في قراءته لكتاب عبدالله البريدي يكشف الباحث عن آليات اغتيال الإبداع في الثقافة العربية باسم الصراع بين العقل السلفي والعقل الليبرالي.

السلفية والليبرالية

قراءة في آليات اغتيال الإبداع في ثقافتنا العربية

عمر كوش

يحاول عبد الله البريدي، مؤلف هذا الكتاب، الكشف عن مكنونات ومكونات العقل السلفي والعقل الليبرالي، كي يفهم القارئ الكيفية التي يفكر بهما كل من العقلين، السلفي والليبرالي، ولماذا يفكران على وفق هذه الكيفية، وذلك اعتماداً على أدوات تشخيصية وقدرات تحليلية، واستعراض الأدبيات والشواهد والتطبيقات التي تخص الموضوع المدروس. والتشخيص المعتمد هو التشخيص الثقافي، من منطلق تطور الثقافة في مفرداتها وأنساقها وتفاعلاتها وتمظهراتها ووظائفها.

ويعزو المؤلف اختياره لمناقشة السلفية والليبرالية إلى كونهما تيارين متناطحين في المشهد الثقافي المعاصر؛ حيث يمارس كل منهما تسويقا وترويجا لفكريهما، بل تحشيداً وتحزيباً وبأشكال مختلفة؛ يصور كل منهما أن لا مشروعية إلا "نهجه"، ولا طريق إلا "فلسفته"، ولا صوت إلا "صوته"، ولا نهضة إلا "بمشروعه"، بل ولا حياة إلا "باختياراته".

ويعتبر المؤلف أن النسق العام في ثقافتنا المعاصرة يسير باتجاه التقليد والمحاكاة والجمود في الميادين كافة، مع وجود بعض الاستثناءات القليلة، الأمر الذي يتطلب تكثيف التحليل على الممارسة السلفية الليبرالية، بوصفها الظاهرة التي يجب أن تخضع للتشخيص، نظراً للمزاعم السلفية والليبرالية التي تعتبر كل منهما يجسد طريق الخلاص وسبيل النهوض ومبعث الإبداع. وهنا تطرح إشكالية ثقافية الكبرى، تخص كيفية التعاطي مع التراث العربي الإسلامي والحضارة الغربية المعاصرة؛ بمعنى هل ستستمر عملية "التلفيق" الثقافي، مع مراجعة لتلك العملية ونتاجها وآثارها؛ أم يتطلب الأمر التوسع في عملية الاغتراف منهما في الوقت نفسه، باعتبار أن ذلك هو الطريق الوحيد لفهمهما وتجاوزهما.

وقد تعرف المفكرون والمثقفون العرب على الليبرالية بوصفها نموذجاً عصرياً، يرى الغرب صانع التاريخ ومثال التقدم، فما دام تاريخ العالم قد عرف انتقالاً من الشرق نحو الغرب، على النحو الذي صوره "هيغل"، باعتبار أن أوروبا تمثّل ـ بالنسبة إليه ـ نهاية التاريخ على نحو مطلق، فقد تصور الليبراليون العرب أن بالإمكان اللحاق بركب التقدم الغربي، كي تركن بلادهم بدورها إلى نهاية التاريخ. فكانت ليبراليته واسعة وفضفاضة، تتعامل مع المفاهيم الليبرالية كالحرية والدستور وسواهما كحاجة طبيعية أو مجتمعية للخلاص من التخلف والجمود والانحطاط، فركز على الحرية بوصفها مطلباً وعلى الدستور كذلك، فلم يتمثل الليبرالية كنهج نظري.

جزئية
وقد نظر المثقفون الليبراليون إلى الليبرالية نظرة جزئية، فمنهم من اختار معركة العقل تاركاً بقية التطلعات الليبرالية، بل وربما اتخذ موقفاً سلبياً منها، فيما اكتفى بعضهم بالدعوة إلى العلم، والبعض الآخر سار حافي القدمين على شوك معركة الداروينية، أو معركة الشك الديكارتي، أو حق تكوين الأحزاب أو معركة الوحدة الوطنية، أو تحرير المرأة..إلخ، دون أن يدركوا أن الليبرالية هي رؤية متكاملة، ولا تكون إلا كذلك. ويمكن القول أن الضعف الذي شاب الليبرالية في بلاد العروبة والإسلام كان ضعفاً بنيوياً، كامناً في ذات البنية المجتمعية والظروف الموضوعية للنشأة الليبرالية، وتوازنات القوى المختلة في وقتها اختلالاً شديداً، حيث كانت المجتمعات العربية بمثابة حلقة ضعيفة، مكتملة ومغلقة، لكنها حلقة مفرغة تدور حول نفسها؛ فتحت ظل الاحتلال الأجنبي لا يمكن التمتع بإرادة مستقلة، ولا يمكن قيام حركات دستورية، وبدون استقلال لا يمكن قيام أي تطور أو أي إصلاح. وعليه فإن الفارق الجوهري ما بين الليبرالية الأوروبية وبين الليبرالية العربية، هو أن الأولى قامت على أكتاف مجتمع اكتملت تشكيلته الاجتماعية والسياسية، فيما كان النمو الليبرالي العربي جزئياً وضعيفاً، كونه حاول النمو في وجه مقاومة من الاحتلال والقوى المتحالفة معه.

