هذا أحد الحوارات القليلة التي نشرت مع الكاتب الكبير، تكشف لنا عن كثير من أفكاره حول السفر، وطبيعة رؤيته الكونية للبيئة من ناحية، ولتاريخ الاستعمار الغربي وإرثه الفادح في المناطق التي عانت منه من العالم.

الأدب ضجيج، وليس أفكاراً!

حوار مع لوكليزيو

ناتالي كروم

ت أيمن عبدالهادي

س ـ ارتبط اسمكم بشكل طوعي بفكرة السفر. في حين يعرفكم صديقكم الشاعر جون جروسجون ب"المسافر الساكن".

ج ـ هذا صحيح لأنه، في الواقع، أنا لا أسافر فعلا. لا أبحث عن الاغتراب. لا أحب فكرة الذهاب الي مكان مهما كان حيث أنظر حولي وأدون ملاحظات. أشعر بالأحري وكأني فرد يحاول أن يستقر في مكان ما لكنه لا يصل اليه بالفعل. عندما اذهب الي مكان أو آخر، يكون ذلك من أجل غرسي فيه. في كل مرة أحاول أن أتكيف معه، أن اكتسب عادات. هكذا عشت في المكسيك، في ولاية ميشواكان، في الولايات المتحدة، في ألبيكيرك ـ التي سأتركها دون شك ـ ومن قبل في أوروبا. هي بالنسبة لي مثل حيوات متتالية. ببساطة، لم أسكن أبدا في مكان حيث يمكن أن أقول لنفسي: حسنا، هنا احب ان أعيش بشكل نهائي. لكن، عن صدق، أنا رجل يقرأ كثيرا، ويسافر عبر الكتب أكثر مما يفعل عبر تذاكر الطيران. فضلا عن ذلك، لن أعيش طويلا، أقرأ، أكتب، وجودي عادي ـ لا يستوجب المشاهدة أحيا لأكتب.

س ـ في راجا، مقاربة لقارة غير مرئية. تحكون مع ذلك حياة داخل أرخبيل فانيواتو علي جزيرة بونتكوت.

ج ـ ادوارد جليسان الذي اعتبره شاعر ومثقف اقترح علي الذهاب الي هناك. اندرج الإقتراح ضمن مشروع للنشر يديره، مجموعة شعوب الماء، التي بدت لي فكرة جميلة جدا: تتعلق بالإهتمام بمناطق علي الكوكب لا تزال معزولة، بعيدة عن محيط السياحة. في الواقع، منذ فترة طويلة، تملكتني رغبة للكتابة عن هذه القارة غير المرئية التي يجمثلها الأوقيانوس. قارة لا تعد بداهة واحدة لأنها بالأحري مجموعة من الجزر. لا نتكلم عنها كما نفعل مع أمريكا اللاتينية، أوروبا أو أسيا، غير معروفة دوليا، لا يبدو أن بوسعها المشاركة في جوقة الأمم. لكنها، قارة تكمن مع ذلك وحدتها، في نظري، في ان كل الشعوب التي تعيش فيها من المقاومين، أناس واجهوا كل من أذلهم منذ القرن الثامن عشر: محاولات الإستعمار، التبشير، العمل القسري، تدفق الأمراض، بما فيها الإيدز اليوم .. عانوا أيضا من وجود علماء الإناسة الذين، خلال القرن العشرين، جعلوا من جزر الباسيفيك أحد ميادينهم المفضلة وحتي لو أنهم قد كتبوا عنها أمورا غاية في الجمال، فهم اقترفوا أيضا أفعالا مرفوضة.

س ـ تصنفون علماء الإناسة ضمن المصائب التي أذلت هذه الشعوب؟

ج ـ ليس الي هذا الحد، أظن أن وجود علماء الإناسة كان قاسيا عليهم، لأنه عبر دراساتهم المتخصصة، استقر النظام الإستعماري بشكل أكثر رسوخا. علم الإناسة له وجه مظلم. أدركنا هذا الإلتباس بوجه خاص بفضل نموذج ميشيل ليريس. هذا الأخير درس واكتشف ثراء بعض الثقافات الإفريقية، لكن في الوقت نفسه، مع الحملة التي شارك فيها، نهب حرفيا هذه الثقافات ـ متحف الأنسان ممتلئ بهذه الأشياء المسروقة من الشعوب الإفريقية ـ مع إدعاء بحسن النية يتمثل في القول: لو لم أخذه ربما كان سيختفي كل ذلك. كتبها ليريس بنفسه في الكتاب الجميل جدا أفريقيا الشبح. آخرون كثيرون لم يعترفوا، اعتقادا بأن العلم يمثل ضربا من الرعاية المؤكدة لأفعالهم السيئة. ذكرتم في "راجا" رسم جوجان وعبره المدرسة الغرائبية التي تجعد شكلا من الإستغلال.

س ـ دعيت منذ بعض السنوات الي ماركيزس وتاهيتي لإحتفالية خاصة بجوجان. وفي المكان الذي عقد فيه المؤتمر، تكلمت مع مجموعة من الطلاب الذين اعترضوا ضد ما اعتبروه احتفالا بالإستعمار. ما أزعجهم هو التمثيل المغرض الذي قدمه جوجان للرجل وللمرأة في بولينيزيا، بشر كسالي، متراخون، ودعاء، متوحشون طيبون.

