تقدم الناقدة المصرية في تناولها للرواية الثانية لبهاء عبدالمجيد «جبل الزينة» تحليلا يهتم بدور الأسطورة في بنيتها السردية، ودلالات تضافر الأسطوري مع الواقعي فيها.

حين تشبه اللغة لغة السحر

«جبل الزينة».. أم جبل من الأساطير

فاتن حسين

«جبل الزينة» رواية للأديب الشاب بهاء عبد المجيد، اعتمد فيها علي الأسطورة بشكل كبير، بل تكاد تطغي الأسطورة علي ملامح الرواية، ولا يلمح القاريء فيها، سوي سلسلة من الأساطير، قصد الكاتب من ورائها بعض الاسقاطات السياسية والثقافية والاجتماعية علي الواقع المعاصر. أراد من خلالها، أن يفتح طاقة علي التاريخ، ليؤكد مبدأ الأزلية في كل شيء: الزمان والمكان والعادات والتقاليد. بل أزلية البشر أنفسهم الذين لم تتغير بعض عاداتهم منذ آلاف السنين، ويرفضون تغييرها، بل ويحاربون كل محاولة للتغيير. تدور أحداث الرواية حول عثور أهل قرية شكشوك الساحلية، علي جثة لرجل متوسط العمر، ملقاة علي شاطيء بحيرة قارون بالفيوم، ومن خلال سعي أبناء القرية للبحث عن هوية صاحب الجثة، تدور أحداث الرواية، التي لا تزيد عن حّكايا متناقضة ومتعددة من نساء وشباب وأطفال القرية حول الرجل الغريب صاحب الجثة: بعضها تكهنات، وبعضها حقائق، وبعضها من صنع خيالاتهم البحتة، وتنتهي تلك الحّكايا باختفاء الجثة فجأة كما ظهرت فجأة.

ثم يدور البحث مرة أخري، ولكن هذه المرة، حول سر اختفاء الجثة، فنري مجموعة من الصيادين يقسمون أن القمر قد هبط من هناك وانشق ونزلت منه أميرة جميلة ترتدي البياض وتجر وراءها شعرها الطويل. وأنها حملت الجثة بين ذراعيها وصعدت بها نحو السموات العليا، وهي تذرف دموعا، ما لبثت أن نمت في موضعها أشجار النخيل والزيتون. وفي اليوم التالي، عادت الحياة من جديد في القرية، فنري القوارب تتهادي علي مياه البحيرة، وينشغل الصيادون برمي شباكهم، ويتزايد هرج ومرج الأطفال في الحقول، ويعلو صوت الباعة، وتمتليء القرية من جديد بالأغراب، ويغيب القمر شهرا كاملا عن القرية بدون بزوغ، ويتجمع صيادو قرية شكشوك كل ليلة حول النار، يعيدون رواية الفتاة الجميلة فارعة الطول التي يرونها تمشي ليلا عند سور البحيرة، تنظر للماء وتهرول تجاه الشاطيء، وتغني بصوت شجي، وتبقي علي ذلك الحال حتي انبثاق القمر، فتختفي.

استند الكاتب في سرده، إلي الأسطورة: وذلك ليتخلص من محدودية الزمان. ولكن كيف صاغ بهاء عبد المجيد أسطورته؟ ولِم يستلهم العمل الأدبي عادة الأسطورة؟ إن ثمة اتفاقا بين الأسطورة والعمل الأدبي في مناطق عدة وهي: التأكيد علي معتقدات معينة تعتنقها الأسطورة، كما تعتنقها شخصيات العمل الأدبي، وكذلك كاتبه، وفيها التأكيد علي تداخل الحدود وامتزاجها بين الحلم والواقع، ثم طبيعة اللغة، حيث يستخدم الكاتب لغة أشبه بلغة السحر، مع التأكيد علي أن اللغة ليست هي الأساس في الأسطورة، حيث تكمن مادة الأسطورة أيضا في أسلوبها وإيقاعها وتركيبها السردي الخاص، كما نجد اتساع أفق الزمن ورحابته، حيث يكون الزمن في كل من الأسطورة والعمل الأدبي شديد الانفتاح ليس له حدود، لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، زمن واحد متصل. من خلال هذه العناصر المشتركة بين العمل الأدبي والأسطورة، اكتسبت رواية جبل الزينة خصوصيتها، ولكن استخدام الكاتب للأسطورة كان استخداما لا ينم عن نضج فني أو أدبي في توظيف الأسطورة توظيفا أدبيا بارعا، كما فعل توفيق الحكيم مثلا في مأساة أوديب، ومن قبله بيرانديللو، الذي تأثر به الحكيم. لقد آمن الحكيم كما آمن بيرانديللو، بأن المسرح هو الحياة نفسها، وأن الممثلين فوق خشبة المسرح هم الناس الذين يعيشون فوق الأرض، ومن ثم فإن أعمالهم وعواطفهم أو ما يقومون بتمثيله هي نفسها أعمال الناس وعواطفهم، وهكذا انتهت تلك الفكرة إلي النظرة التي تسوٌي بين المسرح والحياة، أو بين الوهم والحقيقة، وانتهي بيرانديللو، كما انتهي الحكيم، إلي الإيمان بنسبية الحقيقة، وتنوع الشخصية، ونزوعها الدائم إلي التغيير.

