يعرض القاص والكاتب المصري هنا رواية مصرية جديدة، يربطها بالرواية السابقة لمؤلفها من ناحية، وبالتوتر الدائم بين المصري وعدوه الصهيوني من ناحية أخرى، حتى ولو كانت ثمة أواصر قربى أو روابط دم بالمعنى المزدوج للدم.

قراءة في رواية «أيام الشتات»

يوسف الشاروني

أكتب هذه الكلمات وأنا في الثالثة والثمانين، وأنا أذكر ذلك لأنه يقال إن من هم في مثل هذا العمر لا يعجبهم الحاضر عادة، ويولون وجوههم نحو الماضي، يلوذون به باعتباره الأنا السعيدة المفقودة. لهذا فإنني كلما قرأت إبداعاً أدبياً متميزاً لأحد أبنائنا ـ رغم أن بعضهم مثل كمال رحيمّ تجاوز الستين ـ يزداد تفاؤلي بمستقبل مصر، رغم كل الإشارات المضادة، كما تهبني مثل هذه الأعمال المتميزة شباباً وإحساساً بأنني سأموت واقفاً، كذلك تذكرني بالإشارة القرآنية لإحراق عاد وثمود، أو قصة سدوم وعموره في التوراة. ذلك أن إبراهيم تدخل ليشفع لدى الله في سكان المدينتين طالبا عدم إحراقهما إذا كان هناك خمسون صالحاً، تقبل الله شفاعة إبراهيم، غير أنه لم يكن هناك هؤلاء الخمسون، وظل العدد يتناقص حتى اتضح أنه لم يكن هناك حتى عشرة صالحين، مما منح الرخصة لإحراقهما. أعيد ذكرى تلك الحكاية لأقول أن مصر ما يزال فيها أحد عشر متميزاً خلقاً وإبداعاً ومسلكاً إيجابياً، وأن كمال رُحَيمّ بشخصه وإبداعه المتميزين أحد هؤلاء الذين يحفظون لمصر ـ هو وأمثاله ـ بقاءها ويثبت أن مصر ولادة، فقد عاصرت ـ بحكم سني ـ أكثر من جيل، وكان لكل جيل، وما يزال، مبدعوه وكمال رُحَيمّ واحد من فريق متميز أكتشف كل يوم أحد أفراده مما يملؤني تفاؤلاً.

ورواية (أيام الشتات) تعالج مرحلة تالية من حياة «جلال» بطل رواية (قلوب منهكة) التي صدرت سنة 2004 متناولة سيرته في مراحل طفولته وشبابه المبكر، يتنازعه أمه اليهودية وأقرباء والده المسلمون، حيث استشهد الأب في حرب السويس بيننا وبين الدخيل الصهيوني، وجلال ما يزال نطفة في رحم أمه. وينتهي الجزء الأول ببطلنا شاباً في فرنسا مع أسرته اليهودية حين كان على وشك العودة إلى أسرته المصرية المسلمة، لكنه في بداية (أيام الشتات) لا يستقل الطائرة المتجهة إلى القاهرة رغم سماع اسمه الذي يدوي من سماعات المطار، وبرغم إعداده العدة في الخفاء لهذا اليوم، ودون أن يعلم به أقرب الناس إليه: أمه، وجده الذي كان قد ترك مصر مع بعض أفراد الجانب اليهودي من الأسرة، في نهاية الستينيات من القرن الماضي «العشرين». لهذا فإن جلال استدان ثمن التذكرة من الشيخ منجي العياري التونسي الذي يقطن مع جده ـ والد أمه ـ بالعمارة نفسها بحي «بارباس» شمال باريس. ولم يكن تأخر أم جلال في مصر رغبة في البقاء، إنما لضرورة الحصول على إذن له بالسفر من أحد أقربائه من أسرة أبيه، مما دفعه إلى أن يعلن "أنا كالكرة تتقاذفها أرجل الفريقين". وهذا الموقف الذي يعانيه بطل روايتنا هو أحد محاورها الرئيسية والذي جعله يتأرجح ما بين بلدين: مصر وفرنسا، وبين عقيدتين: اليهودية والإسلام، وبين جنسيتين: مصر وإسرائيل، حتى ليحس القارئ أن بطل روايته أقرب إلى البهلوان الذي يحاول أن يحتفظ بتوازنه، وهو يتحرك على خيط رفيع طالما يريد ـ ويريد له مؤلفه ـ البقاء على قيد الحياة وقيد بطولة روايتنا، ويكون هو الشخصية الدرامية الذي تتميز به.

