أنتجت شراسة العولمة القاسية في مجتمعات كثيرة، ومنها بلدان عربية كثيرة، ظاهرة أطفال الشوارع، وأخذت هذه الظاهرة تفرض نفسها على المعالجات السردية والرأي العام، هنا تناول سردي لبعض تجلياتها الجزائرية.

النائمون على الرصيف

الشريف حبيلة

لا أدري كيف خطرت بذهني هذه العبارة، فقط حينما دخلت غرفة الأطفال ونظرت إليهم في وله، كانت طفلتي نائمة على سريرها كزهرة احتضنتها الأعشاب على ضفاف جدول، بينما كان طفلي نائما على فراش بسط على الأرض، وكانت أمه بالقرب منه فوق سريره غارقة في النوم يبدو الوجل على وجهها... كم أحبها وأحبهما، اقتربت منها فتحت عينيها وجدتني متلبسا بقبلة، سكنت شفتاي بسمة لا تبدو بريئة وقلت بلا مناسبة: "النائمون على الرصيف"... طلبت منها المجيء إلى غرفة الاستقبال، رغبة في الحديث، حيث استلقيت وعادت هي إلى نومها...
كنت أتابع حلقة من حلقات مرايا... فجأة وجدتني أقول لنفسي لما لا تكون هذه العبارة عنوانا لقصة أكتبها. لا تظنوا أني أسرد بعضا من يومياتي إنما العبارة التي جاءت ولا أدري كيف سكنت رأسي... أردت فقط أن أبوح لكم، مجرد البوح فقط علني أصل إلى سبب محفور في منطقة اللاشعور، قد يطفو إلى السطح بمجرد ممارسة فعل البوح. عند هذا الحد تذكرت أمي رحمها الله، فسقط القلم من يدي ولم أعد أرى الورق... نزلت دموع ودموع... يكذب الرجل حينما يخفي دموعه ظنا منه أن الرجولة بلا دموع. وينسى أنها لا تكتمل إلا بالدموع... بالدموع فقط كانت النساء أكثر منا رجولة، لأن لديهن الشجاعة للاعتراف بضعفهن.
النائمون على الرصيف قصة حزينة أو تبدو كذلك.. قصة جماعة احترفوا الحرمان... منذ الطفولة لم يجربوا اللحظات السعيدة، لم يقترفوا لعب الأطفال... لم يفترشوا القطن الناعم أو حتى القديم.. جماعة تمتهن العيش على الرصيف وتنظر إلى الناس يمشون في الطريق بخطوات سريعة.. منذ الطفولة لم ينتبه أحد المارة إليهم.. حتى ظنوا أنهم غير مرئيين، أو غير موجودين.. وربما غير معنيين.. لكن بماذا؟!!... ربما بالحياة ذاتها.
ـ قال أحدهم: ومن قال أننا أحياء....!!!
ـ رد عليه الآخر: وما أدراك...!!!
ـ ختم ثالث الحديث قائلا: بل وما أدراهم...!!!
مرت لحظات صمت... ثم قال هذا الثالث
ـ ربما لو تحركنا... لأدركوا أننا أحياء.
استفسر الأول:
ـ أتعني أننا السبب في موتنا... أقصد في بقائنا على الرصيف نائمين، والمارة يظنون أننا ميتين؟!!!
ـ أجابه الثالث والثاني ساكت لا يتكلم: ربما... ربما!
قال الأول: أتذكرون تلك الأيام... برغم كل الحرمان كنا نشعر بالأمان كنا نعرف للعب طعما رغم أنه لم يكن غير ركض عل الأرصفة.
 ـ هنا تكلم الثاني: حينها كانت لنا أم تحمينا تهدهدنا.. فقدنا الأم.. وبفقدها فقدنا الأمان.. هل تذكرون؟
ـ أجابه الثالث، والأول يبكي: نعم أذكر... وأذكر كم كانت حلوة تلك الأيام، رغم مرارة الرصيف.
مسح الأول دموعه بكمه المترهّل وطلب طلبه:
ـ من يعيدني إلى تلك الأيام؟؟؟
تنهد الثاني والثالث قال: لا أحد غير الطفولة؟؟؟
ـ أجاب الأول: وهل تعود الطفولة بعد ما ولت واستحالت
ـ قال الثالث: ربما... ربما؟؟؟
سكت الكلام عن الكلام، وراح الثلاثة ينظرون إلى الطريق...كان مزدحما ممتلئا... ذاهبون وراجعون.. محملون وفارغون... يركضون... يركضون ولا يلتفتون، ومن يسقط يجد نفسه على الرصيف نائما دون أن يدري كيف سقط؟.. كيف جاء إلى الرصيف؟.. كيف نام؟ وهل سيستيقظ كي يعود من جديد إلى الطريق؟ وبمجيء الضيف الجديد يرحب به أهل الرصيف بعبارة واحدة تتكرر مع كل وافد "لا تفكر في المسير.. ونم ثم اقتنع بأنك لم تكن.. فأنت أنت الآن".
ـ سيدي كيف؟... ولماذا؟؟؟
صمت رهيب... يدوي السؤال صرخة في الفراغ... ولا جواب. كم صعب أن يأتي واحد إلى الرصيف بعد ما جرب المسير في الطريق... صار الثلاثة محظوظين لأنهم لم يعرفوا يوما الطريق. ينظرون إلى الطريق... أمّ يسقط ابنها من بين ذراعيها... ترمي له يدا... تبعدها الزحمة... زحمة المسير، وتدوسه الأقدام... ربما يجمعهما الرصيف
!شيخ كبير يتوكأ على عصاه، تسقطه الأيدي المتلهفة، وتدوسه الأحذية المخضبة بالدماء... ربما... ربما يكون على الرصيف.
وامرأة تبغي رزقها، ترميها الأيدي، وفوقها تبصق قطعا نقدية... ربما... يقبلها الرصيف... ربما!
وفتاة تتبعها الأعين العطشى، وهي مسرعة في الطريق لتلحق مجدها... حظها... ربما حتفها!!! ويزدحم الطريق...!!!
 ـ سأل الأول ببراءة: هل سيفرغ الطريق؟!
ـ يجيب الثالث: ربما...!!!
ـ ويقول الثاني: لا أظن...
ـ يلتفت إليه الثالث ويزيد: لو عرفنا مصدر السيل... سيل البشر... لوجدنا ربما الجواب!!!
ـ قال الأول أيضا ببراءة: وهل نجهل مصدر سيل البشر!؟
سمعوا صوتا قادما من بعيد: قد لا نجهل المصدر... ولكن نقصد بداية الطريق ونهاية المسير.

كاتب من الجزائر