يتناول الناقد السوري في هذه المراجعة مجموعة الكاتبة العراقية المرموقة هيفاء زنكنة، وهي مجموعة أقرب للحلقات القصصية تتناول معاناة العراقي في المنفى، وكيف أن الوجع العراقي لا خلاص منه إلا بشفاء العراق نفسه.

عزلة المنفي المقطوع عن سياقه

في «حياة معلبة» أول عمل لهيفاء زنكنة بعد غزو العراق

حسام الدين محمد

«حياة معلبة» هو اول عمل ادبي يصدر لهيفاء زنكنة بعد احتلال العراق، وتعزو الكاتبة ذلك الى صدمة المخيلة لأن احداث الواقع انهكت الخيال، فلم يعد قادرا على مجاراته ادبا. وهو الأمر الذي يدفع قارىء الكتاب للتساؤل عن الكيفية التي يمكن ان تربط "حياة معلبة"، وهو عمل يقدم قراءة ادبية لحياة عائلة عراقية تقيم في بريطانيا من خلال خيط واصل بين اجزاء العمل هو الرحلات المرتبة من قبل شركات سياحية التي كما تقول هيفاء في روايتها القصيرة (التي اسمتها هي مجموعة قصص) "يحبها الكثيرون لأنها توفر وقت الراحة، انعدام الالتزامات، نسيان الوظيفة، والحرية في الاستهلاك بكافة انواعه الشرب والاكل والجنس". واذا كان هذا قدم نوعا من نموذج معين صار جزءا لا يتجزأ من تركيبة المجتمع الغربي، ومؤشرا الى ما هو اعمق، فكيف ينعكس هذا النموذج على الغرباء المقيمين في بريطانيا؟ وهل يستطيعون الخوض في بحر الاستهلاك والنسيان كأقرانهم الغربيين؟ وهل يتحوّل ذلك لدى هؤلاء كما اولئك "حياة معلبة يستمرؤها المرء فتمتد عمرا؟" كي نستطيع الاجابة على هذا السؤال علينا ان نتبع خيوطا مضيئة عديدة تلتمع بين تفاصيل "حياة معلبة" التي تتعرض لحياة افراد عائلة عراقية واحدة مكونة من الاب والام وابنين تقيم في بريطانيا. 

رحلة الى اقاصي العزلة
القصة الأولى تتحدث عن رحلة الابن الاصغر المصاب بمرض التوحد الى ايطاليا التي هي رحلة معكوسة: ليس المطلوب فيها لقاء الناس، او استهلاك الاكل بل الوصول الى اقصى العزلة، حيث لا رابط يربطه بالعالم الا طيور بيضاء يذهب اليها ليروي لها حلمه الذي لم يجد احدا يسمعه منه، وحتى عندما يقرر ان يحكيه لنا فاننا لا نجد الا سطورا فارغة بما يحيل الى استحالة التواصل والوصول بالحصار الى نهايته القصوى" واذا كان الشاب مدفوعا الى هذه العزلة بداعي مرضه فان ما سنتكشفه لاحقا ان هذه العزلة تلاحق العائلة كلها.

في القصة الثانية نشهد الزوج والزوجة في رحلة اخرى مع الشركة نفسها الى "سانت ايفز" ببريطانيا بحيث يتشارك المطر الصيفي الغزير الذي واجه الزوجين مع وصولهما الى الفندق في اضافة عامل اخر الى التأزم الذي نحسه بين الزوجين اللذين يتضح توترهما مع تصاعد القصة التي توضح لنا معالم نفسية وسياسية للزوجين فالزوجة تربط قبولها لاعتذار الساقي في الحانة بكونه وسيما، مما يجرّ الحديث الى الكلام عن وسامة غيفارا وامكانية ان تكون سببا في تحوّله ايقونة عالمية.

