قليلا ما يجري محمد البساطي مقابلات أدبية حول أعماله، ولكن هذا الحوار النادر الذي أجراه معه أحد محرري (أخبار الأدب) يكشف عن الكثير من آليات العملية الإبداعية عنده، ويلقي الضوء على ما يدور في الواقع الثقافي المصري الراهن، وهذا ما حدا بنا لإعادة نشره هنا توسيعا للفائدة.

المجتمع دخل الكابوس!

حوار مع محمد البساطي بعد «أسوار»

حسن عبد الموجود

في كل تجربة جديدة له يسعي محمد البساطي للاختلاف، ليس عن الأعمال التي تصدر لكتاب آخرين، ولكن عن أعماله هو، وربما هذا ما جعل الأماكن تتغير في معظم أعماله، من الريف إلي المدينة، ليس ريفا أو مدينة معينين، فبعض الأعمال كانت في الدلتا وأخري في الصعيد وهو ما جعله كاتبا صاحب تجربة متسعة أضاف إليها بروايته الجديدة (أسوار) فقد ذهب إلي أكثر المدارس قسوة في المجتمع ليرصدها، السجن، والحاجز الوهمي بينه وبين المجتمع، مجتمعنا! 

(1)

في (أسوار) يقدم البساطي صورة قاسية لمجتمع السجن، تخلو من مشاهد التعذيب التقليدية التي كان يمكن أن ترضي غرور اليساريين أو الحقوقيين، غير أنه آثر ـ بعيدا عن الإيديولوجيا ـ أن يقدم صورة أكثر واقعية للعالم، العلاقات بين الحراس والمساجين، وبين المساجين وبعضهم البعض، كما ينتقل إلي بلوكات الحراس خارج السجن، ليس بغرض الدفاع عن جانب ولا مهاجمة جانب آخر، وإنما ليظهر العالم علي حقيقته القاسية، العالم الذي يتحوٌل فيه الجميع إلي عبيد محبوسين داخل «أسوار عالية"»، عبيد لإرادة خارجية أحيانا لا تطلب ولا تكلف ولا تأمر غير أن هناك من يقدم الخدمات بدون مقابل، وهكذا تكون الغلبة والجبروت للمكان الذي يهرس الأشخاص، ويحوٌلهم إلي أشخاص باهتين وغير واضحي المعالم.

ـ بدأت حواري معه من ملاحظة خاصة، قلت: شخصيات الرواية ثانوية، وتبدو باهتة. المكان كان له يد طولي، وأثر عنيف وقوي في تحديد سمات الشخصيات، وفي رسم تفاصيل علاقاتهم بأعمالهم وبيوتهم، ولكن هذا لا يمنع القول أنها رواية شخصيات أيضا، خاصة أن نمطا معينا يعمل في هذا المكان، وهناك قليلون يستطيعون الاستمرار تحت الضغوط الرهيبة التي يكتظ بها، سواء من الحراس أو المساجين، وأنت تعلم أن هناك شخصيات لم ترض بهذا العالم، ومنها شخصية ابن الراوي الذي نفد بجلده من الأسوار! مع أن بدايته كانت تشبه بداية والده كثيرا، فبعد أن وصل إلي مرحلة الرجولة، واظبت فتاة من جيرانهم علي الحضور إلي بيته، وترتيب سريره وملابسه بما فيها ملابسه الداخلية، وتوقعنا جميعا أن يتزوجها ويدخل في نطاق عمل أبيه بالسجن!

ـ أعتقد أنه لم يكن مستعدا للدخول إلي المهرسة التي طحنت والده، وأدت إلي خبله في النهاية، وعموما استمتعت وضحكت جدا وأنا أكتب المشاهد الخاصة به، لأنه حوٌل نفسه ومعه والده ووالدته إلي أعداء للجيران، بعد أن تجاوز قانون البلوكات، ورفض الزواج من الفتاة التي كانت قد قررت أن تهب نفسها له!  

ـ هل هناك موقف معين حدث لك جعلك تختار عالم السجن لتكتب عنه؟!

