يكشف الناقد المصري هنا عن العلاقة الجدلية بين بلاغة المشهد وكتابة عالم الهامش بتناقضاته وصبواته وتناقضاته التحتية في رواية الكاتب المصري سامح الجباس الأولى التي تعيد حكاية التاريخ المسكوت عنه.

بلاغة المشهد وعالم الهامش

التاريخ يجب أن تعاد حكايته

حاتم حافظ

كيوم الحشر أو أشد ازدحاما تكون مدينة بورسعيد نهار مباراة النادي المصري البورسعيدي والنادي الأهلي، المدينة كلها تحتشد في الإستاد، وحينها لا يكون للمباراة نفسها أهمية الطقس الذي يؤديه أبناء المدينة، تسعون دقيقة من السباب المتواصل، سباب يطال لاعبي الأهلي، والحكم، ومساعديه، ورجال الأمن وغيرهم، حتي أن بدوي الصعيدي الذي ليس له في طور بورسعيد ولا في طحينه لا يقل عن أهل البلد حماسة في تشجيع النادي المصري، ويتساءل الراوي هل حب النادي المصري معد؟

في مدينة بورسعيد منتصف السبعينيات وعلي مدار عقدين تقريبا نعيش مع رواية سامح الجباس (حي الإفرنج) الصادرة عن دار العين، وأقول «نعيش» لأنها رواية لن نبدأ في قراءتها حتي يتراجع فعل القراءة كي لا يمنعنا من معايشة أهل بورسعيد، وشم يود بحرهم، بل وتلاقي آلامنا بآلامهم، وحينها سوف نفهم لماذا قلص سامح الجباس مساحات البلاغة، بل ألغي وجودها تماما لصالح المشهد. هنا كما سنري «أدبية» لا تعتمد علي اللغة بقدر ما تعتمد علي المشهدية. إنها رواية سوف تجعلنا نتساءل: كيف يمكن أن يكتب الأدب بدون جملة أدبية واحدة؟ وكيف يظل مع هذا وربما بسبب هذا أدبا جميلا؟

نعود للمباراة/ الطقس، رغم أن الإشارة لمباريات المصري والأهلي لا تتجاوز صفحتين أو ربما ثلاثة في الرواية ولكني أميل لتعاطيها باعتبارها بداية طريق شائك من الحزازات بين المركز والهامش، بين حي الإفرنج كمركز، وحي العرب والعشش كهامش، بين القاهرة كمركز «النادي الأهلي» وبين بورسعيد كهامش «النادي المصري»، بين بحري كمركز «بورسعيد نفسها» وبين الصعيد كهامش «بدوي الصعيدي»، بين الحكومة "ضابط الشرطة" كمركز وبين الشعب "عم بحبح مثلا" كهامش، بين مرشح الحزب الوطني كمركز طبعا وبين مصطفي شردي الوفدي الوطني مرشح الشعب كهامش. ورغم ذلك فإن أي من ممثلي المراكز لن نجد لهم حضورا في السرد، مع حضور كامل للهامش بكل صوره. والدراما في الرواية هي دراما الانتقال من الهامش للمركز، انتقال العربي بائع السمك "سابقا كما يتهكم عليه السرد" من حي العرب إلي حي الإفرنج، مستفيدا من إعلان بورسعيد منطقة حرة في منتصف السبعينيات، بقرار من الرئيس المؤمن، مطلٌِقا السياسة كما يقول هو بالثلاثة، حيث أن أكل العيش مايركبش مع السياسة. ودراما الانتقال من الهامش لهامش الهامش في انتقال الأفندي إلي بائع سرٌِيح.

وفي غياب تام لممثلي المركز في الرواية يجد الجميع من سكان العشش وحي العرب/ أهل البلد/ الهامش أنفسهم داخل سواقي السوق الحرة، السوق المنفلتة من كل رابط، تدور الساقية فينتقل العربي الذي افتتح محلا للملابس، مخلفا تاريخا من بيع السمك علي الرصيف، وتدور الساقية فيجد الأستاذ فؤاد أفندي نفسه علي رصيف أمام كراتين للشرابات، بينما يضع علي رأسه قبعة عريضة إخفاء لوجهه من المتلصصين والشامتين وما أكثرهم. بالرغم من أن الطريق إلي حي الإفرنج لم يكن بعيدا عن زملائه في العمل من المرتشين.