وذلك ينقلنا لتعدد الأقاويل حول سر الجثة المسجاة علي شاطيء البحيرة، والتي تتفق كلها علي أن صاحبها قتل، قتلته رغبته المحمومة في البحث عن الحقيقة، وقادته إلي هذه النهاية المأساوية، ومن بين ما رواه أهل القرية حوله: أن قوما سمعوه يسأله إن كان هناك سحرة بالقرية، ولما أخبر بأن فرعون قتلهم وماتزال سيقانهم وأذرعهم معلقة علي جذوع الشجر، تركهم وانصرف إلي بيت الغجر، علٌه يجد منهم ساحرا أفلت من الموت، ثم يتساءل أهل القرية عن ديانته فرسم قس كان بجانبه علي جبهته صليبا بيده من رماد الأرض، فلكزه أحد الواقفين وقال: قبطي، وانصرف عنه، ولكن أحد الواقفين أكد أنه مسلم وسيصلي عليه ويغسل شرعيا، وهنا ظهرت امرأة قالت: وهل الدين هو الشجار والاختلاف؟ ثم أخبرتهم أنها سألته عن ديانته يوما فلم يجب، ثم نظر للسماء فوجد يمامة تلتقط الحب في مكان عال فقال: ديني هو السلام، ثم ذهبت به إلي حقل زيتون فقطف فرعا وأعطاه لها قائلا: عندما تجدين قوما يتشاجرون، اقتربي منهم ولوحي بهذا الفرع سيتذكرونني، وعندما رأت قدميه تنزفان دما، أتت بقنينة عطر، رائحتها تشبه رائحة القنينة التي أهدتها مريم للسيد المسيح في أسبوع الآلام، حيث دهنت به قدميه.

وهكذا تتعدد الحكايات أو الأساطير حوله، ولكنها تصب في أسطورة واحدة رئيسية، هي أسطورة الأرض والإنسان: الأرض هي الأم، هي الأنثي التي اشتهت هذا الرجل، وهو كل إنسان دفعته رغبته في الكشف عن الحقيقة إلي حتفه، فهو دائم البحث عن الفتاة لأن معها مفاتيح الحكمة الغائبة عن البشرية، كي يؤتي القوة: لأن العلم هو القوة، وبالتالي، فهو أوديب، حيث تكمن مأساة أوديب في وقوعه في التناقض بين حقيقته وواقعه، وهو شهريار الذي لقي المصيرنفسه، بسبب رغبته في المعرفة، رغم محاولات شهرزاد لإبعاده عن هذا التساؤل الملح عن الحقيقة، وهكذا يصبح الإلحاح في طلب المعرفة والكشف عن الحقيقة، ضربا من الجنون: فأوديب ليس سوي مجنون، وشهريار، الذي أصبح عقلا خالصا، وصمه كل من حوله بالجنون، وأهل الكهف الذين عادوا إلي الحياة بعد أن قضوا في كهفهم أكثر من ثلاثة قرون، ويصيبهم الوعي بالمفارقة الحادة بين ماضيهم وواقعهم، بالقلق، يحملهم علي أن يظن كل واحد منهم بالآخر الجنون، فاحتفظ كل من بيرانديللو والحكيم بالشخصية التي رأت في التآلف مع الواقع والاتحاد به رمزا لانتصار الماضي الثابت علي الحاضر المتغير، لكن شخصية «جبل الزينة» تظل في برزخ خارج حدود الزمان والمكان، واقعة في الخط الفاصل بين التاريخ والأسطورة، ولأن مؤلف «جبل الزينة» أراد لمجنونه الأبدية، أسرف في استخدام الأسطورة التي جعلت منه ميتاّ بين الأحياء، وحيا بين الأموات. وتبقي الحقيقة، أنه سيقوم ويرفع يوما ما من جبل الزينة. يتهاوي من تحته هيكل علي هيئة صليب، وتتحول الأشواك إلي زهور نرج، ويظل الغريب بلا اسم أو دين أو وطن أو عنوان.