ـ كنت أسمع وأقرأ حكاية غريبة، عن إدارات بعض السجون التي تخرج مساجين عتاة من المحبس حتي يبطشوا بشخصيات معينة في المجتمع، هذا هو ما فجٌر في داخلي عالم الرواية، شعرت أنني أريد الكتابة عن السجن، واستدعيت من الذاكرة ليمان أبو زعبل، وأنا بالمناسبة فتشت علي كل السجون في الوقت الذي كنت أعمل خلاله في الجهاز المركزي للمحاسبات، حيث كنت أراجع الحسابات المالية لهذه السجون، المهم أن ليمان أبو زعبل هو الذي قفز إلي ذهني، لأنه أكثر السجون نظافة من الواجهة، وبمجرد أن تجتاز بوابته تفاجئك مربعات زهور وورود. حينما تتخطاها ستجد نفسك مباشرة في مواجهة زرائب ترفض الحيوانات نفسها الحياة فيها، وخارج السجن هناك البلوكات الخاصة بالحراس، وهكذا بدأت أكوٌن فكرة عن العالم الذي أنا بصدد الكتابة عنه أو بمعني أدق كتابته.

ـ ويضيف بعد لحظة صمت:

ـ كتبت خمس صفحات من هذه الرواية، ونشرتها كقصة قصيرة في البداية، وهذه القصة كانت محكية علي لسان مسجون، ووجدتها دخلت في سكة لا أرغبها، ووجدت أنه من الأنسب كتابتها علي لسان حارس، وهكذا كتبتها بالشكل الموجود في الرواية!

ـ من ضمن الأشياء التي تريد الرواية قولها إن عالم السجن غير بعيد عن المجتمع، فهو يمارس نوعا من القمع بحق أشخاص لا توجد ضدهم أدلة واضحة.. ما رأيك؟!

ـ نعم، السجن يطال بيده أي شخص يمثل تهديدا للنظام أو لأسلوبه، عملوها سابقا مع جمال بدوي، هناك سبعة أشخاص ضربوه وكسٌروا عظامه، أتذكر أيضا بعض المظاهرات التي قيل إن سجن النساء كان يخرج عددا من السيدات المتوحشات ليتربصن بالصحفيات ويضربنهن، وهكذا فإن السجن يكون أحيانا القوة الخفية التي يستعين بها النظام البوليسي لتأديب البعض لأن عناصر الشرطة من الممكن كشفها بسهولة! 

(2)

من التفاصيل التي أفرد لها البساطي مساحة كبيرة حادثة ضرب الصحفي، وبدا واضحا أنه يستعيد ما حدث لعبد الحليم قنديل، غير أنه استبدل الميكروباص بالتاكسي، كما قلٌص عدد الذين قاموا بالضرب إلي شخص واحد، وهو أيضا جعل الصحفي يذهب بقدميه إلي التاكسي، بدلا من جره بالقوة إلي الميكروباص، ومع هذا بدا واضحا أنه يكتب عن قنديل.

ـ ألم تخش وأنت تستعيد حوادث حقيقية في نصك أن يخرجك ذلك عن إطار فنية العمل كما حدث في حادثة سحل الصحفي؟!

ـ حادثة عبد الحليم قنديل أثٌرت فيٌ جدا، وقد قلت لنفسي إنني لن أستطيع الكتابة عن هذه الحادثة بشكل أفضل من الذين كتبوا عنها في الجرائد، ولكنني غيٌرت في الشخصيات التي قامت بالضرب البشع! وكان من الممكن أن تخرجني هذه الحادثة كما تقول عن الفنيات، ولكنها فرضت نفسها في سياق العمل، وكان لا بد من إفساح المجال أمامها. هذه الرواية أيضا تبدو سوداوية جدا كأنها تريد أن تقول إن الجميع سواء داخل السجن، أو خارجه يعيشون في الكابوس؟!

الإحساس العام الآن فعلا أننا نعيش في الكابوس، لقد حاولت تغذية العمل بمشاهد تؤدي إلي الإحساس بهذا.

ـ لم تستطع كسر الإيهام في مشهد سائق التاكسي الذي تم إخراجه من السجن ليضرب الصحفي، فبعد أن قرر الذهاب إلي منزله ومضاجعة زوجته، توقعت أن يجدها بصحبة شخص آخر، وهو ما حدث بالفعل..