حي الإفرنج نفسه "عنوان الرواية" لا يذكر في الرواية إلا في منتصفها تقريبا، بينما لا يدور أي من أحداثها عدا مشهد وحيد في حي الإفرنج. ولكنه يظل دائما ماثلا باعتباره الطرف الآخر البعيد عن حي العرب، باعتباره المأمول في السلم الاجتماعي الذي تم قلب تراتبياته بانفلات حركة تجارته عن حركة قيمه.

والطقس الذي يقوم به مشجعو النادي المصري والذي يوازي طبعا طقس حرق اللمبي في عيد شم النسيم، وهو طقس يمارسه الجميع حيث يصنعون دمية علي هيئة أكثر الشخصيات كرها بالنسبة لهم، ثم يحرقونها ويدورون بها في شوارع بورسعيد، فمرة تكون الدمية علي هيئة تشرشل، ومرة علي هيئة الملك فاروق وهكذا. "ومن منا ليس له دميته التي تستأهل الحرق؟!".. لكن الطقس لن ينقذ النادي المصري من حكّم أهلاوي سوف يحتسب ضربة جزاء مضروبة لصالح الأهلي، ولن ينقذ مصر من حرب ثلاثية، ولن ينقذ أهل مصر من انفلات العالم بقرار من رئيس مؤمن! الطقس هذا لم يمنع التاريخ من صنع الجغرافيا، لم يمنعه من تحديد صارم لأحياء بورسعيد، لم يجعله يستح حين اضطر أهل البلد لسكني العشش علي أطراف حي العرب. لم يمنعه من مواراة أم الفقير تلك الشخصية الأسطورية البورسعيدية التي قيل إنها كانت تدور علي بيوت الأغنياء لتأخذ منهم ما يقيم أود الفقراء، والتي ظل أهل بورسعيد لسنوات يثقون في طلتها حماية لماء وجوههم.

أجمل ما في الرواية: طريقتها للسرد، يستهل السرد بمشهد غاية في الحميمية والبساطة والجمال، أطفال يلعبون في الشارع، عربة كارو تدخل المشهد حاملة أسرة عائدة بعد التهجير، طفلة تنسحب من اللعبة صاعدة سلم بيت قديم لإخبار الأم بخبر العائدين، الأم تطل من الشرفة فتضبط ولديها علي عتب البيت فتأمرهما بالمسارعة لمساعدة هؤلاء في حمل العفش، وبعدها لا يفوتها طبعا أن تأمر ابنتها أن تسرع لإخبار الأب أن عليه أن يرسل أكلة سمك معتبرة للعائدين. لا يمكن تخيل جمال هذه الافتتاحية إلا لو عرفنا أن ذلك لا يستغرق غير أربع صفحات فحسب. في لغة أقرب للسينما بتقطيعاتها وإيجازها وتقشف لغتها مع وفرة في بلاغة التفاصيل داخل المشهد، مع رشاقة بليغة جدا، رشاقة سبّت ينسل هابطا بينما يكون أحدهم في طريقه لداخل بيت عتيق في اللحظة نفسها التي تكون صبية تتعثر في خطواتها خجلا من حبيب أبي إلا أن يوصلها لبيتها حتي ولو كان يسير وراءها بخطوات وخطوات.

الرواية كلها تخلو من جملة بليغة واحدة، حين يريد أن يقدم نورين وعلاقتها بأبيها الصعيدي فإنه يقول كانت نورين تشعر أن والدها يعاملها كجماد. أكيد أن والدها لا يظن أنها إنسانة. بل كنبة أو دولاب هكذا فحسب، تاركا لمشهد تلصصها علي شباب الشارع من خلف خصاص نافذة مغلقة كل البلاغة. وحين يريد أن يقدم شخصية العربي بعد أن افتتح محلا للملابس المستوردة فإنه لا يخبرنا بأكثر من ذلك غمس العربي يده في دم الخروف وطبع كفوفا بالدماء علي الحائط، ولأن ذلك هو ما سوف يفعله ابنه بعد ذلك حين يفتتح محلا جديدا، فإننا سوف نفهم أن أكف كهذه لابد أن تكون مغموسة في الدم، حتي ولو لم تقتل قتيلا.