إن الليبرالية هي قدرة على صناعة العقل المتحرر القادر على الإبداع، وقدرة على التعامل الحر والمتجدد مع الواقع المتغير. ومثل هذه القدرة تحظى باهتمام كبير يدفع حتى خصومها للتشدق بها، ومحاولة استخدامها كلفظ دون فعل، وقول دون مغزى حقيقي، حتى الحكام المستبدين. من هنا فإن الليبرالية ليست مجرد فكرة، بل هي فكر يحتاج بالضرورة إلى أقلمة بالفعل والممارسة، والحديث عن الليبرالية لا يستهدف مجرد البحث التاريخي، بل هو يتقدم بهذا المحتوى التاريخي وبالفكرة كمخرج للوطن، ومنقذ يأخذه إلى أرضنة العقل والعلم والتقدم والحرية في التربة العربية.

أما السلفية فتعبر عن تيار إسلامي، عريض يشمل الكثير من الحركات الإسلامية والمفكرين الإسلاميين، الذين يدعون فيه إلى العودة إلى نهج السلف الصالح كما يرونه، والتمسك به باعتباره يمثل نهج الإسلام الأصيل، لكن ضمن السلفية توجد تنويعات كثيرة لتفسير وتطبيق السلفية، فمنهم من يحاول استمداد روح فهم الشريعة من السلف الصالح، ومنهم من يطالب بالتطبيق الحرفي لآراء السلف وغالبا وفق فهمه الخاص لهذه الآراء. 

السلفية
والسلفية، بنسقها العام، تعتبر أن البعد العقدي بجوانبه العلمية التفصيلية هو الركيزة المحورية لفكرها، إلى جانب اشتغال السلفيين النظري بعلم الحديث والفقه، المشدود إلى المسائل والأدوات والإشكاليات التراثية. ويظهر جلياً ضعف البعد المقاصدي في الفكر السلفي، تنظيراً وتفكيراً وتطبيقاً، الأمر الذي أوجد انعكاسات سلبية كثيرة. وهنالك خلط بيّن في الفكر السلفي بين "السلف" و "السلفية"، فمصطلح السلف يشير إلى وجود فئة محل اقتداء لدى مجموعة من الناس في جوانب معينة، والسلف بهذا المعنى سمة لازمة في كل دين من الأديان، بل هو سمة لكل إيديولوجية فلسفية أو فكرية أو سياسية.

ويعتبر المؤلف أن الفكر السلفي، يمارس الفنائية النموذجية، من خلال اتكائه المكثف على نماذج سلفية محددة، أي أن السلفية تنتقي من هم سلف الأمة الذي يجب أن يصدر عن رأيهم ويؤخذ منهم العقيدة والفقه والسلوك في أبعاده الشخصية والاقتصادية والسياسية. ويتصف الفكر السلفي بالفنائية الفكرية، لأن السلفية تتوجه إلى الصدور عن إطار فكري شديد الانغلاق. واصطبغ التفكير السلفي بنوع من الفنائية الثقافية من خلال الإحجام أو الضعف في خوض غمار الحوار والنقاش مع الأطراف الأخرى. كما يتسم الفكر السلفي بالفنائية الجماعية، حيث ترى السلفية نفسها بوصفها الجماعة الحقة، وكذلك يتسم الفكر السلفي بالفنائية التاريخية، من جهة أن السلفية تقدم فقه السلف وفكرهم بوصفه إطاراً تشريعياً مطلقاً يعلو فوق التاريخ، فهو التاريخ والحاضر والمستقبل، الأمر الذي أفقد العقل السلفي القدرة على الاستجابة المرنة مع متغيرات العصر.

بالمقابل، يرى المؤلف أن الفكر الليبرالي يتسم بالمائية النموذجية، لأن الليبرالية العربية تتلقف أي إسهامات فكرية مع تهميش الإطار العربي الإسلامي. وتمارس الليبرالية ضرباً من المائية الثقافية، حين تفتح آفاق الحوار والمناقشة مع الجميع بلغة وأدوات تفرض المائية التي تميع القضايا. كما تتلبس الليبرالية بالمائية الجماعية بحكم كونها كائنا ثقافيا، إلى جانب أنها تتصف بالمائية التاريخية، لأنها تجتهد في بيع تاريخها التي تملكه بثمن بخس لا يكفيها لابتياع تاريخ لا تملكه. ويخلص المؤلف إلى أن كل من الليبرالية والسلفية فشلتا في ممارسة الإبداع، لأنهما فشلتا في تطوير طرائق التفكير والإدارة، وفي ابتكار أدوات منهجية وتشخيصية جديدة. والتحدي الكبير في الثقافة العربية المعاصرة هي ضمور الإبداع وغلبة الجمود من جراء هيمنة نمط تفكير الليبرالي والسلفي.

الكتاب: السلفية والليبرالية
تأليف: عبد الله البريدي
الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت، 2008