وبعد شرب عدة كؤوس من الويسكي يطلّ من جديد موضوع الشاب المريض بالتوحد مع ابداء الاب انزعاجه من اهتمام الام المتواصل به لكن جملة يقولها تنبهنا مجددا الى العزلة المحيطة بالجميع: "انه سعيد اكثر منا في توحده وغربته عنا وعن العالم"! المرأة، وخوفا من نزاع عقيم تأخذ الحديث الى الماضي مما يبعث البهجة لدى الزوج فيأخذ باستعادة ذكريات (ثورة 56 لعل المقصود ثورة 58 وهذا خطأ مطبعي؟) بحيث نحس ان الماضي هو المكان الأساسي الذي يمكن اللجوء اليه هربا من عزلة الحاضر وتفاصيله: المكان الغريب والوضع الغريب لعائلة مجتثّة من سياقها التاريخي والمكاني. وفيما يخرج الزوج مودعا الحانة تتخيل الزوجة، متكئة على حديث قاله صاحب الحانة لزوجها عن النوارس، نورسا اسود بنقطة حمراء مشعة في ظلمة المكان وهي تردد نفس عبارة الوداع التي قالها زوجها.

في القصة اللاحقة تترافق الأم مع ابنها الاكبر في رحلة الى صقلية والحدث في القصة يرتكز على سماع بطلة القصة لحديث بعض الركاب القادمين الى الفندق نفسه بالعربية بلهجة عراقية: "يا للصدفة. لقاء عراقي في صقلية. تذكرت اغنية "سبحان الذي جمعنا من غير ميعاد" تقول لنفسها. تحاول المرأة التقرب من العائلة العراقية أولا بالابتسام لهم فلا يردّون على ابتسامتها ويختارون مكانا بعيدا في الباص بعيدا عن الجميع. وعندما تقابل واحدة من العائلة العراقية عند الصباح تقول لها "صباح الخير" بالعربية فتتظاهر بأنها لم تسمعها. تحاول المرور من قرب طاولة العائلة في مطعم الفندق عدة مرات لكنهم يقومون بالحديث بصوت خفيض بشكل لا تسمع لغتهم او لهجتهم مرة اخرى. لا تتوقف المرأة عن محاولاتها ولكنها تخاطبهم بصباح الخير في المصعد بالانكليزية فيجيبون بانكليزية ذات لكنة واضحة لكنهما يتابعان الحديث بالايطالية.

تتابع القصة انشغال المرأة بقضية تلك العائلة التي ترفض الاعتراف بعراقيتها فيما تشير الى ناحية اخرى لدى الابن، فهو قد وافق على هذه الرحلة لأنها لا تضم انجليزا مبررا ذلك بالقول "الا يكفيني انني اعيش معهم ليلا نهارا!" فتجيبه الأم ملمحة الى زوجته الانكليزية المنفصلة عنه "كان بامكانك ان تعيش معهم نهارا فقط". وهكذا تتصاعد المجموعة من توحّد الابن المريض، الى عودة الأب الى الماضي هربا من الحاضر، وصولا الى محاولة المرأة التواصل مع عائلة عراقية من المجهول، بينما يقوم الابن باقفال تجربة العلاقة مع الآخر المتمثلة بالزواج من انكليزية. تنتهي القصة بملاحظة المرأة لتجنب العائلة العراقية لها ولابنها فيما يعيدهما تقديم النارنج الصقلي لهما الى النارنج العراقي فتقوم الام بارتشافه ببطء "رشفة رشفة. كأنني اريد الاحتفاظ بطعمه المألوف الى الابد". 