ج ـ لا يتعلق الأمر بالتأكيد بمحاكمة فن جوجان، لكن لا يمكن إنكار أن رسمه يقدم أيضا ذلك "الجانب المظلم" الذي تكلمت عنه بخصوص علم الإناسة. يوميات جوجان، وخصوصا التمثيل المصطنع جدا للمراة الإستوائية، الحسية والخاضعة التي نجدها فيه، قراءته لا تحتمل في نظري. خاصة عندما نعلم الي أي حد كانت المعارك بين التاهيتيين وقوات الإستعمار وحشية وعنيفة. لأنه لا يوجد مكان في العالم مر منه إستعمار في وداعة ولطف.

س ـ هل يرتبط هذا الإحساس بالمعاناة التي فرضها الغرب علي هذه الشعوب المستعمرة بتاريخكم العائلي؟

ج ـ أنا أيضا مكدر، مصاب. أنتمي الي الغرب الإستعماري، هذا لا شك فيه. أسرتي استعمرت موريشيوس نهاية القرن الثامن عشر ـ تعلق الأمر بالإستعمار الإنجليزي، لكن الأمر كان نفسه ـ بالتأكيد ثمة مناصرين للرق بين أسلافي. جيلي لم يستعمر قطعا، لكنه كان شاهدا عليه لاخر لحظة، في المغرب، في الجزائر، في أفريقيا الغربية، في كل مكان في العالم. من هذا الشعور المتمثل في انتمائي لهذه الجماعة البشرية التي ارتكبت هذا الإغتصاب ولد عندي الإستحواذ الخاص بهذا الفصل من التاريخ. عبر كونراد بشكل أكثر من جيد عن ما أشعر به، من خلال شخصية مارلو، في (في قلب الظلمات). كان مارلو شخصية مهمومة، سليل الإستعمار البريطاني، محفز بروح نقدية للذات، مولع ومشدود الي الطبيعة البدائية للشعوب الأفريقية، لكن لا يستطيع أن ينتمي اليها كلية. أنا مثله، غربي بالتأكيد، لكنني أرتاب من الفكر المبالغ فيه، العقلاني جدا، منجذب الي السحر، فوق الطبيعي، الأماكن التي يتعايش فيها الحاضر والماضي، بشكل ملغز وطبيعي ـ إنها حالة فانيواتو.

س ـ هل تتابعون المناقشات المتعلقة بالمطالب التذكيرية من الشعوب التي استعمرت من قبل والجدل بشأن الإعتذار (لها)؟

ج ـ يبدو لي صحيا أن نتكلم عن تاريخ الإستعمار الفرنسي ـ ولا نزال لا نتكلم عنه بما يكفي. لا يتعلق الأمر بتعذيب الذات، لكن يتعين التطهر من هذا المرض القديم الذي لا يزال موجودا: العنصرية، الشعور بالتفوق. في الأنتيل، لا تزال تسمعون البيض وهم يتحدثون عن السود كأطفال متكاسلين ومتبلبلين. هذا فظيع. كل مجهود تذكيري مرحب به. لا يتعلق الأمر باللجوء الي القوانين والأحكام القضائية لكتابة التاريخ. ولا أيضا استخدام الكلمات الكبيرة، الحديث عن الإبادة. ببساطة أكثر، ثمة مسئولية من المستعمرين تجاه هذه البلاد الصغيرة، المستعمرات القديمة المهملة الآن، التي تعيش بالفعل علي الإحسان الدولي. فرنسا يجب أن تقود دولا الي طور النضج، بعد أن استخدمتها طويلا للبقاء في مرحلة الطفولة.

س ـ أدركنا دوما في كتابتكم شكلا لفهم العالم شبه بيئي: تدوين الإنسان في الطبيعة، وضع هذه البيئة في الإعتبار، التأكيد علي ضرورة احترامها. هل تشعرون أنكم تلعبون دورا رائدا في هذا الخصوص؟

ج ـ لا اعتبر نفسي رائدا. إنه كونراد أيضا. ذكر النهب والتدمير الذي مارسه المستعمرون في الأماكن التي غزوها، انعدام احترامهم المطلق، فكرة أن هذه الأماكن مثل قرن الخصب يغترفون منه دون نهاية. اليوم، ثمة أماكن كثيرة من العالم معرضة بالتأكيد لزيادة درجة الحرارة، هنا بارتفاع مستوي البحار، وهناك بالتصحير. في موريشيوس التي وصفها الكاتب الموريسي مالكوم دو شازال (1902 ـ 1981 ) بالصحراء الخضراء، استبدلنا الأشجار بزراعات قصب السكر، واليوم، انجراف الأراضي مأساويا، تلوث البحيرات المالحة يستحق المشاهدة. نلحظ السرعة التي تتدهور بها حالة الكوكب، لا يمكننا تجنب عدم الإحساس بالمسئولية. لا أعلم أي وصفات يمكنها أن توقف إتلاف الأرض هذا، أتخيل إنها غير موجودة، لكن قرارات يمكن أن تتخذ مع ذلك. مهما يكن، هدف الأدب ليس النضال، ولا المقاومة من أجل هذا وضد ذاك. الأدب ليس أفكارا، إنه ضجيج.