ويحرص مبدعنا ـ بجهازه السسموجرافي الذي يسجل أضعف الهزات العاطفية ـ على أن يذكر أن بطله أصابته رجفة عندما قالوا إن الطائرة أقلعت، وسنكتشف أنها مقدمة مبكرة في أول روايتنا لصراع عاطفي وظفة مبدعنا لما سوف تنتهي إليه الأحداث. لكن وجهاً آخر من أوجه الصراع الذي كان يعانيه بطلنا في طفولته بسبب ازدواج نسبة العقائدي حين كان يتراءى له أبو حصيرة ـ ولي من أولياء الله في عقيدة أهل أمه ـ وصوت الشيخ الدمنهوري وهو يتلو القرآن. وإذ كان هذا هو الصراع الذي يتعرض له طفل أمه يهودية وأبوه مسلم، فإن الكاتب يحرص على أن ينقل إلينا صورة أخرى لأطفال لا يعانون صراعاً داخلياً، بل تأرجحاً بين منفعة مؤقتة وأساطير جنسية racial. فبعد أن أجهز الأطفال على ما في سبت الجدة التي كانت تزور الولي اليهودي أبو حصيرة في زمام قرية دميتوه بالقرب من دمنهور، بانت ـ على حد تعبير بطلنا جلال ـ أخلاقهم السيئة كلاماً وفعلاً. "ولولا ستر الله ( وأن جدته أخذت بنصيحة جده) ولم تدخل معهم في شجار وأسرعا معاً بالانسحاب لتطور الأمر وأصابهما مكروه".

وعالم جلال ليس كله يقظة، فعالم الحلم ـ بل الكابوس أحياناً ـ جانب مكمل لعالم يقظته، ومفسر ـ على غموضه ـ لها. وذلك على نحو ما نجد في أحلامه بل وكوابيسه في روايتنا، وهو في شِدةً بسبب امتحان اللغة الفرنسية، وحيث يتحول المراقب إلى امرأة، والإجابة التي أملاها عليه زميل "غلط في غلط"، ليستيقظ ويقول "وكانت أمي نائمة إلى جواري، عيناها مغمضتان، ووجهها ساكن مستريح"، كأنما ثمة علاقة عكسية بين ما يضطرب به كابوسه الليلي، ووجه أمه الساكن حين يقظته. وعلى الطرف الآخر كان هناك الشيخ منجي وجزارته، يساند الجانب الآخر من جلال في صراعه الدرامي ـ محور روايتنا. ومؤلفنا لا يقدم لنا هذه الشخصية من خلال عملها وتصرفاتها فقط، بل وأيضاً من خلال حوارها مع رجل تونسي مثله "من هلافيت الشارع الذين طالما رأيتهم يتسكعون جيئة وذهاباً"، حيث يجسم لنا كمال رُحَيمّ الشخصيتين بحوارهما بلهجتهما المحلية التونسية، وهو ما سيصبح سمة من سمات روايتنا، حين نستمع بعد ذلك إلى لهجات محلية كاللبنانية، بل العبرية على نحو ما نقرأ عندما تعد الخالة بيلا على أصابعها بالعبرية، ويمكن أن نضرب مثلاً لاتفاق الأسلوب مع المعنى حين نستمع إلى حديث أبي الشوارب مع جلال وهو يجيبه على سؤال عن علاقته بامرأة تدعى جانيت.

