يكشف الناقد العراقي هنا أهمية مقترب الكاتب الفلسطيني الكبير الذي جعل من العراق موطنا له بعد النكبة للرواية العراقية، وتناوله لشرائح من المجتمع العراقي لم يقترب منها غيره من الروائيين العراقيين.

جبرا إبراهيم جبرا والرواية العراقية

سامي البدري

نحا الروائي جبرا ابراهيم جبرا منحى متفردا في دراسة البنية الثقافية، والثقافة الاجتماعية للمجتمع العراقي من خلال تشريح ودراسة طبقته الارستقراطية.. وكان هذا المنحى بمثابة (اقتراح) على المثقف العراقي لدراسة البنية الاجتماعية والثقافية لمجتمعه من خلال دراسة أحوال وثقافة وطرق تفكير الطبقة المتنفذة في المجتمع، وهذا على الضد مما درج عليه ـ وما زال ـ المثقف العراقي (شاعرا وناثرا) في دراسة المجتمع وبنيته الثقافية وتشخيص علله من خلال عرض اوجاع طبقات المجتمع المسحوقة او الطبقة المتوسطة. وفي البداية، لا بد من الاشارة الى ان الادب العراقي عام 1948 ـ عام وصول جبرا الاديب الفلسطيني الى العراق ـ  لم تكن حصيلته الروائية والقصصية تستحق الذكر، في المعيار النوعي والكمي على حد سواء. فقد كانت الرواية العراقية ما تزال في اولى خطواتها الخجلة والقائمة على فكرة التسلية ومخاطبة المشاعر؛ من دون الالتفات الى زاوية مسؤولية الفن القصصي في عملية التأثير الثقافي، واقتراح واعادة النظر في البنية الثقافية والفكرية للمجتمع؛ وبالتالي الاسهام في اعادة تشكيل البنية الاجتماعية والثقافية لعموم المجتمع والتنظير (فكريا) لمستقبله ككل.

دخل جبرا المسلح بالثقافة الحديثة ـ خريج الجامعات البريطانية ـ الى المجتمع العراقي (غازيا) طبقته الارستقراطية لعدة اسباب، لعل اولها رؤيته الخاصة القائمة على تفضيل دراسة المجتمع من خلال مادته (الغنية) و(الدسمة)، الطبقة الارستقراطية، لما تنطوي عليه حياة هذه الطبقة من غزارة في (البنية التحتية) ماديا وثقافيا وسلوكيا، وكمرآة عاكسة لبنية المجتمع ككل، ولحفاوة هذه الطبقة بجبرا، وما جاء به من ثقافة واجواء الحضارة الحديثة من حياة المجتمع البريطاني وجامعتي اكسفورد وكامبريدج اللتين درس فيهما ثانيا، وبسبب نرجسية او التركيبة السايكولوجية لجبرا الانسان والاديب ثالثا. بدءا، لا بد من لفت نظر القارئ الى ذوبان جبرا في الحياة والثقافة العراقيتين، قبل الاشارة الى سعيه للتأسيس لرواية عراقية تستوفي شروط العمل الروائي ـ الابداعي، شكلا ومضمونا. ورغم ان جبرا طرح ابطاله ـ كانوا نسخا كاربونية لشخصه في اغلب الاحيان ـ على نمط البطل الاعجوبة الذي حظي باعجاب وتدليل الطبقة الارستقراطية العراقية ككل، وحب وتدله نسائها بشخص الاعجوبة الحضارية (المثقفة) في قاعات واروقة وحدائق واجواء لندن وجامعاتها، الا انه، وبالمقابل، وضع يده على الكثير من اشكالات ومشاكل المجتمع العراقي، وشخص معوقات نهضته الثقافية، من خلال تشريح ما اطلق عليه العلامة علي الوردي: (الثقافة الاجتماعية).

لم يهضم طرح المرحوم جبرا من مجايليه العراقيين، بدراسة المجتمع العراقي من خلال دراسة او تشريح طبقته الارستقراطية التي كانت متنفذة في اغلب مناحي حياة المجتمع، وهذا ربما بسبب محدودية عدد من تصدوا لكتابة هذا الفن الجديد، او ربما بسبب عدم امتلاكهم لجرأة جبرا، الذي حمته جنسيته الفلسطينية من انتقام من رجالات تلك الطبقة، المتنفذين سياسيا واقتصاديا، جراء فضحه لحقيقة نماذجهم وسلوكياتها الملتوية، وتهتك حياتهم داخل قصورهم الفخمة، وربما بسبب جهل كتاب الرواية والقصة، ذوي الاصول الطبقية العمالية والمتوسطة، بحياة تلك الطبقة المنعزلة نسبيا عن حياة وواقع باقي شرائح المجتمع، بحكم الغنى المادي والجاه الاجتماعي، والسطوة السياسية، وربما، ولاسباب سياسية ورقابية، لم يقترب الاديب العراقي من تناول الاخذ بالطرح (الجبروي) ذاك، حتى في عقدي السبعينيات والثمانينيات، باعتبارهما مثلا ـ من الناحية التكنيكية ـ مرحلة نضج نسبية لفن الرواية العراقية، مثلما مثلا مرحلة ازاحة وتذويب هيمنة تلك الطبقة، لاسباب سياسية صرف، باعتبارها كانت ترمز لعهد الاقطاع والاحتكار والتسلط والتحكم الجائر بمصير عموم ابناء الشعب من الفقراء، وخاصة اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار، الاصول البروليتارية والفلاحية لعموم ضباط الانقلابات العسكرية التي اطاحت بالحكم الملكي والطبقة الارستقراطية، نتاج نظام وظروف فترة حكمه.