س ـ ضجيج؟

ج ـ ضجيج، لغة. إنه لأمر غير ذي بال أن يخلف هذا الضجيج صدي. ومع ذلك، أضع نفسي بجانب أولئك الذين يعانون أكثر من أولئك الذين يتصرفون، لأنه يبدو لي أن الكتاب يعانون من العالم أكثر من كونهم يريدون أو يستطيعون تغييره.

س ـ في الغرب هل ثمة إفراط في الإيمان بالأنسان؟

ج ـ  بالنسبة للثقافات التقليدية، شعوب الصحراء أو الماء، لا يمثل الإنسان قمة هرم الخلق. الإنسان لحظة، في شكل تاريخ نشأة الكون. كان نبتة أو حيوانا قبل أن يكون إنسانا، وسيتمثل بعد ذلك في أشكال أخري. أظن إنه اعتقاد غريزي عندما نعيش في بيئة تكون الطبيعة حاضرة فيها جدا. ليس لغزا كبيرا أن الإنسان ليس هو سيد كل شئ، إنه لا يمتلك الكوكب. ولسنا في حاجة الي كبير تخيل إنه لن يكون كذلك، وإنه حين يختفي، سيرجع كل ما فعله ـ حتي أضراره ـ في أشكال طبيعية. المدن سيتم تعدينها، تصبح صحراء. ثمة علي الكوكب الأرضي اليوم شعوبا اكثر وعيا من غيرها بلحظة التطور تلك. لكن الحياة في وسط حضري مسيس، مثل الولايات المتحدة، اليابان، أو بعض مناطق أوروبا، يبعدكم عن تلك الحقيقة. يمكن أن نصل الي حد نسيان أننا نستخدم المصادر المتحجرة، أنه حين نرسل صاروخا الي الفضاء نحرق وقودا ليس إلا جزءا من كوكبنا. مدركين ذلك أم لا، نظل مع ذلك موصولين بقوة بالعالم الطبيعي، متوقفين عليه. مستحيل أن نعيش في مجتمع بطريقة مجردة. لتأخذوا مثال الماء: نغترفه، نجمعه، نصفيه، ثم نسيره في قنوات، أمر جد مختلف عن الذهاب الي النهر بحثا عنه؟ لا. في النهاية هو الشئ نفسه.

س ـ ذكرتم أكثر من مرة موريشيوس التي يعود اليها أصل عائلتكم. انتم لم تكبروا فيها.

ج ـ لا، لدي جنسية مزدوجة فرنسي وموريسي، لكنني كنت أبلغ ثلاثين عاما عندما زرتها لأول مرة. الجزيرة التي كنت أعرفها هي موريشيوس قديمة، تلك التي حكت لي عنها عائلتي طويلا عندما كنت طفلا.

س ـ هل الكتابة هي وسيلة لملاحقة هذه الرواية العائلية؟

ج ـ تماما. ما كتبته علي مدار أربعين عاما ياتي من الفترة التي كنت أبلغ فيها 6 أو 7 سنوات، حين ولد وعي الوجود، والفترة بين 13 أو 14 سنة حيث يؤرخ ربما لآخر ادراكي الحقيقي بالوجود. انها الفترة الدائرية لكل وجود، اللحظة التي نخزن فيها المشاعر والإنفعالات بالشكل الكافي لتكون مستودعا يستمر طوال الحياة. اتصور أن الأمر نفسه عند كل الكتاب، كل الفنانين. في الواقع ودوما، كنت أقوم بتخيل داخلي دون أن أعرف. خيالي في الطفولة مرتبط بشدة ببريتاني، حيث قضيت فصول الصيف، والتي يعود الها أصل عائلتي، من ناحية والدتي كما من ناحية والدي. هاجرت عائلتي الي موريشيوس في القرن الثامن عشر، لكنها احتفظت علي مر الأجيال بقناعة أن بريتاني كانت مكانها، الأرض التي تربطها، ملاذها. هذا التعلق العائلي القوي يشرح دون شك والي اليوم ان في بريتاني، لا يكون للشمس نفس الهيئة كل يوم، يبدو البحر مسكونا، مثله مثل الأرض البراح. عندما كنت طفلا، كنت مجصابا بالأرق، وكان يأتي وقت أسير فيه وحيدا في البراح في الليل، اختبرها كوجود خفي، لا معقول، سحر. أعتقد بحق ان الذي شعرت به في فانيواتو لكن أيضا بالقرب من هنود المكسيك وأمريكا الشمالية، انني قد سبق وشعرت به ، منذ خمسين عاما، عندما كنت اسير ليلا في براح بريتاني.  

حوار مع الكاتب نشرته مجلة تيليراما في مايو 2007 بمناسبة صدور كتابه: (راجا، مقاربة لقارة غير مرئية).