ـ وارد جدا حدوث هذا في عالم سائقي التاكسي، وأنا لا أخفيك سرا أنني فكرت في ذلك، ولكن قلت إن هذه هي مهنة الخطف بامتياز، وأقصد أن كل شيء يحدث فيها بشكل خاطف، فالسائق ينال أكله بشكل خاطف، ويضاجع أيضا بشكل خاطف، حينما يكون قريبا من المنزل فإنه قد يفكر في الصعود ليأكل ويضاجع بسرعة، ومن الوارد أيضا كما حدث في الرواية أن يجد شخصا مع زوجته، وفي (أسوار) تحديدا كان من المنطقي أن يجد رجلا معها، أولا لأنها امرأة لا تجد من يشبع احتياجاتها، وثانيا لأنها مطمئنة تماما إلي أنه في السجن، ومن رابع المستحيلات أن يخرج في ذلك التوقيت! ـ حاولت الرواية منذ لحظة عودة السائق إلي السجن أن تقول إنه سيتعرض للقتل، الإدارة تسترت علي جريمته، فلماذا تعود لتغتاله؟!

ـ كشف هذا المشهد الوجه القذر لضباط السجن، فرغم أنهم تجاوزوا بسرعة حالة البلبلة الخارجية وتقفيلهم القضية، إلا أنهم لم ينسوا أنه أحرجهم، وكان المساجين يعرفون ذلك ويحاولون حمايته، وهم في منتهي الذكاء والترابط، لأنهم كانوا متأكدين من أن الإدارة ستحاول قتله ليلا!

ـ مشهد فارس الذي غضب بسبب نوم عجينة صاحبه مع أحد المحكوم عليهم بالإعدام، هل توجد به إشارة إلي حالة طبقية بين المساجين؟!

ـ المحكوم عليه بالإعدام شخص معروف أنه سيفقد حياته خلال أيام، وبهذا المعني فإنني لا أعتبر ذلك نوعا من الطبقية، إنما هو نوع من التشاؤم، وأنت ذكرتني بسيدة عضها كلب مسعور، واستطاع الأطباء مداواتها، ومع هذا كان زوجها يرفض أن يقترب منها، فقد عافها، لأنه عندما يفكر فيها لا يفكر إلا في عصارة الكلب التي امتزجت بدمائها!

ـ كنت تبدو علي الحياد من كل الشخصيات، وربما لهذا السبب بدت أنها تفتقد الرغبة في الحياة أساسا؟!

ـ أفضٌل دائما أن أكون علي الحياد، فالتعاطف يفسد العمل، هذا ما توصلت إليه من خبرتي في القراءة، حينما أشعر أن الكاتب يأخذ موقفا ما من شخصية لديه، أو حتي من عالم من العوالم، فإنني أتعامل مع العمل بفتور، ولهذا فإنني أريد وأنا أكتب أن أكون علي الحياد دائما

ـ ولكن في رواية "أصوات الليل" كنت تبدو متعاطفا بشدة مع المرأة العجوز!

ـ تعاطفت بالفعل مع المرأة العجوز، لأنها كانت شديدة الود والإنسانية مع أشخاص الرواية الآخرين، ولم أكن قلقا بسبب هذا التعاطف، لأنه كان استثنائيا وله ما يبرره!

ـ ثلاثة حراس يصابون بالخبل دفعة واحدة.. ألا توجد مبالغة في ذلك أم أن العمل الفني يحتمل وجود مبالغات؟!

ـ بالعكس، لا توجد مبالغة، وأنا كنت بصدد كتابة مشهد الخبل باعتباره وباء أصاب الحراس، ولكنني وجدت أنها ستكون مبالغة زائدة عن حدها، وحتي المبالغة لها ما يبررها، فالحراس أشخاص من لحم ودم يعيشون مقهورين داخل أسوار السجن والبلوكات، مع ضباط لا يعرفون معني الرحمة، المأساة تحدث حينما تأتي اللحظة التي ستتم إحالتهم فيها إلي المعاش، الحارس لا يكون مبسوطا بكل تأكيد، ومن الطبيعي لأنه تعود علي نظام صارم للحياة طوال عمره أن يصاب بالخبل، فقد تعود علي حياة السلطة والوحشية.

ـ الخبل لم يصب أحد الضباط مع أنهم يعيشون في نطاق العالم الصارم ذاته؟!

ـ لقد توقفت قليلا لأفكر في هذا المشهد، وتأكدت أنه من الصعوبة أن يصاب الضباط بالخبل ذاته، لأنهم يخرجون إلي الشارع ويندمجون في الحياة الخارجية!

ـ بعض الشخصيات كانت أشبه بومضة ولم تستكملها مثل فتاة الآداب الموجودة في استراحة الرائد!