أميل في ارجاع سبب رفض الطرح الجبروي من قبل الادباء العراقيين، واستنادا الى نتائج بحوث العلامة علي الوردي في حقل علم الاجتماع، والتي اتخذت من تشريح ودراسة طبيعة المجتمع والفرد العراقي مادة لها، الى كره الاديب العراقي، وهو من اصول عمالية ومتوسطة في اغلب المراحل، للطبقة الارستقراطية، باعتبارها مثلت وجه حالة القهر والحرمان لعموم المجتمع، في المراحل التي سبقت انقلاب 14 تموز/ يوليو 1958. ولذا فان الاديب رأى في الكتابة عن الطبقات المسحوقة واستعراض معاناتها، جزءا من واجب الوفاء الوطني، وتعجيلا بنهاية تلك الطبقة التي قهرت وتنفذت واستمتعت لعقود طويلة.. وبالتالي، تحميلها مسؤولية تخلف وحرمان الشريحة الاعظم من ابناء المجتمع. ورغم تحجيم دور ونفوذ وثروة تلك الطبقة بعد انقلاب 1958 من خلال قانون الاصلاح الزراعي، وعملية تأميم بعض ثروات تلك الطبقة، تحت شعار، (من اين لك هذا)؟ الذي رفعه قادة ذلك الانقلاب، فان تجاوز واهمال الاديب العراقي لـ (تراث) و(ثقافة) ودور تلك الطبقة لا يعني القضاء على دورها ونفوذها الاجتماعي والاقتصادي، واثرها في الحياة العامة ومفاعيلها، وانما هو كان اهمالا سلبيا، لم يكن له الا الاثر النفسي على دهاقنة تلك الطبقة.

وفي ظني، فان التجاوز الاعتباطي لتراث وارث تلك الطبقة (الثقافي) لم يحد من اثرها ـ ان لم يكن قد دعمه ـ حتى في سنوات تجربة التطبيق الاشتراكي في سبعينيات القرن الماضي، التي سرعان ما افرزت (ارستقراطية) بديلة من خاصة النظام الجديد ومن اصول قروية، هذه المرة، ومن عناصر لم تتوفر على وعي وثقافة ـ العلمية على الاقل ـ الارستقراطية القديمة، وبالتالي خسارة المجتمع لإرث الارستقراطية الاصيلة كإحدى طرق ـ ان لم تكن اهمها ـ دراسة المجتمع وبنيته الاجتماعية، كوسيلة للنهوض به من خلال اصوله الثقافية التي شكلتها عملية حراكه التاريخي وتراثها الحديث التي بدأت بتأسيس دولته الحديثة عام 1921، باعتبار ان اعادة بناء المجتمع والارتقاء بنوع ومستوى حياته وثقافته، تقوم على اساس تغيير وتحسين ظروف المجتمع، لا بالتجاوز والاهمال الجائر لاحدى طبقاته او مكوناته.

وبالنسبة للادب القصصي والروائي، فان هذا الفن يحتاج الى غنى وتنوع في الحدث وتعقيد او تركيب في بنى شخوصه ليستوفي عناصر الشد والجذب والتشويق، وليوفر بالتالي عنصري (الدسامة) والعمق التي تكفل نجاح العمل الروائي واقناع المتلقي بطروحاته. وفي ظني فان حياة شريحة الفقراء لم تكن تتوفر على جميع عناصر الجذب، لفقرها على مستوى عناصر التشويق ودسامة الحدث، لبساطة مفردات حياة هذه الطبقة ومعهوديتها اولا، ولما تمثله عملية تجاوز دور الطبقة الارستقراطية، مع بقاء اثره الفعلي في الحياة العامة ونسقها الاجتماعي، من اجتزاء وابتسار لواقع وحياة المجتمع. لا بد من الاشارة هنا الى ان التجربة المماثلة الوحيدة للروائي عبد الرحمن منيف التي اقتربت من الاقتراح (الجبروي) هذا لا يمكن الاخذ بها او حسابها ـ وهي رواية (عالم بلا خرائط) ـ لانها كانت تجربة مشتركة مع جبرا ابراهيم جبرا من ناحية، ولانها كانت بطرح ونفس ـ ان لم نقل بهوية ـ (جبروي) خالص، ويتضح هذا من خلال جو وطريقة بناء وثيمة وحبكة وهويات شخوص الرواية، وسيطرة نوع معالجة وذائقة وطروحات جبرا ـ التي الفناها في جميع رواياته وصارت سمة لها ـ على هوية و مسيرة الرواية من الفها الى يائها. هذا اضافة الى ان تلك التجربة كانت كالنزوة العابرة في مسيرة المبدع منيف وخارج حدود خطه الروائي، لانه لم يكرر طرح طريقتها او نفسها او معالجاتها في رواياته اللاحقة.

لقد اضاء اقتراح جبرا هذا الكثير من زوايا العتمة التي اكتنفت ـ بسبب الاهمال الجائر ـ في حياة المجتمع العراقي، الا ان مساهمته لم تنل استحقاقها في البحث والدراسة والاستيعاب من قبل علماء الاجتماع والنفس العراقيين، بل ولا حتى مجرد التنويه من قبل الادباء ونقادهم، رغم انها كانت مساهمة ذكية ومتميزة لمدخل جديد الى حياة وطبيعة تطور المجتمع العراقي وعناصر تكوينه وبنائه.  

كاتب من العراق