من اي بلد أنت؟
في القصة التالية سيكون الراوي هو الزوج الذي يذهب وحده في رحلة الى ايرلندا وتكون النقطة التي ستفتح قوس القصة هي سؤال احد الايرلنديين للرجل: "من اي بلد انت؟". صفعني السؤال في وجهي. وقع المحظور. بلعت ريقي بصعوبة، وتمهلت في الاجابة". بعد تفكير طويل يجيب: "العراق... واضفت متداركا.. الا انني مقيم في لندن". لكن المفاجأة تكون برد فعل الرجل الذي يقول بصوت حزين: "انا متأسف جدا من اجل الشعب العراقي. انه يمر بفترة صعبة حقا. مثلنا في ايرلندا" ويعلق على ذلك: "ها انا التقي برجل يلخص كل ما اريد قوله بجملتين، ثم والاكثر غرابة من ذلك انه يعرف.. يعرف. ولن اضطر لتوضيح شيء له". اما البؤرة الحقيقية في القصة (التي اعتبرها شخصيا من اجمل قصص الكتاب) فهي عندما يقترح الايرلندي على بطل القصة زيارة سان باتريك وهو القديس الذي ادخل المسيحية الى ايرلندا، ويقتنع الرجل بعد ان يدعوه الايرلندي وزوجته الى حانة قريبة وفي لحظة الوداع يرفع الايرلندي كأسه عاليا "استجمع قواه وصرخ بصوت عال: العراق. رفعت كأسي التي بدت ثقيلة كصخرة، وحاولت تقليد صرخته: ايرلندا. واحتضنتهما باكيا. من بين دموعي المنهمرة، وعدتهما ان اغير برنامج رحلتي وازور ضريح القديس سان باتريك".

بعد رحلة شاقة يقع فيها وتهاجمه الحشرات ويحس بالام في مفاصله وعضلاته والكدمات التي اصيب بها يعود بالرجل الزمن الى طفولته يشتكي لأمه من التعب فتجيبه: "نزور الامام اولا، ثم نرتاح، سترى بنفسك كيف نرتاح". وبدلا من سماع صوت الدليل الايرلندي يسمع صوت قارىء يخاطبه بالعربية: "السلام عليكم يا اصفياء الله واوداءه. السلام عليكم يا انصار ابي عبدالله. بأبي انتم وامي. طبتم وطابت الارض التي فيها دفنتم، وفزتم فوزا عظيما. فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم". وفي اللحظة التي يحس فيها بالتخاذل والضعف تحمله الجموع فيغادره ثقل الروح ويخف الجسد "رفعت رأسي نحو الاعلى. أطل علي من حافة فسحة القمة وجه الشيخ الجليل (...) مبتسما مشجعا، كان ينظر الي ملء عينيه. رأيت في صفاء عينيه انعكاس صورته المرسومة في عيني" فتعثرت فمد يده جاذبا اياي اليه.". قوة هذه القصة انها تفسح المجال للاحتضان الروحي من الآخر بحيث تزول الفوارق واللغات والمواقف المسبقة، فرحلة الحج كان دافعها العواطف الايرلندية الجياشة من زوج وزوجته اللذين عاملا العراقي الغريب معاملة انسانية وأشعراه بالتماثل بينهما وبينه وبين العراق وايرلندا، فكان صعود الجبل هو صعود رمزي الى المنطقة التي يلتقي فيها الانسان بكل لغاته وعروقه واديانه، بحيث يتحول سان باتريك الى وليّ من اولياء الله الصالحين، ويعود الطفل الى تجربة الطفولة التي تجسد البراءة في حدّها الأول، بحيث تنتفي حيثيات الزمان والمكان ويتحول الى وحدة اشبه بوحدة الوجود التي يلتقي فيها الانسان بالله، التي هي تجربة انسانية وروحية في الآن ذاته.

في رحلة لاحقة الى الاندلس باسبانيا يقرّر الرجل الهروب من العطلة المعلبة والفندق المزدحم بالسياح محاولا تكرار التجربة الروحية التي حصلت معه في ايرلندا متبعا قول الايرلندي له: "كيف تسمح لشركة حقيرة ان ترتب ايامك؟" فيركب القطار الى ملقا ومن ملقا الى نهاية الخط حيث ينزله في منطقة اسمها "الورا". يكتشف طريقا اسمه "درب القلوب المهمومة" فيأخذه الى ساحة البلدة ثم القلعة امامها لوحة "تصور رجلا عربيا يمتطي فرسا وامامه على صهوة الجواد طفلة ترتدي فستانا طويلا من الدانتيلا البيضاء. يحيطها الرجل بذراعه اليمنى بينما يدفع عنها حراب الجنود المحيطين بهما باليد اليسرى".