ـ هناك مشاهد علي القارئ أن يستكملها بنفسه، حينما يوضحها الكاتب ويعيد ويزيد فيها فإنها تفقد قيمتها! ويضيف: المشهد الخاص بالفتاة كتبته بعد أن علمت أن بوليس الآداب حينما يضبط بعض الفتيات فإنه يقوم بإهداء بعضهن إلي الرتب الكبيرة لقضاء ليلة أو ليلتين، خصوصا إذا كان الضابط عازبا، هذا لا يعني أن الفتاة ستفلت من القضية، ولكن أليس من الأفضل أن تذهب إلي مكان نظيف لليلتين بدلا من بهدلة السجن؟! ثم أنها ستعود بكارت توصية سيضمن لها معاملة أفضل في العالم المتوحش!

ـ حينما خلا المعتقل من المعتقلين بدا كما لو أن الحراس دخلوا في نوبة اكتئاب وهو ما دفعهم لمعاملة المعتقل الوحيد الذي استقدموه بعد فترة معاملة خاصة.

ـ (مقاطعا) حين انفجر هذا المشهد في دماغي شربت زجاجة بيرة تحية له، وبدأت في كتابته بتكثيف وعلي هيئة قصة قصيرة، ونشرته أيضا كقصة في جريدة (الحياة اللندنية) أنا نفسي كمؤلف أعجبتني الفكرة. قصدت أن أقول إن السجن بدا كما لو أنه يحول المتعاملين فيه إلي آلات ترغب في العمل، الشخص الطبيعي قد يرغب في التقاط أنفاسه من العمل كل فترة ولكن الحراس لم يقنعوا بخلو المعتقل! نعم السجن يحوٌلهم إلي آلات، كيف يمكن أن يكون هناك معتقل يخلو من المعتقلين؟! من سيطفئ النار التي تتأجج داخل الجلادين؟! هؤلاء من فرحتهم بوجود معتقل واحد جاء بالخطأ عاملوه كملك، والرجل أصيب بالذهول، كنت أريد التلميح أيضا للفساد الذي لا يحدث إلا عندنا فقط، أن يتم الزج بشخص لا ناقة له ولا جمل إلي المعتقل!

ـ عدت للسجن مرة أخرة بعد أن كتبت عنه قصة في مجموعة (حديث من الطابق الثالث)!

ـ لم أتجاوز أسوار السجن في هذه القصة، كانت بطلتها امرأة تحدث زوجها، هي من خارج السجن، وهو في الشباك!

ـ هل كانت القصة إرهاصة بالرواية؟!

ـ لم تكن في الحقيقة إرهاصة!

ـ لماذا؟!

ـ لأن السجن ظهر أيضا في (محابيس)، في هذه المجموعة قصة بعنوان «إعدام» وأخري بعنوان «السجن» موٌنت بهما مشهد الإعدام في (أسوار) وهذا يجوز لي لأنني لم آخذ من شخص غريب (يضحك)، كنت أحتاج إلي ذلك بشدة وفعلته!

ـ هل تخشي سلطة السجن أحيانا من المساجين، لدرجة أن يأمر المأمور بأن يحصل كل عنبر علي الغلام الهارب من تأدية واجبه الجنسي لمدة اسبوع؟!

ـ كنت في سجن طنطا في مهمة تفتيش، وقدمت نفسي للمأمور، طلب لي قهوة، وبعد لحظات دخل إلي مكتبه "صول" وهمس في أذنه، وكنت متشوقا لمعرفة ما قاله، وفوجئت بالمأمور يشدني من ذراعي إلي الخارج حيث ساحة السجن، وفوجئت بهذا المشهد متجسدا أمامي، كان هناك عنبران ماثلان، كل في ناحية، وكان الغلام يقف في المنتصف، وعرفت أن هناك عنبرا غاضبا لأن العنبر الآخر رفض تسليمه في الموعد المحدد، وكان من المفترض أن يهدئ المأمور الغضب ويقمع الثورة المتوقعة، لو قامت هذه الثورة فستطال الجميع بمن فيهم الضباط، وقد حكم المأمور بالشكل نفسه الموجود في الرواية، أن يحتفظ كل عنبر بالغلام اسبوعا، كان الغلام يقف متهدلا، والحياة غائبة عن وجهه تماما، ولم تكن ثمة رحمة في قلوب الجميع.

ـ في المشهد الواقعي بطنطا كانا عنبرين حولتهما أنت إلي ثلاثة في (أسوار)؟!

ـ نعم.. نعم، كان العنبر الثالث غائبا لأنه لم يكن طرفا في المشكلة، كان قد حصل علي دوره بالفعل!

ـ ما الذي دفع المأمور للقيام بخدمات دون أن يطلب منه أحد ذلك؟!