ومن سمات الحكي الروائي أن الحاضر لا ينسيك الماضي، بل هو دائم التأرجح بينهما معبراً عن الوحدة النفسية للشخصية الرئيسية من ناحية، ومن ناحية أخرى تمهيداً لما تنتهي إليه هذه المرحلة الروائية من عودة البطل إلى مصر ـ مهد طفولته ـ وانتماءً لأبيه الذي لم يره وإقصاءً لأمه التي رغم أنها قامت على تربيته إلا أن زواجها بآخر أبعدها عاطفياً عنه، وقبل ذلك انتماءً للمبدع الذي وجَّه الأحداث هذه الوجهة التي تفضي إلى ما انتهى إليه القرار الأخير لجلال رغم جهده المشكور في محاولة التظاهر بموقفه الحيادي بين الطرفين اللذين وضعهما وجهاً لوجه كأنما يتنازعان جلال، تغرب الأم رغم حضورها الجسدي بسبب تصرفاتها التي نسبها إليها مبدعنا، إضافة إلى ذلك فقد رجَّح حضور الوالد ـ رغم غيابه ـ وجود هؤلاء العرب المسلمين الذين وقفوا إلى جانبه في أزمته. وقد اتضحت بوادر هذا الانحياز الإسلامي العربي في محاولتي الزواج اللتين عاشهما جلال، تزوج أولاً راشيل ابنة خالته بيلا، ثم اتضح له في ليلة زفافهما أنها ليست عذراء، مما أدى إلى طلاقها، ثم تزوج خديجة ابنة الشيخ منجي، لكنها ما لبثت أن فارقته بسبب وفاتها بداء القلب. وما أبعد أسباب فراق الزوجتين. وهي إشارة واضحة إلى أية كفة يميل هوى مؤلفنا، ويعبر عنه بمصير هاتين الزوجتين في حياة بطلنا جلال.

كذلك يلاحظ أن مؤلفنا حريص على أن يفرق بين اليهود والصهاينة، حين يعلن على لسان بطله جلال "كم قال لساني إن حقي لدى الصهاينة حقَّان: حق الوطن الذي ضاع، والأب الذي مات.. وإذا خرج عليّ وقتها ولد طويل اللسان مازحاً مزاحاً أسود ويقول: أليسوا أهل أمك؟! كنت أقول له: لعنة الله عليك يا جاهل! من قال هذا! أهل أمي يهود وهم صهاينة وليسوا يهوداً". ويلاحظ أن تعاطف جده اليهودي معه لم يكن نتيجته انتماءً يهودياً لجلال، بل على العكس فإن الجد نفسه كان مصري الهوية مما كان دافعاً مؤيداً لجلال فيما انتهى وانتهت إليه هذه المرحلة الثانية من حياته. كذلك يلاحظ أن مؤلفنا يقدم في روايته يهود العالم الثالث ـ حتى ولو هاجروا إلى فرنسا ـ بحيث لا يختلفون في بدائيتهم عن سكان هذا العالم "لم تؤثر فيهم الحياة التي عاشوها هنا ـ في باريس ـ إنما هم على سجاياهم وطباعهم التي كانوا عليها في مصر، يتحدثون بصوت مرتفع، ويقاطعون بعضهم أثناء الكلام، يلوحون بأيديهم في وجوه بعضهم البعض، ويقهقهون أحياناً بلا سبب" إلى آخر تلك التصرفات التي دفعت خادمة الأستاذ يعقوب الفرنسية ـ نعم الخادمة الفرنسية ـ إلى التأفف منهم، وأن ترطن وتلعن الظروف التي جعلتها تخدم هؤلاء الأوباش. الأمر نفسه عندما ذهب الشيخ منجي وأصدقاؤه وجد جلال وخاله شمعون وثلاثة من معارفه اليهود وخالته وبعض النسوة لزيارة الجدة التي على شفا الموت بالمستشفى، فأثاروا من الضوضاء ما دفع أحد رجال الأمن أن يأمرهم بالانصراف، فالمستشفى ليس مقهى. وفي موضع آخر يقارن جلال بين حضارتنا المصرية وربما العربية، وحضارة الغرب في إشارة واضحة، حين يعلن قائلاً "فمخالفات المرور هنا ـ في باريس وفرنسا ـ لا ترحم، وقواعد السير كالسيف على رقاب العباد".

