يتناول الكاتب اللبناني هنا سلسلة جديدة من سبع كتب أصدرتها دار رياض الريس مع منظمة مصباح الحرية التي تسعى لنشر الفكر الليبرالي فيما يسمى بالشرق الأوسط، أو بالأحرى لغسيل عقول العرب، ولكن شاء الحظ أن تصدر السلسلة مع قعقات انهايرات النظام المصرفي الليبرالي الاخيرة لتريق الشكوك حول مقولاتها الأساسية.

حول الليبرالية والليبراليين نظاماً ونتائج

سلسلة من سبعة كتب أصدرتها دار رياض الريس

ناظم السيد

في الوقت الذي كنت أنهي فيه قراءة السلسلة المؤلفة من سبعة كتب حول مفاهيم الليبرتارية وروادها التي أصدرتها مؤسسة رياض الريس للكتب والنشر أخيراً بالتعاون مع مؤسسة "مصباح الحرية"، في هذا الوقت شهدت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر انهيار مصرفي في تاريخها مع إعلان مصرف WASHINGTON MUTUEL إفلاسه، الأمر الذي اقتضى خطة حكومية عاجلة اقترحها الجمهوريون، والتي بلغت 700 مليار دولار، لتلافي الأزمة والحؤول دون توسعها (تم التصديق على الخطة معدلة بعدما رفضها الكونغرس بداية). في الوقت نفسه، كان الرؤساء الأوروبيون يعقدون قمة دعوا فيها إلى "مراجعة قواعد الرأسمالية"، جمعت ساركوزي وميركل وبرلسكوني وبراون، إضافة إلى رؤساء مجموعة اليورو جان كلود يونكر، والمفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروسو، والمصرف المركزي الأوروبي جان كلود تريشه. الحقيقة أن الكتب السبعة سالفة الذكر، والتي حملت العناوين "التشكيك في السلطة"، "الفردية والمجتمع المدني"، "الحقوق الفردية"، "النظام التلقائي"، "الأسواق الحرة"، "السلام والتوافق الدولي"، وبمستقبل الليبرتارية، بدت مقنعة بما حوت من أسماء مؤسِّسة أو لامعة في الفكر الليبرتاري منذ ديفيد هيوم وجون لوك وآدم سميث وأليكسس دو توكوفيل وجون ستيوارت ميل ولودفيغ فون ميزس إلى يومنا هذا. لكنَّ الأزمة الاقتصادية وما تبعها من تدخل حكومي، يتنافى كلياً مع مبادئ الليبرتارية ومع نظرية آدم سميث عن االيد الخفية التي تنظم السوق، تجعل قارئ هذه الكتب يقف أمام تفاؤل تنظيرات الرأسماليين الداعين إلى تحرير الاقتصاد بشكل نهائي، وإحلال المجتمع المدني مكان الدولة بوصفها هيكلية كلاسيكية وتجمعاً لسرقة أموال الناس، وهدر طاقاتهم ناهيك عن تقييد حركتهم.

لا شك في أن هذه الكتب التي وضعها معهد كيوتوب الأمريكي تبدو من مخلفات مرحلة الحرب الباردة، بما حوته (الكتب) من هجوم منظم على الاشتراكية والأنظمة الشيوعية، وها هي تنتقل اليوم إلى الشرق الأوسط بناء على مشروع غير ربحي لا يتبع لأي حزب، وعمله تعليمي يسعى إلى طرح آراء الحرية في المجتمع لصانعي القرار، والمراقبين، ورجال الأعمال، والطلاب ووسائل الإعلام في الشرق الأوسط... ومن خلال الكتب، والصحف، وشبكة الانترنت وغيرها من الأدوات باللغة العربية، سوف يجلب "مصباح الحرية" إلى شعوب الشرق الأوسط رسالة عن الحرية، والمباردة الى إقامة المشاريع، والتعاون السلمي ليحل مكان الحكم الاستبدادي، والتبعية والصراع الذي ميّزَّ جزءاً كبيراً جداً من تجربتهمب كما جاء في الإعلان عن هذا المشروع في الصفحة الأخيرة من كل كتاب.