ـ هذا جزء من تكوين الأشخاص الذين يتعاملون مع السلطات، الضابط كان يبادر بتقديم الخدمات من دون تكليفات أو أوامر، سمع في إدارة المباحث عن أن العائلة المالكة غاضبة علي الصحفي، ورتب المسألة، ولكن الإدارة وحدها حصلت علي المكافأة وهذا ما أصابه بالغضب الشديد!

ـ هل قرأت كتبا في سيكولوجية التعذيب قبل الشروع في كتابة الرواية؟!

ـ نعم، وهو ما ساعدني علي صياغة مشهد المجلة بالشكل النهائي الذي قرأته في الرواية، المسجون يعرف أنه في جميع الأوقات سيتم سحله، وأنا أتحدث عن نوعية معينة من المساجين، وهم ليسوا محبوسين علي ذمة قضية معينة، وإنما عناصر مشاغبة يمكنهم أن يقضوا في السجن عاما وربما عشرة، والحارس كان يراهم أشخاصا نظيفين ويتحركون بوعي، ويعلم جيدا أنهم متعلمون بخلاف الممسوكين علي ذمة قضية، هؤلاء نوع ثان، أبناء شوارع، كان الحارس يحاول التقرٌب من النوع الأول خاصة أن أحدهم كان يشرح له دروسه.

المهم أن إدارة السجن كانت تجبر هؤلاء المساجين علي كتابة أرائهم فيما يحدث بالمجتمع، وبعد ذلك تعاقبهم علي هذا، وفي كل مرة يتم تمزيق مجلة الحائط كانت تعود بأوامر المأمور الذي يملك باعا في سيكولوجية التعذيب! 

(3)

لا يمكن جمع البساطي مع أدباء آخرين في سلة واحدة باستثناء مواقف بعينها في الحياة الثقافية، ومؤخرا بدأ يشعر بالزهق واللاجدوي في التغيير فآثر الصمت وعدم الإدلاء برأيه فيما يحدث لأن شيئا لن يتغير في وجهة نظره، وهو أيضا صاحب وجهات نظر تخصه في الظواهر الثقافية، ومنها ظاهرة البيست سيللر، والموضات التي تظهر علي فترات بين المثقفين، كأن يقرأ الجميع في وقت واحد كاتبا واحدا يصبح موضوعا دائما للحديث مثل ميشيل فوكو أو ميلان كونديرا.

ـ سألته: يري جونتر جراس أن الرواية ابنة الريف، في الوقت الذي يري فيه معظم نقادنا أنها ابنة الطبقة الوسطي بالمدينة.. ما رأيك؟!

ـ هذا الكلام تردد كثيرا، أن الرواية بنت المدينة، ولكنني كنت أتحفظ دائما علي هذا، حتي قرأت كلام جونتر جراس، أن الرواية المهمة تكون نابعة من عمق الريف، الرواية ليس لها مكان أو زمان محددان!

ـ معظم جيل الستينيات غير معجب بميلان كونديرا.. يفسر البعض كراهيتكم له ـ وهم من الأجيال الأحدث ـ بأنه يضعكم أمام سؤال جديد للكتابة التي لم تعد حكيا فقط، وإنما دخلتها الأفكار من باب واسع!

ـ سأتحدث بلساني، حينما قرأت (خفة الكائن التي لا تحتمل) شعرت أن ميلان كونديرا كاتب غير محايد، كان يهاجم النظام السوفيتي علي «الفاضي والمليان»، كتابته موجهة، وقد انطفأت بعد انطفاء النظام الشيوعي، المشكلة أن لدينا «هوجة» كبيرة معجبة به، وعموما شباب الكتاب لدينا طائشون «يضحك»!

ـ أعتقد أنه من الظلم حصر كونديرا ومحاسبته من هذه الزاوية الضيقة التي تتحدث بها عنه؟!

ـ قد يكون ذلك صحيحا غير أنني لم أتابعه بعد أن نفرت منه وابتعدت عنه، وعموما هو كاتب متوسط القيمة!

ـ بصفتك أحد المتابعين الجيدين لأعمال الشباب كيف تري مستقبل الكتابة الجديدة؟!