يتساءل: "هل هو آخر المدافعين عن القلعة؟ هل هو آخر المهاجرين منها؟".

يكتشف الرجل ان سور القلعة مبطن من الداخل بقبور لموتى يطلون من نوافذ زجاجية مؤطرة بالرخام. فجأة يحس الرجل بالموت يثقل المكان وبغياب الحياة فيذعر وينزل الدرجات بسرعة ليجد عند باب القلعة الطفلة التي كانت على حصان العربي "وعلى وجهها الشمعي الاصفر لمحت ظل ابتسامة". هذه القصة تعيدنا الى المربع الاول، للموت الذي يجسده الصراع على الاندلس والذي انتهى بترحيل هائل للعرب وبمجازر وانتفاضات. في يأس وحزن هذه القصة ما يؤلم كثيرا لأنها تنظر الى الماضي بعين المستقبل فترى اللحظة السوداء التي لا يلتقي فيها الانسان بل يقتلع اخاه، وتحضر الطفولة مرة اخرى لكنها الطفولة المجتثة من براءتها والتي منعها التعصب من العيش وانتهت تمثالا شاهدا على التعصب ورفض الآخرين. 

متى يأتي الغد؟
الفصل الاخير من العمل يقدّم لنا العائلة في بيتها بلندن ونشاهد جدلا بين الزوج والزوجة على موضوع عصفور استعارته الزوجة من اقرباء او اصدقاء وتؤجل اعادته من يوم لآخر. تحصل مشادة بين الزوجين ويخرج الرجل صافقا الباب وراءه، تتساءل ان كان العصفور هو السبب ام انهما "لم يعودا بحاجة الى سبب للخصام. يغضب. يصفق الباب وراءه. يخرج، فتبقى هي جالسة مقابل حسون". تتأجل عودة الحسون الى "الغد" الذي لا يعلم احد متى سيكون: "غدا متى؟" تتساءل الزوجة بنهاية القصة. نستعيد بهذه القصة حالة التوتر بين الزوجين التي لم تنجح الرحلات المعلبة في تخفيفها، وتجسّد حالة الحسون الشعور الذي تعانيه المرأة: انها مثل طائر سجين في قفص. ليس فقط انها لا تستطيع الخروج منه بل انها لا تريد ولذلك تؤجل القرار الى ما لا نهاية، ولو انها اعادت الحسون لأهله، فهل تستطيع هي ان تعود الى اهلها؟ وهو ما يحيلنا الى العلاقة المكتومة بين حكايات "حياة معلبة" وبين الوضع العراقي، فهو بشكل ما يشير الى المأزق الذي يعيشه المنفيّ المغترب في الغرب فيما وطنه يعاني الويلات. انها حالة العجز عن الفعل التي تؤدي الى محاولات التحايل على حياة مأزومة وبعيدة عن السياق الأصلي الذي بدأ المغترب حياته فيه، ومنه جاء واليه ينتمي.

"حياة معلبة" عمل سردي محكم يرسم بأسلوب انساني شفيف معضلة العائلة العربية المقيمة في اوروبا بينما بلدها يتمزق ويحترق واقاربها يموتون والحياة تمرّ بشكل آخر في مكان آخر كانت تنتمي اليه ولم تعد تنتمي اليه، دون ان تتمكن من التآلف مع المكان الجديد ولا الانتماء اليه رغم مرور عشرات السنين. لطالما كنت احس بالحزن الانساني الشفيف الذي يخترق مكوّنات النفس البشرية ويكشف هشاشتها، لكن هيفاء زنكنة في عملها الاخير هذا وصلت بحرفتها الادبية الى ذروة عالية من الرهافة والعمق والقدرة الرائعة على التعبير الابداعي تستحق الانتباه لها جيدا واعطاءها ما تستحق من بحث وقراءة لم تستطع قراءتنا هذه الا لمس مفرداتها الأساسية. 


كاتب سوري يقيم بلندن