والملفت للنظر أن الجملة في الرواية وحدة قائمة بذاتها تماما لأن علاقتها تكون بالمشهد وليس بالسياق اللغوي، ولذلك فإن السرد يقطع الجملة نفسها ويقسمها علي سطرين إذا ما حّوّت الجملة مشهدين مثلا. ومع هذا الحياد الذي تبديه اللغة، فإنها لا تخلو أحيانا من السخرية التي يمكن أن تكشف أيديولوجيتها المخفاة خلف حاجز الحياد، كالسخرية من العربي حين يصاحب اسمه "بائع السمك سابقا" مثلا، أو حين تسأل ما علاقة عروس البحر بالحج أو غيرها. مع بعض تسربات لتقنية الميتارواية بحذر شديد حين يسأل مثلا الراوي أين محمد البحر وأخته انتصار؟ حين يغفلهما السرد فترة طويلة.

من جهة ثانية فرغم أن الكاتب يبدي بعض التحفظ عند مقاربة الجنس إلا أن الجنس "المشار إليه كثيرا في الرواية علي استحياء" علامة موحية جدا، فدائما ما تقترن العلاقة الجنسية بشكل العلاقة الإنسانية، العلاقات السوية هي فحسب التي تصاحب علاقات إنسانية سوية وخالية من الزيف الاجتماعي ومن الطمع الذي صار عنوان المرحلة، وبطول الرواية نجد أن العلاقة الجنسية السوية هي فقط التي تخص فؤاد أفندي وزوجته، وسعيد الصياد وزوجته، بينما يسم مناخلي والعربي وشحاتة وعبد العال أبو شادوفة ودعبس المخبر وهشام السمكري ونساؤهم علاقات جنسية بها عوج اعوجاج علاقتهم بأنفسهم وبعالمهم.

يستعير الكاتب أيضا تقنية من تقنيات الرواية التسجيلية. ففي صدر كل فصل فقرة عن تاريخ المدينة، إلا أنه لا يفعل ذلك لأغراض الرواية التسجيلية ولكن علي العكس لفضح التاريخ الذي لا يسجل. غير أن بناءا كان هنا وآخر هدم هنا، بينما التاريخ الحقيقي للعالم سوف يكون في الطرف الآخر، في تفاصيل الحياة اليومية التي تخدعنا بساطتها فتخفي عنا العمق الذي يكتنفها. ولعل جملة يفتتح بها صدر أحد الفصول تقول قبل شم النسيم بأيام يصبح الكل مشغولا. أكثر تعبيرا عن التاريخ الحقيقي للبشر الذين يصنعون التاريخ. ولكن لهذه الاستعارة غرض آخر لدي الكاتب الذي سوف يجعل منه تكأة لفقرات طويلة تنسحب فيها الأصوات الروائية لصالح صوت المؤلف وهي فقرة أظن أنها من أضعف فقرات الرواية، لما فيها من مباشرة. وفيها يقرر الراوي/ المؤلف "في هذه اللحظة" أن التاريخ يجب أن تعاد كتابته، ثم يسخر قائلا لم يقتل البطل سيد عسيران ضابط المخابرات البريطانية سير وليامز، بل قتله الحاج العربي باستخدام دستة ترينجات ماركة أديداس!.. إلي نهاية الصفحة. وفي رأيي أن كل ما أريد قوله قد قيل قبل وبعد هذا المقطع. ورغم ميلودرامية النهاية، بل النهايات، "فلكل شخصية ميلودراميتها الختامية"، فإن سؤال المستقبل لن يسأل خلل الميلودراما "كانتحار عم بحبح مثلا أمام باب المحافظة" ولكن خلل سؤال يسأله محمد البحر لشادي: تفتكر يا شادي إن حالنا هيتغير بعد ما نتخرج من الجامعة؟ ولأننا سوف نعلق بشفاه شادي وقتها فإن شادي لن يجيب: أراد شادي أن يجيب محمد البحر إلا أنه لم يستطع.

رواية (حي الإفرنج) تؤكد أشياء كثيرة، ضمنها أن الواقعية كتيار لم ينته، وأن الكتابة الجديدة التي بدت أبعد ما تكون عن الواقعية ربما تنفد سريعا، وحينها لن يكون أمامها غير الواقع رغم صرامته، أو ربما بسبب صرامته. كما أن الرواية تؤكد أن كاتبا جادا سوف يثبت حضوره في السنوات القادمة اسمه سامح الجباس برواية هي الأولي بعد مجموعة قصصية لفتت النظر إليه في حينها. 


عن (اخبار الأدب)