ـ هناك أعمال جيدة أعجبت بها جدا، وهناك أعمال أخري ترددت كثيرا في الصحافة، واكتشفت بعد قراءتها أنها متواضعة، أنا أقول دائما لنفسي إن هذا هو عمل الكاتب الأول، فهل يعطي هذا العمل إحساسا بإمكانية استمراره في المستقبل؟! أعتقد أن نصف الكتاب الحاليين لن يستمروا، لأنهم لا يملكون القماشة المناسبة، كنا في جيل الستينيات نمتلك عددا كبيرا من الكتاب، وهذا العدد تقلص إلي خمسة أو ستة علي أقصي تقدير وهذا عظيم، الآن هناك أكثر من خمسين شابا يكتبون، بخلاف كتاب المحافظات الذين يهدون أعمالهم للسيد المحافظ، ويتركونه هو ليكتب "مؤخرة" الكتاب، ولو أنهم صدٌروا إلينا خمسة كتاب جيدين فهذا شيء ممتاز.. ولكن بعض الكتاب الجدد نشروا عملين وثلاثة و... (مقاطعا) أنا لا أتحدث عن هؤلاء، هؤلاء مبشرون بالفعل، ولا ينقصهم إلا الانهماك في الحياة، المشكلة أن معظمهم «اتزنق» في أكل العيش المرّ، ومن المهم متابعتهم نقديا وتحميسهم!

ـ ولماذا تتراجع القصة القصيرة في وجهة نظرك؟!

ـ القصة القصيرة تتراجع في العالم، المشكلة أن هيمنجواي وتشيكوف سدا الطريق أمام أي كاتب في هذا المجال، والسؤال الذي يفرض نفسه علي كاتب يريد خوض مغامرة القصة: هل أستطيع تجاوز منجزهما؟! هذا العصر شهد ولادة نوع آخر من الإبداع، هو القصة الطويلة، أو الرواية القصيرة، فهي لا تستغرق وقتا في الكتابة كما أنها جذابة في القراءة، وفي مصر عموما هناك إقبال متزايد علي الرواية سواء من حيث القراءة أو الترجمة وهو ما شجع علي شيوعها، وهناك أيضا النقاد الذين يتجاهلون القصة القصيرة تماما، بالإضافة إلي صعوبة هذا الفن كما قلنا، وكل هذه أسباب لازدهار الرواية وتراجع القصة!

ـ لماذا تجاوزتكم ظاهرة البيست سيللر..؟!

ـ هناك كتابات أكثر انتشارا لأنها كتابات مسلية، أنا أستمتع أحيانا بقراءة الرواية البوليسية، ألجأ إليها حينما أكون مجهدا، أيضا في الدقائق التي تسبق النوم، الروايات الأكثر مبيعا لا تلتزم بالفنيات، وإنما تلتزم جانب الإثارة، أنا قرأت عملا لسيدة فرنسية كتبت عن الرجال الذين عرفتهم في حياتها، لأنني أبحث عن النميمة أحيانا، وهذا ما تقدمه أعمال التسلية عموما، النميمة والإثارة، وأيضا منحك القدرة علي التثاؤب، وهي تحقق انتشارا لا يحققه كاتب من الحاصلين علي نوبل مثل نجيب محفوظ، باختصار ليس هناك عمل ناضج أدبيا ويدخل في نطاق ظاهرة البيست سيللر!

ـ لماذا تحولت الساحة الثقافية إلي شراذم متناحرة الآن؟!

ـ استطاعت السلطة بعطاياها أن تستقطب العدد الأكبر منهم، خاصة أن معدنهم غير نقي، وأنت تذكر قطعا أن بعض المثقفين الشرفاء اتخذوا موقفا بعد حادثة حريق بني سويف، وطالبوا بعزل الوزير باعتباره مسئولا مسئولية مباشرة عنه ولكن ماذا حدث؟! انبري عدد من المثقفين الذين نتحدث عنهم في الدفاع عن الوزير. وقاموا بتمثيلية صوروا فيها للحكومة أن كل المثقفين يريدون عودة الوزير، الذي كان قدم استقالته حسب التمثيلية، وانطلت الخدعة علي الحكومة وأعادت الوزير!

ـ علي ذكر الوزير.. كيف تري معركته للوصول إلي رئاسة اليونسكو؟!

ـ نتمني أن يذهب الوزير إلي اليونسكو حتي لا يتكرر الحريق، ويمكنه أن يحرق في موقعه الجديد كيفما شاء، المهم أن يترك البقية الباقية من الأماكن الأثرية، ومثقفي المسرح، ربما برحيله تلتقط الحياة الثقافية أنفاسها، وربما يتحد المثقفون لأول مرة منذ فترة طويلة علي موقف واحد!