ولعل القارئ يتحسس العقدة الروائية عندما يعلن بطلنا جلال ـ مشيراً إلى أمه ـ قائلاً "فشيء في داخلي كان يظن أنها مسلمة مثلي!... أراها مسلمة وتراني يهودياً". وعندما رحلت عن البيت الذي كان يضمها مع ابنها جلال لتعيش مع زوجها الصهيوني يعقوب، لا يدع مبدعنا هذه اللحظة المؤثرة في حياة بطله دون أن يردنا إلى لحظة مماثلة سابقة في ماضيه، حين لاح أمامه طيف الشيخ مصطفى خال نادية وحبيبة يفاعته في حي الظاهر بالقاهرة، والذي قيل إنه كان يسعى لتزويج أحد أبنائه من ابنة أخته. لا عجب إذن أن حياة جلال لم تكن صحواً خالصاً بل كانت تتبلور من حين لآخر في كابوس يطارده في منامه كما تطارده كوابيس صحوة، فحركة القص تتأرجح طوال العمل الروائي بين العالمين الخارجي والداخلي لبطلنا وحاضره وماضيه ليزداد تجسيماً لنا ونزداد اقتراباً منه.

ويلاحظ أن الحزن بسبب موت خديجة ـ الزوجة الثانية لجلال ـ قام بدوره ليوحد بين المتفرقين، فقد جمع بين جدته شديدة التعصب لصهيونيتها وجده المتعاطف معه والشيخ منجي والد خديجة. فالشيخ يخاطب جد جلال لأول مرة وهو يدعوه «عم زكي»، أثناء ما كان يمد يده ليأخذ قدح القهوة من يد جدته التي طالما دارت معارك مريرة بينهما بسبب جلال، أو لأسباب أخرى كطيف من أطياف الصراع العربي الإسرائيلي، لدرجة أن جلال فوجئ بجدته المتعصبة تقول لجده "نفسنا نجرب اللحمة بتاعة عم الشيخ، أيه رأيك يا أبو إيزاك؟"، وبحيث استيقظ الجانب المسالم في الشيخ منجي، وهو يستجيب معلناً أن تمر عليه الجدة وتختار ما تريده من اللحم الطازج، ويختتم جلال هذا اللقاء معلناً "ضمت خديجة أباها مع جدي وجدتي في جلسة حميمة! لكن بعد أن قضت! وعرفت أني كنت أحبها! وأيضاً بعد أن قضت!".

ولعلنا نضع أيدينا على المحور الفقري الذي تتبلور حوله الأحداث الروائية حين نستمع إلى حوار يدور بين جلال وجده عندما يتساءل الجد (عما إذا كان بعد موته، ربنا هيكرمه ويدخل الجنة؟)، وكان ذلك بعد أن دخلت زوجته ـ جده جلال من أمه ـ المستشفى. ثم يواصل الجد إعلان رأيه قائلاً إن الذي يدخل الجنة هو "اللي يفضل يبيع يبيع وما يشتريش إلا رضا ربنا. اللي لا يظلم ولا يفتري ويساعد ويرحم حتى فرع الشجرة لا يشده من غير عازه أو يرمي خرطوش على طير في السما علشان يتسلى! الأنبيا يا جلال من أول آدم لحد محمد عملوا اللي عليهم وراحوا لرب كريم ومعدش لنا حجة، كل واحد منا بقى متعلق من عرقوبه".

وهكذا يقدم لنا كمال رُحَيمّ لقاءً بين شخصين قرب بينهما الدم، أحدهما يهودي والآخر مسلم. وينهي الجد ـ أو المؤلف ـ الحوار بين بطليه حين يقول الجد "وعلشان ترتاح حقولك حاجة بسيطة بسيطة عرفوها وقالوها من زمن ولاد البلد بتوعنا الطيبين... موسى نبي وعيسى نبي ومحمد نبي وكل اللي له نبي يصلي عليه". وتنتهي روايتنا بما انتهى إليه الجزء الأول (قلوب منهكة)، وبطلنا جلال في مطار أورلي بباريس "وأول ما قالوا إلي القاهرة على رحلة مصر للطيران حملت الهاندباج واتجهت إلى بوابة السفر".