لا بأس في أن يقدّم معهد، أياً كان مركزه، وعن أي جهة صدر، "رسالة في الحرية"، لكنَّ هذه اللغة المتفائلة، والدعائية، والتعليمية، انسحبت على المادة المنتقاة في الكتب نفسها رغم أهمية هذه المادة وكتّابها معاً. كما أن اختيار المقالات المنشورة في هذه الكتب والتي تمثل وجهة نظر أحادية يطرح سؤالاً حول ليبرالية هذه الكتب، بما أننا نقرأ نقداً للماركسية من غير أن نرى مقالاً لكارل ماركس أو أنغلز في الاقتصاد، أو غرامشي في حديثه عن المجتمع المدني، أو ماركوس في كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد" الذي انتقد فيه الغرب، أو البلغاري الذي عاش في فرنسا تزفتيان تودروف في كتابه "نحن والآخرون". أفترض أن هذه الأسماء ـ وهي عينة بسيطة ـ جديرة بأن تكون ضمن هذه السلسلة عبر مقال أو مقتطف من كتاب، بما أن السلسلة حوت مقالات لماريو بارغاس يوسا وإيمانويل كانط وإن لم يكن هذان الشخصان رأسماليين بالمعنى الأيديولوجي للكلمة.

أما مسوّغ وجود هذه الأسماء "المغيبة" في السلسلة فهو كتابة هؤلاء في عناوين الكتب السبعة المنشورة من الفكر الليبرالي إلى الأسواق الحرة إلى الفردية والمجتمع المدني والنظام التلقائي. إن وجود نقد مؤدلج مثل الحوار مع آين راند والذي أجرته معها مجلة "بلاي بوي" وهاجمت فيه الشيوعية ودعت إلى ضرب الأنظمة الشيوعية بالسلاح بوصفها روسية عانت اضطهاد هذا النظام قبل أن ترحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يؤكد دعائية بعض المواد المنتقاة في هذه السلسلة. ليس الأمر دفاعاً عن "المرحومة" الشيوعية وشكلها الاقتصادي الاشتراكية، بل هو دفاع عن الليبرالية طالما أننا مدعوون إلى تبني هذه الأفكار والدفاع عنها حتى أمام صانعيها ومروجيها والمدافعين عنها حقيقة وافتراضاً.

ما ينقص هذه الكتب السبعة، السلسلة، أنها لم تتطرق إلا بشكل عرضي لحروب الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة. هذا ليس إقحاماً للحدث السياسي/ العسكري، في سلسلة فكرية واجتماعية واقتصادية وثقافية.

من الصعب أن نتحدث عن سلسلة بهذه الشمولية ونغيّب "الحرب على الإرهاب" أو "الحرب في أفغانستان" أو "الحرب على العراق"، ناهيك عن أن السلسلة حوت كتاباً بعنوان "السلام والتوافق الدولي" دافع فيه الأشخاص المنتقون فيه عن دور الرأسمالية والأسواق الحرة في إرساء السلام الدولي. من الناحية النظرية يبدو هذا الدفاع صحيحاً، لكن الواقع يقول إن حروب الرأسماليين لم تقل وحشية وجشعاً واضطهاداً عن حروب الاشتراكيين الشيوعيين أو القوميين الوطنيين أو الدينيين الأصوليين. ما فات منظري الأسواق الحرة ودورها في السلام الدولي أن الحروب تصنعها نخبة سياسية وعسكرية بدوافع عديدة منها الأسواق. ما يبدو عائقاً أمام الحرب (السوق) قد يصبح سبباً للحرب.

