانبه بعض الأصدقاء قالوا "موجود في البيت.. لم يخرج من البيت بعد أن أخذت الشرطة محمداً".

(12)
زهرة مع بنات الجيران عند أم جاسم سمعت بما حدث لمحمد. عند خروجها من المدرسة كانت كل القرية تعرف بمقتل جاسم. وهي ظلت تنظر إلى زاوية الشارع. رأس المنعطف حيث ينتظرها محمد هناك كل يوم. مدرسته تنتهي قبل مدرستها. يظل يتحدث مع أصدقائه. مع جاسم وجواد أو غيرهما حتى تخرج مع زميلاتها. تنظر له من بعيد وينظر لها. تنعطف نحو بيت أهلها بعدها يستدير محمد ويذهب لأهله. لم يكن هناك ذاك اليوم. خافت على محمد واشتغل الوسواس. تخرج لبيت أم جاسم مع النساء وتعود تتسمع. لم تر محمداً. وحين غادرت سيارة الشرطة عرفت بالخبر. أسرعت نحو غرفتها دخلت الفراش ووضعت مخدة تحت وجهها ونامت على بطنها وغطت كل جسمها بملاءة خفيفة. الشباك مغلق والحر شديد وهي تسبح بالدموع، بالخوف، بالعرق. لا تستطيع أن تتنسم. تود لو تبكي بصوت عال. تود أن يموت قريب لها ليبكي الأهل عليه وتبكي محمداً. أمها تعرف وأختها الصغرى تعرف ووالدها لديه فكرة عن حب محمد لها، ونية زواجها بعد امتحان الثانوية. أتوا لها بالعشاء. شربت ماءً. أختها بجانبها. لم تأكل. نامت أختها تعباً. قبل منتصف الليل قامت زهرة فتحت الشباك ومدت رأسها للشارع وأحنت رأسها بدون حجاب. تركت الهواء يتطاير بشعرها كما يشاء والليل مقمر وظلال الحوائط الواطئة بارتفاعاتها المختلفة يشكل متاهات منورة وقاتمة وداكنة وقلاع قديمة وديناصورات. تريد أن تصرخ ورأسها منهدل من الشباك تنظر للأرض. تسند يديها على حافة الشباك والدم يحتقن في رأسها ووجهها. يتطاير شعرها الكثيف وظلاله تحفر في الأرض أخاديد وأشجار ووعول. تضيق الأرض في الحلق.
 استدارت وأسرعت خارجة من الغرفة. حافية دون حجاب وشعرها الأسود الناعم الطويل يصل الخاصرة وخرجت أمها من غرفة نومها إذ أحست بصوت غرفة ابنتها يفتح. تقدمت من أمها.. في الحوش في الليلة المقمرة وظلال الغرف يحجب جزءاً من وجهها.
قالت لأمها:ـ أسمعي لن تزوجوني لأحد.
اقتربت منها أمها ممسكة بيدها لتعيدها لغرفتها. سحبت يدها من يد الأم، قولي لأبي، لأعمامي. لأبناء عمي.. لن أسمع أي كلام عن الزواج.. سأموت إذا سمعت كلاماً مثل هذا. ألا يكفي أنه مسجون. يريدون اغتنام الفرصة. طبخ الشاة قبل عودة الراعي.

(13)
في الساحة غادون وعائدون. سيارات تاكسي. وسيارات نقل متوسطة تنقل الخضروات والحبوب من المزارع للمدينة. وباصات صغيرة, وناس كل حديثها كيف؟ ومتى؟ ومن؟ وماذا؟ عن محمد الذي كان واثقاً من أنه سيخرج من السجن بعد شهر. مدير التوقيف وضباطه يعرفون أنه بريء، أعطوه غرفة خاصة بمفرده وراديو والأكل يأتيه من البيت يومياً، وهو يذاكر للامتحان يقول لجواد الذي يزوره "قل لزهرة سأخرج بعد شهر"، يكتب لها ورقة صغيرة "لا يزوجونك بغيابي" يكتب مرة ومرات "أنا أذاكر للامتحان" يكتب "سأعود". يقول لجواد "اذهب لأبو جاسم قل له أنا ابنه. أنا جاسم، أنا حزني مثل حزنه. دعه يتنازل. أنا بريء".
لم يبق أحد من رجالات القرية أو شبانها إلا وتحدث لأبي جاسم الذي رفض أي دية أو تنازل "سأرى كيف يخرج محمد من السجن بعد شهر" يقول بحدة " لا أريد دية أريد القاتل.. يدفع فلوس لأهل حاتم وليس لي. يأتي به أولاً. أريد أن أرى قاتل ابني". الوساطات من المدينة ومن العاصمة وزملاء أبو محمد القدامى.ألوية في الجيش أتوا القرية طرقوا الباب وجاءهم الجواب في كل مرة "أبو جاسم غير موجود". رجال دين وقضاة، أعيان القرية والقرى المجاورة أتوا له فرادى وجماعات والجواب واحد. المحامون الكبار في العاصمة قالوا "لا توجد طريقة أخرى.. أقنعوه كي يتنازل". أخذ شبح الشنق يخيم على المنزل. على الشارع. في الحي. في الساحة. في المقاهي. في المنازل. بين ضباط الشرطة. الباعة والمزارعون. عند الجميع شبح. الشنق يقترب.
الشمس خفّت حرارتها. الصيف انتهى، وكذا الخريف، والشتاء. والكلاب الضالة والقطط بدأت تختفي تدريجياً من قلة ما يرمى لها من أكل في شارعهم. الشباك الأزرق لا يفتح. كآبة كغيمة شديدة القتامة تغطي المدينة. جواد لا يعرف لمن يذهب بعد الآن للتوسط. لا بصيص أمل. لا يعرف مع من يسير. في الليل مع أخيه الأصغر يدخن سجائر ويتحدث له عما تم ذاك اليوم وما سيتم في الغد. الشنق كلمة لا تخرج من فمه. مخزونة في دماغه. يحاول كل وسيلة لإقناع أبو جاسم بالتنازل. أبو جاسم في المقهى وجد نفسه لأول مرة في حياته له الكلمة النهائية. تبختر وتفرعن. لو كان استشارني. لست عنيداً. ولكن لا يجوز. وإبليس وجد الفرصة السانحة. تربع في دماغه. شحنه بالكبرياء والتحدي. وعزف له أخلاقيات الضعفاء.. الأصول والقانون.

(14)
دخلت الرافعة الصفراء بعمودها الذي يرتفع عالياً للساحة ووراءها عربة مغلقة النوافذ. والناس تجمهروا. كل من في القرية. ونزل محمد من سيارة الشرطة معصوب العينين يداه مكبلتان وعلى وجهه ابتسامة. عنده أمل. وقبل أن يرفعوه ارتفع صراخ الناس "لا تشنقوه عندنا" أرعب الشرطة تجمهرهم وصياحهم والأحجار في أيديهم. وعصي. أخذوه ثانية بالسيارة. جواد لم يخرج من البيت, وقال لأخيه "لا تقل لي شيئاً". يهيم في الغرفة نهاره وليله يدخن سكائر. مغلقاً النافذة. يمسح عرقه. شعر وجهه يطول. تسعة أشهر لم يتوقف عن التفكير والسفر والتوسط. الرعشة والهمهمة والتأوه في صدره المنتفخ. لن يُقهر الدهر. لم ينتصر. ولم يخرج من الغرفة بعد ذلك أبداً أبداً.