في الكتاب السابع، تدافع لين سكارليت من خلال مقال بعنوان "التبيؤ الثوري" عن دور الرأسمالية في الدفاع عن البيئة. نظرية سكارليت تقوم على دور المترفين والمصلحة العامة والرفاهية في حماية البيئة، مدعمة نظريتها بأرقام حسابية عن كلفة الدفاع عن البيئة، الأمر الذي يعجز عنه الناس الذين يعيشون في الأنظمة الاشتراكية، ساعين إلى تأمين لقمة العيش بدل الحفاظ على دب الباندا. من هذه الوجهة قد يكون الأمر صحيحاً، مثلما أن الرفاهية تساهم في ازدهار الآداب والفنون. لكن ما يفوت الكاتبة أن جشع الرأسمالية كلف الكوكب حتى الآن ثقب الأوزون، وتقلص الغابات، وارتفاع حرارة الأرض بسبب التصنيع، وقتل وتهجير العديد من الأنواع الحيوانية من أجل الصناعات حيناً أو بسبب التغيرات المناخية أو بسبب التوسع العمراني نحو الأماكن غير المأهولة أو بسبب قطع الغابات. وربما هنا يجدر بنا أن نسأل: هل أوروبا الشرقية أم الغربية أكثر رأفة بالبيئة وأكثر عذرية، طالما أننا نتحدث عن دول في قارة واحدة وذات مناخ متقارب؟ ثم أليست الولايات المتحدة الأمريكية قائدة لواء الرأسمالية من أكثر الدول تسبباً في التلوث البيئي بسبب الكثافة الصناعية فيها؟ وأليست هي من رفض التوقيع على معاهدة كيوتو التي تسعى للحفاظ على البيئة والحد من التلوث في العالم؟ ربما كانت نظرية سكارليت صحيحة في شق منها يتعلق بالعلاقة ما بين الرفاهية وسلامة البيئة، لكن الأمر حين يصبح سياسات دولية لتنمية الاقتصاد والتوسع في الأسواق سيتجاوز هذه الأهداف الأخلاقية لتصبح البيئة إحدى ضحايا التنافس الاقتصادي. من جهة أخرى، فإن الرأسمالية، بوصفها نظاماً لتنمية الإنتاج والاستهلاك معاً، تساهم في تآكل موارد الكرة الأرضية. إن إنتاجاً سريعاً يعني استهلاكاً سريعاً للكوكب، في المقابل يعني الإنتاج البطيء استلاكاً بطيئاً ومتوازناً للكوكب.

كل ما تقدّم من ملاحظات، لا يعني موقفاً من الليبرالية في الفكر والاجتماع والسياسة، ولا في الاقتصاد إذا ألغينا من السوق مفهوم التوحش ووجدنا صيغة تحمي ضحايا هذا التوحش في السياسة والاقتصاد. لا بل إن هذه السلسلة تبدو حاجة فعلية للقارئ العربي بما حوته من أفكار ونظريات مختصرة. وعليه، ربما كانت كلمة الكاتب والصحافي والناشر رياض الريس التي قدّم بها لهذا المشروع صيغة جيدة لأهمية هذه السلسلة: ماذا يعني لنا الحديث اليوم في العالم العربي، ونحن في أوائل القرن الواحد والعشرين، عن أفكار ونظريات ودعوات وعقائد في السياسة والاقتصاد والاجتماع، كتبها مفكرون سياسيون وفلاسفة واقتصاديون وعلماء قبل قرنين من الزمن أو أكثر؟

الجواب هو: كل شيء، لأن الأرض العربية اليباب التي يعشش فيها الخراب السياسي منذ ما يزيد على خمسين سنة، نضب فيها تطور الفكر السياسي إثر سقوط الفكر القومي وهزيمة الديمقراطية وسقوط الشيوعية وفشل الماركسية وغياب التعددية ووداع الأنظمة البرلمانية وأفول الوحدة العربية. كل هذه الأقانيم أصبحت من الذكريات في عالم يتخبط في التاريخ ويعيش على أمجاد لم يعد أحد يذكر منها إلا النزر اليسير.

في هذه الأجواء كان لا بد من العودة إلى الينابيع. ينابيع الفكر الإنساني الأول، قبل أن تتبلور وتصبح أنظمة للحكم أو قواعد للحياة السياسية أو شروطاً لتنظيم التعامل بين الناس ومجتمعاتهم، وبينهم وبين حكامهم. إنها البداية، عند هذه البداية، كان لا بد أن نبحث عن مصادر هذا الفكر وأن نوفره للمرة الأولى للقارئ العربي العادي والمتخصص المعني بالسياسة، من مصادره الأساسية. هذا الفكر، هدفه الحرية. حرية الفرد وحرية المواطن وحرية المجتمع. والحديث عن الحرية وقوننتها يعود إلى فلاسفة الغرب منذ بداية النهضة الأوروبية وعمر الإصلاح الاجتماعي والديني في قرون الاستعمار والتوسع الاستعماري الغربي. ومع تراكم الأفكار الإنسانية وتعدد النظرات إلى أصول الدين والدنيا والعباد، بدأ علم السياسة "التطبيقي" مع بروز فلاسفة ما عرف بالليبرتارية، والتي اشتقت منها فيما بعد كلمة الليبرالية...

عن القدس العربي